الحلقة التاسعة عشره


وثيقة المدينة



من الجيد أن نعتبر القرآن وثيقة تبين أسس التعامل مع الآخر المختلف في العقيدة بالنسبة للنبي محمد( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن الجيد أيضا لو استعنا بأي وثيقة صدرت من محمد(صلى الله عليه وسلم ) تبين لنا مبادئه في هذا الموضوع البالغ الأهمية ، ومن حسن الحظ أن هذا متاح

فقد وضع محمد( ) وثيقة تسمي وثيقة المدينة لتنظم العلاقات في المجتمع الإسلامي الجديد الذي يضم المسلمين من أهل المدينة والمسلمين من قبيلة محمد( ) الذي هاجروا مثله ، وكذلك اليهود ، وفي هذه الوثيقة نجد
( كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛
-أنهم أمة من دون الناس؛

- و أن المؤمنين المتقين على من بغي منهم ، وأن أيديهم عليه جميعا ولو ولد أحدهم
-وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
-وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.
-وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
-وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم.
-وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
-وأن لبني الشُطَيْبة مثل ما ليهود بني عوف. وأن البر دون الإثم.
-وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.
- وأن بطانة يهود كأنفسهم

- وانه لا ينحجر على ثأر جرح ( معالجة الثارات بدلا من كتمانها حتى يتم الفوز بها أي معالجة أسباب الفتنة والاقتتال الداخلي )
- وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم
- وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه ( أي أن القيادات المدنية التي ستلتزم بهذه الوثيقة إذا دعت لعقد صلح مع الخصوم كان على أعضاء جماعتهم أن يوافقوا على هذا الصلح
- وإنهم إذا ما دعو إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب الدين ( تلتزم جماعة المؤمنين بصلح قد دعي له أعداء الجماعة
- وأن يهود الأوس ، مواليهم وأنفسهم ، على ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة
- لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ) (1)

هذه بنود من وثيقة المدينة التي تكونت من 69 مادة ، عني فيها النبي محمد( ) بإبراز اسم كل جالية يهودية على حدة مهما صغر شأنها من ناحية القوة والعدد والمكانة ، وحرص على وضع وثيقة ذات نَفَس قانوني لا يمكن إنكاره ، كما أنها شديدة الواقعية وتعمل حساب لعدم جر أهل هذه الوثيقة للدفاع عن الظلم . تفصيل محمد( ) بنود لكل جماعة يهودية على حدة دون التوقف عند الجماعات الأكبر ذات النفوذ المالي والتجاري والصناعي يعبر عن إدراك واعِ واحترام لفسيفساء المجتمع ، وأقرت الصحيفة مبدأ الدفاع المشترك والنصح والبر بين أهل هذه الصحيفة جميعا وأعطتهم حق كامل للمواطنة شمل كل قبائل اليهود وتقرر لهم حقوقهم ولتابعيهم مثلهم وتساويهم بجماعة المسلمين مساواة واضحة .

يمكن القول أن محمدا( ) لو كان إقصائيا متعصبا لما تردد في إجلاء اليهود بعد تدشين الدولة مباشرة ، فقد كان عدد أتباعه أكثر كثيرا من اليهود ، وهم عرب من أهل الجزيرة التي كانت ملجأ آمنا لهم بعد أن شتتتهم قوي متعددة على مر قرون ومنها الرومان والمسيحيون ، كان العرب أهل البلد وفي حالة طاعة كاملة لمحمد ( ) ولن يترددوا في تنفيذ أوامره بإجلاء اليهود ، ولكنه لم يفعل ، ويقول Muir في كتابه حياة محمد ( كان النبي محمد منذ دخوله المدينة يرغب في أن يعقد وإياهم اتحادا متينا ) (2)

و أنا اعتقد أنه كان يطمح أيضا – وهذا من حقه بل واجبه كنبي – أن يتحول اليهود أو جماعات منهم بطريقة سلسة للإسلام نتيجة لمباشرتهم مشروع مدينة فاضلة لله فيها – وهم موحدون – الكلمة العليا ، ولمتابعتهم لتعاليم جديدة لكنها تأكيد للتعاليم السماوية الأساسية ووصايا موسي ، ويبدو من سياق الأحداث أنه في بدايات هذه الدولة أن اليهود قبلوا محمدا( ) لما تميز به من جدية وروح قيادية واستقامة وعدم محاباة وعدم حضوره للمدينة بذاكرة مسمومة تجاه الجنس اليهودي ، وربما لأنهم رأوا أمامهم نبيا موحٍدا ، هو ارقي فكرا وعقيدة من العرب الوثنيين ، لذا فهذا يكفي لتسلل شعور ما بأنه ( واعد ) وربما يتهوًد ، ويتزعمهم لإنشاء دولة يهودية في جزيرة العرب توقف تهديد المسيحية التي أجلتهم (3) ، لكن نستطيع أن نقول أن الظاهر على السطح أنهم تبادلوا في الأيام الأولي درجة معقولة من التقدير

________________________________________
(1) سيرة ابن هشام & محمد حميد الله الوثائق السياسية (2) د حسين هيكل حياة محمد
(3) Muir The life of Mohammed