لم يحظ تاريخ أي دولة أوروبية من الدراسة والبحث كما حظيت إسبانيا، الذي أثار تاريخها جدلًا واسعًا بين المؤرخين والمستشرقين، وخاصة تلك المرحلة التي امتدت عبر قرون طويلة أثناء الحكم العربي وإقامة الدولة العربية الإسلامية.



وفي كتاب "الطريق من دمشق إلى قرطبة" يستعيد الكاتب- محمد عبد الحميد الحمد- التاريخَ الإسباني منذ العصور الأولى، وصولًا إلى الإسلام وقيام الحضارة العربية الإسلامية، وما أنتجته تلك الحضارة التي دامت ثمانية قرون من الزمن (711- 1492م).


تاريخ إسبانيا المسلمة

‏يستعرض الكاتب في البداية تاريخ إسبانيا المسلمة، منذ لحظة دخول العرب إلى إسبانيا في العام 711م بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد، ثم توالي الولاة حتى قيام الدولة الأموية التي أنشأها الأمير عبد الرحمن الداخل، وجعل من قرطبة عاصمة الدولة؛ فشجع على ممارسة الزراعة، وقيام المدارس، وإعطاء الحرية للمواطنين؛ ما سهل امتزاج الطبقات والأعراف، وانتشار الثقافة العربية الإسلامية، وظهرت طبقة من المستعربين من أهل البلاد الأصليين؛ ما دفع الأسقف ألفارو القرطبي في كتابه "الدليل المنير" إلى القول:

"أقبل المسيحيون المستعربون على المصنفات الإسلامية، وتركوا اللغة اللاتينية، واتخذوا عادات المسلمين من ختان ونظام الحريم".

ويستند الكاتب في تحليله للحكم العربي الإسلامي في الأندلس على ما ورد في مقدمة ابن خلدون عن نشأة الدولة وتطورها؛ فيشير بداية إلى الاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السابقة لها، وفي هذه المرحلة يتحدث عن عبد الملك بن مروان وابنه الوليد اللذَيْن أرسلا موسى بن نصير وطارق بن زياد وفتحوا الأندلس وجعلوا العاصمة قرطبة.

أما المرحلة الثانية: فهي مرحلة السيادة والانفراد بالملك، وهنا أسس عبد الرحمن الداخل إمارته، ووطَّد أركان ملكه، وجعل قرطبة عاصمة، وبنى فيها الجامع الكبير وقصره، وبرز في بلاطه الشعراء والفقهاء.

وتعتبر المرحلة الثالثة مرحلة قطف ثمرات الملك، والاستقرار، والبناء، وتخليد الآثار، وبناء الجيش، وإعلان الخلافة؛ فقد أعلن الخليفة عبد الرحمن الناصر الخلافة، ولُقِّب بأمير المؤمنين، وبلغت الدولة عصرها الذهبي.

وتتجلى المرحلة الرابعة في الوداعة والمسالمة؛ فيكون صاحب الدولة قانعًا بما بنى سابقوه، مقلدًا ماضي سلفه، وفي هذه الفترة سقطت الخلافة الأموية في زمن الخليفة هشام المؤيد، وقيام ملوك الطوائف وملوك الثغور، وبالمقابل بدأ عصر الاسترداد.

أما المرحلة الخامسة- حسب تصنيف ابن خلدون- فهي الإسراف والتبذير في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانة الملك ومجالسه، وهنا يخرب الملك ما بنى سلفه، ويستولي على الدولة الهرم والمرض الذي لا براء منه إلى أنْ تنقرض الدولة؛ فاسترد الإسبان غرناطة من بني الأحمر، وطردوا العرب من جزيرة الأندلس.


التراث الحضاري في الأندلس

يؤكد الكاتب أنَّ العرب أقاموا دولة قوية في وسط حضاري مختلف العناصر اللغوية، والدينية، والثقافية، والعرقية، وكانوا أقلية بالنسبة للشعب الإسباني الذي كان يعمل لاسترداد بلاده، وقد استنفذوا طاقاتهم بالنزاعات الداخلية بين عرب وبربر، وفي التهالك على الملذات والترف؛ ما أضعفهم أمام متربص بهم.

ويوضح المؤلف أنَّه دخل العرب إلى إسبانيا عام 711م بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد، وكان دخولهم إليها حدثًا سياسيًّا وحضاريًّا استهلت به حقبةً في الحياة الإسبانية بشتى مظاهرها؛ فقد حمل العرب إلى الإسبان نظامًا اجتماعيًّا أفضل مِمَّا هم عليه، وتركوا لهم حرية العبادة والعمل، كما حملوا إليهم تراثهم الثقافي ودينهم ولغتهم؛ فتعددت الثقافات في شبه الجزيرة الأيبيرية، وخلال قرن من الزمن تم التمازج والاختلاط بالمصاهرة وبالعشرة الطيبة بين سكان الأندلس، ثم توالى الولاة حتى قيام الدولة الأموية، التي أنشأها الأمير عبدالرحمن الداخل (755 - 788م)، فجعل قرطبة عاصمة الدولة، وشجع الزراعة، وأقام المدارس، وأعطى الحرية للمواطنين.

وفي زمن الأمير هشام بن عبدالرحمن فرض الفقه المالكي مِمَّا أثار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، ولكنْ في زمن الأمير عبدالرحمن الثاني تغيَّر الحال وزاد الثراء وعَمَّ الترف، وفي زمن الخليفة عبدالرحمن الناصر (912 - 961 م) أول من تلقب بأمير المؤمنين.

وفي زمن هشام بن الحكم بدأت الدولة تتزعزع إلى أنْ ظهر ملوك الطوائف، وعندما رأى الإسبان تفتت الخلافة الأموية إلى دول متصارعة ابتدأوا في حركة الاسترداد؛ فهزم ألفونسو السادس، ملك قشتالة (1072 - 1109م) ملوك الطوائف، وأخضع في البداية المعتمد بن عبَّاد صاحب إشبيلية، ولكنَّ المعتمد صانعهم ودخل في طاعتهم وزوَّج إحدى بناته لألفونسو السادس، الذي استولى على طليطلة من بني النون عام 1085م، ولكنَّ ألفونسو ترك تقاليد الحكم كما كانت، وقرب العلماء إليه وكوَّن مكتبة لترجمة العلوم العربية، وطلب بنو عبَّاد نجدة سلاطين مراكش.

واستجاب لهم يوسف بن تاشفين وانتصر على ألفونسو في موقعة عين الزلاقة 1086م، ولكنه بعد مدةٍ خلع المعتمد بن عبَّاد ونفاه إلى مراكش، وهدم كنيسة المستعربين في غرناطة وتَمَّ إجلاء العرب النصارى إلى مراكش، وأعمل السيف في مستعربي غرناطة، وعجز عن صد ألفونسو السابع ملك قشتالة؛ فانتزع منه لشبونة عام 1147م.

وبعد أنْ قضى الموحدون على المرابطين في الجزائر وتونس وطرابلس استنجد بهم "موقسي" ضد الإسبان، فهزموا ألفونسو الثامن في موقعة الأرك عام 1195م، ثم انتصروا عليه في موقعة العقاب.

وقام فريديناند الثالث (1217- 1252م) بتوحيد قشتالة وليون، واستعاد قرطبة من الموحدين، وحول مسجدها إلى كنيسة، ثم استولى على بلنسية ومرسية وإشبيلية التي اتخذها عاصمة له، وجعل قصرها مسكنًا له، ثم استولى على قادش، وفي زمنه انتشرت المدارس، وصنف أول معجم عربي - إسباني، ووضع غليوم الطرابلسي كتابًا عن الإسلام ثم أهداه فيما بعد إلى البابا غريغوريوس، وانتشرت مدارس الرهبان، وأسس معهد الدراسات الشرقية في طليطلة، وازدهرت الثقافة العربية - الإسبانية.

ويشير المؤلف إلى أنَّه صمد بنو الأحمر أمام جيوش الإسبان حوالي قرنين ونصف وهاجروا إلى الأقطار العربية والإسلامية. وبعد استرداد المدن الأندلسية ظهرت طبقة المدجنين، وهم المسلمون الذين يعملون في مدنهم القديمة، ولم يهاجروا إلى البلاد المسلمة، وصاروا يعملون في الصنائع الوضيعة، ويعملون في الحمامات العامة ،ويقدمون للإسبان المسيحيين الماء الساخن والصابون والمناشف، وتعلم الإسبان منهم مبادئ الطهارة. وكان حَمْل الرومان إلى شبه الجزيرة الأيبيرية اللغة اللاتينية ومعها الشعر والأدب والفلسفة، ومن تلك اللغة وامتزاجها بالعربية ولدت اللغة البرتغالية الحديثة الكاستيلية، التي أصبحت اللغة الرسمية المكرسة للأدب، والتي باتت تدعى بلغة الرومانس في العصر العربي الإسلامي.

وكانت بدايات الفكر الفلسفي قد ظهرت إبَّان خلافة عبدالرحمن الثاني عندما بدأ الصراع الفكري بين الفقه المالكي والفكر الفلسفي.

أيضًا يستعرض تاريخ الموسيقا الإسبانية، وتاريخ دخول الموسيقا العربية إلى الأندلس مع زرياب، مبينًا أثره في الحياة الاجتماعية وفي الغناء والموسيقا، ثم استمرار هذا التأثير في الموسيقا العربية في المغرب وفي المشرق العربي، وأثر الموسيقا العربية في الطرب العثماني، وخاصة في حلقات الذكر في القدس ودمشق وصفد، ثم انتقال هذا الأثر في الموسيقا الشعبية في القدود الحلبية، والمقامات العراقية، وصولًا إلى تأثيرها في موسيقا الإخوة الرحابنة، ومسرح زياد الرحباني وفي الموسيقا العربية الحديثة.


الكاتب... فيلسوف الرقة

يقول الكاتب محمد عبد الحميد الحمد عن نفسه:

"وُلِدتُ في بلدة صغيرة تدعى الرقة، البلدة الغافية على ضفة الفرات اليسرى، وكان ذلك في ربيع عام 1938م، وسماني والدي حمدًا، لكنَّ الطفل الذي كان يُراد له أنْ يكون من أصحاب المال تعلَّم في صحن الجامع القرآنَ والكتابةَ، ويومها كانت الرقة محرومة من كل وسائل الحضارة (الكهرباء والماء والمدارس)، والحي الذي يقطنه الجراكسة قد بُني بالآجر والطين، وشوارعه ضيقة ترابية غير معبَّدة، ولم يكن في الرقة سوى مدرستين ابتدائيتين؛ الرشيد للذكور وتقع خلف مبنى السراي- متحف الرقة حاليًّا-، وبلقيس للبنات وتقع خلف الجامع الحميدي".

وعن التحاقه بالمدرسة يقول:

"عند افتتاح المدارس في فصل الخريف ذهب التلاميذ إلى المدرسة، وبقيت أنا وبعض ربعي نلعب فرحين في الشارع، ومرَّة مررت من قرب المدرسة ونظرت من الشباك فوجدت معظم ربعي في الصف، وعندما شاهدوني صاحوا بي تعال... يا...، فدخلت الصف عبر النافذة، وكنت حافي القدمين، جاء معلم الصف الأول يوسف فقام التلاميذ إجلالًا له، وأعطى الإشارة للجلوس، جلست في الجانب الأيسر من الصف في القسم الذي كانوا يطلقون عليه قسم الباشوات، وهو لقب أطلقه المعلم على التلاميذ الكسالى، بدأ المعلم يُخرج التلاميذ إلى السبورة للتدرب على الإملاء، كان اهتمامه منصبًّا على الجانب الأيمن مهملًا أصحاب اليسار، وقال: من يخرج إلى السبورة؟ رفعت يدي، دهش الأستاذ يوسف فسألني عن اسمي، فقلت له: اسمي حمد، فرد عليَّ بل أنت محمد، وأخرجني إلى السبورة، وكم كانت دهشته من حسن خطي وصحة إملائي؛ فسألني أين تعلمت الكتابة؟ أجبته: عند الشيخ، كان ذلك عام 1947م.

وخلال دراستي الابتدائية أبديت نشاطًا، وكنت أمتاز بذاكرة جيدة، وطلاقة اللسان، وكنت مولعًا بقراءة القصص، وكان والدي يتذمر من طول سهري وقراءتي على ضوء القنديل؛ فيقول: يا ولدي- أصلحك الله- نحن أناس فقراء لا طاقة لنا على شراء "صفيحة كاز" كل شهر.

في عام 1951م حصلت على شهادة السرتفيكا، ولم يكن في الرقة آنذاك مدرسة إعدادية؛ فتولاني جزع وحزن شديد لعدم قدرتي على متابعة الدراسة، ومرضت لخيبة أملي، وبعد أسبوع جاءنا البريد يحمل البشرى بحصولي على كرسي مجاني في مدينة دير الزور؛ حيث التحقت بثانوية الفرات عام 1952م طالبًا داخليًّا، وهناك كان همي مُنصَبًّا على الدراسة والتحصيل العلمي".

في عام 1955م حصل على شهادة البروفيه (الإعدادية)، وذهب إلى مدينة حلب؛ حيث درس سنتين وتابع الحمد تعليمه العالي في جامعة دمشق، وتخرَّج في قسم الفلسفة عام 1965م، ودرس في كلية التربية؛ حيث حصل على الدبلوم الخاص والعام، ثم الماجستير عام 1968م، وموضوع أطروحته في الماجستير بعنوان: "أثر النوم على الصحة العقلية من منظور علم النفس الإشراطي عند بافلوف".

وفي عام 1985م حصل على منحة للدراسة في جامعة حيدر آباد؛ وذلك للحصول على درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان وتاريخها، ودرس في الجامعة، وحصل على الدبلوم المعمقة، وكتب ثلاثة أبحاث صغيرة، وكُلِّف بموضوع الرسالة تحت إشراف البروفسور راجو تشاريا، وموضوع الرسالة عن أبي الريحان البيروني، وعاد إلى سورية لإعداد الدراسة، وكتب رسالة عن حياة البيروني العالم والفيلسوف، ولم يعد إلى الهند لكنه نشر الرسالة في سورية "دار المدى" بدمشق عام 2001م.

ومن أهم كتبه:

- دور الثقافة السورية في تراث المتوسط. - تراث بطليموس عند العرب والسريان. - إسهام السريان في العلوم العربية. - دور السريان في الحضارة العربية. - حضارات طريق الحرير. - حضارة طريق التوابل. - تاريخ الرقة الحضاري. - حياة البيروني العالم والفيلسوف. - البتاني أعظم فلكي عرفته العرب. - أبو بكر الرازي، الطبيب والفيلسوف، وغيرها من الكتب.




محمد عبد الحميد الحمد

الكتاب: الطريق من دمشق إلى قرطبة... استعادة تاريخ ضائع

المؤلف: محمد عبد الحميد الحمد

الطبعة: الأولى2010م

عدد الصفحات: 471 صفحة من القطع الكبير

الناشر: وزارة الثقافة، الهيئة السورية للكتاب، دمشق

عرض: محمد بركة