حيدر علي سلامة (الأزمنة) : حيدر علي سلامةنحاول في هذه القراءة الابستمولوجية إعادة مساءلة فلسفة الهوية/وهوية التفلسف في بنية الخطاب الفلسفي العراقي، تلك الهوية التي أصبحت تمثل ذلك الكل الميتافيزيقي المطلق الذي يسيطر على كافة أطراف وجوانب عمليات الفلسفة من جهة والتفلسف الفردي من جهة أخرى. وبطبيعة الحال ان الحديث عن تشخيص هوية الفلسفة العراقية ومأسسة التفلسف وتحوله الى « مقولة شكلانية »، يتطلب بالضرورة العودة الى جينالوجيا هذه الإشكالية وتفعيل منطق البحث والتحري inquiry بهدف إعادة طرح العلاقة التاريخية الملتبسة بين كل من الفلسفة والمنطق والدرس الفلسفي والسؤال عن تاريخ صلاحية validity ذلك المنطق الذي مسخ metamorphosis الفلسفة الى مجرد هوية ميتافيزيقية شكلنت الوجود والأخلاق واللغة بأنظمة « شكلانية مسستمة ومحكمة » غير قابلة للتحول والتغيير.



جدل الفلسفة والمنطق والهوية:
من هنا تتأتى ضرورة واهمية إعادة تفكيك ذلك المنطق الذي اعطى خصائص ميتافيزيقية قارّة متمثلة في فلسفة الهوية/وهوية التفلسف، فعندما نتكلم عن فلسفة الهوية، فأننا في الواقع نشير الى حالة من الجمود والانغلاق المفاهيمي والنظري theoretical متضمن في طبيعة ووظيفة الفلسفة وتاريخها التقليدي الميتافيزيقي المتماهي في سلطة الانساق/وانساق التسلط التي سجنت مفهوم الفلسفة ضمن اقانيم خالدة امثال الحكمة والحقيقة والجوهر والاشياء المجردة والمتعالية والكاملة بالضرورة، اما عن هوية التفلسف فأننا نعني بها هنا، الإشارة الى مجمل الوظائف الذهنية والعقلية والمعرفية المنفصلة بالضرورة عن وظائف « اللغة الطبيعة والبلاغة اليومية »، وذلك لأن عمل نظرية المعرفة theory of knowledge تشكل بالاستناد الى تقنيات المنطق الشكلاني والرمزي، الذي لا يهتم بمشاكل الفلسفة الناجمة عن سيطرة هذا المنطق من جهة؛ و بالعمليات الادراكية cognitive للذات التي لا تحتل فيها اللغة الطبيعة موقعا أساسيا. بل على العكس، نلاحظ أن اغلب تلك العمليات جرى اخضاعها جميعا الى نظام يكسبها حالة من « السستمة الشكلانية المحكمة » جعلت من تلك العلميات مجرد « هوية ذهنية » ثابتة ومتطابقة مع مجمل خرائط وترسيمات المنطق الرياضي المجرد والصنعي.

اذن ان مجمل هذه الإشكالات الابستمولوجية والمعرفية تدعونا الى ان نعيد التمييز بين كل من: فلسفة المنطق philosophy of logic؛ والمنطق الفلسفي philosophical logic؛ والفلسفة والمنطق philosophy and logic من جهة أخرى. فعندما نتكلم عن لغة الأول والثاني فأننا نشير الى « منعرج منطقي » logical turn يسعى الى ان لا يتمركز مجال عمله على » المنطق الشكلاني » وتقنيات أسلوبياته المنهجية المؤكدة واليقينية بالضرورة. بعبارة أخرى، ان كل من: فلسفة المنطق؛ والمنطق الفلسفي تحولا الى منطق يهدف الى أعادة دراسة واختبار طبيعة التمثلات الشكلانية(1) formal representations الى جانب اختبار النظام اللغوي وتفكيك عملية تمركزه حول الأسس الرياضية للمنطق؛ إضافة الى إعادة اختبار عمليات التعقل والعقلنة والحجاج خاصة في فلسفة العقل واللغة ونظريات المعرفة.

والسؤال الذي نود طرحه هنا، أي شكل منطقي كانت له السيادة والحظوة والسيطرة على تاريخ خطابنا الفلسفي برمته، والقدرة على التحكم في انتاج/وإعادة انتاج هويته الثابتة؟ واي الاشكال المنطقية السابقة الذكر، كانت الا قرب الى ان تشكل مقدمة لكل فلسفة حجاج بلاغية ممكنة(2)؟ وايهما الاصلح والاقدر على تفكيك أيديولوجيا التمركز المنطقي الهوياتي؟

نعتقد ان ايديولوجيا «الفلسفة» و «المنطق» لعبت دورا كبيرا في انتاج/وإعادة انتاج «الهوية الميتافيزيقية» للخطاب الفلسفي واشكالها التنميطية المتوزعة بين طرائق البحث والتدريس والكتابة الفلسفية وما شابه.

من هنا فأننا نسعى في هذه المقدمة الأولية الى مساءلة « أيديولوجيا المنطق الشكلانية » التي همشّت بقبضتها الرياضية الصارمة مجمل اشكال وصور وملامح بلاغة التواصل اليومية ولغتها الطبيعية. لهذا فأن قراءتنا سوف تنطلق من نقد مركزية المنطق « الثيو -شكلانية « .

وهنا كان علينا التوقف لمساءلة ذلك المنطق المعتمَد والمتداول في خطابنا الفلسفي. فهل تأسس خطابنا المنطقي على تقاليد وأصول نظرية البلاغة الجديدة للفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان في عام 1958 والمستندة على تقنيات الحجاج البلاغي(3) argumentation rhétorique الذي يؤسس لما يُعرف بـ «بلاغة المخاطَب»، ام شُيد على أسس البرهان البلاغي démonstration rhétorique حيث تتم مصادرة الآخر/المتلقي في بنية الدرس الفلسفي؟

يأخذنا الاستفهام أعلاه إلى وقفة أكثر استفهامية ونقدية لبنية الدرس الفلسفي نفسها، التي تمأسست على طرق بيداغوجية وتقليدية في صناعة برامج التدريس الفلسفي. حيث من الملاحظ على طبيعة تلك المناهج، اعتمادها على «سياسة التلقين»، التي همشّت «سؤال الفلسفة»، ذلك السؤال الذي ينقلنا: ((من التعليم الإخباري إلى «التعليم ألبرهاني الحجاجي»)) (4). وهذا بطبيعة الحال سوف يسلط الضوء على العلاقة الديالكتيكية أو الجدلية بين كل من: الأستاذ والطالب والنص الفلسفي؛ والسؤال عن طبيعة هذه العلاقة وتاريخها التعليمي وأطرها المنهجية المعتمدة في إيصال أو نقل المعلومات الفلسفية إلى ذهن المتلقي أي الطالب. ولما كان المنطق البرهاني الرياضي؛ وليس الحجاجي؛ هو المنطق المعتمد رسميا في مؤسساتنا الفلسفية، كانت النتيجة أن أصبحت طرق تدريس النص الفلسفي مستندة على « التعليم الإخباري »، الذي أهم ما يميز أسلوبه التعليمي هو انه :((…عملية تلقين أو نقل مباشر للمعلومات من طرف متكلم (المدرس) إلى مخاطب-مستمع (المتعلم)، والتي هي عملية « نطق خارجي »، سواء اعتبرنا النطق بمعناه اللغوي (الكلام)،أو بمعناه الفلسفي المنطقي (التفكير)….كما أن الاسلوب الإخباري، تبعا لذلك، هو « اسلوب فوقي »، أي انه يزود المتعلم بأطروحات الفلاسفة كما تم تقريرهم لها. وبعبارة أخرى : أن الاسلوب الإخباري يُلقن نتائج تفلسف الفلاسفة معزولة عن مقدماتها المؤسِسة لها، مما يجعل المتعلم يتعامل مع نتائج تفكير الفيلسوف تعاملا سطحيا فوقيا، بعيدا عن العلاقة التي تربطها بمنطلقات الفيلسوف، وعن الكيفية التي تم بها بناء تلك النتائج بدءاً من هذه المنطلقات… تنتج عن هذه الحدود المنهجية-المنطقية محدودية بيداغوجية، تتجسد في أن الأسلوب الإخباري يقف عند مستوى الإلقاء التلقيني، على مستوى نشاط المدرِس، وعند مستوى التلقي الاحتياطي والاستهلاكي، بالنسبة لنشاط المتعلم، مما يجعل اسلوب الإخبار دون تحقيق المهارات العقلية التي تتوخاها المادة الفلسفية وأهدافها، والتي تتطلبها التربية التفكيرية التي نفكر داخلها))(5).

من كل ما سبق، يتضح كيف أن الأسلوب التدريسي ألبرهاني المتأسِس على بنية النقل والإخبار، شكل برادايم paradigme التعليم الذي لطالما هيمن على العملية الفلسفية في خطابنا الفلسفي، مما أدى إلى إنتاج أساليب تعليمية غير نقدية وغير حجاجية، منفصلة عن إنتاج فكر نقدي بالضرورة. وهنا ينبغي علينا ان نتساءل تحديدا عن بنية المنطق السائدة في مؤسساتنا الفلسفية، فيما إذا كانت بنية برهانية مجردة ومتعالية عن ذهنية المتلقي العادي، بمعنى آخر، هل ساد شكل احادي monisme للمنطق وهو المنطق الشكلاني formal logic ام فلسفة المنطق philosophical logic ؟ وما هو الفرق بين الاثنين، وايهما يعمل على رفد وتطوير العملية الفلسفية؟ فمن المعروف أن تاريخ المنطق الأول ظل تاريخا منعزلا ومنحسرا في التأسيس لمنطق القضايا الصادقة واليقينية/الهوياتية واسقط من حساباته منطق القضايا الفاسدة التي تتشكل نتيجة للأهواء passions والانفعالات والمشاعر émotions والخيال imagination وجميعها تدخل ضمن منطق « اللامفكر فيه »، اما فلسفة المنطق فقد وضعت في اعتبارها جميع هذه القضايا التي تقع خارج ما يُعرف بالمنطق ذو القيمتين، لذا نلحظ ان تاريخها كان الأقرب الى فلسفات الأخلاق والابستمولوجيا الاجتماعية social epistemology وفلسفات القيمة الى جانب فلسفات الاستيطيقا Aesthetics وتاريخ الحس المشترك sens commun.

إذن، ألا تدعونا المقاربات أعلاه إلى إعادة مساءلة المنطق المؤسس لهوية خطابنا الفلسفي الثابتة والقارّة؟ والى التساؤل فيما إذا كان قد شُيد هذا الخطاب على تقنيات فلسفة المنطق ام على مبادئ المنطق الشكلاني المحض؟ وكيف انعكست آثار تفضيل أحدهما على الآخر بالضرورة على ممارسة وتشكيل بنية تكوين النص المنطقي ومنطق النص والخطاب discours؟ وهل هناك «علاقة ثاويه » بين الايديولوجيا والمنطق الشكلاني، وبين سياسة الايديولوجيا وفلسفة المنطق؟ وكيف يمكننا اكتشاف تلك العلاقة الخفية، إن لم نعمل على إعادة النظر في عملية تكوين المناهج والدروس التعليمية المعتمدة/الرسمية في أقسامنا الفلسفية، من اجل اكتشاف اثر المنطق على ابنيتها النظرية والابستمولوجية؟ وهل عمل أساتذة الفلسفة على تأسيس « علاقات برهانية » أم « تواصل حجاجي » مع الطلاب أي مع متلقي الدرس الفلسفي؟ وهل كان المنطق عندنا أقرب إلى علماء المنطق الرياضي/الشكلاني، ام كان أقرب إلى العلوم الإنسانية واللغوية وعلوم تحليل الخطاب والنص، وإنتاج بلاغة انطولوجيا الحياة اليومية…الخ؟

تكمن الأهمية الابستمولوجية والإشكالية لجميع تلك التساؤلات السابقة، في ضرورة الانتقال بالخطاب الفلسفي من التمركز على «المنطق الهوياتي» logic d’identité الى «خطاب/وفلسفة المنطق». فاللافت في الأمر، أن من أهم سمات لغة المنطق في خطابنا الفلسفي، منذ لحظة تشكله والى يومنا الراهن – وهذا ما جاء على وصفه واضع أسس ومعايير الدراسات المنطقية في خطابنا الفلسفي العراقي عالم المنطق الأستاذ الراحل الدكتور ياسين خليل- انه منطق :((يبدأ .. من التمييز بين لغة التداول واللغة الرمزية التي تعتمد على الرموز دون الكلمات. والسبب الذي جعل المناطقة يختارون مثل هذه اللغة هو ان الدقة لا يمكن أن تتوفر في اللغة الطبيعية، ومن الضروري أن نستعين بلغة رمزية أو فنية دقيقة المعنى والتراكيب لنستطيع تفادي المتناقضات التي قد تظهر نتيجة لغموض معاني الاسماء. واللغة الطبيعية ليست بدقة لغة الرياضيات مثلا، لأنها تحتوي على كلمات لها معان مختلفة، فهناك النقل والمجاز والاشتراك في المعاني، كل ذلك يؤدي إلى غموض العبارة في اللغة الطبيعية، في حين لا يحق لنا في لغة المنطق أن نعطي أكثر من معنى أو فكرة لرمز واحد فقط ولكل رمز فكرة واحدة كذلك)) (6).

يتضح من النص أعلاه، أن عالم المنطق العراقي الأستاذ خليل كان يحدوه طموحا فلسفيا، يهدف إلى «ترييض اللغة» في مجالات الاستعمال الفلسفي، أي بمعنى اكساب الخطاب الفلسفي خاصة والتداولي pragmatique عامة نزعة رياضية/برهانية صارمة تنتقل من مسلمات بديهية الى نتائج صادقة بالضرورة. وهذا بالطبع لا يتحقق إلا من خلال الاستناد على استعمالات لغة شكلانية/رمزية كما هو الحال عليه في منطق العلوم الرياضية والوضعية. لذلك نلحظ كيف عول أ. خليل وبشكل كبير على اللغة المنطقية والميتا-منطقية méta-logique، واعتبرهما بمثابة اليقين الديكارتي البديهي، لما تتسمان به من الدقة الرياضية؛ والبرهنة الرمزية وإنتاج انساق صورية مثالية تختلف اختلاف جذريا عن اللغة الطبيعية/اللغة المتداولة/اللغة اليومية، التي تخرق وتخرج على صرامة الدقة المنطقية وآليات الضبط الحسابي والتقني في استعمال الرموز والمعادلات الرياضية. من هنا، اعتبر اللغة المنطقية/الصُنعية المحكومة بخاصية الانضباط الرياضي، هي الاسبق انطولوجياً وابستمولوجياً على لغة التداول الطبيعية/الاستعارية métaphorique، الأمر الذي جعله يؤكد على ضرورة تجاوز وتخطي تلك اللغة، من اجل الوصول إلى اعلى مراحل البرهنة الصورية والميتا-صورية، بهدف تأسيس نماذج مثالية، تتحقق من خلالها السيطرة على ايتيقا وممارسات اللغة الطبيعية، التي قد تُدخِل الفلسفة في إشكالات ميتافيزيقية تتعلق باستعمالات اللغة حينما يشوبها الالتباس والغموض في اللغة الطبيعية، وهذا ما جعل أ. خليل يعقد تمييزا :((…بين اللغة الطبيعية.. التي هي لغة التداول وبين اللغة الرمزية.. أو الفنية التي هي لغة المنطق. فالدراسات المنطقية تبدأ اولا بتحليل لغة التداول وترتقي بعد ذلك إلى بناء لغة دقيقة لها قوانينها وأصولها المنطقية)) (7).



فلسفة
وعلى الرغم من حصول الكثير من المنعرجات الابستمولوجية المهمة في فلسفة اللغة ومنطقها الأرثوذكسي والتي حاولت أن تعيد الاعتبار إلى منطق المتكلم في اللغة الطبيعية في مرحلة الخمسينيات والستينات، إلا أن انشغالات أ. خليل، لم تختلف تماما عن انشغالات فلاسفة التحليل اللغوي التقليديين تلك الانشغالات الرامية والطامحة إلى تأسيس لغة علمية/ مثالية تتسم بذات الصرامة المنطقيةالرياضية. وربما كان هذا هو الهاجس المسيطِر على مختلف كتابات وأبحاث ومؤلفات الأستاذ خليل، مما أدى الى غلبة الطابع الصوري المحض والمنطقي الصرف على علوم اللسانيات linguistics وحقل التحليل السنتاكسي syntaxe لنظام تشكيل العبارة والتحليل الدلالي للمعنىsemantic والتحليل التداولي لاستعمالات اللغة في السياق context. بعبارة أخرى، ان التداول اللغوي في بنية المنطق الخليلي -نسبة الى أ. خليل-ظل تداولا ماقبل تحليل الخطاب analysing discourse(8) وما قبل الانعراج اللساني linguistic turn. إذن، لماذا تم التركيز والتأكيد على إنتاج لغات هوياتية متطابقة تتخذ من التحليل اللغوي والرياضي سبيلا، وجرى إهمال لسانيات المتكلم/والمتلقي في بنية الخطاب اليومي، بحجة انفلات هذا الخطاب عن الدقة الرياضية والمنطقية؟ ولماذا تم تجاوز الحقول الابستمولوجية/الثقافية، ذات العلاقة الوثيقة بحقول استعمالات اللغة اليومية ordinary language وتحليل الخطاب الاجتماعي والثقافي واستعمالات الحجاج البلاغي والتداولي، وإفراغها من أبعادها الثقافية وطاقاتها الخطابية/التحليلية والتداولية، المتداخلة مع استعمالات اللغة الطبيعية غير البرهانية والمنفتحة على إمكانيات ماهو احتمالي؟

اعتمد أ. خليل على منطق الفيلسوف الألماني «جوتلوب فريجه» وعلى ثوراته الرياضية الحاصلة في علوم الحساب، ذلك المنطق الذي اتسم باللغة المنطقية الصارمة، التي تتجاوز اللغة اليومية/الاحتمالية/الاستعارية. حيث رأى أ. خليل ان: ((… محاولات فريجة تتسم منذ البداية بدقة التفكير والتعبير والتأمل العميق في العمليات الاستنتاجية التي يحتاجها البرهان الرياضي والقوانين الضرورية التي تقترن بالعمليات البرهانية. ولكن ابحاثه الأولى لم تكن مستهدفة بناء الفلسفة الرياضية فحسب، بل انه أدرك كذلك منذ اول وهلة أن عملا كهذا يستدعي دراسة دقيقة للقوانين المنطقية التي يستخدمها الرياضي في حل المعضلات الرياضية والبراهين، كما أن مثل هذا العمل لا يمكن أن يعبر عنه بلغة التداول، لان هذه اللغة بحد ذاتها غير منطقية وان قواعدها لا تصلح لان تكون قوانين في العمليات الاستدلالية، لذا من الضروري اولا وقبل كل شيء أن يبدأ فريجه ببناء لغة صورية على هيئة لغة علم الحساب)) (9).

نلحظ من خلال النص أعلاه، أن وصف أ. خليل للمنطق عامة ولمنطق فريجه خاصة، قد شكّل ومنذ البدء لقطيعة ثقافية وضعت حدا فاصلا بين روح المنطق الفريجوي من جانب، وبين المنطق الحجاجي/التواصلي/البلاغي في بنية اللغة اليومية أو اللغة المتداولة بحسب التصنيف الخليلي، من جانب آخر. وقد انسحب ذلك ايضا، على وصف طبيعة العلاقة الابستمولوجية والمنطقية بين اللغة والفكر، فتحت عنوان (لغة التداول والمنطق) كتب أ. خليل: ((…. اللغة المنطوقة أو المكتوبة لا تستطيع أن تعصم الفكر الإنساني من الوقوع في أخطاء، وذلك لسبب بسيط هو ان المعنى المرتبط بالعبارات رغم عموميته عند افراد المجتمع الواحد، إلا انه قد يختلف من وضعية إلى وضعية اجتماعية أخرى، ومن فرد إلى فرد أخر، كما أن القواعد المتوفرة في هذه اللغة ليست منطقية، لكي يكون التفكير بموجبها منطقيا. وهذا هو السبب الرئيس الذي جعل المناطقة يبتعدون عن لغة التداول مبتغين بناء لغة رمزية منطقية خالية من الاخطاء وثابتة من نواحيها القانونية)) (10).

وهنا علينا أن نسائل الطروحات اللغوية والمنطقية والرياضية للأستاذ خليل. فهل صحيح أن الدراسات الرياضية والمنطقية آنذاك، قد تجاوزت أو اهملت في مجملها، السياقات الثقافية واللغوية لبنية الحياة اليومية، المتمأسسة باللغة الطبيعية والمتداولة؟ وهل اسست مجمل تلك الدراسات للمنطق البديهي axiomatic الذي يتجاوز ويقصي منطق الاعتقادات السائدة doxa والآراء opinions العامة وأشكال الحوار والنقاش discussion؟ وهل عملت تلك الدراسات المنطقية للأستاذ خليل على شحذ « الذهن الحجاجي النقدي » لمتلقي النص الفلسفي؟ وهل قدم أ. خليل من خلال منطقه الرياضي، قراءة نقدية لمجمل الأشكال التقليدية واللاتاريخية المتبعة في تعليم وتداول النص الفلسفي؟ وهل نجح ذلك المنطق في إعادة طرح سؤال الوجود والفلسفة واللغة الطبيعية في خطابنا الفلسفي؟ وهل كان أ. خليل من مؤيدي المنهج الإخباري في تعليم الفلسفة، الذي يُصادر المتكلم ويتجاوز وجود الآخر في العالم اليومي، ام من مؤيدي المنهج الحجاجي البلاغي الذي يتأسس على تقنيات الإقناعpersuasion ويأخذ بنظر الاعتبار اللغة الطبيعية التي تُكون وتشكل وجود المتلقي والمتعلم في بنية النص الفلسفي؟ ولماذا نجد أن هناك سيادة لتقنيات بلاغية/استدلالية في النص الخليلي، تكاد تكون جزءً لا يتجزأ من هيمنة المنطق الشكلاني التقليدي المسيطِر في الثقافة العراقية عامة والتعليم الأكاديمي خاصة؟ فالملاحظ على تلك التقنيات، انفصالها/وابتعادها قدر الإمكان عن طرح الأسئلة الإشكالية الراهنة، كإشكالية الحق؛ القانون/العدالة؛ السياسة؛ الذات/الآخر، بل أن المنطق الخليلي تجنب طرح سؤال الوجود-في-العالم حسب تعبير الفيلسوف الألماني هيدجر، إلى جانب سؤال المنطق وتاريخية الاحكام الاخلاقية/الجمالية؟ ولماذا لا نجد تمييزا بين كل من: الخطاب الرياضي والخطاب العلمي والخطاب التاريخي في المنطق الخليلي؟ ولماذا لا نجد علاقة ابستمولوجية بين كل من الفلسفة والخطاب والبلاغة الجديدة المُصادرة والمسكوت عنها في تاريخ مدرسة بغداد المنطقية والفلسفية برمتها؟

ومن جانب أخرى، لماذا جرى تجاوز اللغة الطبيعية وانطولوجيا الحياة اليومية؟ هل لأنها لغة غير خاضعة بعد «الانضباط المنطقي والسيطرة الرياضية»، ام لأنها لغة متمردة على منطق « الانضباط الحزبوي والسيطرة الايديولوجية « ؟ وهل صحيح أن تاريخ فلسفات التحليل المنطقي في مجمله، كان تاريخا منعزلا عن لغة اليومي واشكالاتها؟ وهل صحيح أن فلاسفة التحليل المنطقي والرياضي للغة، قد ساروا جميعا على نهج قطعي/واحدي، ينفي وجود العالم اليومي واللغة الطبيعية، بوصفهما يمثلان عوائق ابستمولوجية امام بناء « اللغة الصُنعية والمنطقية ذات الانساق المثالية والصورية »؟

قدم الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا وصفا «جامعا مانعا» لمجمل ما تم طرحه اعلاه من إشكاليات، حينما قال: ((انني لازلت اذكر نظرة الاستغراب التي نظرها الي أحد الاساتذة وهو يناقشني في البحث الذي تقدمت به لدرجة الدكتوراه، ودافعت فيه عن وجهة النظر « المعتادة « هذه. لقد سألني: اتعني « حقا » أن تدافع عن وجهة نظر « الانسان المعتاد »؟ وكان في تساؤله دهشة لا تقل عن تلك التي يبديها عالم الرياضة إذا سمع احدا يعترض على صحة جدول الضرب! هذا اذن هو الموقف السائد فيما يتعلق بالصلة بين الفلاسفة وغير الفلاسفة: فالأولون قد أصبح لهم مجالهم الخاص الذي يترفعون فيه عن وجهة نظر « العامة » ويعدون رفضها اول شرط « للسلوك » إلى ميدان الفلسفة، والاخرون يدهشون للآراء النظرية الميتافيزيقية لدى الفلاسفة، ولا يأخذون بواحد منها في حياتهم المألوفة. ويظل كل من الطرفين متمسكا بموقفه، دون اية محاولة للتفاهم. وإذا كان غير الفيلسوف غير ملوم في عدم تعرفه على وجهة نظر الفلسفة، فأن الفيلسوف بطبيعة مهنته، ينبغي أن يلام لأنه يكاد يعد رفض موقف الذهن المعتاد من القضايا المسلم بصحتها، ويظل هو وطائفته يستخدمون حججهم ومصطلحهم الخاص الذي لا يعرفه غيرهم، وكأنه من الاسرار الحرفية التي لا ينبغي أن يطلع عليها الا اربابها. وإذا كان من « المخجل » في الوسط الفلسفي أن يحاول المرء الدفاع عن « الواقعية الساذجة » فأن من « المضحك » في نظر عالم الجيولوجيا أو عالم النبات أن يحاول المرء إقناعه بأن العالم الذي نراه « من خلقنا نحن » أو ان يثير المرء فكرة كون المظهر الذي يتبدى عليه العالم هذا العالم خادعا، واحتمال كون العالم في (حقيقته) مخالفا لما ندركه. وفي رأيي أن استمرار هذا الازدواج هو الأمر المخجل حقا. وليس مما يشرف الفلاسفة على الإطلاق أن يكتفوا بوصف الآخرين بأنهم من « العامة « ، دون اية محاولة لتحليل سبب ذلك الاعتقاد القوي الذي يدفع « الناس « ، وضمنهم الفلاسفة أنفسهم خلال الجزء الاكبر من حياتهم، إلى الاخذ بوجهة النظر « الطبيعية « . ان الفلاسفة يعدون وجهة النظر هذه « خطأ » ينبغي تجاوزه إلى غير رجعة. ولكن كان الاجدر بهم أن يكرسوا شيئا من جهودهم لإيضاح علة انتشار هذا « الخطأ » على هذا النحو الهائل بين جميع الآدميين غير المتفلسفين، وبين الفلاسفة أنفسهم في لحظات عدم تفلسفهم! إن ذلك الازدواج الذي يسود حياة من ينكر العالم الخارجي من الفلاسفة، حين يتصرف في هذه الحياة حسب الموقف الطبيعي، ويفكر فيها حسب الموقف المثالي، كان يستحق على الأقل تفسيرا او تعليلا -ولكن، كم من الفلاسفة من كرس أبحاثه لهذه المسالة الحاسمة؟! أن الفلسفة في حاجة إلى أن تخرج، من آن لآخر، من النطاق « الاحترافي » الذي ضربته حول نفسها، وتحدد علاقتها ببقية مجالات العالم. وهي على الأخص في حاجة إلى أن تنظر الى فهم وتقدير، لا بازدراء وترفع، إلى وجهة نظر « الانسان » بالمعنى العام لهذه الكلمة. وينبغي أن تجد في نفسها الشجاعة للربط بين أرائها وبين هذا « الانسان « ، وإلا فستظل إلى الابد « مهنة » ضيقة لا تلقى استجابة إلا من ذلك النفر القليل الذي احترفها)) (11).

وأشار أ. زكريا أيضا الى طبيعة الاختلاف الابستمولوجي بين لغة العلم ولغة الموقف الطبيعي في هذا العالم، قائلا: ((انه من العبث أن ننقد الصورة التي نكونها للعالم في موقفنا الطبيعي لاختلافها عن الصورة العلمية للعالم، إذ ان كلا من الصورتين تؤدي وظيفة مختلفة تماما عن وظيفة الأخرى، وتسري على مجال مخالف تماما لمجالها)) (12).

من هنا، علينا ان نتساءل بعد كل ذلك، فيما إذا كان منطق أ. خليل قد نجح في تدشين خطاب فلسفي يتخارج بنا عن مجمل الأطر الاحترافية للتفلسف إلى خطاب العامة واليومي؟ وهل نجح ذلك المنطق في إعادة قراءة تاريخ خطابنا الفلسفي؟ وهل عمل على استئصال » النزعة العلموية الزائفة وظواهر التعالي النخبوي الأيديولوجي » على خطاب العامة وثقافتهم، ام أن ذلك المنطق كان الدعامة الرئيسية في تأسيس نظرة تتجاوز منطق « الوجود اليومي » المتمركز ضمن جغرافية فلسفية أطلق عليها خطأ بـ « الواقعية الساذجة « ، أو بـ « الواقعية العامية « ؟ وهل أصبح ذلك المنطق، هو العامل « المحرك الذي يحرك ولا يتحرك » لسيرورة وحركة الخطاب الفلسفي بطريقة توتولوجية؛ إخبارية؛ معنعنة، تتعامل مع النص الفلسفي بطريقة « حنبلية « ، ليست » حجاجية أو ابداعية « ، يسيطر فيها ارباب العلم والتعلم على عملية تشكيل الدرس الفلسفي؟ وهل أصبح ذلك المنطق الرافد الأساسي الذي سوف يشكل وجهة أسلوبياتنا اللغوية واللسانية المعتمدة في كتابة أبحاثنا ورسائلنا وأطروحاتنا الجامعية المقبلة؟

حيدر علي سلامة

- باحث من العراق
- متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها
- حاصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة كلية الآداب/جامعة بغداد عام 2002
- حاصل على درجة الماجستير في الفلسفة كلية الآداب/جامعة بغداد عام 2005 عن الأطروحة الموسومة: (إشكالية المثقف عند الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي)
- نشر عدة مقالات ودراسات وبحوث فلسفية في صحف عراقية وعربية وفي مجلات عربية اكاديمية محكمة.
- شارك بالبحث الموسوم (غلبة التلقين الفلسفي وغياب الممارسة الفلسفية في العراق) في الكتاب الجماعي (حال تدريس الفلسفة في العالم العربي) الصادر بدعم من المركز الدولي لعلوم الأنسان-بيبلوس برعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ووزارة الثقافة في لبنان، اشراف: أ. د. عفيف عثمان، وتحت إدارة د. أدونيس العكرة، 2015.