الحوار بين الاديان
لنبدأ كالمعتاد ببعض التوضيحات التمهيديَّة وغايتها تحديد إطار الموضوع وتوجيه الاهتمام إلى محاوره الكبرى:
1) الحوار بين الأديان موضوع بالغ التوهُّج في الوقت الراهن، ولكثرة استخدامه حصل ما يحصل عادة مع كل المفاهيم التي يكثر تداولها (في وسائل الإعلام وسواها..) يصير من الصعب تحديد المعنى المقصود به، وتتضارب مناسبات اللجوء إليه، ممَّا يجعله محفوفاً بالغموض أو بالالتباس.
2) إنه موضوع يشغل بال الكثير من البشر، على اختلاف انتماءاتهم الدينيَّة، مثقفين ورجال دين ورجال سياسة. ويتجلَّى هذا الأمر في الحضور الطاغي للخطاب الديني على الساحتين الفكريَّة والإعلاميَّة. لهذا كثرت المبادرات الداعية إلى طرحه وتعزيزه مثل: العام الدولي للحوار بين الحضارات، لقاء الأديان من أجل السلام في أسيزي، اتفاقات التبادل والحوار الموقَّعة بين المراجع الدينيَّة العليا.. أضف إلى ذلك مجموعة الوثائق الرسميَّة التي صدرت في السنوات الأخيرة في هذا الشأن: عن الأمم المتَّحدة ومنظماتها، عن المجلس الباباوي للحوار بين الأديان، وعن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، وعن العديد من الجهات المعنيَّة بالموضوع..
3) عندما نتكلَّم عن الحوار بين الأديان يجب ألاَّ تغيب عن انتباهنا الكناية التي يحتويها هذا العنوان، فالأديان لا قدرة لها على التحاور إلاَّ من خلال مُعتنقيها، والحوار إذاً هو في كل حال بين أشخاص ينتمون إلى ديانة ما، لذلك ربما كان من الأفضل الكلام بالأحرى عن حوار بين المؤمنين Dialogue Interfaith كما اعتيد مؤخراً على تسميته بالإنكليزيَّة. لذا، لا ينفصل الحوار بين الأديان عن الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة التي ينتمي إليها أطرافه، لا بل يرتبط بهذه الظروف ويؤثِّر ويتأثَّر بها بشكل مباشر. وهذا ما جعل أحد اللاهوتيين المعاصرين يُطلق هذا الشعار:
لا يمكن أن يحلَّ السلام بين الأمم دون سلام بين الأديان
لا يمكن أن يحلَّ السلام بين الأديان دون حوار بين الأديان
لا يمكن أن يتمَّ الحوار بين الأديان دون البحث عن أسسه اللاهوتيَّة فيها.
4) سوف نحاول إذن في هذا الحديث التفكير حول المسائل التالية: ما هو مفهوم الحوار بين الأديان؟ وهل هو ممكن في الواقع؟ ما هي المجالات أو الميادين التي يمكن أن يتمَّ فيها؟ ما هي الغاية منه أو ما نفعه؟ وما هي الشروط اللازمة لإمكانيَّة تحقيقه؟


مفهوم الحوار


1) الحوار هو أحد المعطيات الأساسيَّة للوجود الإنساني: حوار الحب الزوجي، حوار التربية، حوار العلاقة مع الآخر، حوار التبادل الثقافي... وقد يتَّخذ هذا الحوار شكل حركات أو أفعال أو أقوال، لكنَّه في كلِّ حال ملازم للحياة الإنسانيَّة ومترادف معها. بحيث أمكن القول بأنَّ رفض الحوار مع الآخر قد يكون نوعاً من الانتحار بقدر ما قد يكون نوعاً من القتل. وتستخدم كلمة الحوار في الغالب للكلام عن التبادل بين أشخاص أو مجموعات لها مقارباتها المختلفة للواقع، أو مواقفها المختلفة، إن لم يكن المتناقضة، من الحياة، أو مشاريعها المختلفة في ما يخص قيادة المجتمع..، ولا يختلف الحوار بين الأديان عن سواه من أنواع الحوار في الأسس العامَّة.


2) الحوار هو فعاليَّة يجعل المرءُ فيها ذاته بشكل واعٍ في حالة انفتاح على الآخرين واستقبال لهم. ويمثِّل الحوار بالنسبة للبشر وسيلة يحقِّقون بواسطتها وجودهم الشخصي، فالشخص البشري يستمدُّ كيانه من خلال العلاقات التي يِقيمها مع الأشخاص الآخرين. إنَّ الشرطين الأوليين اللذين لا بدَّ منهما في أيِّ حوار هما: الانفتاح المتزايد على الآخر والثقة به، فمن غيرهما لا يمكن للقاء بالآخر أن يكون له معنى فعلياً وأن يؤدِّي إلى التفاهم المتبادل. فالنقص في الثقة يمنع من إقامة تواصل حقيقي يتَّصف بالإخلاص والنـزاهة، أمَّا النقص في الانفتاح فيمنع من المعرفة الحقَّة التي تتطلَّبها الشهادة للحقيقة، ويدع الشخص رهينة للأحكام المسبقة بمختلف أنواعها، الثقافيَّة أو الفلسفيَّة أو اللاهوتيَّة، ولا ينجم عن ذلك سوى الانغلاق المتزايد والتصرُّفات المبنيَّة على نظرة الطرف الواحد.


3) يفترض الحوار توفُّر ثلاثة عناصر متبادلة بين أطرافه، لا غنى عنها ولا يمكن له القيام من دونها، وهي: الاحترام والإصغاء وقبول الاختلاف. إنَّ شرط إمكانيَّة قيام حوار هو وجود الاستعداد المسبق عند طرفيه أو أطرافه للقبول باختلاف الآخر واحترامه والإصغاء له. إذا لم يكن هذا الاستعداد متوفراً سرعان ما نجد أنفسنا أمام "حوار طرشان" يحاول كلُّ طرف فيه أن يحوِّل الآخر إلى موقفه بإقناعه أو إفحامه أو…إلغائه. الحوار الحقيقي لا ينتهي عادة بانتصار أحد أطرافه، بل بخروج الجميع منتصرين لأنهم صاروا أكثر فهماً لذواتهم وللآخر، مع كل ما يتطلبه ذلك من إعادة نظر في الأحكام المسبقة أو الكليشهات الجاهزة أو الشعارات المتداولة.


4) في الحوار تتحقَّق بين المتخاطبين مشاركة متبادلة غالباً ما تتَّخذ شكل أسئلة تُطرَح وأجوبة تُعطى عليها. هذا لا يعني أنَّ المتخاطبين لا يحملون معهم وفيهم صفاتهم الشخصيَّة وقناعاتهم الخاصَّة، فالبحث عن الحقيقة فعل دائم ومستمر، وحقيقتنا الخاصَّة قد يتمُّ تصحيحها أو تعميقها من خلال الالتقاء بالحقيقة التي يحملها طرف الحوار الآخر. كما أنَّ الحوار لا يمكن أن يقتصر على تقابل "مونولوغات"، إنه بالأحرى استقبال لما يحمله لنا الآخر، على أن يكون هذا الاستقبال متبادلاً.


5) الأمر الأكثر أهميَّة هو أنَّ الحوار يجعل التقاءنا بالله أمراً ممكناً، إذ من خلال كلِّ آخر نلتقي بالآخر الأزلي. فالحوار يضعنا في مواجهة الحقيقة من خلال علاقة محبَّة، فعندما يُخاطب المرءُ شخصاً آخر ويُجاوبه بإخلاص، يتحرَّك كلٌّ منهما باتجاه الآخر ويحاول أن يفهمه بشكل أفضل، وهذا النوع من التلاقي بين إنسان وآخر لا ينفصلُ عن التلاقي بين الإنسان وخالقه، لأنَّ التوجُّه الحقيقي نحو الآخر هو ضمناً توجُّه نحو الآخر الكلِّي، والتوصُّل إلى قبول الآخر ومحبَّته هو في الوقت عينه محبَّة الأزلي، وأن نسمح لشخص آخر بمعرفتنا على حقيقتنا هو اختبار لمعرفة الله بنا. الحوار إذن هو أكثر من مجرَّد اتصال بين طرفين، إنَّه تحقيق لمشاركة تفتح أمام طرفيها وبشكل متبادل أبواب المعرفة والتنقية والاستنارة، وتجعلهما في حالة لقاء مع الذات ومع الآخر ومع الله في الآن نفسه.


الحوار بين الأديان ( أو بين المؤمنين )


1) إن استخدام مفردات الحوار في إطار العلاقات بين الأديان هو أمر حديث نسبياً، وقد بدأ يصير مألوفاً في الأوساط الكنسيَّة بشكل تدريجي انطلاقاً من ستينات القرن الماضي وخصوصاً إثر اللجوء إليه في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني. وقد تمَّ اعتماده رسمياً في الكنيسة الكاثوليكيَّة عند تغيير اسم "سكرتارية شؤون غير المسيحيين" التي أسسها البابا بولس السادس سنة 1964 إلى "المجلس الباباوي للحوار بين الأديان" سنة 1988، وذلك للتعبير عن احترام أكبر لأديان العالم ورغبة في اعتبارها في ذاتها وخصوصيتها.


2) الحوار بين المؤمنين هو أن يلتقي شخصان أو جماعتان ينتمي كلٌّ منهما إلى تقليد دينيٍّ مختلف عن الآخر، باعتبارهم أشخاصاً ملتزمين دينياً، وذلك بهدف إغناء حياتهم الدينيَّة الخاصَّة وتعميقها وتوسيع آفاقها، من خلال فهم كلٍّ طرف منهما لقناعات الطرف الآخر بشكل أفضل في إطار مبادئ الحقيقة واحترام الحريَّة، وعبر تحليل مُدقِّق لشهادة إيمانهما المتبادلة. الحوار هو جهد إيجابي غايته البلوغ إلى فهم أكثر عمقاً للحقيقة من خلال الوعي المتبادل للقناعات والشهادة التي يؤديها المخاطب عن إيمانه. بهذا المعنى يمكن القول إنَّ الحوار هو منهج اقتراب من الحقيقة، فالانهماك في الحوار يعني الشروع في بحث متجدِّد عن الحقيقة وروح الحوار تستبعد الثنائيات المتعارضة التي يستند إليها المتعصِّبون واللاأدريون، كلٌّ على طريقته، إنَّه يعني الحقيقة مع الآخر وليس الحقيقة ضد الآخر، ومنهج الحوار يُعلن دون لبس أنَّ الحقيقة لا تتجزَّأ لكنَّها في الآن عينه عصيَّةٌ على البلوغ إليها كاملة.


3) لا بدَّ من التمييز أولاً بين ثلاثة مستويات للاجتماع بين اتباع أديان مختلفة، هي: الاحتكاك الذي يتم في مجالات الحياة اليوميَّة، والالتقاء في مناسبات أو مشاريع مشتركة، والتخاطب الذي يتوجَّه فيه كلُّ طرف صوب الآخر. وليس كل احتكاك أو لقاء أو تخاطب بين المؤمنين بأديان مختلفة حواراً بين الأديان، فقد يولِّد الاحتكاك اصطداماً، وقد يُسبِّب اللقاء نفوراً، والتخاطب قد يؤدي إلى مزيد من سوء التفاهم.. ما لم تتوفَّر فيها أركان الحوار الثلاثة السابقة الذكر، بالإضافة إلى عنصر أساسي يسبقها في الأهميَّة هو الإرادة الحرَّة. فالحوار فعل حر لا يمكن فرضه على أحد، يمكن فقط الدعوة إليه.

( Le dialogue ne s impose pas. Il se propose )

وفي كلِّ حال لا يقوم الحوار بين الأديان على هامش الإيمان، بل باسم الإيمان ذاته، أو بعبارة أخرى، لا يتطلَّب الحوار أن ندع إيماننا جانباً بشكل كلِّي أو جزئي، بل على العكس الارتكاز على معطيات هذا الإيمان ذاته ودوافعه الأصيلة، وإلا تزول عن الحوار صفته الدينيَّة ويتحوَّل إلى حوار إنساني وحسب!


4) يمكننا أن نميِّز أيضاً بين مستويات الحوار الأربعة كما اعتادت الوثائق الكنسيَّة الرسميَّة أن تفعل:

حوار الحياة، وهو متاح للجميع في واقع التعدُّدية الدينيَّة السائد اليوم، ويُبنى على أساس العيش المشترك في مجتمع ما وضمن الشروط الخاصة التي تحكم فرص التلاقي بين المؤمنين فيه.

حوار العمل الإنساني، والمقصود به الالتزام المشترك بأعمال تحقيق العدالة الاجتماعيَّة ومساندة المحرومين والدفاع عن حقوق الإنسان. ولهذا المستوى أهميَّة خاصة كونه يكشف عن الجانب الأخلاقي والإنساني الذي تسعى الأديان كافة إلى تعزيزه أو الدفاع عنه.

حوار الخبراء أو الحوار العقائدي، حيث يتلاقى المسؤولون الدينيون أو المختصون فيها للتبادل المنهجي الرصين حول تراثاتهم الدينيَّة. وأهميَّة هذه اللقاءات تتجاوز البيانات المشتركة التي غالباً ما تصدر عنها، لتشكِّل، ولو على المدى الطويل، جوَّ الثقة والاحترام المتبادلين الذي ينتشر بين أتباع الديانات.

حوار الخبرة الدينيَّة (الروحي أو الصوفي)، وهو يقتصر عادة على حلقات ضيقة من المتمرسين الذين تسمح لهم خبرتهم ومرتكزاتهم بمشاركة خبراتهم الدينيَّة في بحث مشترك عن المطلق.

هل هذه المستويات هي درجات متتالية، أم هي مجالات يمكن العمل فيها على التوازي وفي تزامن وتفاعل مع بعضها البعض؟ إنَّها في أغلب الأحيان مترافقة في الواقع ويمكن أن تبتادل التأثير في ما بينها، وتحتاج بدورها إلى تعميق متواصل لروح الحوار فيها لكي لا تتحوَّل إلى مناسبات مزيفة لتبادل المجاملات أو مقايضة المصالح..


هل هذا الحوار ممكن؟ وما الغاية المرجوَّة منه؟


1) في تاريخ العلاقات بين الأديان غالباً ما كانت مواقف المؤمنين من مؤمني الأديان الأخرى تتراوح بين التجاهل الكلي أو اللامبالاة التي لا تخلو من مشاعر الاحتقار أو الاستهزاء… وبين الدعوة أو التبشير ترغيباً أو ترهيباً لا يخلو أحياناً من استخدام للقوَّة. وكانت الوسيلة الفكريَّة المستخدمة هي الجدال دفاعاً أو هجوماً. ويمكننا القول بشكل تبسيطي أنَّ تطوُّر التفكير في شأن الأديان الأخرى قد انتقل من الموقف الإقصائي (تكفير) Exclusif إلى الموقف الاحتوائي (تبشير) Inclusif إلى الموقف العلائقي أو الحواري Relationel . وهذا ما جعل الكثيرين يبحثون عن إمكانات الحوار من خلال تجاهل الانتماء الديني (أو وضعه بين قوسين) لكي يصير اللقاء ممكناً. أو البحث عن نوع من أساس أو جوهر مشترك لكافة الأديان يتم التلاقي عليه.


2) الحوار بين الأديان لا يعفي من مسؤوليَّة إعلان البشارة أو الدعوة أو الرسالة، إلاَّ أنَّ تعزيز قيم الحوار وترسيخها قد أدخل تطويراً وتعميقاً كبيرين على مفهوم الرسالة، وساهم في تنقيتها من كثير من الشوائب التي التصقت بها مع الزمن، فصارت أكثر احتراماً للحريَّة والكرامة الإنسانيَّة، وأكثر وعياً للبعد الثقافي الملازم لكلِّ دين. يبقى من الضروري التأكيد على أنَّ الحوار ليس إستراتيجيَّة تبشيريَّة، إنَّه يستند إلى احترام عمل الروح في كلِّ إنسان وفي كلِّ التيارات الروحيَّة المنتشرة بين البشر، إنه شهادة متبادلة في البحث عن الحقيقة والعمل على استقبالها. ومسألة الحقيقة ليست من المسائل السهلة، فهناك على الدوام خطران يتربَّصان بمعتنقي الحقائق: خطر التعصُّب، أو الميل إلى جعل الحقيقة سلاحاً مصوباً باتجاه الآخرين الذين لا يشاركوننا فيها أو يعتقدون بسواها، وخطر اللاأدريَّة، أو الميل إلى تقليص الحقيقة إلى أمر شخصي محض غير قابل للتبادل، بحيث يؤدي إلى ذلك إلى إنكار وجودها أصلاً.


3) الحوار بين الأديان عمليَّة حسَّاسة ومعقَّدة. يعلِّمنا التاريخ عموماً، وكذلك الواقع الحالي، بأن الأديان كانت، وربما لا تزال في بعض الحالات أو الأماكن، عوامل سوء تفاهم بين البشر، ومصادر عدوانيَّة وعنف. فالذاكرة التاريخيَّة لكل ديانة مثخنة بالجراح، وهذا ما يجعل منها مرهفة الحساسيَّة تجاه الآخرين، لهذا يتطلَّب الحوار بين الأديان صبراً واحتراماً يتطلَّب نظرة إلى الآخر لا ترى فيه منافساً بل رفيقاً وإن اختلفت الطرق التي يسلكها كلُّ جانب.


4) ما هي غاية هذا الحوار؟ ينبغي القول بأن اللقاء والتبادل غاية في حد ذاتها، فعلى عكس التفاوض لا يمكن أن يفرض أحد أطراف الحوار شروطه المسبقة. بهذا المعنى لا يفيد الحوار بين الأديان من أجل تحقيق غاية لاحقة، إذ لا أحد من طرفيه يسعى إلى إقناع الآخر أو هدايته، بل يتجه الطرفان إلى اهتداء أكثر عمقاً إلى الله. هذا لا يعني أن الحوار لا يحمل غنى لإيمان كل جهة بفضل خبرة وشهادة الآخر، حيث يمكن أن نكتشف بشكل أكثر عمقاً بعض النواحي أو بعض الأبعاد الجديدة للسر الإلهي التي كنا أقل انتباهاً إليها شخصياً أو في تقليد الجماعة الدينية التي ننتمي إليها. في الوقت نفسه يساهم الحوار في تطهير الإيمان لأنَّ صدمة اللقاء غالباً ما تثير أسئلة جديَّة عند كل طرف وتدعوه إلى مراجعة بعض الادعاءات المجانية أو تحطيم بعض الأحكام المسبقة المتأصِّلة أو التخلُّص من مفاهيم ووجهات نظر ضيِّقة أكثر مما يجب.


شروط إمكانيَّة الحوار بين الأديان


يكون الحوار بين المؤمنين ممكناً عندما تتهيَّأ له الشروط الأربعة التالية:


1) على كلِّ طرف في الحوار أن يعترف بمساواة الآخرين له. لا يعني ذلك أنَّ الأديان كافَّة هي بشكل متساوي صحيحة وخاطئة، أو حسنة وسيئة، ولا يعني أنَّ المتحاورين متساوون في طيبتهم أو طباعهم أو شخصياتهم، ولا أنَّهم متعادلون في فهم واحد للحقيقة ذاتها، أو يعتنقون عقائد دينيَّة متماثلة، وكذلك لا يعني أنَّهم ينتسبون إلى جوهر واحد صالح وشامل لما تمثِّله الديانة في الخبرة والحياة الإنسانيَّ. إنَّما المعنى المقصود بالتساوي هو أنَّ المتخاطبين قادرون على المساهمة في حوار حقيقي والاستفادة منه كما ينبغي، وأنَّ الأديان الأخرى لا تقلُّ في أصالتها وعبقريَّتها عن الديانة التي أعتنقها وبالتالي ليست كما كان يُقال أحياناً "عبارة عن مجموعة من الخرافات أو الأكاذيب". بدون هذا الاستعداد لا يمكن أخذ الآخرين على محمل الجدِّ، إلى الحدِّ الذي يجعلنا نرغب بالفعل في التحاور معهم بشكل معمَّق.


2) يفترض الحوار من ثمَّ اهتماماً مشتركاً وتحلياً بطابع دينيٍّ صافٍ دون مساومة أو مقاصد مواربة، وهذا يقتضي أن يكون التبادل بين المؤمنين بديانات مختلفة، أفراداً أو جماعات، إيجابياً وبنَّاءً وساعياً إلى الفهم والاغتناء المتبادلين. لا بدَّ في هذا الإطار من معالجة الذاكرة التاريخيَّة الجماعيَّة وشفائها، وهذا يقتضي تصحيح نظرة كل طرف إلى الآخر، وتقويم الصور التي تقلِّل من قيمته. كما تقتضي القبول بأمانة بالجذور التاريخيَّة للخلافات والمقدرة على الاعتراف عند اللزوم بالأخطاء الماضية. آنذاك يمكن بالفعل تطوير الثقة المتبادلة وتحقيق التئام الجروح النازفة.


3) يقتضي الحوار من جانب ثالث لغة خطاب مشتركة، التي من دونها لا يمكن للمتخاطبين إلاَّ أن يكتفوا بكلام ذي طابع تقريبي وقابل للالتباس. لغة الخطاب المشتركة وحدها يمكن أن تيسِّر للطرفين سبُل التفاهم. فالحوار بين الأديان يفترض كما هي الحال في كلِّ حوار بأن يتمكَّن الطرفان من الاعتراف بالإنسانيَّة المشتركة التي تجمع بينهما وتجعل منهما أعضاء في جسد البشريَّة الواحد السابق على الانتماءات العرقيَّة أو الإثنيَّة أو الدينيَّة. فدربنا المشترك هو درب الإنسانيَّة الذي يُدعى للسير عليه كلُّ بشر، وعليه يمُنح كلُّ إنسان إمكانيَّة النجاة والسعادة. لكنَّ الاعتراف بالمشترك ينبغي أن يتلازم مع القبول بالمختلف والاعتراف به، ففي كثير من المناسبات باءت محاولات الحوار بالفشل لأن أطرافها لم يتوصَّلوا إلى قبول اختلاف الآخرين، إمَّا بتجاهل وجوده أصلاً، وإمَّا بإخفائه بمحاولات توفيقيَّة سريعة، أو بفرض أفكارهم باعتبارها المرجع الوحيد. لا يقتضي الحوار إذن عناصر مشتركة بين المتحاورين وحسب، بل يقتضي أيضاً الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات القائمة بين الديانات، بعيداً عن المسالمة الزائفة أو التسامح المقنَّع. فالانفتاح والثقة المتبادلة لا يرتكزان في واقع الأمر على كون الطرفين يدافعان عن آراء متشابهة أو على استبعاد الاختلافات، بل على العكس من ذلك يقوم على أساس العناصر المشتركة والعناصر المختلفة على السواء.


4) يفترض الحوار أخيراً أن يكون المتخاطبون أشخاصاً يتمتَّعون باستقلاليَّة الرأي، وقادرين على تكوين أحكامهم ومواقفهم الذاتيَّة انطلاقاً من خبراتهم الدينيَّة الشخصيَّة والفريدة حقاً، أي أن يكون لديهم بالفعل ما يقولونه، الواحد للآخر. يتطلَّب الحوار فكراً منفتحاً، واستعداداً للإصغاء والتعلُّم، ومحاولة مخلصة للتحرُّر من الأحكام المسبقة والآراء الجاهزة. كلُّ دين يعتبرُ ذاته مقياساً نهائياً وتزعجه مواجهة الديانات الأخرى التي عندها اعتبارات مماثلة، من هنا لا يمكن للحوار أن يقوم على دحض الآخر أو هدايته، إنَّما على التوضيح والفهم والتعلُّم من الآخرين.


خلاصة


يُساهم الحوار بين الأديان في توطيد السلام والتفاهم المتبادل وروح المغفرة والمصالحة، في عالم يتسم في كثير من الأحيان بالعنف، والخوف من الآخرين، وأنواع سوء الفهم وفقدان الثقة المتبادلين، وتصاعد مجافاة التسامح والإصغاء إلى الآخر باحترام. لا يتجاهل هذا الحوار ما بين تراثات الأديان الإيمانيَّة والاجتماعية من اختلافات، لا بل يسمح باكتشافها وتوضيح قيمتها، كما يسمح بمعرفة أفضل للذات وبتبادل للثروات الروحيَّة. إنَّه لا يؤدي بأيِّ طرف إلى الذوبان في الآخر، بل يجعله أكثر رسوخاً في معتقداته دون انغلاق أو تعصُّب. فهذا الحوار لا يبغي في الحقيقة لا الاندماج بين الهوِّيات الروحيَّة ولا تكوين أي نوع من أنواع التوفيق الديني، ولا تسهيل أيَّة عمليَّة اقتناص. إنَّه فعل انفتاح واحترام واعتراف بإمكانيات العيش المشترك في إطار عالم تعدُّدي.


إنَّ نظرة الآخر إلى تقليدنا الديني تُساعدنا في أغلب الأحيان على تعميق طريقة إيماننا الشخصيَّة، لأنَّ الاعتراف بالاختلافات واحترامها لا تؤدي بأحد إلى الشعور بأنه مدعو إلى التنصُّل من معتقداته أو تجاهل خصوصيَّة تقليده الديني العريق.
يمكن لواقع الحوار بين الأديان أن يصير أكثر امتداداً بين المؤمنين بقدر ما يتمُّ بشكل جدِّي الانتقال إلى نمط تربية دينيَّة على الحوار، غايتها تنشئة المؤمنين في جوِّ انفتاح وتبادل واحترام للتعدُّد.


كتب الكردينال فرنسيس أرينـزي رئيس المجلس الباباوي للحوار بين الأديان في رسالته التقليديَّة إلى المسلمين بمناسبة عيد الفطر عام 2001:
يعي جميع العاملين في ميدان تربية الشباب ضرورة التربية على الحوار. وعلى التربية، بوصفها مرافقة على دروب الحياة، أن تأخذ بعين الاعتبار أهميَّة إعداد الشباب للعيش في مجتمع تعدُّدي عرقياً وثقافياً ودينياً. إنَّ تربية كهذه تتطلَّب منَّا أولاً أن نوسِّع مدى رؤيتنا نحو آفاق أكثر رحابة، ليصبح بإمكاننا النظر إلى ما هو أبعد من حدود بلدنا وعرقنا وتقاليدنا الثقافيَّة، لنرى الإنسانيَّة أسرة واحدة ذات تطلُّعات مشتركة رغم اختلافاتها. إنَّها تربية على القيم الأساسيَّة للكرامة البشريَّة وللسلام وللحرية وللتعاضد، وهي تولِّد الرغبة في معرفة الآخرين، وفي التفاعل معهم، وفي إدراك أعمق ما يختلج فيهم ويحرِّكهم من المشاعر. فالتربية على الحوار إذن تعني بعث الأمل بإمكانيَّة تسوية النـزاعات عن طريق الالتزامين الشخصي والجماعي. ليست التربية على الحوار أمراً يعني الأطفال والشبَّان فحسب، بل أمر يعني البالغين أيضاً، فالحوار الحقيقي هو موضوع تعلُّم مستمر.


إنَّ الأساس الذي يجب أن تستند إليه التربية على الحوار هو أن تقوم كل جماعة دينيَّة بفحص وتحليل متجدِّدين لنصوصها التقليديَّة وتاريخها المقدَّس، بحيث يتم تحديد العناصر التي تمَّ استخدامها في الماضي (أو في الحاضر) لتبرير الصراعات وإضفاء الشرعيَّة على ممارسة العنف، والبحث عن الإمكانات المتعدِّدة لإعادة تفسيرها بما يتَّفق مع مجمل العناصر الأخرى من تقاليد ووصايا وممارسات، بحيث تتجَّه صوب الدعوة إلى التسامح والاحترام المتبادل. ويقتضي ذلك تشجيع الدراسات التي تهتم بتحديد صورة الآخر في النصوص الدينيَّة التقليديَّة وآليات تكوُّنها، لكي يتمَّ على أساسها تطوير توجُّهات جديدة في داخل الأنظمة التربويَّة الخاصَّة بكلِّ جماعة دينيَّة، لكي تتَّصف طريقة تقديمها للديانات الأخرى بأكبر قدر من الموضوعيَّة والاحترام. كما لا بدَّ من العمل على رصد وتوثيق النماذج الإيجابيَّة للحوار والتعاون بين الجماعات الدينيَّة في الماضي والحاضر في شتى أنحاء العالم، والعمل على تحليلها وتقييمها والتعريف بها وبكل المبادرات الناجحة التي تُساهم بشكل أو بآخر في تعزيز قيم الحوار في أوساط المؤمنين العاديين.


خطاب البابا يوحنا بولس الثاني في الجامع الأموي بدمشق


أيّها الأصدقاء المسلمون الأعزاء،السلام عليكم :

من أعماق قلبي أسبح بحمد الله القدير على نعمة هذا اللقاء. إنني أشكر جدا استقبالكم هذا الحار الذي يأتي في خط تقاليد الضيافة العزيزة على قلب شعب هذه المنطقة. أشكر خاصة وزير الأوقاف وسماحة مفتي الجمهوريَّة على الترحيب الكريم الذي عبَّر فيه كلٌّ منهما عن التوق الكبير إلى السلام الذي يملأ قلب ذوي الإرادة الصالحة. لقد كان لنا عدة لقاءات مهمة، مع قادة مسلمين في القاهرة وفي القدس، تركت أثرها في حجي اليوبيلي. وإنني الآن عميق التأثر كوني ضيفكم هنا في الجامع الأموي الكبير الغني جداً بتاريخه الديني. أرضكم عزيزة على قلب المسيحيين: فهنا عرفت ديانتنا مراحل حيوية من نشأتها ومن نموها العقائدي. وهنا عاشت جماعات مسيحية عيش سَلام وحسن جوار مع المسلمين على مدى القرون.

نلتقي بالقرب مما يعتبره المسيحيون والمسلمون ضريح يوحنا المعمدان، المعروف بـ يحيى في التقليد الإسلامي. إن ابن زكريا هذا وجهٌ كبير الأهمية في تاريخ المسيحية، لأنَّه كان السابق الذي أعد طريق المسيح. إنَّ حياته المكرسَّة بالكامل للرب تكلَّلت بالاستشهاد. فعسى أن تنوِّر شهادتُه جميع الذين يكرِّمون ذكراه في هذا المكان، فيفهموا – ونحن معهم - أنَّ أكبر عمل نأتيه في الحياة هو البحث عن حقيقة الله وعدالته.
اجتماعنا في مكان الصلاة الشهير هذا، يذكِّرِنا أنَّ الإنسان كائن روحيٌّ مدعوٌّ إلى الاعتراف بأولويَّة الله المطلقة وإلى احترامها. يُجمع المسيحيون والمسلمون على أنَّ اللقاء مع الله في الصلاة هو غذاء ضروري للنفس. بدونه يذبل القلب ولا تقوى الإرادة على النضال في سبيل الخير، بل ترضخ للشر.

المسلمون والمسيحيّون على السواء يكِّرمون ويحترمون أماكن الصلاة، كواحات يلتقون فيها الله الكليَّ الرحمة في رحلتهم نحو الحياة الأبديَّة، كما يلتقون فيها أيضا أخوتهم وأخواتهم في الدين. في الأعراس أو المآتم أو الاحتفالات الأخرى، يقف المسلمون والمسيحيون موقف احترام صامت من صلاة بعضهم البعض، شاهدين بذلك لما يوحِّدهم، دون إخفاء ما يميِّزهم أو التنكُّر له. في الجوامع وفي الكنائس، يصوغ المسلمون والمسيحيون هويَّتهم الدينيّة. وفيها يتلقَّى الشباب قسماً كبيراً من تربيتهم الدينيَّة. فما مدلول الهويَّة الذي يُلقَّن للشبيبة المسيحيَّة والإسلاميَّة في الكنائس وفي الجوامع؟ رجائي الحارّ أن يقدم المسؤولون الروحيون ومعلمو الدين، المسلمون والمسيحيون، ديانتينا العظيمتين كديانتين ملتزمتين بحوار يسوده الاحترام لا ديانتين متصارعتين. إنه من الأساسي أن يُلقَّن الشباب سبل الاحترام والتفاهم، لئلا يسيئوا استعمال الدين نفسه لإثارة الحقد والعنف وتبريرهما. العنف يهدم صورة الخالق في خلائقه، فحذار من اعتباره ثمرة قناعة دينية.

أرجو حقيقةً أن يكون لقاؤنا اليوم، في الجامع الأموي، علامة تصميمنا على المضي في الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والإسلام. لقد شهد الحوار دفعاً جديداً في العشرات السنين الأخيرة؛ فنحن اليوم نحمد الربَّ على الطريق التي اجتزناها سويَّة حتى الآن. إنَّ المجلس الحبريِّ للحوار بين الأديان يمثِّل الكنيسة الكاثوليكيّة في هذا الجهد، على أعلى المستويات. منذ أكثر من ثلاثين سنة، ما انفكَّ المجلس الحبريُّ المذكور يبعث برسالة سنوية إلى جميع المسلمين في عيد الفطر في ختام شهر رمضان. وإني لسعيد في أنَّ هذه المبادرة لاقت الاستحسان عند كثير من المسلمين الذين اعتبروها علامة لصداقة تنمو بيننا. في السنوات الأخيرة أنشأ المجلس الحبري المذكور لجنة صلة مع المؤسسات الإسلامية العالمية، ومع الأزهر في مصر، الذي كان لي السرور في زيارته العام الفائت. إنه لمن المهم أن يتابع المسلمون والمسيحيون البحث معاً في القضايا الفلسفية واللاهوتية، حتى يصلوا إلى معرفة المعتقدات الدينية لدى بعضهم البعض بشكل أكثر موضوعية وعمقاً. إنَّ الفهم المتبادل الأفضل سوف يؤدي بالطبع، على المستوى العملي، إلى أسلوب جديد لإظهار أن ديانتينا ليستا متعارضتين،كما حدث مراراً كثيرة في الماضي، بل متفقتين من أجل خير العائلة الإنسانية.
الحوار بين الأديان يكون أكثر فعالية عندما ينبع من خبرة "العيش معاً"، يوماً بعد يوم، في نفس الجماعة ونفس الحضارة. لقد عاش المسيحيون والمسلمون في سوريا جنباً إلى جنب، خلال قرون، واستمر بينهم، من دون توقف، حوار حياتي غني. كل فرد وكل عائلة تختبر أوقات تناغم كما تمر بأوقات ينقطع فيها الحوار. الخبرات الإيجابية يجب أن تُشدد جماعاتنا في رجاء السلام؛ ولا يُسمَحَن للخبرات السلبية أن تخيّب هذا الرجاء. علينا أن نطلب الغفران من القادر على كل شي عن كل مرة أهان فيها المسلمون والمسيحيون بعضهم بعضاً، كما علينا أن يغفر بعضنا لبعض. يعلِّمنا يسوع أنّه يجب أن نغفر إهانات بعضنا البعض إذا أردنا أن يغفر الله خطايانا (متى 6/14).
كوننا أعضاء في العائلة الإنسانية الواحدة ومؤمنين، علينا واجبات نحو الخير العام، ونحو العدالة ونحو التضامن. الحوار بين الأديان يؤدي لا محالة إلى أنواع شتى من العمل المشترك، خاصة في القيام بواجب الانتباه إلى الفقير والضعيف. هذه هي علامة صدق عبادتنا لله.

في مسيرتنا نحو السماء، نشعر نحن المسيحيّين برفقة مريم، أمِّ يسوع؛ التي يمدحها الإسلام أيضا ويحيِّيها كمصطفاة "على نساء العالمين" (القرآن 3/42). إن عذراء الناصرة، سيّدة صيدنايا، علّمتنا أنّ الله يحمي الودعاء و"يبدّد المتكبّرين بأفكار قلوبهم" (لوقا 1/51). عسى أن يعود قلب المسيحيين والمسلمين إلى بعضهم البعض بمشاعرَ أخُوَّة وصداقة، فيباركنا القادر على كلّ شيء بالسلام الذي لا يمُنح إلاَّ من السماء. المجد والتسبيح لله الواحد الرحيم، إلى أبد الآبدين. آمين.

حضور الحوار

مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحي في الشرق: شهادة ورسالة، الرسالة الراعوية الثانية، 1992.


شروط الحوار

47. والحوار موقفٌ روحيٌّ قبل كلِّ شيء يقف فيه المرءُ أمام ربِّه محاوراً، فتسمو نفسه، ويطهر قلبه ووجدانه، فينعكس ذلك على حواره مع نفسه وعلى حواره مع الآخرين، أفراداً وجماعات. إنَّ الحوار روحانيَّة تنقلنا من الاستبعاد إلى الاستيعاب، ومن الرفض إلى القبول، ومن التصنيف إلى التفهم، ومن التشويه إلى الاحترام، ومن الإدانة إلى الرحمة، ومن العداوة إلى الألفة، ومن التنافس إلى التكامل، ومن التنافر إلى التلاقي، ومن الخصومة إلى الأخوَّة. ويعني الحوار مع الآخر معرفته والتعرُّف عليه والاعتراف به، معرفته كما يعرف هو نفسه، والتعرُّف عليه بكامل شخصيته، والاعتراف به كمكمِّل لنا أكثر منه خصماً أو منافساً أو عدواً، وذلك بعيداً عن الأفكار المسبقة من أيِّ نوع كانت، والمصالح والأنانيات. في مثل هذه الأجواء يتحوَّل الحوار إلى غنى متبادل من غير أن يتنازل أي من الطرفين عن ذاته أو عن تراثه أو عن شخصيته أو عن كيانه. ولا ريب في أنَّ التعصُّب، بكافَّة أشكاله - باسم الله أو الدين أو القومية أو الطائفية أو الأرض أو العرق أو اللغة أو باسم الانتماء الحضاري أو الثقافي أو الاجتماعي - هو عدوُّ الحوار الأول. إنَّ الفرق شاسعٌ بين المؤمن والمتعصِّب: فالمؤمن يستخدمه الله، أمَّا المتعصِّب فإنه يستخدم الله، والمؤمن يعبد الله، أمَّا المتعصِّب فيعبد نفسه متوهِّماً أنه يعبد الله، والمؤمن يسمع كلام الله، أمَّا المتعصِّب فيُشوِّهه؛ والمؤمن يرتفع إلى مستوى الله ومحبته، أمَّا المتعصِّب فيُنـزل الله إلى مستواه؛ والمؤمن يتَّقي الله، أمَّا المتعصِّب فيُهدِّد الآخرين باستمرار؛ والمؤمن يكرم الله، أما المتعصِّب فيحطَّ من قدره وسموِّه، والمؤمن يعمل مشيئة الله، أمَّا المتعصِّب فيضع مشيئته هو مكان مشيئة الله؛ والمؤمن نعمة للبشرية، أمَّا المتعصِّب فنقمة عليها. إنَّ التعصُّب شكل من أشكال إنكار الله والإنسان معاً. في المتعصِّب تتحوَّل طاقة الإيمان والمحبة إلى طاقات للكراهية والاعتداء، ظناً منه أنه يؤدِّي لله عبادة إذا ما اعتدى على من يختلف عنه ديناً أو عرقاً أو لغة أو لوناً أو تراثاً. أمَّا في المؤمن فإنها تتحوَّل إلى طاقات تلاق وتعاون وبناء.


حوار مع أخوتنا المسلمين

48. إنَّ حوارنا هو حوارٌ مع أخوتنا المسلمين قبل كلِّ شيء. إنَّ العيش المشترك بيننا على مدى قرون طويلة يشكِّل خبرة أساسيَّة لا عودة فيها، وجزءاً من مشيئة الله علينا وعليهم. وفي الوقت الذي فيه تبحث المسيحية والإسلام معاً في عالمنا عن صيغة للتواصل والحوار والتلاقي يجدر أن تُستَجوب خبرة كنائسنا في هذا المضمار، علماً بأن هذه الكنائس تودُّ أن تكون جسراً من الحوار بين الشرق والغرب، بين المسيحية والإسلام، لما لنا من قرابة إيمانية مع الغرب المسيحي وما لنا من قرابة حضارية مع الشرق المسلم. وفي رسالتنا الأولى وضَّحنا هذه القرابة الحضاريَّة، وما تنطوي عليه من التزام متبادل: «إنَّ عيشنا المشترك الذي يمتدُّ على قرون طويلة يشكِّل، بالرغم من كلِّ الصعوبات، الأرضيَّة الصلبة التي نبني عليها عملنا المشترك حاضراً ومستقبلاً، في سبيل مجتمع متساوٍ ومُتكافئ لا يشعر فيه أحد، أياً كان، أنه غريب أو منبوذ. إننا ننهل من تراث حضاري واحد نتقاسمه، وقد أسهم كلٌّ منَّا في صياغته انطلاقاً من عبقريَّته الخاصَّة. إن قرابتنا الحضارية هي إرثنا التاريخي الذي نصرُّ على المحافظة عليه وتطويره وتجذيره وتفعيله كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخوي. إنَّ المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين. كما أنَّ المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق فنحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ. ولذا يتحتَّم علينا أن نبحث، بشكل مستمرٍّ، عن صيغة، لا للتعايش فحسب، بل للتواصل الخلاَّق والمثمر الذي يضمن الاستقرار والأمان لكلِّ مؤمن بالله في أوطاننا، بعيداً عن آلية الحقد والتعصُّب والفئويَّة ورفض الآخر. وإنَّنا على قناعة بأنَّ قيمنا الروحيَّة والدينيَّة الأصليَّة خليقة بأن تساعدنا على تخطِّي المشاكل التي قد تطرأ على مسيرة عيشنا المشترك. وهذا ما يفرض علينا أن ينظر بعضنا إلى بعض بروح الانفتاح والتعرُّف المتبادل الحقيقي، لأنَّ الإنسان عدوُّ ما يجهل. إنَّ عالم اليوم تمزِّقه آفات الفرقة والتعصُّب والتمييز على اختلاف أنواعها. وإننا نطمح إلى إرساء قواعد عيش تكون نموذجاً لعالمنا، بدل أن نشوِّه قصد الله فينا فنكون صورة عكسيَّة لما يصبو إليه إنسان اليوم من السلام والوئام والتعاون على أساس المواطنة الحقيقية والصادقة. لقد أرادنا الله، جلَّت حكمته، معاً في هذه البقعة من العالم. وإننا نقبل هذه الإرادة برحابة صدر، ونرجو أن تعمل هذه الإرادة على توسيع قلوبنا بحيث تتَّسع للجميع مهما كانت انتماءاتهم المختلفة» (رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الأولى، آب 1991). ومن المعروف أن الحوار الإسلامي المسيحي تجسَّد في بلادنا على مستويات كثيرة في التاريخ لعل أهمها هذا الحوار اليومي البعيد عن الشكليات الذي يجري في خضمِّ الحياة اليومية، حيث عملت حكمة الفريقين على تطوير عيش مشترك يمتاز بغنى التواصل والتعاون. كما تجلَّى أيضاً في حوارات أكاديمية لا يزال نتاجها الأدبي قائماً حتى اليوم. ومع أنَّ مِثل هذه الحوارات اتَّسمت في بعض الأحيان بالجدل العقيم، إلاَّ أننا نلمس أنَّ الكثير منها جرى من منطلق الرغبة في المعرفة في جوِّ من الألفة والصراحة والانفتاح والموضوعية.


مسؤولية متبادلة

49. في زمن المخاض الحالي الذي يجتاح عالمنا العربي يبقى أن إحدى المشاكل الكبرى التي يواجهها هي علاقته مع مختلف الفئات الوطنية على اختلاف معتقداتها. إنَّ المسيحيين والمسلمين تشاركوا في «العيش والملح» قروناً طويلة. وهذا ما يُلقي على الطرفين مسؤولية متبادلة. فالإسلام يتحمَّل مسؤولية كبرى في هذا المجال إذ إنه مدعوٌّ إلى تطمين المؤمنين المسيحيين الذين يعيشون معه في الوطن الواحد. إنَّ المسلم في الشرق لا يستطيع أن يُطوِّر أيَّ مشروع لنظام اجتماعي وسياسي من غير أن يأخذ بالحسبان الجماعة المسيحية بشكل يُعطيها الثقة، لا بأنَّ حقوقها الدينية محفوظة فحسب، بل أيضاً بأنها جزء لا ينفصل عن حياة المجتمع، وكاملة العضوية في الجماعة الوطنية، بما فيها من حقوق وواجبات. والمسيحيون، من جانبهم، يتحمَّلون مسؤولية مماثلة تدعوهم إلى التخلُّص من العقد الاجتماعية والنفسية، التي خلَّفها لهم التاريخ، فيجدوا في إيمانهم ما يحرِّرهم من كلِّ ما يحول دون قبولهم لذاتهم، ودون تلاقيهم مع الآخر، فيتحوَّل حضورهم إلى التزام إيجابي وصادق وحازم في حياة مجتمعاتهم. بهذا يساعد المسيحيون مجتمعهم على أن يستوعبهم ويلقي إليهم نظرة إيجابية. إنَّ المسيحيين والمسلمين لا يحدُّون من حريَّة بعضهم البعض، بل يجدون أنفسهم مدعوِّين معاً إلى مستوى أعمق من الحريَّة تتيح لهم لقاء الآخر في الصفاء الروحي بعيداً عن التصفيات المتسرِّعة، كما تمكِّنهم من مواصلة هذه الخبرة التاريخية، الخصبة والغنيَّة، مع ما يعتريها من صعوبات. إننا مدعوون إلى تغيير تلك الآليَّة السلبيَّة التي يمكن أن تتحكَّم بعلاقاتنا المتبادلة، وإبطال مفعولها، وتحويلها إلى آليَّة تقبل العيش في الاختلاف. لا يكفي أن يكون بعضنا بجانب البعض، بل بعضنا مع البعض، في سبيل خير الإنسان في بلداننا. إنَّ خبرتنا تمتاز بديناميَّة مستمرَّة تستوعب المستجدَّات وتتطلَّع إلى المستقبل. وحبَّذا لو تشكَّلت منابر أو مؤسَّسات حواريَّة فيها نلتقي بشكل دوريٍّ كي نبلور ونطوِّر معاً نمط تواصل وتبادل وتعاون يعود بالخير على الجميع.


كيف نبني المستقبل؟

مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، معاً أمَامَ الله في سبيل الإنسان والمجتمع: " العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي "، الرسالة الراعوية الثالثة، 1994.


واقع العيش المشترك

21. إنَّ أوَّل واقع يجب الانطلاق منه لتدعيم العلاقات بين المسيحيين والمسلمين وتطويرها هو واقع العيش المشترك القائم اليوم في جميع بلدان الشرق الأوسط، بالرغم من الخلل الذي لحق بهذه العلاقات لأسباب متعددة داخلية وخارجية، منها الحروب الأهلية التي اتخذت طابعاً طائفياً والأغراض السياسية المحلية والعالمية، ونزعة التعصُّب الديني لدى بعض الفئات وما تؤدي إليه من تصريحات أو أعمال عنف، وما تقوم به بعض وسائل الإعلام من وصف غير موضوعي للعلاقات القائمة بين المسلمين والمسيحيين في المنطقة. ناهيك عن المشاكل الاقتصادية والمعيشية الجمّة التي تواجهها مجتمعاتنا والتي يجد فيها التطرُّف بكلِّ أنواعه غذاء ومرتعاً.
بالرغم من ذلك كله، فإنَّ خبرة العيش المشترك التي عشناها في الماضي لا تزال صامدة أمام كل العقبات والعراقيل. فهناك إيجابيات كثيرة وقواعد كثيرة سليمة، ومودَّة حقيقية تربط بين المسيحيين والمسلمين على جميع الأصعدة المدنية والدينية، وفي مختلف شرائح المجتمع. ويجمع بينهم، بالرغم من الاختلافات الأساسية بين الديانتين، الإيمان بالله الواحد، كما يجمع بينهم الانتماء إلى وطن واحد والارتباط بمصير واحد. وهذا كله يشكِّل منطلقاً متيناً للجهد الرامي إلى ترسيخ العلاقات بين الاخوة وتوطيدها في الحاضر والمستقبل.
مهما قيل ومهما ظهرت السلبيات التي لا بد منها، لا أحد يستطيع أن ينكر الواقع البديهي وهو أنَّ المسلمين والمسيحيين في بلداننا العربية ينتمون إلى وطن واحد ولهم فيه مصير واحد وأحاسيسهم وردود فعلهم واحدة أمام التحديات العالمية والمحلية. وفي ما يلي نلقي الضوء على بعض النقاط التي من شأنها أن تُنمِيَ العيش المشترك وان تفتح أمامنا آفاقاً جديدة.


جرأة روحيَّة على مواجهة الحقيقة

22. إنَّ الحوار الذي يجب أن تقوم عليه كل علاقة بشرية يقتضي، قبل كلِّ شيء، جرأة روحيَّة على مواجهة الحقيقة. عندما نتناول موضوع العلاقات المسيحية الإسلامية، فإنه من السهل أن نلجأ إلى المجاملات وإعلان المبادئ النظرية، متغاضين عن مواجهة حقيقة الأمور. ويذهب بعضهم إلى حدِّ القول إنه من غير الضروري إثارة مثل هذه القضايا لشدَّة حساسيَّتها، وخوفاً من تفجير سلبيات لا يقوى أحد على ضبطها بعد انفلاتها.
إننا نعتقد أنَّ مثل هذه الهواجس غير صحِّية في مجتمع يريد أن يطوِّر مشروعاً حضارياً حقيقياً. فالمجتمعات الأصيلة هي تلك التي تمتلك القدرة على مواجهة الواقع في حقيقته، بكل أوجهه ومظاهره، بصدق وإيجابية وموضوعية، بغية إصلاح ما يتعثَّر، وتلافي السلبيات التي قد تطرأ، لما هو في مصلحة المجتمع ككل. لا ينفع أحداً في هذا المجال جهل السلبيات أو تجاهلها أو التهرُّب منها أو التكتُّم على ما يجري على أرض الواقع، والاستعاضة عنها بالمجاملات التي قد نغطِّي بها عجزنا أو جبننا في مواجهة الحقيقة، والتي قد تخفي وراءها، في بعض الأحيان، ميولاً عدوانية لا يجرؤ المرء على مصارحة النفس بها. وتتطلَّب هذه المصارحة التمييز بين المبادئ السامية التي نجدها في كلٍّ من المسيحية والإسلام، وبين الممارسات العملية على أرض الواقع، لدى المنتمين إلى الديانتين، والتي قد تخالف المبادئ السامية التي تناديان بها.
من جهة أخرى نؤكِّد أنَّ هذه المصارحة يجب أن تتِمَّ بنيَّة حسنة وبالمحبَّة والصدق وفي سبيل المصلحة العامة، بعيداً عن التجريح والجدل العقيم والتهجُّمات والتشكيك في الآخر وتصنيفه تصنيفاً ذاتيَّاً ومجحفاً. وإلاَّ فإنّنا نوسِّع الهوَّة، بدل سدِّها وتسويتها. ولا ننسَ أيضاً أن هنالك من يطيب لهم أن يستغلُّوا هذه القضايا بسوء نية، مما يقتضي أن نظلَّ جميعاً على حذر، كي نتقدَّم على أرض صلبة، واعين وعياً كاملاً جميع أبعاد الوضع بالرغم من حساسياته الكثيرة. إننا ندعو أبناءنا جميعاً إلى الحذر من هؤلاء الذين يجدون من مصلحتهم زجَّ مجتمعنا في متاهات، يكونون هم فيها دائماً المستفيدين، ونحن جميعاً الخاسرين. إنَّ الحقَّ في المحبة هو النهج السليم الذي نهتدي به. فالحقُّ يحرر، والمحبة تجمع بين القلوب: "تعرفون الحقَّ والحق يحرركم" (يوحنا 32:8).


النـزعة الطائفية

23. لعلنا نخدع أنفسنا إذا تجاهلنا واقع النـزعة الطائفية لدى كلٍّ منَّا، لدى المسيحيين والمسلمين على السواء، بوعي أو بغير وعي، بشكلها الظاهر أو المبطَّن. وقد تظهر هذه النـزعة على السطح لأتفه الأسباب وأوهاها. فإذا ما اختلف اثنان مثلا في أمر ما وكان الواحد منهما مسيحياً والآخر مسلماً تَحوَّل الاختلاف الفردي، إثر كلمة طائشة أو تصرُّف أهوج، إلى نزاع طائفي ولربما إلى فتنة عامة. ومن المؤسف أنَّ مثل هذه الحوادث تثير في جماعات بأكملها المشاعر السلبية، وتشعل العصبيَّة الدينية العمياء التي تُعطِّل العقل وتنفي كل القيم الروحية والدينية.
أمَّا الذين اتخذوا من التعصُّب الديني نهجاً لهم ـ وقد نجدهم في أي مجتمع ـ فإننا نرجو أن يجدوا في وعي المجتمع ككل حصناً منيعاً تتكسَّر على أسواره جميع أشكال التطرُّف والتعصُّب. يجب أن تتعاون جميع المؤسسات الاجتماعية والدينية لاستئصال هذه الظاهرة عن طريق تخطيط تربوي شامل وعمل دؤوب يتَّسم بروح المودَّة والمشورة الحسنة.


التحرُّر من الجهل والأفكار المسبقة

24. قيل إنَّ الإنسانَ عدوُّ ما يجهل. وهذا ما ينطبق إلى حد كبير على المسلمين والمسيحيين في واقع عيشهما المشترك. كثيراً ما يجهل كلٌّ من الطرفين مَن هو الآخر في حقيقة ذاته ومشاعره وطموحاته. ومن ثمَّ يرسم كلُّ واحد لنفسه صورة عن الآخر انطلاقاً من مخاوفه وشكوكه. ومن باب الدفاع عن النفس فيرسمها صورة عدوانية، بدلاً من أن يرى في الآخر شريكاً له في البناء.
ولهذا نقول للمسيحي: تحرَّر من الأوهام والجهل، واسعَ جاهداً لكي تفهم فهماً مباشراً ما هو الإسلام، ومَن هو المسلم. ولا تتوقَّف عند أقاويل مبتذلة أو معلومات سطحيَّة تشوُّه الحقيقة. وللمسلم أيضاً نقول القول نفسه: تحرَّر من الأوهام والأفكار المسبقة، وحاول أن تعرف ما هي المسيحيَّة ومَن هو المسيحي معرفة مباشرة، ولا تكتفِ بالأفكار السطحية والمشوَّهة، وحاول أن تنظر إلى الواقع المعاش اليوم لتطَّلع على كلِّ ما يدور فيه لتتدارك الصدامات، وتبثّ الطمأنينة في المجتمع كلِّه. وللمسيحي والمسلم نقول: ليس أحدكما عدوَّاً للآخر ولا مُهدِّداً لكيانه أو مُعوِّقاً لنموِّه. بل على العكس من ذلك إنَّه أخٌ وصديقٌ وجارٌ وشريكٌ يغتني بغناه وينمو بنموِّه.
وهذا كلُّه يتمُّ بالحوار المستمرِّ والتلاقي الشخصي المباشر والأخوي، الذي يتيح للطرفين أن يكتشف الواحد الآخر، بعيداً عن القوالب الجاهزة والأفكار المسبقة. إنَّ حضارتنا العربيَّة هي حضارة الوجه، والوجه لا نكتشفه إلا بالتلاقي الودِّي والتحاور الحقيقي والتخاطب المباشر. عندئذ تسقط الحواجز النفسية والاجتماعية، التي تحول دون معرفة الآخر والاعتراف به. يجب أن يفهم كلُّ واحد الآخر كما هو وكما يفهم ذاته وكما يُحِبُّ أن يُفهَم.


قبول التعددية والتنوُّع

25. من شروط العيش المشترك إذن معرفة الآخر والاعتراف به وقبوله كما هو، ولو كان مختلفاً عنا. إنَّ عدداً من المشاكل تنجم عن رفضنا لمن هو مختلف عنَّا، لأنَّنا ننظر إليه وكأنَّه خطر علينا أو تهديد لنا أو حتى نفيٌ لوجودنا، وهذا ما يجعل التنوُّع والتعدُّدية في المعتقد وفي نهج الحياة مصدر خلاف وعداوة في كثير من الأحيان، بدلاً من أن يكون مصدر غنى متبادل للأفراد والمجتمعات.
وعليه فالمسيحي لا يمكن أن ينتظر من المسلم ألاَّ يكون مُسلماً، ولا المسلم من المسيحي ألاَّ يكون مسيحيَّاً، بل على المسيحي أن يحترم أخاه المسلم في إسلامه، وعلى المسلم أن يحترم أخاه المسيحي في مسيحيَّته. ومتى قبِلنا الآخر بهذا الشكل، فالسبيل سالك أمام التفاهم المتبادل والمحبة، والمحبة بدورها تفتح الأبواب أمام التعاون والمشاركة. وبهذين الاعتراف والقبول، بما فيهما من محبة وتعاون، لا يُضحِّي أيُّ جانب بذاته وبما يميِّزه، بل يفترض في صاحبه عمقاً في الإيمان وثقة بالنفس تفسح المجال للتعامل مع الآخر، بعيداً عن عقدة النقص أو الاعتلاء. فعلى المؤمن أن يكون قويَّ الإيمان، عارفاً نفسه وهُوِّيته، بحيث لا يخاف التعرُّف إلى أخيه المختلف عنه، ولا يمتنع عن الاغتناء بكل ما لديه من قيم وثراء.
يتَّسم مجتمعنا العربي بالتنوُّع والتعدُّدية الواسعة على مستويات متعدِّدة، ومنها التعدُّدية الدينية. وهو يتَّسع لجميع أبنائه. والتعدُّدية لا تتناقض مع وحدة المجتمع وتآلفه وانسجامه، فالتنوُّع ثراءٌ للوطن الواحد الذي تُغنيه كلُّ الفئات بأصالة قيَمها وعطائها وإبداعها. وعليه فمن الضروري أن يُعطَى هذا التنوُّع فرصةَ التعبير عن ذاته وتطوير خواصِّه من غير حرج في إطار خير الوطن العام. إنَّ أيَّ مشروع وطني لا يأخذ في الحسبان واقع التعدُّدية، أو يعجز عن التعامل معها تعاملاً إيجابياً، يحكم على نفسه بالفشل.


الدين والعنف

37. مما يؤسَف له أنَّ البشرية بأسرها لجأت إلى العنف في جميع مراحل تاريخها، لحلِّ النِـزاعات بين البشر. ومن المؤسِف أيضاً أنَّ الحضارات والشعوب كلَّها كثيراً ما سخَّرت الديانات وجعلت منها عاملاً للحروب، أو لجأت إلى العنف للدفاع عن الدين أو لإقرار مبادئه. والأسوأ من ذلك أنَّ أبناء الدين الواحد يلجأون إلى العنف أحياناً فيما بينهم لأسباب دينية أو لغيرها من الأسباب. وما زالت هذه العقلية قائمة إلى اليوم بشكل من الأشكال. ومع ذلك، فإنّنا نقول إنَّ العنف ليس من الدين في شيء، بالرغم من هذه الجذور البعيدة في التاريخ من حيث استخدامُ العنف ومن حيث ربطُ الدين به. بل الدين إيمان بالله وبما يوحي به الله من حقٍّ وعدل ومحبَّة ورحمة تُقرِّب الناس بعضهم من بعض. فهو عامل تقريب بينهم. وليس الدين وليس الله بحاجة إلى أن يقتتل الناس في ما بينهم فيغذُّوا النفس بالكراهية المتبادلة.
قال السيد المسيح في إنجيله المقدَّس: "طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض" (متى 4:5). وجاء في سفر الأمثال: "إنَّ عنف الأشرار يجرفهم" (أمثال 7:21). وقال يوحنا الرسول في رسالته الأولى: "نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنَّا نُحبُّ إخوتنا، من لا يُحبُّ بقي رهن الموت. وكلُّ من أبغض أخاه فهو قاتل" (1يوحنا 3 : 15).
..إننا نواجه اليوم في مناطق عدَّة من العالم، وفي بعض مجتمعاتنا العربية، مظاهر العنف الطائفي والديني. وهذا ما نتألَّم له ومنه. إنّنا لا نستطيع أن نبقى متفرِّجين إزاء ظاهرة العنف باسم الدين، أيّاً كانت ضحاياه، سواء كانت من بني قومنا أم من غيرهم، من بني ديننا أم من غيرهم. ومع رفضنا لجميع مظاهر العنف المعنوي والجسدي، وخاصة الديني والطائفي، فإننا لا نستطيع أن ننسى الأسباب التي قد تولِّده وهي المظالم السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفساد والفقر وروح الهيمنة وإذلال الشعوب. وإذا ما أراد العالم أن يتحرَّر من العنف فعليه أن يعمل بشكل جذري على استئصال الأسباب التي تؤدِّي إليه. إنَّ الظلم يولِّد العنف والعنف المضاد، ويُدخِل المجتمع في دوَّامة لا نهاية لها.