الحلقة السابعة عشره


محمد( صلى الله عليه وسلم ) والآخر


[align=right]مما لاشك فيه أن محمدا ( )عندما بدأ الدعوة كان يتعامل مع آخر مختلف تماما ، فلقد وُلد ونما ووصل إلى سن النضج وسط قوم وثنيين ، في هذه الحالة التي تقوم على التناقض الواسع بين النبي والقوم الذي بُعث اليهم ، لن يكون هناك فرصة للنجاح إلا باتصاف النبي بالصبر والأناة والقدرة على مخاطبة الناس على قدر عقولهم ، ولين الجانب والذوق الرفيع ، وكلها صفات أشار إليها القرآن كمؤهلات لمحمد( )

ولم يظهر كل الأنبياء في بيئات معاكسة لمفاهيمهم تماما ، فقد كان أنبياء بني إسرائيل يظهرون في قوم لديهم الكتاب ويعرفون الله ، ويعرفون الوصايا الموسوية العشر
إن اللاتسامح يُولد في بيئة بها درجة عالية من المتفق عليه وليس كما يعتقد البعض ، حينما يستخدم الفرقاء مصطلحات واحدة ومفاهيم واحدة ولكن بتأويلات وفلسفات مختلفة ، فينشا التعصب نتيجة التنازع على الميراث الفكري الواحد ، والأمثلة كثيرة
وحتى من الملاحظ في سيرة محمد هو انه لا يبخس الكافر حقه في أن يوصف بصفة حميدة فيه كالشجاعة أو الكرم أو الحلم أو اللين ، ومن المعروف أن المتعصب لا يمتلك غالبا هذه القدرة على التفريق بين شعوره الشخصي وتقيمه للناس .

والأمر الآخر الهام هو أن محمد( ) كان يري الكل ويهتم بالكل بصرف النظر عن عرقهم ودينهم ، فالعقيدة الإسلامية في محمد( ) انه مبعوث للناس أجمعين بلا استثناء ، ولذا كان أي شخص بالنسبة له هو مسلم ( محتمل ) ، إلا أن يظهر الشخص عداوة واضحة للدين والدعوة تقطع بأنه ميئوس منه ، وكونه للكل لم يجعل له هذا آخر ثابت ، وجعله هذا غير ممتنع عن أحد يفكر في التعرف على ماهية هذا الدين سواء كان ابيضا او اسودا ، غنيا أم فقيرا ، شيخا فانيا أم بطلا واعدا ، ملحدا أم راهبا مسيحيا أتاه من اليمن ليتعرف على الدين عن كثب ، لذا لم يكن لديه خبز محجوز للبنين فقط ، فالكل بنين ، وهذا التوسع واللا حصرية لن يناسبا نبيا مرسلا لقوم معينين.

وبخلاف هذا الإتساع في الرؤية الذي أعطته إياه طبيعة رسالته وطبيعة قومه ، إلا أنه أيضا كان يتعامل مع غير المسلمين في أمور تتصف بالجدية وذات خطر عالٍ كالإتفاقيات ، بل أنه استأجر مشرك كدليل لرحلته من مكة إلى المدينة ، وهذا إقرار منه بإمكانية الثقة في غير المسلم والتعامل معه في أمور ذات خطر عالٍ ، وهذا مثل لا يمكن إعطاؤه وزنه الحقيقي إلا بوضعه مقارنا بصيغ أخرى في التعامل مع الآخر ، تجعل من الآخر مجرد حيوان أو روح شيطاني غير جدير ليس بالثقة ولكن حتى بالنجدة .

القرآن لا يمنع المسلمين من التعامل مع المسالمين من غير المسلمين بالبر والعدل

(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ( 1) ويؤكد الإختلاف كسنة من سنن الله في الإجتماع الإنساني

(وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) (2)

وقد كان محمد( ) يعيش في المدينة وهو حاكم لها مع ( آخر ) هم اليهود ، وكان يتزاور معهم ويزور مرضاهم ، ويحضر ولائمهم ، ويقوم إذا مرت جنازة يهودي ، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي ، بل أن محمدا( ) كان له زوجة من أصل يهودي ، هي صفية وهي من نسل هارون ، وقد غارت زوجتاه عائشة وحفصة من جمالها ، فكانت عائشة تفخر عليها وتقول : أنا بنت الصديق ( أول خليفة فيما بعد ) ، وحفصة تقول : أنا بنت الفاروق
( ثاني خليفة فيما بعد ) ، فاشتكت صفية للنبي محمد فقال لها ( قولي لهما أنا أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد ، فأيتكن مثلي ؟ ) ، وأنبهما فيها

وكما سجل التاريخ يهود اقتربوا من محمد( ) واحترموه وبقوا على دينهم سجل أيضا أسماء لعلماء يهود احبوه وآمنوا به مثل عبد الله بن سلام ، وسجل اسم رجل استشهد في حرب من الحروب مع جيش محمد بل وترك ميراثه له يفعل به ما يشاء ، حتى قال عنه محمد( ) ( مخيريق خير يهود ) ، ولم يبخسه وهو يراه فذا من الناحية الأخلاقية نسبه للشعب اليهودي ، هذه هي البدايات الصحية منطلقة من بيئة المدينة ، لذا يسجل التاريخ أسماء عدد ممن استوزروا من اليهود والمسيحيين في عصور مختلفة من الدولة الإسلامية ولم يكن هناك ثقافة تسامح لدي الأوطان والممالك الأخرى لإستوزار مخالف في الدين ، بل هناك دول من الصعوبة فيها وصول مسلم للبرلمان رغم أنها دول متمدينة وعلمانية ، ولا يمكن تفسير استعمال الخلفاء المسلمين لوزراء يهود ومسيحيين على أنه ناتج عن ثقافة منقطعة الصلة بتعاليم محمد( ) أو بتعاليم القرآن ، ومحمد( ) لما ضيق المشركون الخناق على المسلمين أمر بعضهم بالهجرة للحبشة التي كان يحكمها حاكم مسيحي وقال لهم ( لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فان بها ملكا لا يظلم عنده أحد) بل نعجب من سماحته إذا عرفنا أن القبيلة التي كانت تحارب محمد قبيلته قريش قد مرت بها فترة قحط ، فبعث أموالا وُزعت على فقراءها ! .

لقد كان هناك سماحة لا يمكن إنكارها في التعامل مع اليهود والمسيحيين في العصور الإسلامية الذهبية ، وعندما تتوفر السماحة بين ثقافتين ، ففتش دائما عن الدولة أو الحضارة الأقوى باعتبارها المسئول الأول عن السماحة والتعامل الجدي اللبق ، وفتش عنها عندما يكون هناك تربص وكراهية متبادلة وتنظير للصراع الحضاري ، وقد كان هناك معاملات راقية بين العباسيين ودول أوروبا ، ولما فتح المسلمون الأندلس أقاموا علاقات مؤسسة على حسن الجوار مع بريطانيا وألمانيا .

بعث جورج الثاني ملك إنجلترا والنرويج والسويد برسالة إلى السلطان هشام الثالث في الأندلس، جاء فيها:
( إلى صاحب العظمة / خليفة المسلمين / هشام الثالث الجليل المقام ....
من جورج الثاني ملك إنجلترا والنرويج والسويد ...
بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل... لتكون بداية حسنة لاقتفاء أثركم، لنشر العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة.
وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز، لتتشرف بلثم أهداب العرش، والتماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة..
وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص.
من خادمكم المطيع
جورج الثاني ) .

ورد عليه الخليفة هشام برد جاء فيه بعد الشكر ( ..... لقد أطلعت على التماسكم فوافقت بعد استشارة من يعنيهم الأمر على طلبكم ، وعليه فإننا نعلمكم بأنه سيتفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين ، دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي ) (1)
بل إن الذوق وحسن الجواب لم يكونا مفتقدين حتى في أجواء الصراع الدامي الذي أشعلته أوروبا باسم المسيح ، فقد بعث ريتشارد قلب الأسد رسالة إلى صلاح الدين الأيوبي

(من ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنجليز إلى صلاح الدين الأيوبي ملك العرب
أيها المَولَى..حامل خطابي هذا بطل باسل صنديد، لاقى أبطالكم في ميادين الوغى، وأبلى في القتال البلاء الحسن، وقد وقعت أخته أسيرة، فقد كانت تدعى (ماري) وصار اسمها (ثريا).
وإن لملك الإنجليز رجاء يتقدم به إلى ملك العرب وهو: إما أن تُعيدوا إلى الأخ أخته، وإما أن تحتفظوا به أسيراً معها، لا تفرِّقوا بينهما ولا تحكموا على عصفور أن يعيش بعيداً عن أليفه.

وفيما أنا بانتظار قراركم بهذا الشأن، أذكِّركم بقول الخليفة عمر بن الخطاب ـ وقد سمعته من صديقي الأمير حارث ـ وهو: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ".
فأرسل صلاح الدين برد إلى ريكاردوس
( من السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى ريكاردوس ملك الإنجليز
أيها الملك: صافحتُ البطل الباسل الذي أوفدتموه رسولاً إليّ، فليحمل إليكم المصافحة مما عرف قدركم في ميادين الكفاح. وإني لأحب أن تعلموا بأنني لم أحتفظ بالأخ أسيراً مع أخته؛ لأننا لا نُبقي في بيوتنا سوى أسلاب المعارك، لقد أعدنا للأخ أخته. وإذا ما عمل صلاح الدين بقول عمر بن الخطاب، فلكي يعمل ريكاردوس بقولٍ عندكم: " أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". فرُدَّ أيها الملك الأرضَ التي اغتصبتها إلى أصحابها، عملا بوصية السيد المسيح عليه السلام ) (2)
وهناك أمثلة كثيرة تعرفنا كيف كان محمد( ) يرى الآخر ، وكيف ربى المسلمين على التعامل معه باعتدال .
________________________________________
(1) الممتحنة 8 (2) هود 118
(3) جون داونبورت العرب عنصر السيادة في القرون الوسطي
(4) نادر العطار تاريخ سوريا في العصور الحديثة [/align]