الحلقة الثامنه

لماذا كره البعض محمدا( صلى الله عليه وسلم ) ؟

لعلي أشير صراحة إلى أن من أول المشاكل التي تحكم تقييماتنا للرسول محمد( ) ورسالته هي مشكلة لا تتعلق بعملية الدراسة والتحليل والإستنتاج ، ولا تتعلق أيضا بتوفر كم معين من المعلومات عنه وعن تعاليمه التي تمثِّل مدخلات لعملية التقييم ، الأمر قبل ذلك ، إنها ليست مشكلة معرفية تماما ، بل تبدو أحيانا وكأنها ظاهرة أنثربولوجية ، ويمكن تحليل ذلك ببساطة ، بأن مشكلتنا تنبع من التوقيت الذي ظهر فيه محمد( ) ، لو كانت سيرته تحمل تاريخين هكذا ( ... - ... ) ق .م لكان الأمر أفضل كثيرا ، لو ظهر محمد قبل المسيح بقرن أو أكثر ما كانت هناك مشكلة ، و لربما تفهمنا ظهوره كأي نبي كأنبياء العهد القديم ، ويا حبذا لو أكد المسيح أن هذا الرجل قد كان نبيا حقا ظهر بين العرب ، لم يكن الأمر ليحتاج أن نعرف عنه أكثر من اسمه لنعتقد انه نبي حقا ، مثل إيماننا ببعض الأنبياء القدامى دون أن نعرف عنهم إلا القليل، وبما أن محمدا( )جاء بعد المسيح فلا يجب توقع أفضل من ذلك ، رغم أننا ندري أن احد أهم المعوقات التي واجهت المسيح هي ببساطة أنه جاء بعد موسى في شعب موسى .

إن هذا الرفض هو ما كان سيحدث ليوحنا المعمدان بشحمه ولحمه ودعوته لو تأخر قليلا وظهر بعد المسيح ، نعم ، نفس هذا النبي المعمدان الذي نجله كنا سنتناوله بالطريقة التي نتناول بها محمد لو لم يدعو إلا بعد غياب المسيح .

وبسبب هذا يوجد من يقوم ب ( تفلية ) سيرة محمد( ) للبحث عن أخطاء ، ولم يكن هذا إلا رفضا مبدئيا وسابقا لعملية البحث لأي رسالة ستأتي بعد المسيح ، هناك تفسير إيماني لأي رسالة لاحقة للمسيح باعتبارها عمل عدواني ، هذا هو الأمر في اعتقادي ، رغم أنه ولا يمكن تفسير السبق في المجيء باعتباره عبقرية شخصية ، ولا تفسير اللحاق باعتباره تقصيرا .

والبعض يقول لو لم يأت هذا الرجل لاعتنقت تلك الشعوب المسيحية ، وهذا احتمال وارد ، لكن التفكير بطريقة ( لو ) سيهدر الكثير من الوقت ، رغم أنها في جانب منها لعبة ذهنية مثيرة ، يمكن تنويع أطروحاتها ، ما هي دياناتنا لو لم يأت المسيح ؟ كيف كانت ستكون الملامح الأساسية للعقيدة المسيحية لو آمن اليهود بالمسيح ( مسيحية بدون خلاص وصليب واستحالة للخمر والخبز ) ؟ ، كيف كانت ستكون اليهودية لو آمن فرعون وشعبه برسالة موسى ؟ هل كان موسى سيرفض قبولهم حتى يظل الوعد محصورا في بني إبراهيم ؟

أنا شخصيا وحتى أجعل الأمر اقل احتقانا اطرح ( لو) أخرى بسيطة غير قائمة على النفي ، ماذا لو كان النبي محمد والمسيح متعاصرين ؟ وسمع المسيح من احد الحواريين : يا معلم ، لقد حطّم محمد( ) الأصنام في بلاد العرب وهاهم العرب تحولوا عن الوثنية للتوحيد ، وأوقف حمامات الدم بين القبائل ، أقول – وبتحييد للإيمان الإسلامي وبحصر الكلام في مضمون ما فعل محمد بدون كلام عن هوية محمد( ) - ماذا ستكون ردة فعل المسيح ؟ هل سيخبط جبهته بباطن يده منزعجا ؟! .. السؤال لا يمثل تحديا للخيال الشخصي والقدرة على استنطاق المسيح فحسب ، ولكن يمثل أيضا تحديا لضيق الأفق .

على أية حال لا تمثل النظرة الغرب-مسيحية للنبي محمد وللإسلام شكلا غريزيا ثابتا كما يوضح مكسيم رودنسون ، ففي القرون الأولى لظهور الإسلام كان هناك تجاهل غربي مسيحي من دلائله شيوع لفظ Saracens لتوصيف العربي المسلم حتى القرن الحادي عشر ، وتبعت ذلك الحملات الصليبية ومحاولة نشر المسيحية في بلاد الإسلام ، وسادت في العصور الوسطى المسيحية وفي عصر النهضة أيضا نظرة معتدلة للمسلمين باعتبارهم أندادا مساوين إن لم يكونوا متفوقين علميا وثقافيا ، وكان فولتير في القرن الثامن عشر يعتبر محمدا( ) شخصية تقدمية ومثلا روحانيا أعلى ، وبعد مرور قرن وبتغلغل الغرب في العالم العربي الإسلامي راح الإحساس بالمساواة والإحترام (1) .
لكن يمكنني أنا أن أقول أن النهر العام الذي حكم التصورات والأحكام الشهيرة كان منبعه هذه النظرة للدين الجديد باعتباره خيانة وانشقاق – رغم أن محمدا( ) لم يكن كاردينالا – هذه النظرة والنهر العام من الأحكام كانا هما الأصل منذ عهد يوحنا الدمشقي وحتى العصر الحالي . وبينما سمحت الروحية العقلانية التي سادت في الغرب لدى مفكرين وعلماء غير متعصبين على ظهور كتابات موضوعية عن الإسلام ورسوله ، بحيث بدا هذا الإتجاه كسباحة عنيدة ضد التيار في النهر تسمح به الثقافة الحديثة التي لا تأبه للمسلمات ، إلا أن النظرة لشخصية محمد( ) ظلت واقعة تحت تأثير أمور جديدة رفدت النهر الذي بدأت قوة اندفاعه تضعف كنتيجة طبيعية لضعف تأثير الدين مقارنة بالشعور الديني القروسطي فمدًته بمصادر قوة جديدة ، منها تأثير الإنطباعات الإستعلائية الناتجة عن تفوق الغرب وسيطرته علي الشعوب العربية والإسلامية بدءا من القرن التاسع عشر وحالة الإنحطاط الحضاري الشديدة التي ألمًت بهذه الشعوب ، ومن ناحية أخرى أحداث هامة ومؤثرة كأزمة النفط ، وثورة الخميني ، واحتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية ، وفتوى إهدار دم ( سلمان رشدي ) وتجاذبات الصراع العربي الإسرائيلي ، والعمليات الإرهابية ، كل هذه الأشياء جعلت الأصل في التعامل مع شخصية النبي محمد هو الإتهام والتشويه والكراهية والإستهزاء ، إلا أن هناك تيارا مستقلا ومتفتحا وغير خاضع للمناخ العام استطاع أن يكتب عن النبي محمد( ) والدين الإسلامي بوازع من ضميره الشخصي فقط وتحت تأثير ضعيف أو منعدم للأنثروبولجيا، ولم يكن هذا التيار خاصا بالغرب وحده ، وإن كانت الأصوات الغربية أكثر لفتا للإنتباه ، لأنها أصوات غربية يسمع لها العالم كله من ناحية ومن ناحية أخرى فهي جاءت من الغرب الذي يعيش حالة خوف مستمر وابدي من الإسلام تغذيه السياسة وكتابات متعصبة ومواد استهلاكية إعلامية شديدة الإختزال تداعب غرائز الجماهير
وقراءة تقييماتهم وتقييمات بعض المسيحيين الشرقيين لها اعتبار عالٍ عندي ، باعتبارها تأكيدات لما أتلمسه .
________________________________________
(1) مكسيم رودنسون جاذبية الإسلام