الدوحة - خلف الله عط الله الانصاري (الراية) : بدأنا عامًا جديدًا وودّعنا عامًا هجريًا، طوينا صفحة من عمرنا كان فيها ما كان، نحمد الله على كل حال، ودنوّنا من آجالنا التي كتبها الله لنا، أفلا يَجدُر بنا أن نقف وقفةَ تأملٍ، نحاسب فيها أنفسنا، ونحاول جاهدين التمسك بالقيم والأخلاق الكريمة. قال الله تعالى في كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وقال البصري - رحمه الله -: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذَهَبَ يوم ذَهَبَ بعضك". فكل عام يمضي من أعمارنا نقترب به من الموت وها نحن ودّعنا عامًا هجريًّا بعد انقضائه، ونستقبل عامًا جديدًا وتمر الأيام والأعوام.. ومع بداية العام الجديد قد يكون شاهدًا لك أو عليك ولا بد فيه من عمل طيب مبارك يعود علينا وعلى أمتنا بالخير.



إن ذكرى الهجرة النبوية الشريفة لها طابع خاص في قلوبنا جميعًا وهي أعظم ذكرانا الخالدة المجيدة المباركة، تلك الذكرى الطيبة كانتْ مَوْلِد الدولة الإسلامية، التي أقامت حضارةً امتدت من الشرق إلي الغرب ومن الشمال إلي الجنوب، وأنهتْ عهد الظلم والشرك، وأقامت دولة العدالة والتوحيد، وحديث الهجرة حديثٌ يطول، وفيه ودروس نافعات، عظات بالغات وعبر.

بدأت الهجرة في الثاني عشر من ربيع الأول - على أرجح الأقوال - ولكن الصحابة - رضي الله عنهم - ابتدؤوا العام بالمحرَّم، لأنه هو بداية السنة القمرية عندهم، ففي السنة السادسة عشرة من الهجرة اختار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الهجرة ليؤرِّخ المسلمون عن قيامها تاريخَهم، لقد كان - رضي الله عنه - الإمام المُلْهَم، والعبقري الفذ، وتَذكُر كتب التاريخ أنه طُرِحَت أمام سيدنا عمر أمير المؤمنين - رضي الله عنه - اقتراحاتٌ متعدِّدة : منها أن يؤرِّخوا بتاريخ الفرس أو الرومان، أو من مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم، أو من مبعثه - صلى الله عليه وسلم، أو من وفاته - صلى الله عليه وسلم.

ولكن الفاروق استحسن أن يؤرِّخ المسلمون من هجرته - صلى الله عليه وسلم - لعِظَم شأن الهجرة، ووافقه الصحابة - فرضي الله عنه وأرضاه، وفي نهاية كل عام وبدايته نذكر الهجرة.

ويحزنني وقلبي يعتصر ألمًا واقع بعض من الدول العربية الإسلامية في عصرنا الحالي، الذين تنازلوا في الحقبة الأخيرة عن التاريخ الهجري، وأصبحوا يؤرِّخون قضاياهم الاجتماعية والسياسية ومعاملاتهم الرسمية بالتاريخ الميلادي. لأن من أهم مقوِّمات الهُوِيَّة الذاتية للأمة: التقويمَ، أو اللباس وطراز العمران، والتوقيت، وقد ظلَّت أمتُنا محافظةً على هذه المقوِّمات حتى داهمنا الغَزْو الفكري، والاستعمار المعنوي المدمِّر، فبدأ ينتقص من تلك المقوِّمات، يريد أن نذوب في الآخرين، وأن نكون ذيلاً لهم وأتباعًا، ويريد ألاَّ تكون لنا شخصية متميزة، هذا، وإن الله - تعالى - أراد لنا أن نتميَّزَ عن الآخرين، فنهانا عن تقليدهم، وأمَرَنا أن ندْعوَه أن يهدينا طريقًا غير طريق المنحرفين: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"﴾، الفاتحة.

إن ذكرياتنا وأمجادنا كلها مسجلة بالتقويم الهجري، وإن كثيرًا من أحكام ديننا مرتبطٌ بالتقويم القمري، الذي هو الأساس في التاريخ - كالصيام والحج - ومن الواجب على أهل العلم والرأي بيانُ أهميتِه، والتنبيهُ إلى ضرورة الاعتزاز به، لأنه يدل على الأصالة، ويُعِينُ على التميز، وعلى أهل العلم أن يبيِّنوا للناس وجوبَ الاستمرار في المحافظة عليه.

نقل الإمام السخاوي عن العماد الأصبهاني قولَه: "فليست أمة أو دولة إلا ولها تاريخ يرجعون إليه، ويعولون عليه، ينقله خلَفُها عن سَلَفها، وحاضرها عن غابرها، ولولا ذلك لانقطع الوصل، وجهلت الدول، وإن التاريخ بالهجرة نسخ كل تاريخ متقدِّم".