الدوحة - عبد الجليل المسعودي (الشروق) : الحبيب الصيد رجل مجدّ نظيف اليدين وسيواصل مهمته - تونس دخلــــــــت مرحلة إيجابية - التقيت الباجي قائد السبسي أكثر من مرة منذ عودته إلى حلبة السياسة بعد الثورة.



التقيته وزيرا أول ثم رئيس حزب، ثم مرشحا للرئاسة. والتقيته منذ أيام رئيسا للجمهورية وهو يؤدي زيارة دولة إلى قطر.

وفي كل هذه المرات أتفاجأ بالتباين الكبير في هيئة الرجل حين يستمع إليك وحين يشرع في الحديث إليك. يتحوّل من شيخ مسن إلى شاب يتّقد حركية ويقظة وتفتّح عيناه على زُرقة فاتحة وينطلق في الحديث بثبات الطالب السربوني الملتزم بالاستدلال والمنطق والكلمة المناسبة.

الباجي قائد السبسي شيخ شاب فاجأني مرة أخرى بتواضعه وولعه بالشعر الجاهلي.

سألته وأنا أستسمحه بالانصراف عن أجمل صورة انطبعت في ذاكرته من زيارته لقطر فأجاب دون تردّد: «مشهد تلاميذ المدرسة التونسية وهم يرفعون علم تونس وينشدون نشيدها على بعد آلاف الكيلومترات من بلادهم. إنها تونس المستقبل.. تونس التنوّع والمعرفة والانتماء.. تونس التي لا يعرف قيمتها الحقيقية إلا من يبتعد عنها».



ماذا تبقى اليوم من «البجبوج» الذي أثار منذ حوالي سنتين حماسة الشعب ونال تعاطفه وثقته اللذين أوصلاه الى كرسي الرئاسة؟

لا شيء تغيّر. فقط هنا اليوم أمامك رئيس يعي كما لا يعي أحد آخر ـ بحكم اطلاعي المباشر ـ حجم التحديات المطروحة على البلاد حاضرها ومستقبلها ويحسّ بما يحس به مواطنوه ويدرك آمالهم وانتظاراتهم ويتفهم مللهم ـ نعم أتفهم أن يُقدم شاب قضى السنوات الطويلة في البطالة او رجل لا يقدر ان يطعم عياله ان يقوما بقطع طريق... ماذا عساهما ان يفعلا؟ أتفهم وأتألم وأجتهد ما استطعت وفي اطار ما تخوله لي صلاحياتي لتغيير هذا الواقع الى الافضل.

لو طلبت منكم ان تقدموا حصيلة سنة ونصف من رئاستكم لتونس؟

قبل الحديث عن أن اي حصيلة لابد من التذكير بالظروف التي عاشتها تونس والتي فرضت علينا مراجعة الأولويات. فبعد ان كانت أهدافنا الاولى اعادة هيبة الدولة وتحقيق الانتعاش الاقتصادي، أصبح استتباب الامن غايتنا. من هذا المنطلق يمكن القول إننا تقدمنا خطوات هامة على طريق مقاومة الارهاب الذي كلّفنا الكثير: عشرات الشهداء من أبنائنا البررة وامكانيات قُدّرت بحوالي 4 مليارات دينار كانت ستصرف في ما ينفع التونسيين ويساهم في تخفيف وطأة البطالة. انتقلنا اليوم في معركتنا ضد الارهاب الى مرحلة حاسمة تتمثل في القيام بعمليات استباقية تقضي على الارهاب في مهده ولا شك أنكم لاحظتم انه لا يكاد يمرّ يوم دون أن يتوصل رجال الأمن الى كشف الخلايا الارهابية وتفكيكها. ثم لا يجب ان ننسى الوضع الجيوسياسي وتأثير الازمة الليبية خصوصا.

إجمالا يمكن القول اننا دخلنا مرحلة تصاعدية تبشّر بنتائج ايجابية سيما وأننا خرجنا من منطقة النمو السلبي ومن المنتظر ان نسجل نسبة نمو ايجابية.

أنتم متفائلون؟

أنا متفاؤل بقدر raisonnablement optimiste.

ذكرتم منذ حين ليبيا، كيف تتفاعلون مع تطور الاوضاع فيها؟

أولا أريد ان أذكر أننا نحن التونسيين أولى بالاهتمام بليبيا وبالحديث في شأنها لسبب بديهي وهو أن تونس هي امتداد لليبيا والعكس صحيح، ومنذ 1911 سنة بداية تعرض ليبيا الى الهجمة الاستعمارية امتزج الليبيون الذين لم تخل مدينة أو قرية تونسية منهم بالتونسيين حتى صار يقال إن التونسيين والليبيين شعب واحد في بلدين اثنين.

ثانيا أريد أن ألاحظ ان المتدخلين اليوم في الشأن الليبي كثيرون وأن تدخلهم ليس دائما لصالح الشعب الليبي.

أخيرا أريد ان أؤكد أننا ندعم حكومة السرّاج وأننا مع الحل السلمي للأزمة وضد الحل العسكري الذي سوف تكون له تداعيات سلبية لا على الليبيين فحسب بل على التونسيين كذلك.

سبقكم منذ أيام قليلة من زيارتكم هذه الى قطر سلفكم السيد منصف المرزوقي الرئيس المؤقت وتحدّث الى وسائل الاعلام فأعلن ان بلدان الربيع العربي قد انتصرت فيها الثورة المضادة وأن الديمقراطية في تونس مهددة بالانتكاس...

أولا ليس هناك «ربيع عربي»، هناك بداية ربيع في تونس قد تتحول فيه الديمقراطية الى واقع معيش وملموس. أقول «قد» التي تفيد في نفس الوقت التقليل والتحقيق للتأكيد على أمرين أولهما ان الديمقراطية لا تتحقق بقرار ولا بمرسوم بل هي إيمان وممارسة يومية، وثانيا لأن هذه الممارسة تخضع الى شرط أساسي هو توفّر «الحس الوطني» Le sens de l›Etat الذي هو إلتزام وتربية وثقافة.

ثانيا وردّا على مزاعم السيد الذي ذكرتم فإنه إن كان قال ما قال فقد ارتكب إثما كبيرا ضد مصلحة بلاده وأتى بما لا تسمح به التقاليد السياسية والديبلوماسية التي تبغض ان يتحامل مسؤول على بلاده خارج حدودها. ولا يسعني الا ان أدعو له بالهداية.

إحساسي أنكم اردتم منذ لحظة أن تشيروا الى غياب الحس الوطني لدى نخبنا السياسية؟

ذلك ما اردت فعلا ان اقوله، للاسف.

وانتم تتابعون الاحداث في تونس من العاصمة القطرية لاشك أنه قد استوقفكم الحديث الدائر عن مغادرة السيد الحبيب الصيد لرئاسة الحكومة؟

هي إشاعة لا أساس لها من الصحة. وهي فرصة لأثني هنا على خصال السيد الحبيب الصيد الذي أعرفه. فهو مسؤول مُجدّ لا يبخل بطاقاته ولا بجهده يأتي الى مكتبه قبل متعاونيه وموظفيه ويغادره بعدهم وهو رجل وطني نظيف اليدين يتمتع بتقدير واحترام كامل الطبقة السياسية. رشّحه حزب النداء وإلى حدّ علمي لم يتنصّل منه أو ينكره ولعل البعض ينسى أو يتناسى ان حزب النداء فاز بالانتخابات ويبقى دستوريا الحزب الأول الى حين الانتخابات التشريعية المقبلة.

الحبيب الصيد هو اليوم رئيس الحكومة، حكومة كل التونسيين وليست حكومة النداء وهو يعمل في إطار توافق وحسب برنامج وطني. أما النتائج فتبقى أحيانا مرتبطة بظروف ومعطيات لا نتحكم فيها وعلينا ان نصبر قليلا.



ولكن حزب النداء الذي اسستموه وكنتم رمزه القوي قد تقسّم بعد ان عرف كل أنواع الصراعات والنزاعات، ألا يحزّ ذلك في نفسكم؟

أنا رجل ديمقراطي احترم قواعد الديمقراطية فيوم وقع انتخابي رئيسا للجمهورية قدّمت استقالتي من رئاسة الحزب. ظهرت اثر ابتعادي صراعات أدت الى انقسامات آسف لها طبعا لكن تلك هي افرازات الديمقراطية الناشئة ويجب ان نقرّ بأن ما يحدث داخل حزب النداء لا يكاد يخلو منه اي حزب آخر في البلاد. لكن صراعات النداء التي تعود في نظري الى مراهقة سياسية قد ضخمها وزاد في حدّتها الإعلام الذي جعل منها مادة استهلاكية يومية، لكن ذلك لا يشفع للندائيين ولا يعفيهم من مسؤوليتهم في المحافظة على تماسك ووحدة حزبهم ولا يبرّئهم. ولعله يجب أن يتذكّروا أن فوزهم في الانتخابات سببه فقط أنهم جاؤوا في الوقت المناسب وأن الظروف التي خدمتهم لن تخدمهم مرة أخرى.

أقول هذا مع أني ألاحظ أن هناك تحسّنا داخل النداء، هناك ارتعاشة ايجابية un frémissement.

هل هو تفاؤل؟

هي واقعية. أنا واقعي وقدر الندائيين أن يعملوا متوحدين منسجمين.

كيف تنظرون الى أداء الإعلام؟

أنا مع حرية الاعلام بإيمان وباقتناع لأني أرى في حرية الإعلام شرطا أساسيا من شروط تحقيق الديمقراطية.

الإعلام الحرّ يمكن أن يكون جيدا واذا لم يكن حرّا فإنه يصبح قطعا سيئا.

أتعرض شخصيا الى الانتقاد وأرفض أن أجيب أو أن أرد الفعل لاقتناعي أن ممارسة الاعلاميين لمهنتهم في كنف الحرية سوف تفضي بهم الى ايجاد توازن تنتهي معه الانزلاقات والانفلاتات والبحث عن الإثارة.

أنتم اليوم في قطر تقومون بدور تُجيدونه ألا وهو دور الديبلوماسي الذي تقمصتموه سنوات طويلة تحت إمرة الرئيس بورقيبة. لكن ديبلوماسية اليوم موسومة بالاقتصادية، هل تؤمنون فعلا بالديبلوماسية الاقتصادية؟

قلت منذ لحظة إنني رجل واقعي وأقول الآن إنه ليس لنا خيار آخر غير هذا الذي أتى بنا الى قطر.

لكن ما يقوّي عزيمتنا هو العلاقة المتميّزة التي تربطنا بهذا البلد وهي علاقة قديمة وحميمة نعمل على الاستفادة منها لتحقيق نقلة نوعية في مجال التعاون والتكامل بين بلدينا وشعبينا.

قطر اليوم بانجازاتها وحوكمتها الرشيدة خطت خطوات عملاقة نحو مصاف الدول المتقدمة وهذا يثلج صدورنا بقدر ما يحثنا على البحث الجاد عن سبل النهوض بمستوى تعاوننا والاستفادة من بعضنا البعض كل حسب خصوصياته، وإننا سعيدون برضاء السلطات القطرية على مستوى وأداء الاطارات التونسية العاملة بقطر. وسنعمل على رفع عدد إطاراتنا العاملة في قطر استجابة لرغبة صاحب السمو الأمير تميم بن حمد.

إن زيارتنا لدولة قطر أمر طبيعي يفرضه انتماؤنا الثقافي والحضاريويمليه علينا ايماننا بنهج التشاور والاتصال المباشر والتواصل بين الأشقاء لقد قلت دائما إن تونسشجرة مباركة أغصانها تصل الغرب لكن جذورها متأصلة في التربة العربية الاسلامية. ورغم أن مبادلنا الاقتصادية تتجاوز السبعينفي المائة مع دول اتحاد أوروبا فإن قطر أصبحت اليوم شريكنا الاقتصادي الثاني بعد فرنسا من حيث حجم المعاملات والاستثمارات.

ماذا علّمتكم سنة ونصف السنة من الجلوس على كرسي الرئاسة؟

التواضع.

وأنتم اليوم في أعلى هرم السلطة هلاّ لازال لديكم شخصية تعتبرونها مثَلكُم الأعلى؟

نعم بورقيبة رغم كل ما يمكن أن نجد له من مساوئ.

ما الذي كان يشدّ اعجابك أكثر ببورقيبة؟

بيداغوجيته السياسية وقدرته على الاقناع الذين بفضلهما ترك لنا انجازات كانت تبدو مستحيلة في زمنها مثل تحرير المرأة والتنظيم العائلي...

لماذا تبدون مصرين على الاستشهاد بآيات قرآنية في خطبكم؟

لأني مسلم والقرآن كتابي والتزوّد بسند القرآن حق كل مسلم.

ولكن من يسلك هذه الطريقة هم عادة أنصار الاسلام السياسي...

أرفض الاسلام السياسي ولا أرى له حاضرا ولا مستقبلا في تونس.

في هذه اللحظة لو سألتكم عن الآية القرآنية التي تستحضرونها؟

تأكيدا لاجابتي عن سؤالك السابق حول ما علمني كرسي الرئاسة فإن الآية التي تستحضرني هي من سورة الاسراء «ولاَ تمْشِ في الأرضِ مرحًا إنك لن تخرِقَ الارضَ ولن تبلُغ الجبالَ طولا».

هل هناك لحن تدُندنُّونه أو قصيد تقرؤونه وأنتم تحلقون ذقنكم في الصباح؟

أحب كثيرا أن أردد لاميّة العرب للشنفرى:

أقيمُو بَني أمّي صدورَ مَطيّكُم
فإنّي الى قومٍ سِواكُم لأميلُ


الى أن يَقول

ولي دونكُم أهْلون: سيد عِملّس
وأرقطُ زُهلول وعرْفاءُ جيألُ


سيدي الرئيس هذا شاعر صعلوك وانت رئيس منتخب على رأس دولة ضاربة في الحضارة...

أحب ترديد مثل هذا الشعر الجاهلي لما أجد فيه من قوّة البلاغة وصدق التعبير وجمال التلقائية النظرية. والشعر ديوان العرب وخاصيتهم الابداعية الكبرى.

وما عدا الشعراء الصعاليك؟

أحب كذلك ترديد معلقة امرئ القيس الملك الضليل:

قفا نبكِ من ذكرى حَبيب ومنزلِ
بسقط اللّوَى بين الدخول فحوملِ


الى أن يقول:

مِكرّ مِفَرّ مقبل مدبر معا
كجُلْمودِ صخرٍ حطّهُ السّيل من علِ

هذا القصيد على قدمه يبقى جديدا متجدّدا في ايقاعه وتناغمه موحيا بالحياة والحركة، إنه منجم لطاقة فكريّة وروحية.

التقاه في الدوحة عبد الجليل المسعودي - الشروق