المدينة المنورة - خالد الشلاحي (واس) : مشاهد مفجعة، وذكرى أليمة تعيشها آلاف الأسر ممن فقدوا أحد أبنائهم في لحظة طيش انتهت به صريعاً على رصيف أحد الطرقات، أو عاجزاً طريحاً على فراش إحدى المستشفيات، نتيجة حادث أليم، شكّل مأساة تتجرع الأسر والمجتمع مرارتها، ويتحسّرون على فقده في ساعة غلب فيها الهوى وحب الاستعراض على الرشد والتعقّل والحذر. وأخذت ظاهرة التفحيط في التشكّل منذ سنوات عديدة لتنتشر لدى فئة العديد من المراهقين والشبان لاسيما الدارسين في مرحلتي الثانوية والجامعة في مختلف مناطق ومدن المملكة دون استثناء، حتى أضحت "رياضة الموت" هاجساً يؤرق الأسر، وتحدياً كبيراً يواجه الأجهزة الأمنية لاحتواء هذه الممارسات القاتلة، فضلاً عن التكلفة المادية الطائلة التي تتحملها الدولة ممثلة بالمستشفيات والمراكز الصحية في علاج ضحايا الظاهرة الأكثر فتكاً بشباب الوطن.



وفي المدنية المنورة، سجلت الإحصائيات الرسمية 191 حالة تفحيط تم ضبطها من قبل الجهات الأمنية المختصة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة فقط، وجميعهم من فئة الشباب، طبقا لما أفاد مدير الإدارة العامة للمرور بمنطقة المدينة المنورة المكلّف العميد نواف بن ناهس المحمدي.

ولم يكن التفحيط هو الوبال الوحيد في المجتمع، بل وجدت مخالفات أخرى صغيرة في ممارستها كبيرة في نتائجها السلبية، إذ قال العميد المحمدي خلال لقائه مع مندوب "واس" إن فرق وأفراد المرور أحصوا إلى جانب مخالفة التفحيط 85 ألف مخالفة أخرى للأنظمة المرورية في شوارع المدينة المنورة خلال الفترة ذاتها، 54324 مخالفة عدم ربط حزام الأمان، إضافة إلى 18497 مخالفة تظليل المركبة تُعيق رؤية قائد المركبة، و 10568 حالة استخدام للهاتف الجوال أثناء القيادة.

ويعتقد البعض أن التفحيط تصرف وقتي مرتبط بعنفوان الشباب، ولا يستحق الأمر التركيز عليه إذ يتلاشى من فكر الشباب مع الزمن متناسين ما يخلفه من ضحايا خلال هذه الفترة العنفوان، علاوة على مخالفته للشرع حسبما أكد رئيس قسم الفقه في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم الشيخ الدكتور عبد الله بن حمد السكاكر، إذ بين أن هذا الفعل "حرام" بوصفه يعرّض حياة الشخص والآخرين للخطر والهلاك.

وقال السكاكر في حديث لـ "واس": من الناحية الشرعية يعدّ هذا العمل (التفحيط) هدرا للمال الخاص والعام، وقد ورد التحريم في النصوص الشرعية، كقوله تعالى " إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا"، والأمر الثاني أن ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة، فهو عمل خطير يعرّض الشخص إلى الموت وهو بالتالي بمثابة الانتحار، وقد جاء النهي عن ذلك صريحاً في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، متابعا القول إن الأمر الثالث أن فيه تعريض الناس وممتلكاتهم للخطر، فالأصل في ذلك أن النفس وأرواح الناس وممتلكاتهم معصومة كما جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا)، ففي هذا العمل خطورة على الشباب المتجمهرين وعلى ممتلكات الناس وأرواحهم.



زد على ذلك، فقد أبدى الاستشاري النفسي، والأكاديمي المختص في علم النفس الإرشادي الدكتور عبد الرحمن بن عبيد العازمي امتعاضه من تفشي هذه الظاهرة في مجتمعنا، واستفحال خطرها بما يجاوز الحدود على حدّ وصفه، ويقول إنها باتت تشكّل أحد أكثر الأخطار التي تتربّص بالشباب، وتشكّل خطراً على الفرد والمجتمع على حدٍ سواء.

وصنّف العازمي في حديث ممال لـ "واس" ممارسي ظاهرة التفحيط من الجانب النفسي إلى ثلاثة أصناف، أولها صنف مقلّد تبعي، يعجبه ما يدور حوله، ويحاول أن يكون ضمن هذه الدائرة الممارسة لهذا العمل (التفحيط)، رغم أنه لا يعرف في الغالب ما يدور خلف أستار هذه العملية، والهدف المراد منها، فيما أن هناك صنفا آخر يمكن تسميته بالصنف المتهوّر، حيث ينقاد المنتمي لهذا الصنف لممارسة التفحيط نظراً لظروفه النفسية، كانخفاض في الذات، ومحاولة إثبات وجوده، لأنه فقد عدة أشياء يحاول تعويضها بالتفحيط.

كما أن هناك صنفًا ثالثًا وهو الصنف الذي يحاول تحقيق مصالحه الشخصية الخاصة من خلال التفحيط، وذلك باستقطاب الضحية من فئة الشباب من أجل تحقيق مصالح شخصية كترويج المخدرات والمسكرات مثلاً، وغيرها، والإيقاع بضحايا، متخذاً من التفحيط عملاً لتحقيق أهدافه الدنيئة.

وعدّ العازمي التفحيط أرضاً خصبة لفئة الشباب ممن تقل أعمارهم عن 18 عاماً، مبيناً أن علاج هذه الظاهرة يصنّف في ثلاثة اتجاهات، علاج نفسي، وعلاج اجتماعي، وعلاج بقوة النظام إذا استفحل الأمر، مؤكداً أن فرض العقوبات النظامية وتطبيقها بشكل صارم، يجعل من ممارسي ظاهرة التفحيط يتقبلون العلاج النفسي والاجتماعي، فإذا أدرك ممارس هذا العمل أنه سيتم تطبيق قوة النظام بحقه، كمصادرة سيارته مثلاً، فسوف يقبل على العلاج النفسي والاجتماعي لمعرفة الأسباب التي أوصلته لهذه المرحلة.



ومن جانبهم، أكد عدد من أولياء الأمور أن تشديد العقوبات الرادعة سيشكّل عاملاً مهماً لتقليص ممارسة التفحيط في الشوارع والميادين العامة وداخل الأحياء، فيما تباينت آراء المستطلعين حول إيجاد أندية رياضية للسيارات، لاحتواء الشبان ممتهني "التفحيط" وتنظيم ممارساتهم داخل حلبة مخصصة لتلك الممارسات وتنظيم سباقات بأنظمة تُعنى بسلامة مرتادي النادي من جمهور ومتسابقين وتحمي أفراد المجتمع تكون تحت مظلة الرئاسة العامة لرعاية الشباب.

ورأى محمد عايض أن التطبيق الفعلي الصارم لعقوبات نظامية يجب ألا تقتصر على الغرامة المالية بل تصل إلى حجز المركبة وحبس ممارس التفحيط لأن ذلك أولى الخطوات الفعلية لوأد الظاهرة والقضاء عليها كلياً، لحماية شباب المستقبل، وإيجاد جيل واع يدرك مخاطر هذه الممارسات العبثية على أرواحهم وأمن المجتمع، مشيراً إلى أن التفحيط ينظر له من الجانب الشرعي بأنه فعل محرّم بوصفه أحد أشكال الانتحار.

أما مبارك المطيري فقد سرد في حديثه واقعة حصلت بالقرب من مسكنه حين اصطدمت مركبة كان يستقلها شبان بمركبة أخرى متوقفة على الرصيف، انتهت بمشهد مروع لا يزال يرتسم في مخيلته لضحايا ذلك الحادث، ويرى أن التوعية والاستمرار في عرض التجارب المريرة لضحايا التفحيط في كافة المحافل والأماكن العامة التي يرتادها الشباب، تمثّل الإجراء الأنسب لمحاربة الظاهرة والتقليل من ممارستها بين أوساط الشباب الذين يشكّلون غالبية مجتمعنا.

وشدّد على الدور الذي يجب أن يؤديه الأهل في المقام الأول لمراقبة أبنائهم، ومتابعة سلوكياتهم والهيئة التي تكون عليها مركباتهم، وكذلك الدور التوعوي الذي يجب أن تقوم به المدرسة في هذا الجانب وتخصيص يوم أو أسبوع من العام الدراسي لبيان خطر التفحيط، أو زيارة الضحايا في المستشفيات ومراكز العلاج التأهيلي ليتّعظ الآخرون، كما يمكن دفع الطلاب نحو إيجاد مشاريع أو مبادرات وأفكار أو حتى عبارات تولّد لديهم القناعة التامة بمخاطر تجربة التفحيط.



وذهب المواطن عبد الله الجهني إلى منحى آخر عدّه أسرع الطرق لنشر ظاهرة التفحيط لدى الشباب في سن مبكرة، حيث يتهم الشركات المنتجة للأشرطة الممغنطة وألعاب الفيديو بنشر سلوكيات خاطئة ومشاهد تثير الحماسة لدى صغار السن والمراهقين والشبان وتزرع في نفوسهم الرغبة في تجربة هذه التصرفات.

وأبدى استغرابه من بيع مثل هذه الألعاب ومنتجاتها في الأسواق رغم أنها تروّج لسلوكيات مخالفة للأنظمة مثل السرقات والسطو والاعتداء، وليس انتهاءً بالتفحيط، ويؤكد أن بعض تلك الألعاب تتعمّد تصوير رجال الأمن بشكل سلبي وإيهام الشاب أن التغلّب عليهم في اللعبة يعدّ انتصاراً ونجاحاً، مضيفاً أن كافة الجهود التوعوية والإرشادية التي تقوم به مختلف الجهات يمكن أن تضيع مالم تسنّ قوانين صارمة تمنع الترويج لمثل هذه الألعاب ووقف بيعها.

وأضاف الجهني، أن الشركات المنتجة للأفلام والألعاب التي تروج للعنف وقيادة السيارات عمدت إلى التحايل على الدول المستوردة لتلك المنتجات حيث عمدت إلى تصنيف الألعاب بوضع حد أدنى لعمر المستخدم على كل شريط، كما لفت إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت داعماً رئيساً لنشر الظاهرة، حيث تعجّ تلك المواقع مثل (يوتيوب، تويتر) بملايين المقاطع لممارسي التفحيط وتصنّف أفعالهم بالمغامرات المدهشة أحيانًا.

وينادي الكثيرون بإيقاع عقوبات تعزيرية مشدّدة على من يمارس التفحيط بوصفهم مسؤولين عن عدد كبير من إجمالي المتوفين جراء حوادث السير، إذا ما صنّفنا قيادة المركبة بسرعة تتجاوز المعدّل الطبيعي ضمن سلوكيات التفحيط والقيادة غير الآمنة، حيث تشير الإحصائيات إلى أن المملكة تحديداً ودول الخليج العربي بصفة عامة، تعدّ أكثر دول العالم من حيث عدد حوادث السير، وتخسر سنوياً مبالغ طائلة جراء هذه التصرفات الصبيانية غير المسؤولة.



ورأى المواطن عيسى الحربي أن بالإمكان الحدّ من ظاهرة التفحيط عن طريق متابعة الجهات الأمنية للأماكن التي يرتادها الشبّان لغرض ممارسة التفحيط وإغلاقها، ورصد التجمعات الشبابية في تلك الأماكن، ومنع التردد عليها وتطبيق الأنظمة في هذا الشأن، مضيفاً أن "التفحيط" يحدث غالباً في أوقات محددة مثل أوقات الاختبارات نهاية الفصل الدراسي ونهاية العام، وكذلك خلال أيام شهر رمضان صباحاً، وفي أوقات الاحتفالات الرسمية الوطنية، وبالتالي ليس مستحيلاً احتواء هذه المشكلة.

وأَضاف الحربي أن فكرة تقبّل الأسر لإرسال أبنائهم لأندية رياضية تعني برياضات السيارات تحتاج لوقت حتى يتبيّن نوعية المسابقات والأنشطة التي تنظّم داخل أسوار تلك الأندية، والأهم من ذلك مدى كفاءة وجدية أنظمة السلامة والأمان التي سيتم اتخاذها للحفاظ على أرواح وسلامة المتسابقين، والمنتسبين للنادي.

ووقفت (واس) على حكايات وقصص مأساوية في مستشفى التأهيل الطبي بالمنطقة، لضحايا الحوادث المرورية والقيادة غير الآمنة على الطرقات بصورة عامة، حيث يقول مدير المستشفى الدكتور نزار النزاري أن قرابة 90 مصاباً بالشلل يتلقون العلاج والتأهيل بالمستشفى، من بينهم نحو 50 شخصاً تعرضوا لحوادث مرورية قادتهم للمكوث على السرير الأبيض عدة سنوات جراء تعرضهم لإصابات دماغية بالغة، وإصابات في النخاع الشوكي، وكسور متعددة، أو حالات بتر لعضو أو أكثر.

وأضاف أن المستشفى يستقبل شهرياً أكثر من 150 حالة عن طريق العيادات والتنويم والجلسات، لمصابين بالحوادث المرورية ويقدم لهم الخدمات الطبية والعلاجية والتأهيلية، مضيفاً أن 70% من المنومين يحصل لديهم تحسّن في حالاتهم الصحية واستعادة القدرة الحركية تمهيداً لإعادة اندماجه في المجتمع.



وروى عدد من الضحايا المنومين بالمستشفى عن تجاربهم المريرة مع حوادث السير والسرعة، حيث يقول أحمد حمود المحمدي البالغ من العمر 30 عاماً، أنه يرقد على السرير الأبيض منذ 11 عاماً، نتيجة حادث سير نتج عن قيادته السيارة بسرعة فائقة أدت لاصطدامه بإحدى الأشجار بين مساري طريق السلام بالمدينة المنورة، نتج عنها إصابته بشلل وفقدانه الحركة، محذراً في حديثه الشبان من التساهل في قيادة المركبة، وأهمية اتخاذ وسائل وتدابير السلامة في كل الوقت.

وفي غرفة مجاورة يرقد الشاب الأربعيني مبارك مطلق الخيبري، حيث أمضى عامه الــ 18 في المستشفى، حيث كان يعملّ ضمن أفراد الأمن بالمسجد النبوي، تعرض لحادث سير في أحد الطرقات السريعة عام 1419هـ ألزمه السرير الأبيض مقعداً، مبدياً رضاه بقضاء الله وقدره، ومتوجهاً بنصيحته للشباب بالتعقّل والتنبّه قبل الإقدام على القيادة بتهوّر.

وبنبرات حزينة يقول سعيد أسين علي أُثيوبي 37 عاماً أنه دخل المستشفى قبل 4 سنوات إثر تعرضه لحادث سير أودى بحياة عدد من زملائه العاملين بإحدى الشركات كانوا برفقته بينما كانوا يستقلون حافلة بعد انتهاء دوامهم، حيث اصطدمت بهم شاحنة أخرى يقودها شخص متهوّر.

ويؤكد الدكتور ناصر الجباوي طبيب التأهيل الطبي بالمستشفى أن معظم الحالات أمضت عدة سنوات في المستشفى لتلقي التأهيل الطبي اللازم، مبيناً أن حوادث السير تمثّل السبب الأول في مثل هذه الحالات. ويدرك مزاولو مغامرة الموت "التفحيط" أنفسهم أن ممارسة هذا النوع من الرياضة محفوف بالكثير من المخاطر، إذ أنها ولدت من رحم الإثارة والمغامرة ونشوة المشاهد غير التقليدية التي تنال الإعجاب في لحظات محدودة ما تلبث أن تنتهي بمآسي متكررة.

وتصنّف وزارة الداخلية ممثّلة بالإدارة العامة للمرور مخالفة التفحيط بأحد أبرز المخالفات للأنظمة المرورية وتطبّق بحق مرتكبيها لائحة المخالفات والجزاءات التي تصل إلى تغريم السائق بمبلغ يصل إلى 900 ريال، مع حجز المركبة، إضافة إلى رصد نقاط مخالفة على حامل رخصة السير بمقدار 24 نقطة.

وتأتي مخالفة التفحيط بالمركبة في الدرجة الأولى من حيث عدد النقاط المحتسبة بالتساوي مع مخالفة (قيادة المركبة تحت تأثير مسكر أو مخدر)، حيث تؤدي إلى سحب الرخصة لمدة 3 أشهر في المرة الأولى، إضافة إلى الغرامات المالية وحجز المركبة، وفي حال تكرار المخالفة تسحب الرخصة لمدة 6 أشهر، وعند المرة الثالثة تسحب لمدة سنة، فيما تسحب الرخصة من المخالف نهائياً في حال تكرار المخالفة للمرة الرابعة.

إعداد: خالد الشلاحي. تصوير: علي الشهراني