دويتشه ﭭيله : حتى الآن لم يكن هناك تساؤل عن مدى تأثير الحرب العالمية الأولى على الفن التشكيلي. حاليا يقام في مدينة بون معرض يشرح كيف حولت تلك الحرب رسامين أصدقاء إلى أعداء، وكيف تسببت في ظهور حركات فنية جديدة وانقضاء أخرى.


لوحة الجندي الإنكليزي القتيل لماكس سليفوغت، رسمت عام 1915

استغرق الأمر ثلاث سنوات لكي تقوم أنغيلكا فرانكه وفريقها في قاعة الفن الاتحادية في بون بالتحضير لمعرض يتحدث عن "رواد الفن التشكيلي" خلال فترة الحرب العالمية الأولى. وتقول أنغيلكا فرانكه: "بدت سنوات الحرب العالمية وكأنها فراغات، وبدا الفنانون، وكأنهم توقفوا عن العمل أثناءها. إن هذا ليس صحيحا، لأن الجزء الأكبر منها كانت سنوات مثمرة للغاية.“ ولاحظت السيدة فرانكه وفريق عملها وجود فجوة هائلة بخصوص ما يعرف عن تلك المرحلة، سواء في الكتب التي تتناول تاريخ الفن أو التي تتناول سيرة حياة الفنانين. حيث إن معظم الكتب تتناول الحياة الفنية حتى وقت اندلاع الحرب عام 1914،وبعدها تقفز إلى ما بعد عام 1918، أي إلى العام الذي انتهت فيه تلك الحرب.


لوحة الطوفان، رسمها فاسيلي كاندينسكي عام 1912

ويعرب أوفه شنيده المشرف على المعرض عن إصابته بالدهشة من حجم الإبداعات أثناء سنوات الحرب العالمية الأولى ويقول: "إن قيام الفنانين بمواصلة عملهم، سواء على جبهة القتال أو خلفها واستخدامهم أحيانا لوسائل بدائية أمر يثير الدهشة. فالفنان فرناند ليجيه، الذي لم يتوفر على لوحات للرسم عليها، كان يقوم بتقطيع ألواح من الأشجار ليستخدمها بديلا في الرسم." وقام غيره بالرسم على الورق واستخدموا ألوا مائية. ويضيف شنيده: "وهكذا ظهر على مستوى العالم عددا كبير من أعمال فنية لم نكن نعرف عنها شيئا حتى الآن."

مصير حركة الفارس الأزرق دليل على تلك الفترة
إن من يريد أن يفهم كيف أن الحرب أثرت على عالم الفن، فيجب عليه أن يدرك أن فترة ما قبل اندلاع الحرب كانت فترة التزاوج في أعمال رواد الفن العالميين. فقد حدث تعاون بين الفنانين في شبكات دولية تخطت حدود البلدان وحواجز اللغات، فقاموا بالبحث سويا عن أساليب جديدة في الرسم. وفي الوقت الذي كان الفنانون يتعاونون في إحداث ثورة في عالم الفن، كان رجال السياسة في أوروبا يدفعون ببلدانهم تجاه مسار التصادم. والنتيجة معروفة حيث لقي 17 مليون شخص مصرعهم، وأصيبت أعداد أكبر بأمراض في الأجسام والعقول، ومن بينهم بعض فناني الحداثة الكلاسيكية.


صورة من الجبهة الغربية ( في بلجيكا) تعود لعام 1916 تقريبا

ويمثل مصير حركة "الفارس الأزرق" الرائدة، التي نشأت قبل اندلاع الحرب، مثالا واضحا لمدى التأثير المدمر للحرب العالمية الأولى. وكان من بين أعضاء هذه الحركة، التي تأسست في ميونيخ عام 1911، ثلاثة فنانين من روسيا. وهم ماريانه فون فرفكين وأليكسى فون يافلنسكي وفاسيلي كاندينسكي. ويقول مؤرخ الفن شنيده: "لقد استقروا في ميونيخ وعملوا هناك سويا مع الفنانين الألمان فرانز مارك، وأوغوست ماكه، وغابريله مينتر. ولكن عندما اندلعت الحرب، لزمهم الفرار - كأجانب أعداء - ومغادرة ألمانيا. وبذلك انحلت المجموعة." وبعد وقت قصير من بداية الحرب عام 1914 لقي أوغوست ماكه حتفه في منطقة شامبانيا بشمال فرنسا، بينما توفي فرانز مارك عام 1916 بالقرب من فردان في شمال فرنسا أيضا.

الأصدقاء يتحولون إلى أعداء
الحرب كانت بمثابة إسفينا في علاقات الصداقة بينهم. فقد رحب فرانز مارك بالحرب، ليس انطلاقا من نزعة وطنية، وإنما لاعتقاده بأن العالم البرجوازي في أوروبا القديمة هو عالم فاسد. واعتبر أن الحرب هي قوة ستؤدي إلى ظهور وضع طاهر وجديد. وعندما أفصح عن ذلك في رسالة بعثها إلى صديقه كاندينسكي، رد عليه كاندينسكي بأن "ثمن التطهير سيكون مروع."

وعلى الجانب الروسي انضم كازيمير ماليفيتش و فلاديمير ماياكوفسكي إلى الحرب و قاتلا ضد ألمانيا. كما فر آخرون من الحرب من خلال الرحيل إلى بلدان محايدة. حيث انتقل روبرت ديلوناي إلى إسبانيا وهانز آرب إلى سويسرا.


ماكس بيكمان في لوحة رسمها لنفسه كممرض خلال الحرب عام 1914

غير أنه سريعا ما تدحرجت مشاعر الحماس والوطنية خلف خنادق الجبهة الغربية. وعايش ماكس بيكمان بنفسه تجربة أول هجوم ألماني بغاز الكلور في ابرس في بلجيكا عام 1915. وبعد ذلك بقليل أصيب بانهيار عصبي. أما غيره من الفنانين الذين ارتدوا الزي العسكري، مثل جيورجيس براكي أو ميخائيل لاريونوف فقد أصيبوا بجروح خطيرة.

البحث عن وسائل تصويرية جديدة
ويقول أوفه شنيده إن نقاط التحول في تلك الفترة أصبحت واضحة مثلا عند "إرنست لودفيغ كيرشنر، الذي لم يكن على الجبهة، وإنما في الخدمة العسكرية فقط. فقد قام برسم بورتريه لنفسه تظهر فيه يده اليمنى مقطوعة، أي يد الرسام." وكأن الرسام يريد أن يقول للمشاهد إن الحرب حرمته من قوة الإبداع.


لوحة رسمها كازيمير ماليفيتش عام 1914

ولأنهم أدركوا أن أساليبهم الأولى لم تعد مناسبة آنذاك، بدأ الفنانون في الجنوح إلى التطرف، حيث استنتج غيورغه غروز أن العالم القبيح يمكن رسمه بشكل قبيح فقط. أما كاسيمير ماليفيتش فقد وجد الجواب في التجريد الكامل. وبلوحته الأسطورية "المربع الأسود" وضع الأسس لما يسمى بالتفوقية أو السوبرماتيه.

ردود إبداعية على القوة التدميرية للحرب
في زيوريخ ، أي أثناء الحرب ظهرت عام 1916 حركة دادا كحركة فنية معادية (الحركة الدادائية)، والتي وضعت كل ما هو موجود موضع سؤال، فأبرزت موقف التشكك في الفن التشكيلي. ويقول أوفه شنيده: "لم يرد أعضاء تلك الحركة تصديق مقولة أن الحرب هي أم كل شيء، كما لا ينطلق المعرض (الذي ننظمه) من ذلك أيضا، غير أن الحقيقة هي أن الدادائية نشأت فقط لأن الفنانين ذهبوا إلى سويسرا المحايدة كنازحين هربا من الحرب فالتقوا مع بعضهم البعض في زيوريخ."


ريشارد هيلسينبك، دادا، 1918

وبينما فضل آخرون الفرار بحثا عن صورة مختلف عن العالم " توجه جورجيو دي شيريكو وكارلو كارا إلى مستشفى عسكري للعلاج النفسي في فيرارا (بإيطاليا) هربا من الحرب وللرسم في راحة. وهكذا ظهرت أعمال عظيمة للفن الميتافزيقي، الذي جاءت بعده السريالية"، كما يوضح مؤرخ الفن.

أما أنغيلكا فرانكه فتتساءل وتقول: "نحن لا نعرف ما الذي كان سيحدث لو ... "، لكن من الواضح بالنسبة لها أيضا أن السوبرماتيه والدادائية والسريالية شكلت ردود فعل فنية على تلك الحرب.