الحلقة السادسه


بدأ بصيص من الأمل الذي ينقب محمد ( ) في جدر الواقع ليرى نوره ، إذ بايعه بعض الناس من المدينة واسلموا ، وهي تعني أنه أصبح للإسلام ارض أخرى بديلة تستعد لاستقباله بدلا عن الأرض التي وُلد فيها ، بمقتضاها سيهاجر محمد ( ) وقتما يريد إلى المدينة وعليهم توفير حماية له والدفاع عنه ضد أي قوة تفكر في تصيده ، ويبدو الأمر غريبا جدا لأول وهلة إذ كيف توفر للغرباء هذا القدر من الإهتمام بهذه الدعوة بينما الأهل الذين عرفوا محمدا وكبر بينهم كانوا في اغلبهم معاندين لها اشد العناد ، وأول ما يمكن أن يقال هو أن مكة كان لديها شيء لتخسره ، بينما كانت المدينة قد خسرت الكثير في حروب داخلية قبل ظهور دعوة محمد ( ) ولعله يستطيع أن يعيد الوئام ، ولعل الأمر مرتبط بكلمة المسيح ( لا كرامة لنبي في وطنه ) (1)، لكن كان هناك سبب آخر يتعلق بكون أهل المدينة مهيئين لاستقبال دعوة جديدة مما سمعوه من اليهود بقرب ظهور نبي سيخرج من مكة ، وهي قبل كل شيء إرادة الله .

إذن بدأ المسلمون يتسللون إلى المدينة ، ولم يتبق في مكة إلا القليل من المسلمين ، لم يكن ما حدث باعثا لسرور أهل مكة علي أساس أنهم تخلصوا من ضجيج الدعوة الجديدة ، كانت هناك حسابات ، فالمدينة ستصطبغ بصبغة إسلامية ، وستتحول إلى بلدة معادية بدينها الجديد لمكة وقريش ، وهي ( المدينة ) محطة علي طريق قوافل مكة المتجهة من والي الشام .

عقد رؤساء القبيلة اجتماعا في دار الإجتماعات لاتخاذ قرار نهائي ، فخروج محمد ( ) إلى المدينة سيكون له قوة التحام قائد الثوار بمجموعته ، واتخذوا قرارا باغتياله علي أيدي رجال من فروع عدة من القبيلة حتى ترضى عائلته بالدية ، لأنها لن تستطيع أن تعادي كل الفروع التي ستشرك في اغتياله ممثلة برجل واحد منها ، وجاء جبريل لمحمد ( ) ( لا تبت في فراشك ) ، وتحرك محمد ومعه صاحبه أبو بكر إلى المدينة ، إذن فشلت خطة الإغتيال

بعد احد عشر يوما من تحرك محمد وصاحبه - وقد كان المسلمون يخرجون ينظرون للطريق منتظرين قدومه بلهفة – إذا بيهودي من سكان المدينة يصيح من علي برج له ( يا معشر العرب ، هذا جدكم الذي تنتظرون )

وارتجت المدينة فرحا ، وكان يوم قدومه أعظم كثيرا من أي يوم مر على سكان المدينة ، ابتسامات علي الوجوه ودموع فرحة وأناشيد ، ونسوة علي الأسطح يتزاحمن لرؤيته ، أنه نبي ! ، مؤكد أن فكرة وجود نبي يمشي بين الناس شيء مدهش ومثير للبكاء ،

هذه أشياء قد يشعر بها الناس باستثناء من ترعرع بينهم ، مثلما حدث مع المسيح حينما قال مواطنيه طبقا لمتى (أليس هذا ابن النجار.أليست أمه تدعى مريم و إخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا) (2). وقد بدأ التقويم الهجري من يوم خروج محمد من مكة .
اسس علي الفور محمد مجتمعا جديدا في المدينة وآخي بين المهاجرين المكيين والأنصار أهل المدينة ، وعمل ميثاق بين طوائف المدينة ومنهم اليهود ليحقق الوئام والسلم الإجتماعي .
بدأت قريش تهدد هذا المجتمع وتتوعده بحرب مبيدة في بلده ، وأرسلت رسائل محذرة من إيواء المسلمين .

وقعت سلسلة من المعارك بين المسلمين والوثنيين ، أهمها بدأت في السنة الثانية للهجرة واسمها بدر ، وانتصر فيها المسلمون علي قلة عددهم وعتادهم نسبيا (1: 3) ، ثم غزوة احد في السنة الثالثة التي كان شوطها الأول لصالح المسلمين أيضا ، إلا أن البعض قد خالف أوامر القائد ( محمد ) ( ) فانقلبت نتيجة المعركة لصالح الوثنيين ، وتخلصوا من إحساسهم بمهانة الهزيمة الأولي التي طاحت فيها رؤوس أكابر منهم ، في السنة الخامسة للهجرة والثامنة عشر من بدء دعوة محمد( ) نشطت قريش ومكة كلها في دعوة القبائل العربية لعمل خرب خاطفة علي عقر دار المسلمين ، ولم يكن هناك مانع لدى القبائل البدوية ، فيبدو لهم العرض وكأنهم دعوا إلى وليمة سيستفيدون منها الغنائم ، وتجمع جيش ضخم قوامه 10000 رجل ، وقدموا إلى المدينة لينهوا الأمر الذي يؤرقهم منذ سنوات طوال بهجمة قوية ، ووجدوا مفاجأة في انتظارهم ، فقد نفذ المسلمون تكتيكا دفاعيا غريبا علي العرب ، حفروا خندقا حول المدينة ، وفي هذه الأجواء العصبية نقضت قبيلة يهودية اتفاقها مع محمد ومالت لصالح الوثنيين ، كان الوضع حرجا جدا و أصيب المسلمين بإحباط ، لم تحدث إلا مناوشات قليلة بسبب الخندق الذي يمنع مرور هذا الجيش الكبير ، ومرت الأيام بلا جديد ، ودبت الخلافات في صفوف الوثنيين ، وهبت رياح عاصفة علي هذا الجيش الذي يخيم أمام المدينة ، وكان الجو شديد البرودة ، كانت الريح مربكة جدا في معسكر الوثنيين ، تقلب كل شيء بما فيها قدور الطعام وتخلع الخيام ، والعدد ضخم يحتاج لتموين ضخم أيضا ، وكل يوم يمر هو كلفة في كل شيء ، ارتبك الناس وتململوا ، فوضى وبرودة وعدم تجانس بين كتائب الجيش وطعام يقل يوما بعد يوم ، ارتحلوا بليل ، في الصباح كان المنظر بديعا في أعين المسلمين فالخطر زال ،

كانت المشكلة بالنسبة للوثنيين أنهم وصلوا إلى سقف التعبئة و الإحتشاد وليس في مقدورهم عمل تحسين آخر في المستقبل ، بالنسبة لمحمد ( ) فقد مرت اخطر اللحظات بسلام ، والدين ينمو ويزداد أتباعه ، لقد شعر محمد بأن هذه النهاية العجيبة للحرب تعلن بشكل أو بآخر أن الزمن في صالح الإسلام ، وان الوثنية ستبدأ في فقدان رفضها الصارخ للأمر الواقع ، كانت المشكلة أنه ليس لديهم أخطاء ليتعلموا منها حتى ينتصروا المرُة القادمة ويحققون أمنيتهم الغالية باستئصال هذا الدين وهذه أكبر مشكلة تتعلق بالخطط المستقبلية

وقال محمد ( الآن نغزوهم ولا يغزونا ) ..
في السنة السادسة للهجرة قرر محمد( ) والمسلمون الذهاب لعمل عمرة ( زيارة المسجد الحرام ) ، بدون أن يناوش أهل مكة ، وأصروا المكيون علي الرفض ، حتى لا يعيروا بها بين العرب ، وتم عقد صلح الحديبية الذي يوقف الحرب بين الطرفين لمدة عشر سنوات ، ويعود المسلمون في عام الإتفاق إلى مدينتهم ، وتؤجل زيارة المسجد إلى العام القادم . ولم يسترح محمد( ) ، بدأ في إرسال رسائل للملوك والأمراء .ملك الحبشة وملك مصر وملك فارس وملك الروم وغيرهم .

في السنة السابعة وحسب المتفق عليه ذهب محمد للعمرة مع المسلمين وزاروا البيت الذي حُرموا من رؤيته منذ سبع سنوات ، وكان الوثنيون علي الجبل بعيدا حيث تم الإتفاق علي عملية إخلاء أمنية لمنع الإحتكاك وينظرون بغيظ تجاه المسلمين .
في السنة الثامنة للهجرة حدث خرق لصلح الحديبية الذي تم إبرامه ، الخرق كان من جانب قريش وحلفائهم ضد حلفاء محمد ( خزاعة ) الذين يعيشون في مكة ، فجمع محمد جيشا قوامه 10000 رجل واتجه لمكة وفتحها بدون إراقة دماء وحطًم الأصنام التي حول الكعبة .

بدأت الوفود من القبائل العربية تتتالي علي المدينة وتعلن إسلامها ، لقد كان الإنتصار علي أهل مكة وتحطيم الأصنام حول الكعبة لهو الدليل الذي جعل العرب تؤمن بأنه نبي حقا ، وقد كانت معظم العرب في حيرة بين التقليد وما سمعوه من فضائل الدين الجديد واختاروا أن يشاهدوا الصراع حتى نهايته ، ولما عاد محمد( ) فاتحا بعد خروجه من مكة متسللا وذلك بعد ثماني سنوات آمن الناس بأنه مؤيد من الله .

وتغيرت الجزيرة العربية ، تغيرت القيم وأعاد الدين الجديد هندسة المجتمع ، وزاد إحساس العرب بالألفة بينهم وتطورت مفاهيمهم عن المجد والنجاح والبطولة والتضحية والنظام والرشد .

وفي السنة العاشرة من الهجرة أعلن محمد ( ) نيته في الحج حتى يرافقه من يريد أن يهتدي بهديه في تأدية المناسك بعد إزالة العادات الوثنية التي ارتبطت بها ، جاء الكثير من الناس إلى المدينة ليحجوا مع الرسول وقد خطبهم في الحجة خطبة منها ( أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ) ، لقد الغي استحقاق ثأر لعائلته ، وكذا استحقاق ربا لعمه العباس .

ونظر للجمع الغفير حوله وقال لهم ((وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد)) ثلاث مرات.

ونزلت عليه في هذه الحجة آخر آية نزلت في القرآن (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) وكانت إيذانا برحيله عن الحياة
كان حاضرو هذه الحجة وهذه الخطبة حوالي مائة وأربعين ألف مسلما ! .
د
بعد مرور اقل من ثلاثة شهور علي هذه الحجة كان محمد ( ) قد مات ، بعد رحلة كفاح استمرت 23 سنة
في حجرة في بيته متواضعة منخفضة السقف رغم أنه كان يحكم الجزيرة ، وبعد سنوات قليلة فتح أتباعه مصر والشام وفارس واليمن والعراق ، وبعد عقود قليلة كونوا أقوى وأزهى دولة في العالم .

________________________________________
(1) متى 13 : 57 (2) متى 13 : 55