السيد أمين شلبي (الحياة) يوافق 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2013، رحيل الدكتور طه حسين (1889 حتى 1973)، وهي المناسبة التي تجعلنا نستدعي تراثه الفكري والثقافي، وبوجه أخص موقفه من الثقافة والحضارة الغربية، وتأثره بها؛

>. طه حسين (1889-1973)
وهو التأثر الذي جعله يدعو مصر «إلى الاتصال بأوروبا فتزداد قوة من يوم لآخر حتى تصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً»، ففي كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» (1937)، والذي أثار تفكيرُه فيه وفي مستقبل مصر الحضاري حصولَ مصر على استقلالها السياسي بمقتضى معاهدة عام 1936، يوجِّه طه حسين إلى نفسه وإلى أمته وإلى المثقفين المصريين سؤاله المحوري والذي سيلخّص فيه الصراع حول روح مصر وعقلها وهل ينتمي إلى الشرق أم الغرب: «مصر من الشرق أم من الغرب»، ويطور طه حسين سؤاله ويوسعه فيتساءل: «هل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هو غربي التصور والإدراك والفهم على الأشياء».

وبداءة يحدد طه حسين فهمه للشرق والغرب على الأساس الثقافي لا الجغرافي، ويحدد مفهومه للشرق بأنه الشرق البعيد الذي يضم الصين واليابان والهند ويميزه عن الشرق القريب: فلسطين، والشام والعراق أي هذا الشرق الذي يقع في حوض البحر المتوسط، وحيث كانت الصلة بين المصريين القدماء وهذا الشرق القريب مستمرة ومنتظمة إلى حد بعيد، كما يقرر في البداية أن تاريخ الحياة العقلية المصرية لا يوحي بأنه كان بينها وبين هذا الشرق البعيد صلات مستمرة منتظمة من شأنها أن تؤثر في تفكيرها أو في سياستها أو في نظمها الاقتصادية، أما العقل المصري فإنه إذا كان قد تأثر بشيء منذ عصوره الأولى، فإنما تأثر بالبحر الأبيض المتوسط وتبادل المنافع على اختلافها مع شعوبه.
ويفصل طه حسين ويؤصل لهذه العلاقة منذ عصور اليونان الراقية والأولى، والذين رأوا «أنهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفي فنونها بنوع خاص»، وظل العقل المصري إلى أيام الإسكندر مؤثراً في العقل اليوناني متأثراً به مشاركاً له في كثير من خصاله، إن لم يشاركه خصاله كلها. وبعد فتح الإسكندر للبلاد الشرقية أصبحت مصر دولة يونانية، أو كاليونانية، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض ومصدراً من مصادر الثقافة في ذلك الوقت.

وينكر طه حسين أن يكون مجيء الإسلام لمصر قد أخرجها عن عقليتها الأولى، أو أنه جعلها أمة شرقية بالمعنى الذي يُفهم من هذه الكلمة، ويَستدل على هذا بأن ظهور المسيحية، التي غمرت أوروبا وأصبحت عنصراً من عناصر العقل الأوروبي، ظهرت في الشرق ومع هذا لم تصبح أوروبا شرقية، ولم تتغير طبيعة العقل الأوروبي، فإذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوروبي ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة ولم تجرده عن خصائصه التي جاءته من هذا الإقليم، البحر المتوسط، فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري».
ويذهب طه حسين، مع بعض المؤرخين الغربيين، إلى أن انفصال أوروبا عن الشرق، نتيجة لغزو البرابرة وللخصومة التي قامت بعد ظهور الإسلام بينه وبين أوروبا، هو الذي انتهى بأوروبا إلى الفقر والضعف الاقتصادي والجهل العميق، أما بعد أن استؤنفت الصلات بين الشرق والغرب، فنشطت أوروبا من غفوتها ورجعت من الفقر إلى الغنى ومن الجهل إلى المعرفة ومن الظلمة إلى النور. ويستخلص طه حسين من هذا أن قوام الحياة العقلية في أوروبا إنما هو اتصالها بالشرق من طريق البحر المتوسط، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان البحر المتوسط أنشأ عقلاً ممتازاً متفوقاً في الغرب، فلماذا لا ينشئ كذلك مثل هذا العقل في الشرق؟ ويخلص طه حسين إلى أبعد من هذا: ليس ثمة فارق عقلي بين الشرق والغرب، وإنما هي ظروف وتقلبات السياسة والاقتصاد. وهو يريد بهذا أن يجيب عن التساؤل: إذا كانت مصر تنتمي للجزء الغربي من العالم، وإذا لم يكن ثمة فارق عقلي يفصلها عن الغرب، فلماذا تخلفت مصر وبلدان شرق البحر الأبيض المتوسط وأوروبا في المدنية؟ ويفسر طه حسين هذا بالسيطرة التركية التي دمرت المدنية، ولكنه يشير إلى أنها كانت مرحلة عابرة، فأوروبا أيضاً كان لها عصورها المظلمة، وكان العصر الإسلامي المظلم أقل إظلاما في مصر عنه في أماكن أخرى.

في ضوء هذه الصلات التاريخية التي تربط العقل المصري بالعقل الأوروبي وتربط مصر بأوروبا، وفي ضوء ما أنشأ العصر الحديث من اتصال بين أجزاء العالم، وما شرعت فيه مصر من أوائل القرن الماضي وتطلعها إلى النهوض، فإن هذه النهضة لن يختلف أحد في أنها تأخذ بأسباب الحياة الحديثة على نحو ما يأخذ به الأوروبيون على المستوى المادي، من مرافق وأدوات وأساليب معيشة وملبس، وبشكل أصبح «معيار رقي الأفراد والجماعات في الحياة المادية إنما هو حظنا من الأخذ بأسباب الحياة المادية الأوروبية»، كذلك الحال على مستوى الحياة المعنوية، سواء في ما يتعلق بنظام الحكم الذي نقلناه عن الأوروبيين نقلاً في غير تحرج ولا تردد، بل إنه أصبح يعاب علينا الإبطاء في نقل ما عند الأوروبيين من نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية. ويستخلص طه حسين أن كل هذا يدل على أننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوروبا اتصالا فنزداد قوة من يوم لآخر حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً.
والواقع أن طه حسين في بحثه في علاقة المشاركة التاريخية والحضارية التي تربط بين أوروبا ومصر، كان يريد أن يدلل بها، مستخدماً كذلك نموذج اليابان، والذي يختلف شعبها في حياته المادية والعقلية أشد المخالفة وأقواها مع شعوب أوروبا، كان يريد أن يدعو بني وطنه المصريين وأن يمحو من قلوبهم «الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أنهم خلقوا من طينه غير طينة الأوروبي، وفطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوروبية، ومنحوا عقولاً غير العقول الأوروبية. غير أن هذه المساواة في الحقوق والواجبات في حياتنا الخارجية وفي ما بيننا وبين أوروبا، لن تتحقق من ذاتها ولا من المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما سوف تتحقق فقط «حين نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقتهم لنكون لهم أنداداً ونكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما نحب فيها وما نكره، وما يحمد منها وما يصاب». وإذا كانت مصر تريد الاستقلال الفعلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني، فإن هذا لا يتحقق إلا حين تملك مصر وسائله، ووسائله عند طه حسين «أن نتعلم كما يتعلم الأوروبيون ونشعر كما يشعر الأوروبي ونصرف حياتنا كما يصرفها».

وهكذا كانت أوروبا بالنسبة لطه حسين تمثل نموذجاً له عناصر ثلاثة: الثقافة الإنسانية، الفضائل المدنية والديموقراطية، وبهذه المعاني كانت أوروبا عنده هي العالم الحديث، وأن مصر المستقلة يجب أن تصبح جزءاً من أوروبا، وذلك هو الطريق الوحيد لأن تصبح جزءاً من العالم الحديث. وكان هذا هو المعني الذي فهمه طه حسين من المعاهدة المصرية البريطانية عام 1936، واتفاقية مونتريه التي ألغت الامتيازات الأجنبية. فهم طه حسين أن أوروبا أكدت ثقتها في مدنية مصر وتعهدت مصر من جانبها «بالتزام واضح وملزم أمام العالم المتحضر بأننا سوف نسير في طريق الأوروبيين في الحكم والتشريع والإدارة».

وكان واضحاً أن طه حسين في تصوره لعلاقة مصر بأوروبا سوف يواجه نقداً شديداً، وفي رده على هذه الانتقادات حرص على أن يوضح عدداً من الحقائق المتصلة ليس بالحياة المادية والروحية للغرب فحسب، بل وفي مصر كذلك، ومن أول هذه الحقائق أن الحياة الأوروبية ليست كلها إثماً، وإلا لما تحقق لها ما تحقق من تقدم ورقي، فالإثم الخالص لا يمكن من الرقي. في المقابل فإن حياتنا ليست خيراً كلها، وإنما فيها شر كثير، وإلا لما شهدنا هذا القدر من الانحطاط.

لماذا لم يفز طه حسين بجائزة نوبل رغم ترشحه 14 مرة؟


>. طه حسين (1889-1973)
وهو التأثر الذي جعله يدعو مصر «إلى الاتصال بأوروبا فتزداد قوة من يوم لآخر حتى تصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً»، ففي كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» (1937)، والذي أثار تفكيرُه فيه وفي مستقبل مصر الحضاري حصولَ مصر على استقلالها السياسي بمقتضى معاهدة عام 1936، يوجِّه طه حسين إلى نفسه وإلى أمته وإلى المثقفين المصريين سؤاله المحوري والذي سيلخّص فيه الصراع حول روح مصر وعقلها وهل ينتمي إلى الشرق أم الغرب: «مصر من الشرق أم من الغرب»، ويطور طه حسين سؤاله ويوسعه فيتساءل: «هل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هو غربي التصور والإدراك والفهم على الأشياء».

وبداءة يحدد طه حسين فهمه للشرق والغرب على الأساس الثقافي لا الجغرافي، ويحدد مفهومه للشرق بأنه الشرق البعيد الذي يضم الصين واليابان والهند ويميزه عن الشرق القريب: فلسطين، والشام والعراق أي هذا الشرق الذي يقع في حوض البحر المتوسط، وحيث كانت الصلة بين المصريين القدماء وهذا الشرق القريب مستمرة ومنتظمة إلى حد بعيد، كما يقرر في البداية أن تاريخ الحياة العقلية المصرية لا يوحي بأنه كان بينها وبين هذا الشرق البعيد صلات مستمرة منتظمة من شأنها أن تؤثر في تفكيرها أو في سياستها أو في نظمها الاقتصادية، أما العقل المصري فإنه إذا كان قد تأثر بشيء منذ عصوره الأولى، فإنما تأثر بالبحر الأبيض المتوسط وتبادل المنافع على اختلافها مع شعوبه.
ويفصل طه حسين ويؤصل لهذه العلاقة منذ عصور اليونان الراقية والأولى، والذين رأوا «أنهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفي فنونها بنوع خاص»، وظل العقل المصري إلى أيام الإسكندر مؤثراً في العقل اليوناني متأثراً به مشاركاً له في كثير من خصاله، إن لم يشاركه خصاله كلها. وبعد فتح الإسكندر للبلاد الشرقية أصبحت مصر دولة يونانية، أو كاليونانية، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض ومصدراً من مصادر الثقافة في ذلك الوقت.

وينكر طه حسين أن يكون مجيء الإسلام لمصر قد أخرجها عن عقليتها الأولى، أو أنه جعلها أمة شرقية بالمعنى الذي يُفهم من هذه الكلمة، ويَستدل على هذا بأن ظهور المسيحية، التي غمرت أوروبا وأصبحت عنصراً من عناصر العقل الأوروبي، ظهرت في الشرق ومع هذا لم تصبح أوروبا شرقية، ولم تتغير طبيعة العقل الأوروبي، فإذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوروبي ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة ولم تجرده عن خصائصه التي جاءته من هذا الإقليم، البحر المتوسط، فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري».
ويذهب طه حسين، مع بعض المؤرخين الغربيين، إلى أن انفصال أوروبا عن الشرق، نتيجة لغزو البرابرة وللخصومة التي قامت بعد ظهور الإسلام بينه وبين أوروبا، هو الذي انتهى بأوروبا إلى الفقر والضعف الاقتصادي والجهل العميق، أما بعد أن استؤنفت الصلات بين الشرق والغرب، فنشطت أوروبا من غفوتها ورجعت من الفقر إلى الغنى ومن الجهل إلى المعرفة ومن الظلمة إلى النور. ويستخلص طه حسين من هذا أن قوام الحياة العقلية في أوروبا إنما هو اتصالها بالشرق من طريق البحر المتوسط، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان البحر المتوسط أنشأ عقلاً ممتازاً متفوقاً في الغرب، فلماذا لا ينشئ كذلك مثل هذا العقل في الشرق؟ ويخلص طه حسين إلى أبعد من هذا: ليس ثمة فارق عقلي بين الشرق والغرب، وإنما هي ظروف وتقلبات السياسة والاقتصاد. وهو يريد بهذا أن يجيب عن التساؤل: إذا كانت مصر تنتمي للجزء الغربي من العالم، وإذا لم يكن ثمة فارق عقلي يفصلها عن الغرب، فلماذا تخلفت مصر وبلدان شرق البحر الأبيض المتوسط وأوروبا في المدنية؟ ويفسر طه حسين هذا بالسيطرة التركية التي دمرت المدنية، ولكنه يشير إلى أنها كانت مرحلة عابرة، فأوروبا أيضاً كان لها عصورها المظلمة، وكان العصر الإسلامي المظلم أقل إظلاما في مصر عنه في أماكن أخرى.

في ضوء هذه الصلات التاريخية التي تربط العقل المصري بالعقل الأوروبي وتربط مصر بأوروبا، وفي ضوء ما أنشأ العصر الحديث من اتصال بين أجزاء العالم، وما شرعت فيه مصر من أوائل القرن الماضي وتطلعها إلى النهوض، فإن هذه النهضة لن يختلف أحد في أنها تأخذ بأسباب الحياة الحديثة على نحو ما يأخذ به الأوروبيون على المستوى المادي، من مرافق وأدوات وأساليب معيشة وملبس، وبشكل أصبح «معيار رقي الأفراد والجماعات في الحياة المادية إنما هو حظنا من الأخذ بأسباب الحياة المادية الأوروبية»، كذلك الحال على مستوى الحياة المعنوية، سواء في ما يتعلق بنظام الحكم الذي نقلناه عن الأوروبيين نقلاً في غير تحرج ولا تردد، بل إنه أصبح يعاب علينا الإبطاء في نقل ما عند الأوروبيين من نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية. ويستخلص طه حسين أن كل هذا يدل على أننا في هذا العصر الحديث نريد أن نتصل بأوروبا اتصالا فنزداد قوة من يوم لآخر حتى نصبح جزءاً منها لفظاً ومعنى وحقيقة وشكلاً.
والواقع أن طه حسين في بحثه في علاقة المشاركة التاريخية والحضارية التي تربط بين أوروبا ومصر، كان يريد أن يدلل بها، مستخدماً كذلك نموذج اليابان، والذي يختلف شعبها في حياته المادية والعقلية أشد المخالفة وأقواها مع شعوب أوروبا، كان يريد أن يدعو بني وطنه المصريين وأن يمحو من قلوبهم «الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أنهم خلقوا من طينه غير طينة الأوروبي، وفطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوروبية، ومنحوا عقولاً غير العقول الأوروبية. غير أن هذه المساواة في الحقوق والواجبات في حياتنا الخارجية وفي ما بيننا وبين أوروبا، لن تتحقق من ذاتها ولا من المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما سوف تتحقق فقط «حين نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقتهم لنكون لهم أنداداً ونكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما نحب فيها وما نكره، وما يحمد منها وما يصاب». وإذا كانت مصر تريد الاستقلال الفعلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني، فإن هذا لا يتحقق إلا حين تملك مصر وسائله، ووسائله عند طه حسين «أن نتعلم كما يتعلم الأوروبيون ونشعر كما يشعر الأوروبي ونصرف حياتنا كما يصرفها».

وهكذا كانت أوروبا بالنسبة لطه حسين تمثل نموذجاً له عناصر ثلاثة: الثقافة الإنسانية، الفضائل المدنية والديموقراطية، وبهذه المعاني كانت أوروبا عنده هي العالم الحديث، وأن مصر المستقلة يجب أن تصبح جزءاً من أوروبا، وذلك هو الطريق الوحيد لأن تصبح جزءاً من العالم الحديث. وكان هذا هو المعني الذي فهمه طه حسين من المعاهدة المصرية البريطانية عام 1936، واتفاقية مونتريه التي ألغت الامتيازات الأجنبية. فهم طه حسين أن أوروبا أكدت ثقتها في مدنية مصر وتعهدت مصر من جانبها «بالتزام واضح وملزم أمام العالم المتحضر بأننا سوف نسير في طريق الأوروبيين في الحكم والتشريع والإدارة».

وكان واضحاً أن طه حسين في تصوره لعلاقة مصر بأوروبا سوف يواجه نقداً شديداً، وفي رده على هذه الانتقادات حرص على أن يوضح عدداً من الحقائق المتصلة ليس بالحياة المادية والروحية للغرب فحسب، بل وفي مصر كذلك، ومن أول هذه الحقائق أن الحياة الأوروبية ليست كلها إثماً، وإلا لما تحقق لها ما تحقق من تقدم ورقي، فالإثم الخالص لا يمكن من الرقي. في المقابل فإن حياتنا ليست خيراً كلها، وإنما فيها شر كثير، وإلا لما شهدنا هذا القدر من الانحطاط.

لماذا لم يفز طه حسين بجائزة نوبل رغم ترشحه 14 مرة؟

طه حسين في رحاب الحرم
مكة المكرمة، حسين بافقيه (مكة) يطالعنا مِنْ طه حسين وجه غير مألوف، ذلك أنَّ عميد الأدب العربيّ كان منوطًا به يوم قفل راجعًا إلى بلاده مِنْ باريس؛ تدريس التَّاريخ اليونانيّ والرُّومانيّ، حتَّى إذا قرأْنا جريدة مؤلَّفاته رأينا فيها مؤلَّفات في ثقافة تلك الأُمَّتين، ترجم روائع مِنَ الأدب اليونانيّ القديم، وحاضر في تاريخ الرُّومان، وكان يرى أنَّه لن ترتقي مصر ما لمْ تأخذ طُلَّابَها في الجامعة المصريَّة القديمة بدرْس تلكما الحضارتين واللُّغتين، حتَّى إذا تقلَّبتِ الأيَّام، قليلًا، رأينا طه حسين الَّذي عرفناه وألفناه، يحدِّثنا حديث الأربعاء، ويُغْرِي قرَّاءَه بالشِّعر العربيّ القديم، ويَجِدِّ في تيسيره وإساغته.

23 أغسطس 2017
لكنَّ طه حسين هو، كذلك، ابن الجامع الأزهر، وتلميذ شيخ العربيَّة الجليل سيِّد بن عليّ المرصفيّ، قبل أن يصبح تلميذًا لجويدي وماسينيون وسواهما مِنَ المستشرقين الفرنسيِّين والإيطاليِّين والبلجيكيِّين، وقبل أن يختلف إلى السُّوربون، ويدرس التَّاريخ الأوربِّيّ، والفلسفة اليونانيَّة، وما اتَّصل بحضارة الغرب وثقافته، وكأنَّما أراده قرَّاؤه العرب خالصًا لهم، لا يشاركهم فيه أحد!

كان طه حسين مشغوفًا بالأدب العربيّ القديم، وكان مشغوفًا على نحوٍ خاصّ بتلك الأجزاء الَّتي خَصَّصها أبوالفرج الأصفهانيّ في كِتابه الأغاني لأولئك الشُّعراء، وأولئك المغنِّين والرُّواة مِنْ جزيرة العرب، ولا سيَّما مَن اتَّصلتْ أسبابه بالحجاز ومدينتيه العظيمتين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وما اكتنفهما مِنْ بوادٍ وسُهوبٍ، كانتْ، في يومٍ مِنَ الأيَّام، ملعبًا لشِعْر العرب وآدابهم، وبلغ به غرامه بكِتاب الأغاني أنْ كان سلوته حِين يقصد فرنسا أوْ غيرها مِنْ بلدان أوربَّا حِين يصيف، حتَّى إذا آبَ إلى القاهرة أمتع قرَّاءه الَّذين يتحيَّنون الفصل الَّذي ينشره في هذه الصَّحيفة أوْ تلك المجلَّة، فكان ذلك الشَّيخ الأزهريّ السُّوربونيّ داعية لوحدة العرب قبل أن يلهج بهذه الكلمة السَّاسة ومَنْ إليهم.

حكّام مصر فى ذكرى رحيله
كَتَبَ طه حسين عن الجزيرة العربيَّة في عصرها الحاضر غير مرَّة؛ كانتْ أولاها حين نشر مقالته «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب» في مجلَّة open court الأمريكيَّة، ونشرها في مجلَّة الهلال سنة 1351هـ 1933م، ثُمَّ أخرجها الشَّيخ خليل الرَّواف في كُتَيِّبٍ سنة 1354هـ 1935م، قبل أنْ تصبح فصلًا مِنْ فصول كِتاب ألوان (1354هـ 1935م)، ثُمَّ حيَّا أحمد عبد الغفور عطَّار بتحيَّة قصيرة كانتْ كالمقدِّمة لديوانه الهوى والشَّباب (1365هـ)، ثُمَّ مضى لشؤونه في الجامعة والأدب والسِّياسة، قبل أن تُبْحِر به السَّفينة إلى جزيرة العرب؛ إلى الحجاز، عام 1374هـ 1955م، رئيسًا للمؤتمر التَّاسع للإدارة الثَّقافيَّة الَّذي عُقِدَ في مدينة جدَّة، وألفى العميد نفسه في تلك الأرض الَّتي كان ينفق السَّاعات الطِّوال في صحبة أبنائها مِنَ الشُّعراء والرُّواة، فجعل يكتب ويخطب وينشر الكُتُب والفصول والمقالات مِنْ فيض قرائحهم الأدبيَّة الصَّحيحة، ويعيش معهم أينما ساروا، حتَّى لكأنَّ ذاكرته مسكونة بأمكنة أولئك الشُّعراء والرُّواة في حواضر جزيرة العرب ووديانها وجبالها وصحاريها.

طه حسين مع مصطفى النحاس
كان الشَّيخ الجليل فرحًا أنْ زار الحجاز، وأنْ سيكون في تلك الأرض الَّتي ما فارق أدبها وثقافتها وأخبارها يومًا واحدًا، وكان السُّعُوديُّون فرحين بمقدم العميد، فازدحم ميناء جدَّة برجالات الدَّولة، والأدباء، وطلَّاب المدارس، احتشد كلُّ أولئك حتَّى ازدحم بهم المكان، وما إنْ أطلَّ مِنَ السَّفينة حتَّى هتف طلَّاب المدارس باسمه، وشاركهم عُمَّال السَّفينة هتافهم ونشيدهم، في صورة لا أحسب أنَّ جدَّة حيَّتْ بها أديبًا غير طه حسين!

لنْ أتحدَّثَ عنْ زيارة طه حسين للحجاز، فمحلُّ ذلك كِتابي طه حسين والمثقَّفون السُّعُوديُّون، إنَّما الَّذي يعنيني، هنا، أنَّ عميد الأدب العربيّ كان يَعْرِف مقدار ما أدَّتْه الجزيرة العربيَّة، والحجاز خاصَّةً، للمسلمين والعرب، حين منحتْهم شيئين عزيزين: الإٍسلام، واللُّغة العربيَّة، وكان، طوال رحلته، يستشعر هذه المكانة الجليلة الَّتي هي رأسمال رمزيّ للمملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، حتَّى إذا احتفلتِ البلاد بأعضاء تلك البعثة، ألقى طه حسين كلمة بين يدي الحفل الَّذي رعاه الأمير فهد بن عبد العزيز -وزير المعارف في تلك المُدَّة- وقال هذه الكلمات الحارَّة العظيمة:

سادتي!
كان الفرنسيُّون في بعض أوقاتهم يتحدَّثون عن انتشار ثقافتهم في الأرض فيقول قائلهم: إنَّ لكلّ مثقَّفٍ وطنين؛ أمَّا أحدهما فوطنه الَّذي وُلِدَ فيه ونشأ، وأمَّا الآخَر ففرنسا الَّتي تَثَقَّفَ فيها أوْ تَلَقَّى الثَّقافة عنها. وكنَّا نسمع هذا الكلام، وكنَّا نرى فيه شيئًا مِنْ حقٍّ وكثيرًا مِنْ سَرَف.. ولكنَّ الَّذي أريد أنْ أقوله الآن هو الحقُّ كلّ الحقّ، لا نصيب للسَّرَف فيه مِنْ قريب أوْ بعيد، فلكلِّ مسلمٍ وطنان لا يستطيع أحدٌ أن يَشُكَّ في ذلك شكًّا قويًّا أوْ ضعيفًا، وطنه الَّذي نشأ فيه، وهذا الوطن المقدَّس الَّذي أنشأ أُمَّته وكَوَّنَ قلبه وعقله وذوقه وعواطفه جميعًا، هذا الوطن المقدَّس الَّذي هَدَاه إلى الهُدى، والَّذي يَسَّره للخير، والَّذي عَرَّفه نفسه، وجعله عضوًا صالحًا مصلحًا في هذا العالَم الَّذي يعيش فيه حتَّى إذا أشرف على ختام خطبته، عاد فألهب القلوب بقوله:
أمَّا بعد، فإنِّي أسعد النَّاس وأعظمهم غبطةً بأنْ أشعر الآن بأنِّي أتحدَّث في بلاد العرب، في البلاد الَّتي عاش فيها محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأصحابه، وفي البلاد الَّتي مَرَّ عليها وقتٌ كان أهلها يقولون فيه: ما أشدَّ قرب السَّماء مِنَ الأرض! ثُمَّ مَرَّ عليها وقتٌ، بعد وفاة النَّبيّ، كان بعضهم يبكي لا لأنَّ شخص محمَّد قد انتقل إلى الرَّفيق الأعلى، بلْ لأنَّ خبر السَّماء قد انقطع عنْ هذه البلاد

عاش طه حسين على ثرى هذه الأرض عِدَّة أيَّام، لكنَّه عاشها في خياله وقلبه ووجدانه عمره كلَّه، وعساه، على كثرة ما خطب وحاضر واجتمع، كان لا ينفكُّ يجيل في خاطره أسماء أولئك النَّفر الكرام الَّذين صحبهم وطالتْ صُحبته لهم كلَّما أخذ يقرأ في الأغاني، أوْ كلَّما أنشأ يكتب هذا الفصل أوْ ذاك يَعْرِض فيه شيئًا مِنْ خبر هذه الأرض، لَمَّا كَتَب عنْ شعرائها مِنْ مترفي الحجاز، أوْ أولئك الأعراب البادين فيها، ويوم مضى يُنْشِئ الكُتُب والفصول عن النَّبيّ الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصحابته الكرام، وها هو ذا اليوم قريبٌ مِنْ تلك الأمكنة الَّتي التصق فؤاده بها:

زيارة الملك فاروق لـ ملوي وسر خلافه مع طه حسين
كان طه حسين في جدَّة غير بعيد مِنْ مهبط الوحي وميلاد النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مكَّة المكرَّمة، فأجمع أمره على أن يقصد البلد الحرام معتمِرًا، فلمَّا نَهَبَتِ المركبة الطَّريق، أومأ إلى سائقه أن يوقف السَّيَّارة ساعة تُلِمُّ بالحُديبيَّة، فلمَّا بلغها «تَرَجَّلَ الرَّجُلُ وَقَبَضَ مِنْ تراب «الحديبية» قبضةً فشمَّها، ثُمَّ تمتم ودموعه تنساب على التُّراب قائلًا: والله إنِّي لأشمُّ رائحة محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – في هذا التُّراب الطَّاهر، وهَدَّأَ مرافقه مِنْ روع الدَّكتور على مدى نِصْف السَّاعة مِنَ الرَّاحة، ثُمَّ استمرَّ الرَّكب حتَّى دخل الحرم مِنْ باب السَّلام، والدَّكتور لا يكاد يُخفي زلزلة إيمانه عنْ رفيقه، وتَوَجَّها إلى الكعبة فتسَّلم الحجر وقبَّله باكيًا، واستمرَّ يطوف ويسعى في خشوع ضارع، وبكاء خفيّ حتَّى أتمَّ عُمرته، وقدْ أخذ مِنْه الإرهاق النَّفسيّ أكثر مِنَ البدنيّ كلَّ مأخذ»، حتَّى إذا طاف بالبيت العتيق، استلم الحجر الأسود وقَبَّله، وجعل يبكي حتَّى وقف المعتمرون ينتظرون أن يغادر هذا الشَّيخ الكفيف مكانه، ولكنَّه ما لبث أنْ بكى وأطال البكاء والتَّنهيد والتَّقبيل، فتُرِكَ في حاله، وأخذ المعتمرون يبكون ويجهشون معه في البكاء والتَّنهيد.

فلمَّا كان في المدينة المنوَّرة ورأى بعين الفؤاد تلك الأماكن الشَّريفة، سأله الصَّحفيُّون كلمة يذيعونها في الصُّحُف، فاعتذر إليهم، فلمَّا ألحُّوا عليه قال: «كيف أستطيع الكلام في بلد صاحب الرِّسالة عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام؟. إنَّني أجد نفسي مأخوذًا بجلال الموقف، وهيبة البلد المقدَّس وذكرياته العظيمة في تاريخ العالَم، ولا أستطيع أنْ أقول شيئًا إلَّا أنَّني أُحَيِّي صاحب الرِّسالة، ثُمَّ المدينة وأهل المدينة»!
لقدْ كنتُ أعيش بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدَّسة زهاء عشرين عامًا منذ بدأتُ أكتب «على هامش السِّيرة» حتَّى الآن، وهنا، في جدَّة، أحسسْتُ أنَّني أعيش فيها بفكري وعقلي وجسدي جميعًا
مكة المكرمة، حسين بافقيه (مكة) يطالعنا مِنْ طه حسين وجه غير مألوف، ذلك أنَّ عميد الأدب العربيّ كان منوطًا به يوم قفل راجعًا إلى بلاده مِنْ باريس؛ تدريس التَّاريخ اليونانيّ والرُّومانيّ، حتَّى إذا قرأْنا جريدة مؤلَّفاته رأينا فيها مؤلَّفات في ثقافة تلك الأُمَّتين، ترجم روائع مِنَ الأدب اليونانيّ القديم، وحاضر في تاريخ الرُّومان، وكان يرى أنَّه لن ترتقي مصر ما لمْ تأخذ طُلَّابَها في الجامعة المصريَّة القديمة بدرْس تلكما الحضارتين واللُّغتين، حتَّى إذا تقلَّبتِ الأيَّام، قليلًا، رأينا طه حسين الَّذي عرفناه وألفناه، يحدِّثنا حديث الأربعاء، ويُغْرِي قرَّاءَه بالشِّعر العربيّ القديم، ويَجِدِّ في تيسيره وإساغته.

23 أغسطس 2017
لكنَّ طه حسين هو، كذلك، ابن الجامع الأزهر، وتلميذ شيخ العربيَّة الجليل سيِّد بن عليّ المرصفيّ، قبل أن يصبح تلميذًا لجويدي وماسينيون وسواهما مِنَ المستشرقين الفرنسيِّين والإيطاليِّين والبلجيكيِّين، وقبل أن يختلف إلى السُّوربون، ويدرس التَّاريخ الأوربِّيّ، والفلسفة اليونانيَّة، وما اتَّصل بحضارة الغرب وثقافته، وكأنَّما أراده قرَّاؤه العرب خالصًا لهم، لا يشاركهم فيه أحد!

كان طه حسين مشغوفًا بالأدب العربيّ القديم، وكان مشغوفًا على نحوٍ خاصّ بتلك الأجزاء الَّتي خَصَّصها أبوالفرج الأصفهانيّ في كِتابه الأغاني لأولئك الشُّعراء، وأولئك المغنِّين والرُّواة مِنْ جزيرة العرب، ولا سيَّما مَن اتَّصلتْ أسبابه بالحجاز ومدينتيه العظيمتين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وما اكتنفهما مِنْ بوادٍ وسُهوبٍ، كانتْ، في يومٍ مِنَ الأيَّام، ملعبًا لشِعْر العرب وآدابهم، وبلغ به غرامه بكِتاب الأغاني أنْ كان سلوته حِين يقصد فرنسا أوْ غيرها مِنْ بلدان أوربَّا حِين يصيف، حتَّى إذا آبَ إلى القاهرة أمتع قرَّاءه الَّذين يتحيَّنون الفصل الَّذي ينشره في هذه الصَّحيفة أوْ تلك المجلَّة، فكان ذلك الشَّيخ الأزهريّ السُّوربونيّ داعية لوحدة العرب قبل أن يلهج بهذه الكلمة السَّاسة ومَنْ إليهم.

حكّام مصر فى ذكرى رحيله
كَتَبَ طه حسين عن الجزيرة العربيَّة في عصرها الحاضر غير مرَّة؛ كانتْ أولاها حين نشر مقالته «الحياة الأدبيَّة في جزيرة العرب» في مجلَّة open court الأمريكيَّة، ونشرها في مجلَّة الهلال سنة 1351هـ 1933م، ثُمَّ أخرجها الشَّيخ خليل الرَّواف في كُتَيِّبٍ سنة 1354هـ 1935م، قبل أنْ تصبح فصلًا مِنْ فصول كِتاب ألوان (1354هـ 1935م)، ثُمَّ حيَّا أحمد عبد الغفور عطَّار بتحيَّة قصيرة كانتْ كالمقدِّمة لديوانه الهوى والشَّباب (1365هـ)، ثُمَّ مضى لشؤونه في الجامعة والأدب والسِّياسة، قبل أن تُبْحِر به السَّفينة إلى جزيرة العرب؛ إلى الحجاز، عام 1374هـ 1955م، رئيسًا للمؤتمر التَّاسع للإدارة الثَّقافيَّة الَّذي عُقِدَ في مدينة جدَّة، وألفى العميد نفسه في تلك الأرض الَّتي كان ينفق السَّاعات الطِّوال في صحبة أبنائها مِنَ الشُّعراء والرُّواة، فجعل يكتب ويخطب وينشر الكُتُب والفصول والمقالات مِنْ فيض قرائحهم الأدبيَّة الصَّحيحة، ويعيش معهم أينما ساروا، حتَّى لكأنَّ ذاكرته مسكونة بأمكنة أولئك الشُّعراء والرُّواة في حواضر جزيرة العرب ووديانها وجبالها وصحاريها.

طه حسين مع مصطفى النحاس
كان الشَّيخ الجليل فرحًا أنْ زار الحجاز، وأنْ سيكون في تلك الأرض الَّتي ما فارق أدبها وثقافتها وأخبارها يومًا واحدًا، وكان السُّعُوديُّون فرحين بمقدم العميد، فازدحم ميناء جدَّة برجالات الدَّولة، والأدباء، وطلَّاب المدارس، احتشد كلُّ أولئك حتَّى ازدحم بهم المكان، وما إنْ أطلَّ مِنَ السَّفينة حتَّى هتف طلَّاب المدارس باسمه، وشاركهم عُمَّال السَّفينة هتافهم ونشيدهم، في صورة لا أحسب أنَّ جدَّة حيَّتْ بها أديبًا غير طه حسين!

لنْ أتحدَّثَ عنْ زيارة طه حسين للحجاز، فمحلُّ ذلك كِتابي طه حسين والمثقَّفون السُّعُوديُّون، إنَّما الَّذي يعنيني، هنا، أنَّ عميد الأدب العربيّ كان يَعْرِف مقدار ما أدَّتْه الجزيرة العربيَّة، والحجاز خاصَّةً، للمسلمين والعرب، حين منحتْهم شيئين عزيزين: الإٍسلام، واللُّغة العربيَّة، وكان، طوال رحلته، يستشعر هذه المكانة الجليلة الَّتي هي رأسمال رمزيّ للمملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، حتَّى إذا احتفلتِ البلاد بأعضاء تلك البعثة، ألقى طه حسين كلمة بين يدي الحفل الَّذي رعاه الأمير فهد بن عبد العزيز -وزير المعارف في تلك المُدَّة- وقال هذه الكلمات الحارَّة العظيمة:

سادتي!
كان الفرنسيُّون في بعض أوقاتهم يتحدَّثون عن انتشار ثقافتهم في الأرض فيقول قائلهم: إنَّ لكلّ مثقَّفٍ وطنين؛ أمَّا أحدهما فوطنه الَّذي وُلِدَ فيه ونشأ، وأمَّا الآخَر ففرنسا الَّتي تَثَقَّفَ فيها أوْ تَلَقَّى الثَّقافة عنها. وكنَّا نسمع هذا الكلام، وكنَّا نرى فيه شيئًا مِنْ حقٍّ وكثيرًا مِنْ سَرَف.. ولكنَّ الَّذي أريد أنْ أقوله الآن هو الحقُّ كلّ الحقّ، لا نصيب للسَّرَف فيه مِنْ قريب أوْ بعيد، فلكلِّ مسلمٍ وطنان لا يستطيع أحدٌ أن يَشُكَّ في ذلك شكًّا قويًّا أوْ ضعيفًا، وطنه الَّذي نشأ فيه، وهذا الوطن المقدَّس الَّذي أنشأ أُمَّته وكَوَّنَ قلبه وعقله وذوقه وعواطفه جميعًا، هذا الوطن المقدَّس الَّذي هَدَاه إلى الهُدى، والَّذي يَسَّره للخير، والَّذي عَرَّفه نفسه، وجعله عضوًا صالحًا مصلحًا في هذا العالَم الَّذي يعيش فيه حتَّى إذا أشرف على ختام خطبته، عاد فألهب القلوب بقوله:
أمَّا بعد، فإنِّي أسعد النَّاس وأعظمهم غبطةً بأنْ أشعر الآن بأنِّي أتحدَّث في بلاد العرب، في البلاد الَّتي عاش فيها محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأصحابه، وفي البلاد الَّتي مَرَّ عليها وقتٌ كان أهلها يقولون فيه: ما أشدَّ قرب السَّماء مِنَ الأرض! ثُمَّ مَرَّ عليها وقتٌ، بعد وفاة النَّبيّ، كان بعضهم يبكي لا لأنَّ شخص محمَّد قد انتقل إلى الرَّفيق الأعلى، بلْ لأنَّ خبر السَّماء قد انقطع عنْ هذه البلاد

عاش طه حسين على ثرى هذه الأرض عِدَّة أيَّام، لكنَّه عاشها في خياله وقلبه ووجدانه عمره كلَّه، وعساه، على كثرة ما خطب وحاضر واجتمع، كان لا ينفكُّ يجيل في خاطره أسماء أولئك النَّفر الكرام الَّذين صحبهم وطالتْ صُحبته لهم كلَّما أخذ يقرأ في الأغاني، أوْ كلَّما أنشأ يكتب هذا الفصل أوْ ذاك يَعْرِض فيه شيئًا مِنْ خبر هذه الأرض، لَمَّا كَتَب عنْ شعرائها مِنْ مترفي الحجاز، أوْ أولئك الأعراب البادين فيها، ويوم مضى يُنْشِئ الكُتُب والفصول عن النَّبيّ الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصحابته الكرام، وها هو ذا اليوم قريبٌ مِنْ تلك الأمكنة الَّتي التصق فؤاده بها:

زيارة الملك فاروق لـ ملوي وسر خلافه مع طه حسين
كان طه حسين في جدَّة غير بعيد مِنْ مهبط الوحي وميلاد النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مكَّة المكرَّمة، فأجمع أمره على أن يقصد البلد الحرام معتمِرًا، فلمَّا نَهَبَتِ المركبة الطَّريق، أومأ إلى سائقه أن يوقف السَّيَّارة ساعة تُلِمُّ بالحُديبيَّة، فلمَّا بلغها «تَرَجَّلَ الرَّجُلُ وَقَبَضَ مِنْ تراب «الحديبية» قبضةً فشمَّها، ثُمَّ تمتم ودموعه تنساب على التُّراب قائلًا: والله إنِّي لأشمُّ رائحة محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – في هذا التُّراب الطَّاهر، وهَدَّأَ مرافقه مِنْ روع الدَّكتور على مدى نِصْف السَّاعة مِنَ الرَّاحة، ثُمَّ استمرَّ الرَّكب حتَّى دخل الحرم مِنْ باب السَّلام، والدَّكتور لا يكاد يُخفي زلزلة إيمانه عنْ رفيقه، وتَوَجَّها إلى الكعبة فتسَّلم الحجر وقبَّله باكيًا، واستمرَّ يطوف ويسعى في خشوع ضارع، وبكاء خفيّ حتَّى أتمَّ عُمرته، وقدْ أخذ مِنْه الإرهاق النَّفسيّ أكثر مِنَ البدنيّ كلَّ مأخذ»، حتَّى إذا طاف بالبيت العتيق، استلم الحجر الأسود وقَبَّله، وجعل يبكي حتَّى وقف المعتمرون ينتظرون أن يغادر هذا الشَّيخ الكفيف مكانه، ولكنَّه ما لبث أنْ بكى وأطال البكاء والتَّنهيد والتَّقبيل، فتُرِكَ في حاله، وأخذ المعتمرون يبكون ويجهشون معه في البكاء والتَّنهيد.

فلمَّا كان في المدينة المنوَّرة ورأى بعين الفؤاد تلك الأماكن الشَّريفة، سأله الصَّحفيُّون كلمة يذيعونها في الصُّحُف، فاعتذر إليهم، فلمَّا ألحُّوا عليه قال: «كيف أستطيع الكلام في بلد صاحب الرِّسالة عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام؟. إنَّني أجد نفسي مأخوذًا بجلال الموقف، وهيبة البلد المقدَّس وذكرياته العظيمة في تاريخ العالَم، ولا أستطيع أنْ أقول شيئًا إلَّا أنَّني أُحَيِّي صاحب الرِّسالة، ثُمَّ المدينة وأهل المدينة»!
لقدْ كنتُ أعيش بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدَّسة زهاء عشرين عامًا منذ بدأتُ أكتب «على هامش السِّيرة» حتَّى الآن، وهنا، في جدَّة، أحسسْتُ أنَّني أعيش فيها بفكري وعقلي وجسدي جميعًا