إرسين ميردان (الأناضول) : بات دور الصين كقوة دفع اقتصادية يقترب من نهايته، بعد عقود من نمو اقتصادي كبير فاق 9 بالمائة في سنوات ماضية من الألفية الحالية. يتضح تراجع هذا النمو مع انخفاض استهلاك الفحم والحديد، وانخفاض مؤشرات التصنيع، فضلا عن الحد من قدرة الصناعات الثقيلة للمرة الأولى بعد الأزمة المالية العالمية (2007 - 2008).


سيكون لبدء المرحلة الجديدة من النمو آثار بعيدة المدى على إدارة الموارد الطبيعية

ويصف قادة الصين هذه المرحلة من النمو الاقتصادي بـ"الوضع الطبيعي الجديد"، إذ يدفعها نمو اقتصادي أكثر بطئا ولكنه مستدام، وأصبح الاستهلاك المحلي فيه هو الهدف الجديد، بدلا من الصادرات.

وفي خطة التنمية الثانية عشرة للصين، بين عامي 2011 و2015، تم التركيز بشكل أكبر على نمو الناتج المحلي الإجمالي، الذي بلغ 7 بالمائة.

وبعد أن شهد الاقتصاد الصيني نموا بنسبة تزيد عن 10 بالمائة، خلال العقدين الماضيين، تباطأ الاقتصاد، ونما بنسبة 7.4 بالمائة، للمرة الأولى عام 2014، ومن ثم تباطأ النمو أكثر.


- آثار بعيدة المدى
سيكون لبدء المرحلة الجديدة من النمو آثار بعيدة المدى على إدارة الموارد الطبيعية لكل من الصين والعالم في السنوات المقبلة. وأدى الركود العالمي في أسعار السلع الأساسية، الذي بدأ في وقت مبكر من 2011، إلى تسريع خطى الصين للانتقال إلى نموذج نمو اقتصادي أبطأ، وهو النمو "الطبيعي الجديد".

وأسفرت أسعار النحاس والذهب والألومنيوم والفحم، التي كانت في أدنى مستوياتها بعد الأزمة المالية العالمية، إلى جانب انخفاض أسعار النفط منتصف 2014، عن مزيد من الضغط على أسعار السلع الأساسية العالمية.

والخطوات الرئيسية التي اتخذت في السنوات الماضية تعطي أدلة مبدئية على أن قادة الصين لديهم خطط إنمائية مختلفة في أذهانهم.

وكان إدخال "الحضارة الإيكولوجية"، في 2007 أحد المبادرات التي اعترفت بالحاجة المبكرة إلى التحول إلى مسار مستدام بيئيا من أجل التصدي للتحديات المحلية الناجمة عن مسار التنمية المبكرة.

وكمبدأ إرشادي، تهدف "الحضارة الإيكولوجية" إلى تحقيق نمو أعلى جودة، عبر بناء مدن مستدامة، مع تحسين نوعية الهواء فيها والتخطيط الجيد للمدن، مدعوما بالنمو الاقتصادي الصديق للبيئة.



- انبعثات الكربون
من بين العديد من التحديات التي يمكن أن تواجهها الصين في السنوات المقبلة، مع التحول إلى مرحلة "الوضع الطبيعي الجديد"، هو الارتباط الوثيق بكيفية استجابة الصين لفصل نموها الاقتصادي عن انبعاثات الكربون.

في الخطة الخمسية الثالثة عشرة، بين عامي 2016 و2020، استندت بكين إلى زيادة الكفاءة وزيادة القدرة التنافسية والإصلاحات الهيكلية لمساعدة الاقتصاد الصيني على تجنب استهلاك الطاقة والموارد غير الضرورية.

وأصدر "مجلس الدولة" مبادرة مهمة أخرى، تسمى "صنع في الصين 2025"، وتمثل خطوة أخرى نحو زيادة مستوى دور الصين، عبر التركيز على الجودة أكثر من الكميات المصنعة.

وضمن هذا البرنامج تم التركيز على تعزيز الابتكار، والزيادة في الجودة الشاملة في الصناعة التحويلية، فضلا عن نمو الطاقة النظيفة الصديقة للبيئة، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة عامة.

وكانت الصين أكبر مستهلك للطاقة في العالم، وأكبر دولة تتسبب في انتشار الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري، في ظل اقتصاد شهد نموا بمقدار سبعة أضعاف بين عامي 2000 و2014، فضلا عن زيادة استهلاك الطاقة بمقدار ثلاثة أضعاف خلال الفترة نفسها.

من هنا، فإن نجاح الصين في الانتقال إلى مرحلة النمو "الطبيعي الجديد" هو أمر بالغ الأهمية من أجل سياسات متسقة وفعالة لإدارة الموارد بشكل أفضل.

وخلال العقد الماضي كانت الصين مسؤولة عن نصف انبعاثات الكربون في العالم، وبلغ مستوى التلوث في مواردها الجوية والأرضية والمائية درجة حرجة تطلبت اتخاذ إجراءات عاجلة.



- تحسين الهواء
وتوفر رؤية الصين الجديدة للانتقال إلى مرحلة "الوضع الطبيعي الجديد" فرصة لإصلاح موقفها في إدارة المناخ العالمي ومكافحة المشاكل البيئية. وفي إطار خطة عمل نوعية الهواء، التي بدأت في 2014، خصصت الصين 277 مليار دولار، لتحسين نوعية الهواء في المدن، التي اختنقت بمستويات الضباب الدخاني الكثيف.

وبما أن النمو المنخفض في نموذج النمو العالي الجودة (الوضع الطبيعي الجديد) يُقدم كطريق جديد نحو تحقيق النمو المستدام، فإن الحكومة الصينية أصبحت في وضع أفضل لفرض الضرائب على العوامل البيئية الخارجية، مثل الاستهلاك العالي للفحم، وكذلك إنهاء أشكال الدعم المالي، التي كانت تؤثر بشكل هائل على بيئتها، لا سيما في ظل انخفاض أسعار السلع الأساسية.

ويواجه العصر الذهبي للفحم في الصين ضغوطا هبوطية من مختلف الفئات.

ومع تباطؤ الاقتصاد الصيني، ولكون الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة في طريقها إلى الانخفاض، تحتاج صناعة الفحم في الصين إلى إيجاد طرق جديدة للتكيف مع مرحلة النمو "الطبيعي الجديد".

وتفيد بيانات "لجنة التنمية الوطنية والإصلاح" في الصين بأنه مع تباطؤ الاقتصاد المحلي وزيادة الضغط على الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، بسبب خطط حكومية متعددة لمعالجة نوعية الهواء وانبعاثات الكربون، خرج قرابة 70 بالمائة من مناجم الفحم من الخدمة عام 2015.

- الطاقة النظيفة
وبينما تعتزم الصين الاستثمار في تكنولوجيات الطاقة المتجددة والنظيفة وزيادة مستويات الكفاءة العامة في استخدامات الطاقة بجميع أنحاء البلاد، فإن التغيرات الهيكلية الحالية سترفع الاستثمارات في هذه المجالات.

وزادت الصين استثماراتها في 2015 بنسبة 39 بالمائة في مجال الطاقة المتجددة، لتبلغ 80 مليار دولار، متجاوزة بذلك الولايات المتحدة الأمريكية في العام نفسه.

ومع ارتفاع صناعة الخدمات، فضلا عن عدد سكان المدن المتنامي بسرعة، من المتوقع أن يؤدي الانتقال إلى مرحلة النمو "الطبيعي الجديد" إلى زيادة استهلاك الغاز الطبيعي في الصين.


* الكاتب حاصل على درجة الماجستير في "الاقتصاد السياسي لأوروبا وآسيا" من كلية كينغز في لندن، كما يحمل شهادة الماجستير في الدراسات الأوروبية من جامعة سابانجي.