بسم الله الرحمن الرحيم


الليبرالية الجديدة neo-liberalism، وفقا لتعريف إليزابيث مارتينز Elizabeth Martinez وأرنولدو جارسيا Arnoldo Garcia في الورقة البحثية المعنونة: " ما هي الليبرالية الجديدة "، هي مجموعة من السياسات " الاقتصادية " التي صبغت شكل العالم على مدار الأربعين عاما الماضية تقريبا ( منذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي أو قبل ذلك بقليل ). ولعل من أهم آثار انتشار هذا المفهوم على المستوى العالمي هو ما حدث من فجوات كبيرة تفصل ما بين الأغنياء والفقراء، حيث ازداد الأغنياء ثراء وازداد الفقراء فقرا!!
وإذا كان وصف الليبرالية بالجديدة يوحي بأننا نتكلم عن شيء جديد قد أضيف إليها، فيحسن بنا أولا أن نتكلم عن الليبرالية " القديمة " أو ما اصطلح عليه بالليبرالية liberalism. ذلك أن الليبرالية الجديدة تعتبر نفسها وريثة الليبرالية، وهي العقيدة الاقتصادية التي سادت الفكر الاقتصادي منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. وقد حازت المدرسة الليبرالية في الاقتصاد شهرتها بانتشار أفكار الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث في كتابه الشهير ثروة الأمم الذي ظهر إلى الوجود في عام 1776. لقد دافع هو ومن تابعه من أنصار المدرسة الكلاسيكية عن إلغاء تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية، وطالبوا بإزالة جميع الحواجز. فنادوا بعدم وضع القيود على التصنيع، وعدم وضع الحواجز أمام التجارة، وعدم فرض التعريفات الجمركية. فمن وجهة نظرهم، كانت حرية التجارة هي أفضل السبل التي يسلكها اقتصاد دولة معينة لكي تتقدم. وحيث كانت هذه الأفكار " متحررة " من أي قيود، فقد جاء اسم المدرسة من ذلك، حيث أُطلق عليها الليبرالية بمعنى " المتحررة ". وقد أدى هذا المذهب الذي يُعظّم الاتجاه الفردي إلى تشجيع المشروعات على أن تظل حرة والمنافسة على أن تظل حرة – وهو ما أدى لترسيخ مفهوم حرية الرأسماليين في تحقيق أرباح هائلة كيفما يريدون.
ويرى الليبراليون الجدد أن تلك الفترة الأخيرة هي " العصر الذهبي " golden age للرأسمالية، حيث هبطت ثمار الرخاء على معظم دول العالم تقريبا بسبب عدة عوامل مهمة، تتمثل في: غياب ملكية الدولة، وتنظيم عمليات الصناعة والتمويل، ومرونة أسواق العمل الدولية، وحرية السياسات الاقتصادية الكلية المضادة للتضخم، والتي حافظت المؤسسات على تطبيقها من خلال الالتزام بقاعدة الذهب، وحرية التدفقات الدولية للتجارة ورأس المال.
وليس هنا مجال الرد على كل هذه الحجج، فلعلنا نفرد مقالا خاصا لذلك، ولكني هنا أحاول فقط استعرض فقط تطور الفكر الليبرالي الذي ظل سائدا خلال الفترة المذكورة حتى وصل إلى ذروته خلال الفترة الراهنة!
سادت الأفكار الليبرالية في العالم الغربي طوال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. ثم حدث الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، والذي قاد الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز لوضع نظريته التي قللت من أهمية الليبرالية كأفضل سياسة يجب على الرأسماليين إتباعها! وقال كينز: إن التوظيف الكامل يعتبر شيئا أساسيا لنمو الرأسمالية، ولكن لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تدخل الحكومات والبنوك المركزية لزيادة فرص العمالة. وقد كان لهذه الأفكار تأثيرا كبيرا على الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، حيث صمم على مقتضاها برنامج العهد الجديد New Deal، والذي أدى تطبيقه لإعادة انتخابه أربع مرات متتالية فيظل في رئاسة البلاد حتى نهاية حياته، وليصبح الرئيس الأمريكي الوحيد الذي يحكم الولايات المتحدة لمدة اثني عشر عاما بسبب استثناء الشعب الأمريكي له، وذلك لما قام به من إصلاح الاقتصاد الأمريكي وإنقاذه من الركود. ومن هنا بدأت الأفكار التي تنادي بوجوب أن تلعب الدولة دورا ما في الاقتصاد لضمان تحقيق النفع العام لجميع المواطنين – بدأت تلقى قبولا عاما بين الناس.
واستمر الأمر على هذا المنوال، إلى أن بدأت الأزمات الرأسمالية في الظهور في الثمانينات من القرن الماضي، وهو ما أدى لتقليص معدلات الأرباح التي تحققها الشركات المملوكة من كبار الرأسماليين. وهذا ما دفعهم إلى التفكير في إعادة أحياء فكرة الليبرالية الاقتصادية مجددا! وهذا هو ما دفع مصطلح الليبرالية الجديدة للظهور والانتشار. ومع تسارع وتيرة العولمة خلال العقدين الماضيين، اكتسح تيار الليبرالية الجديدة جميع دول العالم، ولم يستطع أي تيار آخر الوقوف أمامه أو التصدي له.

ولقد ظلت الليبرالية الجديدة هي العقيدة الاقتصادية المسيطرة على الفكر الاقتصادي خلال الربع الأخير من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، أو إن شئنا الدقة حتى ما قبل الأزمة الاقتصادية العالمية التي حدثت في منتصف سبتمبر 2008. وفي محاولة للعودة بالعالم إلى هذا " العصر الذهبي "، فإن الليبراليين الجدد قد دفعوا دولهم – ومن ثم دول العالم – بشدة نحو تطبيق خطط " إصلاحية " تتكون من برامج واسعة تستهدف:
خصخصة وحدات القطاع العام
إزالة القيود الحكومية
الفتح الكامل لأسواق السلع ورأس المال
إتباع سياسات اقتصادية كلية متشددة

وفي الوقت الذي واصلت الليبرالية الجديدة فيه انتشارها في معظم الدول العالم، فإن تنفيذها شهد ازدهارا على وجه الخصوص في الدول النامية. ولعل ما جعل هذا الأمر ممكنا، هو أزمة الديون العالمية التي واجهتها معظم الدول النامية في عام 1982. فبعد مرور عقد كامل من ازدياد ثقة الدول النامية بنفسها، والذي تجلى في الدعوة لنظام اقتصادي دولي جديد، اغتنم الليبراليون الجدد – الذين اعتلوا سدة الحكم في كبرى الدول المتقدمة والمؤسسات المالية الدولية - أزمة الديون كفرصة لإعادة الدول النامية إلى المسار " الصحيح " – من وجهة نظرهم. ونتيجة لذلك، وصلت الشروط المجحفة الهادفة لتغيير الدول النامية في صورة الليبرالية الجديدة إلى المعونات الثنائية من حكومات الدول المتقدمة والقروض المشروطة من مؤسسات التمويل الدولية ( وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين ).
ولعل الأمر المدهش في ذلك هو التحول الهائل الذي طرأ على مهمة مؤسسات التمويل الدولية. فحينما أنشئت هذه المؤسسات وفقا لاتفاقية بريتون وودز في عام 1944، كانت مهمتها الأساسية هي المساعدة في منع حدوث أي صراعات مستقبلية من خلال توفير الإقراض بهدف الإنشاء والتنمية، ومن خلال العمل على تخفيف حدة المشكلات الطارئة التي قد تصيب موازين مدفوعات الدول الأعضاء. ومن هنا فلم يكن مخول لهذه المؤسسات ممارسة أية سلطات على القرارات الاقتصادية للحكومات الأعضاء، كما أن مهامها لا تشمل أي ترخيص بالتدخل في السياسات الوطنية للدول الأعضاء!!

وخلال حقبة التسعينات من القرن الماضي، كان الضغط من أجل تطبيق برامج الإصلاح الليبرالية الجديدة على الدول النامية أشد وطأة وأوسع نطاقا، على نحو ما أوضحه هاجون تشانج Ha-Joon Chang في كتابه الهام " إعادة التفكير بشأن اقتصاديات التنمية ":

فبادئ ذي بدء، فشلت الإصلاحات التي تم تنفيذها في الحقبة السابقة عليها ( الثمانينات من القرن الماضي )، فشلت تماما في إحداث أي تغيير في اقتصادات الدول المعنية، مما أدى لزيادة اعتمادها المالي على الدول المتقدمة وعلى مؤسسات التمويل الدولية.
ثانيا: فتح انهيار الشيوعية الباب واسعا أمام مساحة عريضة من العالم أصبحت على استعداد لتنفيذ أكثر الصيغ تطرفا من برامج الإصلاح التي تتبع الليبرالية الجديدة.
ثالثا: أدى بدء منظمة التجارة العالمية في العمل اعتبارا من عام 1995 إلى مزيد من تقييد قدرات الدول النامية للانحراف عن الأجندة الليبرالية الجديدة.
وأخيرا: خلال السنوات الأخيرة من عقد التسعينات من القرن الماضي، سمح الازدهار الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة – معقل الليبرالية الجديدة – والذي تزامن مع الركود النسبي الذي شهدته كل من اليابان وألمانيا، وهما الدولتان اللتان كان يُنظر إليهما على أنهما يمثلان البديل عن النظام الأمريكي، سمح ذلك لليبراليين الجدد بالمضي قدما من أجل تطبيق برامجهم، حيث لم يعد هناك بديلا قائما للنظام الرأسمالي القائم على حرية السوق الذي تبنته الولايات المتحدة.
ولعله ليس من قبيل المبالغة القول بأنه إذا قُدر وعاد آدم سميث إلى الحياة مرة أخرى، ورأى المواقف المتشددة لليبرالية الجديدة، فقد يعتبر هو بنفسه أن ذلك خروجا عن النص!! فعلى الرغم أن من المفترض أن الليبرالية الجديدة تستمد أفكارها الأساسية من الليبرالية القديمة، إلا أن المغالاة في الاعتقاد بالسوق، أو بالأحرى بقوى السوق، قد أدى في آخر الأمر إلى انفصال هذه القوى عن الإنتاج الحقيقي للسلع والخدمات، بحيث أصبحت غاية في حد ذاتها. وهذا هو العامل الرئيسي في التمييز ما بين الليبرالية والليبرالية الجديدة.
وبالطبع فإن من الخطأ وصف التقدم في تطبيق الليبرالية الجديدة في الدول النامية على أنه مجرد فرض من الخارج! ذلك أن الإصلاحات الليبرالية الجديدة في هذه الدول كان لها مؤيديها من البداية، وبمرور الوقت تضاعفت أعدادهم واشتد نفوذهم. ومن ناحية أخرى، نجح عدد متزايد من الشركات العاملة في الدول النامية في الحصول على عقود للعمل كوسطاء أو مقاولين من الباطن للشركات متعددة الجنسيات التي تقع مقارها الرئيسية في الدول المتقدمة. وبالإضافة إلى ذلك، نجحت إصلاحات الليبرالية الجديدة في إيجاد طبقة مهنية جديدة تستمد جزءا كبيرا من ثروتها وقوتها من قدرتها على فهم وصياغة المصطلحات الخاصة بالليبرالية الجديدة.
من هنا يمكن لنا أن نفهم سر موجات الفرح العارمة التي اجتاحت دول العالم بسبب فوز باراك أوباما بمقعد الرئاسة في الولايات المتحدة. فليس هناك من شك في أن المرحلة القادمة سوف تشهد انحسارا كبيرا في أفكار هذا التيار الليبرالي وتطبيقاته على المستوى العالمي. ولعل هذا ما سبب فرحة جموع الناس على مستوى العالم الذين أصابتهم سياسات الليبرالية الجديدة بطريقة أو بأخرى! كما أن فداحة الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي بشدة، وتسربت من خلاله إلى بقية قطاعات الاقتصاد العالمي، سوف تلقي بظلالها أيضا على وقف المد الليبرالي الجديد – إن لم يكن بسبب خطأ ممارساته، فسيكون ذلك بسبب انشغالهم بترميمه وإصلاحه!!
وفي النهاية، بقي أن نوضح أن مصطلح " الليبرالية " له استخدام خاص في الولايات المتحدة. فإذا كان هذا المصطلح من وجهة النظر الاقتصادية يعني نفس المفهوم في جميع دول العالم تقريبا، إلا أنه في الولايات المتحدة كانت الليبرالية السياسية عبارة عن إستراتيجية تهدف لمنع الصراع الاجتماعي. ولقد تم تسويق هذا المصطلح إلى الفقراء وصغار العاملين على أنه برنامج مستمر بالمقارنة بأفكار المحافظين conservatives أو الجناح اليميني. ومن هذا المنظور تختلف الليبرالية الاقتصادية عن هذا تماما.

mohd_youssef@aucegypt.edu
15 من ذي القعدة عام 1429 من الهجرة ( الموافق 13 من نوفمبر عام 2008 ).


محمد حسن يوسف

منقول من صيد الفوائد