امل الحمدي من جدة : ''الاقتصاد الخفي''، وهو كل اقتصاد تقوم به فئة غير ملتزمة بالقانون، مرض ينخر في أجساد الدول ويكبدها خسائر فادحة، ويهددها أمنيا، ويستغل النشطاء في دوائر هذا الاقتصاد كل ما يقع في أيديهم أو تحت أنظارهم لإدارة هذا الاقتصاد من أجل مصالحهم الشخصية.

"الاقتصادية" تفتح ملف «الاقتصاد الخفي في السعودية» وتكشف أسراره (2-4)

654047_208320.jpg
التسول باستغلال عاهات الأطفال جزء من دورة '
'الاقتصاد الخفي''. تصوير: أحمد حشاد ــ «الاقتصادية»



والأخطر في اقتصاد مثل هذا هو ارتكاب بعض المشاركين فيه جرائم الإرهاب وغسل الأموال والجرائم الاقتصادية والجنائية.

''الاقتصادية'' ولحرصها على كشف خبايا هذا العالم الذي يؤثر على الناتج المحلي السعودي، قامت بالخوض فيه من زاوية سبر أغواره والكشف عن أسراره وأرقامه، والتقت محللين وخبراء اقتصاديين للحديث عن هذا الاقتصاد، ودور وزارتي الداخلية والعمل أمام هذه المعضلة.

أكد عدد من الاقتصاديين أن غياب تطبيق الأنظمة الصارمة للحد من تنامي الاقتصاد الخفي كانت عاملا رئيسا في ارتفاع سيطرة الاقتصاد الخفي إلى الناتج المحلي الاجمالي بنسبه قدرت بـ 25 في المائة سنويا وهو معدل خطير عالميا يضر بالاقتصاد السعودي على المديين القريب والطويل.

وقالوا إن المملكة تعتبر بيئة خصبة لنمو الاقتصاد الخفي بكل أنواعه، فوفرة السيولة المالية والعمالة المتخلفة في ظل ضعف كبير في تطبيق الأنظمة الصارمة عوامل ساعدت في نمو الاقتصاد الخفي مطالبين في الوقت ذاته بإنشاء هيئة متخصصة لمكافحة الاقتصاد الخفي متصلة وبشكل مباشر مع الجهات المعنية لعمل إحصائية وتوفير معلومات لوضع خطط واستراتيجية لمكافحته بشكل تكاملي، والاستفادة من وزارة الداخلية بالجهود التي تبذلها لمكافحة الاقتصاد الأسود بكل أنواعه، مشيرين إلى الخلل الكبير في البرامج التي قدمتها بعض الوزارات مثل برامج وزارة العمل التي عملت بشكل غير مباشر في انتعاش الاقتصاد الخفي.


الصنيع

وأشار الدكتور عبد الرحمن الصنيع أستاذ محاسبة وتسويق في كلية إدارة الأعمال في جامعة الملك عبد العزيز في جدة إلى أن الاقتصاد الخفي يسيطر على أكثر من 25 من إجمالي الناتج القومي للمملكة، حيث تعتبر المملكة بيئة خصبة لنمو الاقتصاد الخفي في ظل عدم تطبيق الأنظمة الصارمة للحد من الممارسات المخالفة للنظام ووفرة السيولة المالية.

وبين أن العمالة الوافدة والمتخلفة من أكبر المحركين لهذا النوع من الاقتصاد بنسبة 70في المائة بمختلف أنواعه التي تتجاوز 30 نوعا مثل تحويلات العمالة الأجنبية، الاتجار بالبشر، التسول، تهريب النقد، التزوير، السرقة، السحر، الشعوذة، البسطات العشوائية، المخدرات، والغش التجاري، والدعارة، ويشكل المواطنين نسبة لا تذكر منها نظرا لتأثيرها في السمعة والأخلاق، ولكن هناك أنواع أخرى ناتجة عن الفساد الإداري وسوء التنظيم مثل استغلال النفوذ والتستر التجاري والفساد الإداري والمالي، كما أن مخالفات مخصصات الميزانية تشكل النسبة الأكبر من تعاملات المواطنين في هذا المجال.

سببان يفعلان الاقتصاد الخفي

أرجع الصنيع تفعيل العمالة الوافدة للاقتصاد الخفي إلى سببين رئيسين وهما تدني رواتب العمالة الوافدة وعدم تسليمها مستحقاتها ما يجعلها تبحث عن طرق غير شرعية لرفع معدل المدخرات، إضافة إلى توافر السلع المتاحة للبيع ذات الجودة المنخفضة بأسعار مناسبة للعمالة، مستدلا بالأسواق الشعبية بالمملكة، وقال إنه وبحسب دراسة أجريت أخيرا أن 90 في المائة من الأسواق الشعبية تديرها العمالة الوافدة و70 في المائة يديرونها لحسابهم الخاص تحت مظلة التستر.

والسبب الآخر لانتعاشها هو عدم التشديد على المنافذ البرية خاصة مع دخول الحجاج والمعتمرين، ودخول كميات كبيرة من البضائع الرديئة يتم تصريفها في عدد من المناطق.

وبين أن 50 في المائة من الاقتصاد الخفي ينتعش في موسم الحج والعمرة حيث تلجأ العمالة إلى افتراش البسطات والبيع مما يدر عليها ربحا وفيرا يجعلها تتخلف عن السفر عند انتهاء المدة ومعاودة العمل بطرق غير شرعية أخرى فالمكاسب تصبح مغرية في ظل توافر سيولة وغياب تطبيق الأنظمة.

وحول دور برامج وزارة العمل في سعودة الوظائف والحد من البطالة أوضح الصنيع أن البرامج التي أقرتها وزارة العمل اهتمت بشكل كبير بسعودة الأعمال الإدارية والبعد عن الأعمال المهنية التي أصبحت تسيطر عليها العمالة الوافدة بشكل كبير يفوق 80 في المائة، حيث تشهد الأعمال المهنية تكتلات عمالية كبيرة ما يجعل هذه البرامج غير مجدية وتزيد من عدد العمالة الوافدة غير المدربة والباحثة عن أعمال مهنية و تكتلات عمالية تديرها تحت مظلة التستر التجاري، وقال ''هناك خلل كبير في سعودة الوظائف المهنية التي بدورها تحد وتقلص عدد العمالة الوافدة فلم نلتمس أي ردود فعل إيجابية من سعودة القطاع فرغم مرور عشر سنوات على خريجي المعاهد التقنية والمهنية الصناعية مثلا إلا أننا لا نرى أي تواجد لهم على أرض الواقع حيث ينخرطون في الأعمال الإدارية أوفتح محال وتسليمها إلى العمالة الوافدة التي تجني أرباحا طائلة وتعمل على توظيف عمالة وافدة أخرى.

وأضاف قائلا: إن الاعتماد الكبير على العمالة الوافدة بوجود سيولة كبيرة يجعل القضاء على الاقتصاد الخفي شبة مستحيل، فالعمالة الوافدة تأخذ نصيب الأسد في قطاع التجزئة التي عادة تكون تعاملاتها فردية والتسليم نقدا.

وشدد الصنيع على ضرورة إنشاء هيئة متخصصة ومعنية بهذا الشأن تقدم خططا واستراتيجيات وإحصائيات للممارسات المخالفة، تكون على علاقة مباشرة في عدد من الجهات الحكومية المعنية بالممارسات المخالفة مثل وزراة المالية ووزارة الداخلية والعمل والتجارة والعمل بشكل تكاملي لمحاربة صغار الأموال ومن جميع المنافذ، وهذا يعد الحل الأمثل للقضاء على هذا النوع من الاقتصاد وخاصة أننا نمتلك قوانين وأنظمة صارمة في هذا الصدد.

اقتصاد الظل


تركستاني

من جهته، أشار الدكتور حبيب تركستاني أستاذ اقتصاد في جامعة الملك عبد العزيز في جدة إلى أن الاقتصاد الخفي منظومة كبيرة ومتشعبة لعدد كبير من الأنواع ، تضم كل ماهو مخالف للأنظمة والقوانين، ولها أنواع كثيرة وليس لها تعريف محدد وهي تسمى ''اقتصاد الظل'' ومعدل نموها في المملكة يراوح بين 6 و 25 في المائة سنويا.

وأبان تركستاني أن أكثر مصادر ''اقتصاد الظل'' تأتي من الممارسات غير المشروعة، تديرها عادة عمالة وافدة متخلفة، فأكثر من ستة ملايين وافد أجنبي لهم تعاملات تجارية تحت مظلة التستر التجاري، في ظل غياب تطبيق الأنظمة الصارمة، وقال ''توجد لدينا أنظمة صارمة ومشددة ولكنها لا تطبق خاصة فيما يخص التعاملات الإدارية، إضافة إلى عدم وجود أي تضافر للجهود للجهات شبه الحكومية مثل الغرف التجارية التي تعتبر اللاعب الكبير لمكافحة أنواع كثيرة من الاقتصاد الخفي فيما يخص التعاملات التجارية، لكن وللأسف الغرف التجارية عبارة عن تكتلات لا توجد لهم خطط أو برامج لمكافحة الممارسات المخالفة للنظام، إضافة إلى وجود بطالة مقنعة داخل الجهات الحكومية وخارجها.

ولفت تركستاني إلى عدم وجود أي إحصائيات ومعايير واضحة للاقتصاد الخفي، فكل جهة تعمل بمفردها لمكافحة الممارسات الخاطئة دون التعاون مع الجهات الأخرى لكبحها والقضاء عليها من الجذور وحصرها، وقال: لابد من تطبيق الأنظمة والقوانين بشكل جدي، إضافة إلى التعاون مع المجتمع للقضاء على هذه الممارسات والشعور بالمسؤولية من قبل المواطنين وتفضيل المصلحة الخاصة ، وتفعيل القيم الأخلاقية وبرامج السعودة.

4 أسباب


فلالي

الدكتور أسامة فلالي المحلل المالي وأستاذ الاقتصاد في جامعة الملك عبد العزيز أشار إلى أربعة أسباب رئيسية لانتعاش الاقتصاد الخفي التي تأتي في مقدمتها البطالة وتقديم المغريات للعاطلين عن العمل مقابل مبالغ مالية كبيرة يكونون عادة بحاجة لها، إضافة إلى ضعف الوازع الديني مما يحرض الإنسان على الإقبال على أي عمل مقابل إشباع رغباته التي عادة تكون بامتلاك اكبر قدر من المال تكون تطلعاتهم اكبر من قدراتهم المالية ويسعى عادة إلى طرق غير مشروعة، وقد لمسنا ذلك في كارثة سيول جدة التي كانت نتيجتها التراخي في عقوبات الرشوة والتزوير، وأخيرا العمالة الوافدة والمتخلفة ، حيث أن العمالة المتخلفة لديها الاستعداد لعمل أي شيء وبأي تكلفة مقابل كسب اكبر قدر ممكن من المال فعادة يسيرون بدون وازع ديني إضافة إلى العمالة الوافدة النظامية فخروج الأعداد الكبيرة من قطاع التجزئة التي يشكل حجم العمالة بها 70في المائة بدون إنهاء إقامته او إيجاد بديل لهم يجعلهم عرضة للانخراط في الممارسات المخالفة للنظام، وقال '' كان الأولى من وزارة العمل أن تنظر للانعكاسات السلبية للبرامج التي تقدمها بعيد الاعتبار من جميع النواحي ، مبينا أن البرامج أدت دورها المطلوب بتوظيف عدد كبير من العاطلين وصنع فرص وظيفية لكلا الطرفين شبابا وشابات لم تنظر إلى واقع العمالة الوافدة الأخرى التي لها أكثر من عشرين عاما وليس لهم بلاد أخرى وتاثير ذلك على الاقتصاد بشكل عام، موضحا ضرورة إعداد خطط توضح مسيرة هذه العمالة وذلك بإنهاء إقامة كل من لم يحمل مؤهلا تحتاجه المملكة اضافة إلى إعادة النظر وتقديم امتيازات للعمالة الوافدة المستقرة في المملكة منذ عشرات السنين لتجعلهم مساهمين في تنمية البلاد .

ورأى الفلالي ضرورة تفعيل الأنظمة وتطبيقها حيث يوجد خلل في تطبيقها رغم صرامتها، مبينا أن الممارسات غير المشروعة في الاقتصاد الخفي تنتعش في الدول النامية البعيدة عن تطبيق القوانين التي تجرم وتحرم ممارسة مثل هذه الأعمال ،وقال إن ''الاقتصاد الأسود'' هو مجمل الأنشطة المخالفة لشريعة المملكة مثل المخدرات والخمور بأنواعها،

السلع منتهية الصلاحية


التواتي

الدكتور علي التواتي أستاذ اقتصاد بجامعة الملك عبد العزيز أشار إلى أن الاقتصاد الخفي اقتصاد كبير يتكون من أربع أنواع رئيسية يندرج تحتها أنواع مختلفة يتصدرها الاقتصاد الأسود وهو الاقتصاد المعني بالتجارة المحرمة مثل المخدرات والاتجار بالبشر والدعارة والشعوذة والسحر، وهو من أكثر الأنواع انتشارا بالمملكة رغم الجهود الجبارة التي تقوم بها وزارة الداخلية بالقضاء عن الممارسات المحرمة والمخالفة ، فبحسب تصريح للأمير نايف بن عبد العزيز انه في عام 2010م قامت وزارة الداخلية باعتقال 90الف شخص متورط بقضايا المخدرات 70الف منهم من السعوديين مما يوضح حجم الجهود المبذولة لمكافحة الممارسات المخالفة للشريعة، والنوع الأخر المتاجرة ببعض السلع الغير محرمة ولكنها مخالفة وغير مرغوبة و السلع التي تفرض عليها الحكومة رسوما سعريه محددة مثل الاسمنت والغاز ويعاد بيعها بأسعار مرتفعة، إضافة إلى السلع المنتهية الصلاحية والمقلدة التي عادة تحقق عوائد ربحية عالية حيث يتم تصريفها في أسواق بعيدة عن المراقبة وفي أحياء فقيرة وتباع بأسعار زهيدة تغري أصحاب الدخل المنخفض واستطاعت ان تخلق لها عملاء ، إضافة إلى الفساد الإداري واستغلال النفوذ يعتبر من أهم أنواع الاقتصاد الخفي الذي يعاني من ضعف في تطبيق الأنظمة للحد منها.



وفيما يخص الجهة المشغلة للاقتصاد الخفي أوضح التواتي أنها لا تعتمد على العمالة الوافدة النظامية أو المواطنين وإنما على ضعف الأخلاق والتجرد منها سواء مواطنين أو أجانب نظاميين الإقامة أو عصابات دولية ، ولكن تتفشى لدى العمالة المخالفة لنظام الإقامة في بعض الممارسات المحرمة نتيجة لعدم اكتراثهم بالعواقب والنتائج مقابل الربح الناتج منها مثل السحر والشعوذة والدعارة والمخدرات.

ولفت التواتي إلى ضرورة عمل إحصائية تفصيلية عن حجم الفاقد من الاقتصاد الوطني لوجود مثل هذا الاقتصاد ويكون ذلك بتعاون وبإنشاء منظومة مرتبطة بوزارة الداخلية والتجارة والعمل والمالية لحصر جميع المخالفات والتجاوزات وإعداد خطط مبنية على إحصائيات وأرقام حقيقة لمكافحتها، مستدلا بالجهود التي تبذلها وزارة الداخلية التي تبذل جهودا استثنائية لوقف المتاجرة بالمخدرات والحد منها، ورغم تكثيف قنوات التفتيش والبحث إلا أنها مازالت موجودة، مشددا على ضرورة تفعيل الرقابة من قبل الجهات المعنية والوزارات، مشددا على أن التحويلات التي تندرج تحت مسمى غسيل الأموال بتحويلات ملتوية عبر وسيط ومن دولة لأخرى تحتاج إلى مراقبة دقيقة من وزارة المالية للتحويلات النقدية الغير مباشرة، إضافة إلى ضرورة تفعيل الرقابة على السلع المغشوشة والمقلدة بإنشاء أكثر من جمعية لحماية المستهلك لتساعد الجهات الرسمية للحد من المخالفات ودخول المنتجات المنخفضة الجودة والرديئة والمنتهية الصلاحية التي باتت تشكل نسبة كبيرة من حجم السوق السعودي.