السلام عليكم
( الموضوع منقول )
لكل شعب ذكريات نُقشت في وجدان أفراده؛ إذ إنها الوقود الذي يجدد طاقة الإنسان، وفي شهر رمضان المبارك تحديداً تزداد الذكريات جمالاً وتستمر مع الإنسان إلى أن يغادر هذه الدار إلى الدار الآخرة، فما هي ذكريات الشعب الفلسطيني مع رمضان؟ وكيف كان يقضي الفلسطيني يومه وليلته؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كان لنا هذا التقرير.




التكافل في رمضان
كان لقاؤنا الأول بالحاجة أم فتحي (في الستينات من العمر) التي حدثتنا في البداية عن قريتها التي وُلدت وعاشت طفولتها فيها، فقالت: أنا من قرية (يبنا) قضاء الرملة، ويحد (يبنا) من الجنوب السدود، ومن الشمال يافا، ومن الشرق زرنوقه، ومن الغرب البحر، وقد اشتهرت بلدنا بالزراعة.
وأضافت أم فتحي: كان الناس قبل رمضان بيومين أو ثلاثة يحضرون جرّات فخار و(قلل) للماء، بالإضافة إلى بعض الحاجيات ويصنعون الجبنة والشعيرية على أيديهم، كما كان أهل (يبنا) يقدمون للفقراء قبل حلول شهر رمضان ما يحتاجونه من طحين وعدس وفول، وفي بداية رمضان كان من لديه مزرعة يقدم للفقراء الخضار والفواكه، كما أن أهل القرية كانوا يخرجون زكوات أموالهم في بداية الشهر؛ حتى يتمكن مستحقوها من شراء ما يحتاجونه، وفي العيد كان الجار الذي يعمل ومعه فضل زاد لا ينسى أبناء جاره الذي مات، أو الذي لا يعمل لمرض أو ما شابه، فيشتري لهم الملابس والطعام، كما يشتري لأبنائه تماماً، وفي أيام العيد يزور رجال القرية الأيتام والفقراء، وقد كان في البلدة (مجلس للقرية) يجتمع فيه الشباب والرجال، وكل واحد منهم يحضر ما عنده من طعام ويتناولون طعام الإفطار مع بعضهم، وكذلك السحور، كما كانوا يصلون الصلوات وصلاة التراويح في المجلس لقلة المساجد في ذلك الحين، ولم يكن هذا المجلس يُغلق أبداً، وإذا جاء غريب إلى القرية يحتضنه المجلس، فيبيت فيه، ويأكل، ويشرب على نفقة المجلس، وقد وُضع فيه صندوق للغرباء الذين يأتون إلى القرية في رمضان وفي غيره من الشهور.
وقالت الحاجة: أما الأطفال فكانوا يلعبون بالفوانيس، وقد كانت عبارة عن وعاء يوضع به كاز وبه فتيلة يتم إشعالها.




التجمع في ديوان العائلة
أما الحاج محمد حجازي -من مخيم جباليا شمال قطاع غزة- فقد هنأ الشعب الفلسطيني خاصة والأمة الإسلامية والعربية عامة بقرب حلول شهر رمضان المبارك، متمنياً من الله -سبحانه وتعالى- أن يعيد هذا الشهر الفضيل، وقد تحررت المقدسات والأوطان من الاحتلال، وقال: "لقد كان لشهر رمضان معالم خاصة تختلف عن اليوم، ولأن العائلات قديماً كانت تسكن بجانب بعضها البعض فقد كانوا يتجمعون في ديوان العائلة في منظر جميل لتناول طعام الإفطار، بعد أن نكون قد صلينا المغرب في جماعة، ومن ثم نجلس جلسة عائلية كبيرة نتسامر إلى أن يحين موعد أذان العشاء، فنذهب جميعاً إلى المسجد لأداء صلاة العشاء، ثم صلاة التراويح".
وأضاف الحاج محمد: لقد كانت الراحة النفسية سائدة في قرانا الفلسطينية قبل الاحتلال الصهيوني، وتابع قائلاً: "هذا ما تعوّدنا عليه في السابق، أما جيل اليوم فهو يختلف عن جيلنا كثيراً في عاداته وطباعه، ولعل الوضع الاقتصادي الصعب هو سبب من أسباب انطواء الناس على أنفسهم وسعيهم الدؤوب وراء تحصيل لقمة عيشهم، والتي بالكاد يستطيعون توفيرها في ظل الظروف الخانقة التي يعيشها الناس.
رمضان هذا العام يمر علينا وآلاف الأسر فقدت أحباءها وأعزاءها. حال الشعب الفلسطيني الآن، صعب والناس مجروحون، وكان الله في عونهم حينما يتذكرون آباءهم وأولادهم وإخوانهم على موائد الإفطار، ولا يجدونهم.
في النهاية نسأل الله أن يمنّ علينا بالفرج القريب في هذا الشهر الفضيل، شهر العزة والانتصار إن شاء الله".




أكلات رمضان
أما الحاجة آمنة "أم فائق" -وهي في الثمانين من عمرها- وأم لشهيدين استشهدا في الانتفاضة نظرنا إليها فإذا هي جالسة أمام منزلها المتواضع بين أزقة مخيم جباليا الضيقة، سألناها في البداية عن ذكرياتها في رمضان فقالت: "إن حالنا في الماضي قبل أن نهجر من ديارنا كان أفضل بكثير من اليوم، وخاصة شهر رمضان؛ إذ كان له طعم آخر يختلف عن اليوم, ولعل أهم شيء هي راحة البال!! لقد كنا في رغد من العيش في أرضنا، حتى لو كنا نأكل خبزاً يابساً فقط".
أم فائق التي تنهّدت طويلاً بعد تلك الكلمات قالت: "لرمضان في الماضي أكلات خاصة به مثل المفتول والفتة، والمقلوبة، والكشك، والحمصيص، إلى جانب الكثير من الأكلات البسيطة والطيبة في مذاقها، والتي اشتهرت بها القرى الفلسطينية. أما عن الحلويات فقد كنّا نصنع المهلبية والقطائف المحشوة بالمكسرات والبن، بالإضافة إلى العديد من أصناف وأنواع الحلويات، وما زالت هذه الأكلات موجودة إلى يومنا هذا، لكن لا يوجد راحة نفسية لتذوق هذه الأطعمة كما كنا نتذوقها قديماً، وهذا يرجع إلى الاحتلال الذي سلبنا كرامة العيش، وسلبنا أبسط الحقوق؛ إذ دمّر بلادنا وقتل شبابنا ولم يُبقِ لنا شيئاً. أتساءل: كيف يكون حالي عندما أتذكر ولديّ الشهيدين على مائدة الإفطار؟ إننا نتألم كثيراً ونعيش حياة صعبة جداً. إننا نتضرع إلى الله في هذا الشهر الفضيل بأن يكشف عنا الهم والحزن، وأن يزيل عنا الاحتلال، وتعود لنا ديارنا ونرجع لها بحول الله تعالى".




رمضان سابقاً كان أجمل!!
وتقول أم صقر (في السبعينات من العمر) -والتي تسكن في مدينة غزة- : إن الناس كانوا يتناولون طعام الإفطار عند بعضهم البعض وكذلك السحور، وقد كان ميسور الحال يساعد الفقراء والأرامل والأيتام، كما كانوا في المساجد يقيمون الولائم للفقراء، مشيرة إلى أنه بعد تناول الإفطار يتبادل الناس الزيارات فيما بينهم.
وأضافت أم صقر: إن معظم الناس كانوا فقراء، فعندما يحصل الواحد منهم على نصف أوقية من اللحم في رمضان ليطبخها كان يشعر بسعادة كبيرة جداً، ومع ذلك كنا في غاية السعادة، أما الآن فأصبحنا في خير ونعمة أكثر إلاّ أننا لا نشعر بتلك السعادة وذلك الاطمئنان الذي كنا نتمتع به سابقاً، فقد احتل اليهود أرضنا وأصبحوا يقتلوننا صباح مساء.
وأوضحت: كنا نصنع الحلويات في شهر رمضان مثل القطايف والمهلبية وغيرها.




تزداد الأواصر الأسرية
وقال أبو احمد عبد الواحد (49 عاماً): إن شهر رمضان كله خير وبركة؛ ففيه تزداد أواصر العلاقات الاجتماعية والأسرية بين الأسرة الواحدة وبين العشيرة، وتبرز صور التكافل الاجتماعي بما يحقق متعة، ونلمس تفرد هذا الشهر بخصوصية عن باقي شهور العام سواء في السلوك أو في العلاقات أو السحور بفعل انتهاج آداب رمضان.
وأضاف أبو أحمد: لشهر رمضان في فلسطين مذاق خاص ليس له مثيل، ربما في العديد من بقاع الأرض، فعلى الرغم من الضنك والمعاناة والجراح والآلام تجد الناس في تواصل وتواد وتراحم، وتمتد الأيدي الرحيمة لتمسح دموع الأيتام ورعاية أسر الشهداء والأسرى، وتقوم جماعات من الناس بعيادة المرضى في المشافي وتقديم هدايا رمزية لهم، وتزداد صلة الأرحام، كما تنتشر الولائم والإفطارت الجماعية في المساجد.
وقال: إن أجمل شيء في رمضان هو امتلاء المساجد بعُمّارها من الأشبال والشباب والشيوخ، حتى النساء تحضر لصلاة التراويح، كما أن ما يثلج الصدر هو الإنابة إلى الله؛ إذ تتجدّد لدى الناس روح الجماعة والانتماء، وتلهج ألسنة الجميع بذكر الله والاستغفار والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.