المانيا - قنطرة (DW) - سارة إسحاق من أهم صناع الأفلام الشباب في اليمن. فيلمها التسجيلي "ليس للكرامة جدران"،يوثق أحداث مجزرة جمعة الكرامة في صنعاء، رُشح عام 2014 لجوائز الأوسكار. في حوار مع موقع"قنطرة" تتحدث عن صناعة السينما وعن ثورة الشباب.




قنطرة: كيف تنظرين إلى الوضع في اليمن وبالأخص في ظل الحرب الدائرة في البلاد الآن؟

سارة إسحاق: الوضع صعب جداً. الناس في اليمن خائفون ومكتئبون ومرهقون من العنف. هناك حالة استقطاب كبيرة في البلاد، تشعلها بشكل رئيسي وسائل الإعلام. هناك حقد وكراهية متفشيان في الشعب، وهذا ما يثير الحزن. المشكلة أن الشعب لم يعد متماسكاً. أيام الثورة كان الشعب متحداً وكان له هدف واحد، وهو إسقاط نظام علي عبد الله صالح. ولكن لم يكن لدى الثوار آنذاك تصور واضح لما سيحدث بعد ذلك. ما يحزنني الآن هو أن شباب الثورة أنفسهم، والذين كانوا متحدين ومتكاتفين إبان الثورة، أصبحوا الآن يحاربون ويخاصمون بعضهم البعض.

المشكلة هي أن علي عبدالله صالح ظل يتمتع حتى بعد خلعه بالحصانة، وبدعم مجلس التعاون الخليجي، وظل يمسك بزمام الأمور من وراء الكواليس. ومن جانب آخر كان الحوثيون والانفصاليون الجنوبيون مهمشين طيلة فترة الحوار الوطني. وبشكل عام هناك الكثير من فئات الشعب التي لم تستطع أن تشارك في العملية السياسية بعد الثورة وأن تعبر عن مطالبها. أما الآن وبعد احتدام النزاع مع الحوثيين، يبدو الصراع الآن وكأنه صراع طائفي. غير أنني أعتقد أن الصراع في الأساس هو صراع على الهوية وعلى نظام الحكم في البلاد.

فالكثير من فئات الشعب اليمني يعتقدون أن السلطة الحاكمة لا تمثلهم ولا تهتم بهم. هذا هو ما خلق الوضع المعقد الذي نعيشه اليوم. أما بالنسبة لجارتنا السعودية، التي تقود هجوم "عاصفة الحزم" على اليمن، فلا تريد أن ترى أقلية شيعية تحكم في اليمن، الذي تعتبره السعودية فناءها الخلفي. وكما هي الحال في كل حرب، المدنيون هم من يدفع ثمن هذه الحرب وهم أكثر من يعاني من الضربات الجوية والقتال على الأرض.


سارة إسحاق: الناس في مجتمعنا يخافون من الكاميرا

تلعب ثورة اليمن دوراً رئيسياً في فيلمك "ليس للكرمة جدران" و "بيت التوت". فكيف تنظرين اليوم إلى الثورة اليمنية في ظل ما آلت إليه الأمور في اليمن؟

سارة إسحاق: الثورة لم تكن ناجحة، فقد فشلنا في استئصال المنظومة الدكتاتورية من جذورها، كما أنه لم تكن هناك أي محاسبة أو محاكمة للمسؤولين عن الفساد. الثورة ربما نجحت من ناحية واحدة، إذ أنها أظهرت بعض الشخصيات اليمنية الناشطة والتي كانت مغمورة قبل الثورة. لكن شباب الثورة بقوا مهمشين بعد نهاية الثورة، وتم إقصائهم واستغلالهم من قبل الأطراف التي تشبثت بالسلطة والنفوذ.

نحن كشباب نريد بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة، ولكن من الصعب القيام بذلك عندما تكون هناك أطراف عديدة في الدولة يحاول كل منها التفرد بالسلطة والنفوذ والأموال العامة. اليمن كان يشبه حديقة مليئة بالأعشاب الضارة، فيها ورود قليلة فقط. الربيع العربي جاء إلى هذه الحديقة، فخلع الأعشاب الضارة سطحياً فقط، ولم يقتلعها من جذورها، ثم زرع بينها الورود. هذه الورود أزهرت لفترة وجيزة فقط، وسرعان ما عادت الأعشاب الضارة لتنمو من جديد وتطغى عليها وتقتل ورود الثورة. إذ أن تراب هذه الحديقة وأساسها فاسدان. اليمن بحاجة لتربة جديدة.

أنت غادرت اليمن لدراسة صناعة الأفلام في بريطانيا، ثم عدت إليه بعد مدة طويلة. كيف كانت تجربتك كصانعة أفلام في اليمن؟

سارة إسحاق: تجربتي كانت خليطاً من المشاعر. عندما جئت إلى اليمن في بداية 2011 لم يكن أحد يتوقع قيام الثورة في اليمن. جئت من بريطانيا، حيث كنت أدرس صناعة الأفلام التسجيلية، لأعمل على مشروع تخرج في اليمن عن حياة جدي. لم يكن الأمر سهلاً في البداية، حيث أن الناس في الشرق الأوسط يخافون بشكل عام من الكاميرا، ويعتقدون أنها تتجسس عليهم وتريد إيذاءهم. وكذلك أيضاً لم تتفهم عائلتي ما الذي أريد أن أصوره ولماذا. التصوير في اليمن كان صعباً وخصوصاً إذا أردت أن تصور النساء، فالمجتمع اليمني محافظ جداً، ويتم دائماً التعتيم على هوية المرأة، التي عادة لا تظهر في الصور، والرجال عادة لا يتكلمون عن أخواتهم أو بناتهم ولا يذكرون أسماءهن أمام الغرباء، بل يستخدمون فقط مصطلح "الأسرة".



كيف واجهت هذه التحديات؟

سارة إسحاق: ما ساعدني هو أنني لم أكن أخطط لعمل فيلم كبير يُعرض على نطاق واسع، وهو ما حصل لفيلمي "ليس للكرامة جدران" الذي لقي نجاحاً عالمياً. ما كنت أخطط له هو فيلم لمشروع تخرج صغير يعرض فقط على نطاق الجامعة. أقنعت أهلي آنذاك وقلت لهم إن العالم لا يعرف الكثير عن اليمن واليمنيين، ولا يعرف أننا شعب متحضر وفيه تنوع ثقافي واجتماعي وطبقي. الكثيرون يرون في اليمن شعباً متخلفاً قبائلياً. وقد قمت بإقناع عائلتي أننا يجب أن نغير هذه الصورة النمطية ونظهر من خلال السينما صورة أخرى للشعب اليمني.

وهكذا وافق أهلي واستطعت أيضاً أن أصور في اليمن أثناء الثورة وداخل ميدان التغيير. هذا التصوير الذي تعاونت فيه مع الكثير من شباب ونشطاء الثورة في اليمن، كان نوعاً ما عفوياً وعشوائياً، إذ أنني لم أكن أعرف أنني سأستعمل هذه اللقطات والمقابلات لعمل فيلم "ليس للكرامة جدران" الذي يتناول أحداث مجزرة جمعة الكرامة في صنعاء، ولم أكن أدري أنه سيرشح لجائزة الأوسكار فيما بعد، ولم يكن هذا هدفي أصلاً.

ما الذي يمكن للسينما وللفن بشكل عام أن يغيره في اليمن؟

سارة إسحاق: الأفلام التسجيلية والأفلام بشكل عام يمكنها أن تعمل على توعية الناس، فالكثير من اليمنيين طيبون ومن السهل إقناعهم ويصدقون أي شيء تقوله لهم. وهذه هي المشكلة. فجزء كبير جداً من الشعب اليمني فقير وغير متعلم، وهذا ما يجعل الكثير منهم فريسة سهلة لمن يستغل طيبة القلب ويستقطبهم ويقنعهم بمعتقدات خاطئة، وخصوصاً أن الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعية تسمح بنشر هذه المعتقدات والإشاعات بسرعة هائلة. وبالأخص، الشائعات الخرقاء التي كانت تُنشر عن ساحة التغيير، التي كانت تُعتبر أحد مراكز الثورة الشبابية في اليمن.

كان الناس يصدقون الخرافات عن أن النساء تُغتصب والرجال يُقتلون في الساحة وأن الساحة مليئة بالمرتزقة والبلطجية. كما أن هناك لدى الكثيرين من اليمنيين عُقد طبقية ومذهبية وطائفية وقبلية. هذه العقد موجودة في كل المجتمعات، ولكن في اليمن على وجه الخصوص هناك نقص في التوعية. وكنت أنا أثناء وجودي في أيام الثورة أعمل على توعية الناس عن حقيقة ما يحصل في داخل ساحة التغيير في صنعاء.

ولكن هل فعلاً من الممكن أن يؤثر الفن في مجتمع كالمجتمع اليمني في ظل هذه المعطيات وفي ظل الأوضاع الراهنة؟

سارة إسحاق: نعم بالتأكيد. اليمن قبل الثورة لم يكن فيه فن، لم تكن فيه صناعة سينما، ولم تكن ظاهرة المدونات أو أفلام الفيديو القصيرة موجودة، أو مثلاً فن الشارع، مثل الغناء والعرض الموسيقي، كل هذا لم يكن موجوداً. لم يكن هناك فضاء عام يسمح بمثل هذه الفنون، ويعطي للناس الفرصة لتبادل الأفكار ووجهات النظر وتنمية مواهبهم. الثورة أعطت الفرصة للشباب لاكتشاف هذه الأشياء، والتواصل بعضهم مع بعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وأصبح الشباب الناشطون يلتقون في المقاهي لممارسة نشاطاتهم، فمنهم من كان يعزف الموسيقى، وآخرون يدونون الأحداث بحواسيبهم المحمولة التي أحضروها معهم، وآخرون يتناقشون حول آخر مستجدات الثورة، وأصبح هناك نوع من روح التكافل والوحدة بين الناشطين. لم يكن هناك مراكز ثقافية أو مراكز للقاء الشباب، فأصبحت المقاهي (كوفي شوب) القليلة الموجودة في صنعاء مكاناً يلتقي فيه الشباب.



في فيلمك الثاني، "بيت التوت" الذي صورته أيضاً في اليمن، ركزت على الجانب العائلي بعد عودتك إلى اليمن.

سارة إسحاق: نعم، في هذا الفيلم أردت أن أظهر حياة عائلتي المقيمة في صنعاء. الفيلم هو ـ نوعاً ما ـ إعادة استكشاف جذوري اليمنية، حيث أنني كنت قد سافرت للدراسة خارج اليمن، وأثناء غيابي فقدت "الاتصال الداخلي" مع عائلتي ومع الحضارة اليمنية التي نشأت وترعرت في أحضانها. عندما عدت لليمن بعد غياب دام خمسة أعوام وبدأت بتصوير أفراد عائلتي، أدركت أنهم تغيروا أيضاً.

وهذا التغيير في ديناميكية العلاقات داخل عائلتي، كان بالنسبة لي بمثابة ثورة تغيير حصلت داخل العائلة. لكن هذا التغيير كان يعكس أيضاً التغيير الحاصل في المجتمع ككل، حيث أن معظم الناس في اليمن تغيروا، وهذا ما أدى في رأيي إلى قيام الثورة أصلاً. الناس تغيروا وأصبحوا أيضاً يطالبون بالتغيير. لذا أرى أن أفلاماً مثل فيلم "بيت التوت" تساعد العالم الخارجي على أن يتفهم الوضع في اليمن، وأن ينظر لليمنيين كأناس عاديين، وأن يدرك أنهم الآن يتعرضون للقصف والعنف، وأنهم ليسوا أرقاماً فقط، بل أفراداً، ولكل منهم اسمه وقصته الشخصية.



حاورها: نادر الصراص
حقوق النشر: قنطرة 2015