لندن : ابراهيم العريس (الحياة) : «الجماليات نشاط نعتبره، من وجهة نظرنا، واحداً من أهم النشاطات التي تطرح نفسها على العلم. فالحال أنه بالنسبة الى الفن، لا يقوم الأمر على وجود مجرد لعبة مفيدة أو ممتعة، بل إن الأمر يقوم في تحرير الروح من المحتوى والشكلين المرتبطين بالغائية، يقوم الأمر في حضور المطلق في المحسوس والحقيقي، في مصالحته مع هذا وذاك، وفي الوصول الى تفتّح الحقيقة التي لا يمكن تاريخها الطبيعي أن يستنفد جوهرها، إنما نراها تعبّر عن نفسها في التاريخ الكوني الشامل، حيث يمكننا أن نعثر على أجمل وأرفع المكافآت التي يمكننا الحصول عليها في مقابل الأشغال الشاقة التي نؤديها في مجال الواقع، والجهود المضنية التي نبذلها في سبيل المعرفة». قد تكون هذه السطور معقدة بعض الشيء بالنسبة الى القارئ الذي يطالعها في غير سياقها، لكنها إذ بها يختتم الفيلسوف الألماني الكبير هيغل، سفره الضخم «الجماليات» (أو «الاستطيقا» أو «علم الجمال» وفق الترجمات العربية، والأهم والأكثر دقة من بينها هي تلك التي حققها الباحث والكاتب والمترجم السوري جورج طرابيشي، الراحل عن عالمنا قبل أيام، وصدرت في ثمانينات القرن العشرين عن دار الطليعة، وفي يقيننا أن الوقت قد حان لصدور طبعة جديدة لها ولو على سبيل التحية لمترجمها الراحل الكبير)، تتخذ كل دلالتها. وهي بهذه الدلالة تمكنت من أن تشكل فتحاً أساسياً في عالم دراسة الفن والتأريخ له، في الفكر الحديث.



> ولا بد هنا من التأكيد مع المفكر الفرنسي الراحل فرنسوا شاتليه، أحد كبار دارسي هيغل، أن الفكر الغربي لم يعرف، ومنذ أرسطو، عملاً له مثل هذه الشمولية والدقة والنباهة في محاولة تفسير المسألة الفنية، بل إن شاتليه وكثراً غيره يرون، عن حق، أن عمل أرسطو، خصوصاً في كتابه «الشعر»، لا يمكن أن يضاهى بعمل هيغل الأساسي هذا، حتى ولو أخذنا الفارق الزمني وتراكم الدراسات والتجديدات المعرفية بين الزمنين اللذين عاش فيهما الفيلسوفان الكبيران. وليسوا بعيدين من الحق أولئك الذين رأوا في هذا الكتاب (الذي لم يصدره هيغل أبداً في حياته كما سنرى، ولم يجمعه حتى في مجلد أو مجلدات) أول «عمل، في تاريخ الثقافة الغربية، يحاول أن يربط بين التأمل حول النشاط الفني في علاقته مع الإنجاز التاريخي للإنسان، ككل، والتعريف بتصوّر الجميل في تجلياته المختلفة والمتنوعة، والتاريخ العام للفن».

> هذا الكتاب، الذي أثرى كما أشرنا، الباحث العربي جورج طرابيشي المكتبة العربية، في الثمانينات، بترجمة دقيقة - الى حد كبير، أي الى الحد الذي يسمح به تطوّر استخدام المصطلحات المعاصرة في اللغة العربية - له، هو في الأساس سلسلة دروس ومحاضرات ألقاها الفيلسوف التنويري «المثالي» الكبير في جامعة برلين خلال السنوات الأخيرة من حياته، ونشرت بعد عام من رحيله في ثلاثة مجلدات ضخمة للمرة الأولى كيفما جمع، لكن الكتاب أعيد نشره وتحقيقه مرة ثانية في العام 1927 على ضوء مدونات هيغل ومخطوطاته.

> ولئن كان هيغل قد كرس هذه الصفحات الكثيرة لمسائل الفن والجمال، فإن من الواضح أنه وضع فيه كل خبرته الفلسفية، حيث أن هيغل ومنذ المقدمة، يعرّف «علم الجمال» بوصفه النظرية الفلسفية للجميل وللفن، منبهاً الى أن نظريته لا تتوخى تحديد مفاهيم وقواعد فنية، بل «التقاط اللحظات الأساسية التي كونت الجميل والفني على مدى تاريخ البشرية». وهيغل لم ينكر طبعاً، أن فلاسفة ومفكرين كثراً من قبله قاموا بالمحاولة ذاتها، ومنهم أساساً أرسطو ثم ليسنغ في «لاؤوكون» وكانت في «نقد ملكة الحكم». لكن من المؤكد أن عمل هيغل كان، وسيظل، الأكثر اكتمالاً وشمولية.

> في نص تقديمي نظري، حدّد هيغل بنفسه الأسلوب الذي شاء به تقسيم هذا العمل، الذي نذكر بأنه إنما وضعه متفرقاً وخلال سنوات، ولا شك في أنه طوّره بالتزامن مع ردود الفعل التي كانت تثيرها المحاضرات والدروس المتتالية لدى طلابه وزملائه (ومن هنا، لم يكن من غير المستساغ أن يتابع طرابيشي في ترجمته الى العربية تقسيمه الى أجزاء يهتم كلّ منها بفن من الفنون). يقول هيغل: «إن المسيرة نحو التعبير عن الحقيقة الأسمى فالأسمى، والأكثر فالأكثر توافقاً مع مفهوم الروح (...) هي التي تقدم المؤشرات المتعلقة بتقسيم علم الفن. وبالفعل، يتوجب على الروح قبل التوصل الى المفهوم الحقيقي لماهيته المطلقة، أي يجتاز درجات يفرضها عليه ذلك المفهوم بالذات (...) إن ذلك التطور الذي يتم في داخل الروح يشتمل على مظهرين اثنين متناسبين مع طبيعته: فذلك التطور هو نفسه، أولاً، ذو صفة روحية عامة (...) وثانياً، يجد تعبيره على نحو مباشر وفي وجودات حسية تناظر الفنون الخاصة المؤلفة لكلية واحدة رغماً عما بينها من فوارق ضرورية (...)». و «انطلاقاً من هذه الاعتبارات، يقول هيغل، نستطيع أن نقسم علمنا الى ثلاثة أقسام رئيسية: أولاً، سيكون هناك قسم عام. سيكون موضوعه الفكرة العامة للجمال الفني، من حيث أنه مثل أعلى، وكذلك العلاقات الأوثق القائمة بين الجمال الفني وبين الطبيعة من جهة، وبين الإبداع الفني الذاتي من الجهة الثانية. ثانياً، يتفرع بعد ذلك عن مفهوم الجمال الفني قسم خاص، على اعتبار أن الفروق الأساسية التي يشتمل عليها هذا المفهوم تتحول الى تعاقب من أشكال فنية خاصة (هو القسم الذي عالج فيه هيغل مذاهب الفن: الرمزية والكلاسيكية والرومانسية). وثالثاً، سيكون لزاماً علينا أخيراً أن ننظر في تمايز الجمال الفني، في مسيرة الفن نحو التحقيق الحسي لأشكاله ونحو إضافة نظام يشمل الفنون الخاصة ومتنوعاتها (وهو القسم الذي عالج فيه هيغل أنواع الفن: الهندسة المعمارية والرسم والنحت والموسيقى والشعر...)». وهذه الأقسام الثلاثة هي التي وزعتها الترجمة العربية على عشرة أجزاء: مدخل الى علم الجمال - فكرة الجمال - الفن الرمزي - الفن الكلاسيكي - الفن الرومانسي - فن العمارة - النحت - الرسم - الموسيقى - والشعر.

> ومن المهم أن نذكر هنا، أن فرنسوا شاتليه يرى أن هذا النص الغني هو القادر، أكثر من أية أعمال أخرى لهيغل، على إطلاعنا على الكيفية التي تتمازج بها لدى هذا المفكر الاستثنائي، وفي مجموع يتبدى لنا في الوقت نفسه منطقياً و «سيمفونياً»، الملامح الخاصة بعبقرية الفيلسوف: فهنا لدينا الدقة المفهومية، وإرادة المزج بين الأفكار، وثراء المعلومات المفاجئ فـ «من الشعر الإسلامي، الى تقنيات الرسم لدى جيوتو، ومن دلالة الرمزية الهندوسية، الى شروحات شيلر، يبدو النص متفوقاً ومهيمناً».

> مهما يكن من الأمر، فإن هذا ليس غريباً على جورج فلهملم فردرش هيغل المولود العام 1770 في شتوتغارت، والذي يعتبر واحداً من أكبر الفلاسفة الذين أنجبتهم الإنسانية في تاريخها، حيث يقال أحياناً أنه لئن كان أرسطو يمثل، بعد أفلاطون، قمة الفلاسفة في بداياتها، فإن هيغل، كان يمثل قمة الفلسفة في نهاياتها، حيث أن كل ما طرأ على الفكر الغربي من أسس ومفاهيم، بعد هيغل، إنما دار من حوله سلباً أو إيجاباً، واعتبر امتداداً له بما في ذلك الماركسية والوجودية... ومع هذا، فإن هيغل عاش حياة هادئة قلّ أن عرفت خبطات درامية، حتى وإن كانت زوجته قد تفننت في نص شهير، في تصوير لحظات موته الأخيرة حين أصيب بداء مفاجئ - قيل أنه نوع صاعق من الكوليرا -. حين رحل هيغل كان في الحادية والستين من عمره، وكان وصل الى أعلى درجات المجد الفلسفي، لكنه لم يكن أصدر في حياته سوى أربعة من كتبه الكبيرة، إضافة الى دراسات أخرى صغيرة متفرقة. أما القسم الأكبر من آثاره، فإنما نشر بعد رحيله، وفي وقت كانت الساحة الفلسفية موزعة بين «يمين هيغلي» و «يسار هيغلي»، وكانت فيه كتبه، الصعبة، تقرأ وتفسّر في أشكال مختلفة. ومن أبرز هذه الكتب: «فينومينولوجيا الروح» و «موسوعة العلوم الفلسفية» و «حياة يسوع» و «المنطق» و «فلسفة القانون» و «فلسفة التاريخ»، ومعظمها بات مترجماً الى العربية.