الحلقة السادسة عشره
النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )كمحاور
هذا الثراء الحواري في القرآن بالطبع لا يمكن تخيل محمد ( ) بعده رافضا للحوار ، نحن نعرف بداية أن الأنبياء هم شريحة خاصة من البشر يوحي إليها من الله ، وبالتالي نتخيل ابتداءا أن أوامرها وتوجيهاتها تؤخذ على الرحب والسعة ، وطاعتها فضيلة ، والحقيقة أن هذا أمر واقع في كل الأديان ، إذا ليس من المعقول أن يتم التناول مع أفكار وتوجيهات نبي كما يتم التناول مع أفكار قائد عادي .
على أن هذا الطابع الخاص لتوجيهات النبي – أي نبي – لا يلغي فرصة محاورته ، فالأنبياء هم بشر مطالبون بتفتيح وعي البشر ، وهذا لن يتم إلا من خلال وسائل على رأسها الحوار ، هذه الكلمة السحرية التي تسمح بعرض الأفكار على الآخر ، ومن المعلوم ابتداءا إنه لا يمكن الإيمان بنبوة نبي حتى لو شاهد الناس منه خوارق إلا بعد أن يتكلم ، جهازا السمع والنطق لهما دورا أساسيا في الإيمان بالنبوة يفوق دور جهاز الإبصار الذي يلتقط المعجزات ، لا يمكن أن نقول مثلا أن المسيح آمن الناس به بدون الحاجة لسماع أفكاره ، وعرضه لقضية الإيمان وتصحيحه للمفاهيم الخاطئة . وكان يستمع بصبر للإسئلة ، وكان يستخدم بذكاء عالٍ أمثلة تقرٍب الحقائق للأذهان .
يقول النبي محمد( ) "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم" ما وصل إلينا من حوارات ووعظ المسيح وكذلك حوارات ووعظ محمد يدلان أنهما كان لديهما سعة صدر وذكاء يسمح لهما بعرض القضايا بطريقة تناسب عقل المستمعين وتحمل مستويات مختلفة من الحوار على حسب الذكاء والخلفية الثقافية للآخر .
ونحن طبعا لو نتخيل شابا سيذهب إلى النبي محمد( ) أو أي نبي ليطلب منه رخصة في ممارسة الزنا ، فإن أول فكرة تتبادر إلى الذهن أن هذا الشاب قد تعرض لتعنيف شديد أمام الناس على أقل تقدير ، ولكن نظرة إلى هذا الحوار
: يا نبي الله أتأذن لي في الزنا ؟
( ضجة من الجمهور المعترض )
: قربوه
أفسحوا له واقترب بالفعل
: أدن
دنا الشاب حتى جلس أمامه
: أتحبه لأمك ؟
: لا ، جعلني الله فداك
: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، أتحبه لابنتك ؟
: لا، جعلني الله فداك
: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم ، أتحبه لأختك ؟
: لا ، جعلني الله فداك
فوضع يده على صدره وقال ( اللهم طهٍر قلبه ، واغفر ذنبه وحصن فرجه ) ، ولم يبغض الشاب بعدها شئ قدر بغضه للزنا
هنا واضح تماما إنه رد الشاب للعرف الإجتماعي ، وجعله يشعر بمسئوليته عن احترام حرمات الآخرين ، فهو في كل مرة سيزني ، سيؤذي ابن ، أو أب ، أو أخ أو كلهم جميعا ، ولم يقدم له الأمر الإلهي برغم إنه الأمر الإلهي هو قضيته كنبي ، ولكن حالة الشاب الدينية ، جعلته يشرح له لم هذا الشيء سيء . ثم دعا له
محمد( ) كان يتعامل مع الإنسان الذي أمامه حسب حالته ، وحسب نصيبه من الدين ، وحسب مستوي ثقافته فبينما يتسامح مع إعرابي دخل وأخذ يبول في المسجد ، فمنع أصحابه أن يقطعوا عليه بوله ثم قال للرجل بعد أن انتهي ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن ) إننا هنا أمام رجل بدوي بسيط لم يتربي على يديه لذا صبر عليه وفهًمه ، ونجده في المقابل عندما سمع أن احد الصحابة – أي احد الكوادر التي رباها - يطيل في الصلاة بالناس دون مراعاة لظروفهم قال له بغضب ( يا معاذ أفتان أنت؟! ) .
وقد كان النبي محاورا للكفار أيضا سواء لعرض فكرة الدين ، أو للتوصل إلى اتفاقيات ، لكن ما قد تم تسجيله لا يبدو فيه أي جدال عقائدي من طرف الكفار يتصف بالعمق ، وقد سجل القرآن ملحوظاتهم كاستغرابهم من فكرة وجود يوم البعث بعد أن يموت الناس وتتحلل أجسادهم ، ووجود جنة ونار ، واعتراضهم على أن يبعث الله بشرا مثلهم ،
واعتقادهم بأحقية أحد العظماء من القريتين الكبيرتين بنزول الوحي عليه بدلا من محمد ، وقولهم أن الأصنام يعبدونها لتقربهم من الله ، كما أنهم أحيانا كان يحاولون إثناءه عن إكمال الدعوة بعرض المغريات عليه ، ولكنه رفض ، وفي المجمل يبدو أنه لم يكن لديهم حتى فكرة عميقة عن معتقداتهم هم ، كانوا أقرب ما يكونوا إلى الدهريين ، وكان معظم حنقهم على الدعوة مما تخيلوه من أضرار الدعوة بمركز القبيلة بين العرب ، وهم سدنة البيت ، و بلدهم عاصمة عبادة الأصنام في الجزيرة العربية ، ومن هذا كان لهم وضع تجاري وديني متميز ، لكن في كل الأحوال ما فكًر أحدهم في لقاء محمد( ) للتحدث معه إلا ووافق محمد ، ويستمع محمد لمنطق الطرف الآخر حتى ينتهي كلامه بدون أي مقاطعة ، وقد كانت له كلمة أعجبتني قالها في ظرف حساس يوحي باحتمال مواجهة بين المسلمين والكفار من القبيلة عندما ذهب بالمسلمين لأداء العمرة ، والقبيلة انتصبت لتمنعهم من أن يمارسوا شعائر العمرة إلى البيت ، وقد كان ابعد الناس من الناحية النفسية رغبة في أن تحدث مواجهة بينه وبين القبيلة ، لقد جاء لممارسة العبادة هو والمؤمنون لا أكثر ، لقد قال ( والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ) .
وقد كان النبي محمد( ) يتحاور مع اليهود ، ويسألونه في مسائل دينية ، فمر على جماعة منهم مرة فسألوه عن الروح ، وعندما أخبرهم بآية نزلت عليه في التو مفادها أن الروح من أمر الله ، وسألوه عمن جاءه بهذا ، فقال جبريل ، فقالوا ( والله ما قاله إلا عدو لنا ) ، وقد أنكر بعض المستشرقين أن ينظر اليهود القدامى لجبريل هذه النظرة ، وشكوا في صحة ما ذكرته كتب السنة بهذا الشأن ، غير أن هناك تلميحا لهذه العداوة في اشعياء ،ولا يستبعد أن تكون تلك العداوة تسربت للثقافة الشعبية اليهودية (ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه ، فتحول لهم عدواً وهو حاربهم ) (1)
ونلحظ توفر مجال طبيعي من جانبهم للإستفسار منه ، وأيضا توفر مجال واسع للتعبير عن رأيهم في ملاك الرب ، والصورة توحي بقبول محمد( ) للحوار وتحمله لمستوي عالٍ من الصراحة في التعبير عن الأفكار ، رغم أن القرآن رفض التعريض بجبريل (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، وكذلك المسيح رفض ذلك (و من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له و أما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم و لا في الآتي ) (3) فهو روح الله الحي جبرائيل كما في رسالة بولس الثانية إلى أهـل كورنثوس
ومثلما كان يحدث مع المسيح من عرض أسئلة عليه لاختبار علمه وإيمانه من قٍبل اليهود تعرض النبي محمد ( ) لذلك أيضا . وهذا من وجهة نظري من المفترض أنه يمثل في حد ذاته تربية عظيمة لأتباع الأديان ، أننا أمام قيادتين دينيتين كبيرتين تبعهما مليارات من البشر خلال القرون السابقة تعرضتا لأسئلة دينية وأجابتا عنها واستمعتا لتعليقات تثني على الإجابة أو ترفضها ، هذا والله لا نستطيعه نحن معظم البشر العاديين في أعرافنا عندما نكون إزاء ما نعتقد أنه ليس له حق تقييمنا .
وقد حاور علماء مسيحيين أيضا جاءوه من نجران وصلوا في مسجده ، واستمع لوجهة نظرهم فترة طويلة عن إن المسيح هو الله وليس مجرد نبي عظيم ، وليس المهم هو هل أدي هذا الحوار لنتيجة من ناحية تبديل العقائد ، لم يحدث هذا ، ولكنه يحدد لنا أن للآخر حق التحاور مع المسلمين ، وان للمسلمين حق التحاور مع الآخرين ، وحق تبادل الأفكار ، هذا الحوار لم يغير عقائد ولكنه أدى لتوثيق الحقوق والواجبات ، إننا نتكلم عن مشهد عجيب ، حوالي ستين مسيحي يصلون صلاتهم في مسجد النبي محمد( ) ويحاورونه هناك !.
________________________________________
(1) اشعياء 63: 10 (2) البقرة 97
(3) متى 12 : 32
مواقع النشر