الحلقة الثا منة عشره

اعتدال محمد(صلى الله عليه وسلم )


لقد راسل النبي محمد( ) حكام مصر والروم وفارس والحبشة وغيرهم بخصوص الدعوة للدين الجديد ، وكانت رسائل ذات لهجة معتدلة ذات طابع دعوي ملتزم ومقتصر ، وكان يبحث عن المشترك لما أرسل رسائله لحكام مسيحيين ، لقد كان يبدأ دائما بحسن الظن بالقوى المسيحية ، على أساس أنهم أهل كتاب يعبدون الله ، وكان يكتب لهم آية تقول (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ ) (1) ، ولم يبادر محمد( ) بعداوة أي دولة من الدول التي راسلها .

لقد استفاد محمد ( )من الهدنة التي عقدها مع أهل مكة في مراسلة الملوك ، إنه لم يركن للراحة أو يكتفي بمجهوده الدعوي داخل الجزيرة ، يمتلك طاقة جبارة بلا شك ! ، ولا يلتفت لكون هذه الرسائل قد تمثل لعبا في أعشاش دبابير رهيبة حول الجزيرة ، وهو سلوك يدعو للتأمل ولا يصح المرور عليه مرور الكرام ، على كلٍ يبدو له أي (آخر ) كأنه مسلم محتمل ، ويبدو له أيضا - من خلال معرفتنا انه راسل ليدعو ، ومعرفتنا الذين راسلهم – أن تبعات الإمتناع عن دعوة الملوك ( أي عدم القيام بالتكليف الإلهي ) تبدو له أخطر من تبعات دعوتهم التي قد تمثل استفزازا ، كما حدث مع كسرى الذي مزق الرسالة ، والذي أرسل لحاكم اليمن ( باذان) ليرسل له محمد( ) ليؤدبه على تجرؤه على كسرى بإرسال رسالة يدعوه فيها لإتباعه ( أي أن الأمر كان ينطوي على مخاطرة فعلية ضخمة ) ، وقد عاد من ناحية أخرى رسول محمد لكسرى واخبره بتمزيقه للرسالة فدعا عليه محمد( ) أن يمزق الله ملكه ،

وأرسل باذان رجلين لضبط وإحضار محمد ، ووصلا إليه وأبلغاه الأمر فقال لهما محمد( ) ( اذهبا إلى صاحبكما ( يقصد حاكم اليمن ) فقولا: إن ربي قد قتل ربك الليلة ) ، ولما عادا إلى باذان بما قاله محمد وهي النبوءة بمقتل كسرى ، تريث باذان وقال فلننتظر لعله نبي ،وأخيرا جاءته الرسائل من فارس تثبت قتل كسرى في نفس الليلة التي تكلم عنها محمد( ) فأسلم حاكم اليمن والكثير من الشعوب العربية التابعة لفارس بسبب انتشار خبر إسلام باذان ومعرفة محمد بمقتل كسري في نفس الليلة ( عليُ أن لا أفكر في الحمام الزاجل ) .

ونلحظ أيضا ذكاء وفصاحة وشجاعة من أرسلهم محمد( ) لحمل الرسائل ، وكانوا جاهزين لتقديم أية إيضاحات يطلبها الحاكم ، لذا كان اقتضاب الرسائل من ذكاء وحكمة محمد أيضا ، فهي مهذبة من جهة وخالية من اي تلطف مبالغ فيه في محاولة الإقناع ، فإذا ما بدا من الحاكم أدنى استعداد للإستماع سيكمل حامل الرسالة المهمة باقتدار ، وإذا لم يبد الحاكم ذلك لم تكن الرسائل بلطفها الزائد مما يحرج صاحبها -وهو نبي- بعد غلظة الرد أو اللامبالاة من حاكم ، وقد كان محمد( ) شديد التواضع مع البسطاء والفقراء ، إلا أن شدة التواضع مع الحكام هو سلوك العامة الذي اعتادت عليه الحكام ولا يلفت الإنتباه . ها هو ( حاطب ) يقول لحاكم مصر من ضمن ما قال ( لعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك اهل التوراة إلى الإنجيل ، فكل نبي أدرك قوما فهم أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، وأنت ممن أدركه هذا النبي ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به )

وكان من رد المقوقس حاكم مصر ( إني قد نظرت في أمر هذا النبي ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهي عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب ، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر ) . ولا يُفهم من رسائل محمد( ) للحكام أنها فقط لهم هم ، فقد كان الناس في ذلك الزمن يتبعون دين الحكام ، كما أن محمدا يعرف جيدا أن رسائله سيصل أمرها إلى خاصة الحكام والمتنفذين ورجال الدين والنبلاء ، أي أنه يثير جدلا ، ويرمي حجرا في الماء الراكد ، كما أن محمدا( ) لم يكن يريد لدينه أن ينتصب على بحر من الدماء لذا كان يبدأ بأيسر الطرق وأقلها كلفة ، وهي مخاطبة الحكام ، ويكفي أن نعلم أن محمدا( ) الذي اعتبره البعض تهكما
( مارس) اله الحرب ، قد يسط نفوذه ونشر دينه وأزال الأصنام في أنحاء الجزيرة العربية بعد حروب قُتل فيها من المسلمين 259 ومن أعداء محمد 759 (2) ، وهو ثمن يسير إذا ما قورن بالنتيجة ، وبما فعله هذا الدين في تحضير العالم بعد نجاحه في إقليمه الأول
( الجزيرة العربية ) ، وإذا ما قورن على حياء بقتلي الصراع العقدي المسيحي - المسيحي والذي لم يكن له نتيجة إذ ظلت بعده الإنقسامات والأفكار كما هي وما زاد إلا الجراحات والأحقاد .

إن البعض يسقط تجاربه شديدة السواد على العالم الإسلامي ، والإسقاط حيلة من حيل المجتمعات مثلما أنه حيلة من حيل الأفراد ، لا يروق للكثيرين دراسة تاريخ الأديان ، كل ما يحتاجونه القليل من المعرفة ، والمشكلة تكمن فيمن هو المتصدي لإنتاجها ، نعم ظهرت في العالم شرائح متمدينة ومتحضرة ، تؤمن بالحوار كوسيلة للتعايش ، وهذه الشرائح لا تنطلق من منطلقات دينية ولكنها تمتلك رؤية محترمة للوجود الإنساني ، ولأنها غير معنية بالبحث في جوهر رسالات الأديان ، وصنعت من الضمير والمدنية شبه دين جديد ، فإنها قد التقطت وعلى مدي طويل صورا شوهاء عن نبي المسلمين وعن نظرة المسلمين تجاه الآخر ، هناك تشويه منهجي متعمد بلا شك .

وتحميل النبي محمد( ) أخطاء المسلمين غير مقبول مثلما أن تحميل المسيح أخطاء المسيحيين غير مقبول أيضا ، وتحميل موسى أخطاء اليهود أيضا غير مقبول ، ونحن نعيش في عالم واسع لا ينحصر في أتباع الديانات السماوية الثلاث، ومن عجب ان يكون التربص بين أتباعها لا نظير له في التعامل مع أتباع الديانات الأخرى ، ومن عجب أن لا يشعر مسيحي بأي نفور من أي شخص في العالم يدين بأي دين أو لا يدين بأي دين ولكن قد يشعر بهذا الشعور تجاه مسلم فقط لأنه مسلم – ليس معظم المسيحيين يفكرون بهذه الطريقة بالطبع – ومن المفارقات أنه حول العالم يوجد مسيحيون لا يؤمنون بأن المسيح وُلد من عذراء ، بينما لا يوجد هذا في الأوساط الإسلامية ، حيث يعتبر من يعتقد هذا الإعتقاد ( كافر ) ، بل أن هناك من المسيحيين من لا يؤمن بأن المسيح هو الله ، ويكاد يلامس الطرح الإسلامي ، ومع ذلك فهو يعتقد أن المسلمين يكرهون المسيح ، وما هو مصدرك ؟ مجرد انطباع . وماذا أيضا ؟ ومحمد إرهابي لأن أتباعه يقتلون المدنيين .. وماذا عن أتباع المسيح الذين يقتلون المدنيين باسم المسيح ؟ لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة ولكني اكره القتل والحروب عموما

هذا شيء مما يدور في الواقع . نعم هناك جهات مسيحية ترعى وتبارك اشد أنواع العمليات فتكا بالمدن ، ولكن هناك شرفاء كثيرين في العالم المسيحي ورجال دين يرفضون هذا الجنون المتستر بالدين ، ونجدنا أمام مفارقة أخري ، وهي أنه من السهل جدا أن يطلق على محمد إرهابي لأن هناك فصائل إسلامية إرهابية ، ولكن من هو المسلم الذي يعيش في مجتمعه الإسلامي الذي يملك الجرأة لأن يصف المسيح بالإرهابي لأن هناك جيوشا تتحرك على ادعاء أنها مسيُرة ببركة المسيح ؟ هذا لم يحدث أبدا . والوضع وصل إلى درجة من السوء بحيث أصبح من الضروري تثقيف أجيال جديدة على التحشم في طريقة تناول رموز الآخرين الدينية ، وهي ليست كثيرة جدا حول العالم بحيث ندعى أن هذا محبط جدا لمن لا يريدون أي حدود لحرية التعبير .
________________________________________
(1) آل عمران 64 (2) ابو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين