شهدنا قبل سنوات ما يمكن تسميته أعظم ثورة عقارية أعادت للمنطقة برمتها سمعة اقتصادية كانت تصبو إليها، ووجهت أنظار العالم إلى نقطة لم تُحسب قبلاً لقدراتها وإمكاناتها وما يمكن أن يفعله عزم أبناء تلك البلدان فيها من نمو وتطور، ويرفعها خلال فترة وجيزة إلى مكان عجزت دول كبرى عن بلوغه على مدار عقود وربما قرون.

وإذا أردنا الرجوع إلى الوراء قليلاً لنتذكر، تتملكنا الحيرة فعلاً، فلا ندري على أي مرحلة نسلط الضوء. هل نتكلم عن أرض جرداء، وأطنان من الحجر والإسمنت والخشب والحديد والزجاج التي تلتئم لتصبح برجاً، أو مرفقاً، أو أي مشروع غيّر الخريطة، وضم حياة أخرى لأناس يجمعهم همّ النجاح والتواصل، فيسجّل قصصاً إنسانية مستمرة لا يمكنها أن تنتهي ما دام شاخصاً في مكانه للقاصي والداني على حد سواء؟

أم هل نتكلم عن قطاع كامل، جر بحركته قاطرة القطاعات الأخرى، وبدد سباتها، وحرك ساكنها، ونسج منها قصة نجاحه، وتربع عليها بلا منازع؟ لقد حرك العقار عمليات بيع وشراء للأراضي، وحرك قطاعات الطاقة، والأيدي العاملة، والمواد الإنشائية، والنقل، والمصارف، والمقاولات، والهندسة، والإعلام، والسياحة، والترفيه، والتجارة. وكان الارتفاع مستمراً دائماً، مخلفاً على الناتج الإجمالي بريقاً كاد يصبح صفة ملازمة له حتى حين.

أم هل نتكلم عن أصحاب الملابس الزرقاء، والقبعات الصفراء، أولئك الجنود المجهولون الذي توجوا القمم ليرتقي إليها صانعو نجاح التجربة؟ فلكل واحد منهم قصة، ولكل موقف لهم إشارة، وكل أثر تركوه علامة، واحدهم كالنحلة، يكتب قصته بهدوء في كل مشروع عقاري، وكثيرون منهم كتبوها بدمائهم التي ستبقى تذكاراً في سفر التاريخ، وهو يقلب أوراقه الناصعة فخراً بما وصلنا إليه جميعاً.

ولا أزال أنتقل بذاكرتي بين غبار المواقع، وأجول ببصري بين غابات الرافعات، وضجيج الآليات، وأنا أشـــهد ارتفـــاع الطبقات طبقة بعد أخرى، طبقة ترتفع، وهمٌ يزول، وينتهي البناء، ليبدأ بناء آخر، وتبدأ معه السلسلة: خطط، استراتيجيات، اجتماعات، قرارات، توصيات، تقويمات، نتائج وآثار. وهكذا، وقت يزول، يقصر أو يطول، ويعلو الحنين إلى أيام الأنين، أنين الإرهاق، والأرق، والتساؤلات: ماذا سأقدم غداً؟ وكيف أنجح في خطتي؟ وكيف سأقنع مديري بفكرتي؟ وهل سأتم المهمة على أكمل وجه؟

لكن كيف نقرع أجراس الانتباه أمام الجميع لنحافظ سوياً على الطاقة الهائلة التي كسبناها من طفرة العقار؟ شركات تضخمت، وشركات قابضة، وأخرى مقبوضة، أو مقبوضاً عليها، أو حتى منقبضة. وكيف نصف مخزون الخبرات البارعة، وتجارب الميادين العقارية، وذلك التنافس الذي لم يكن يوجد غير الإبداع، في بيئة اختارته عنواناً لها، وطريقاً تكمل به مسيرة أبنائها من بعدها؟ كم هو رائع كل ذلك، وكم يغمرنا الزهو بذكراه، والرجوع إليه.

ثمة خطأ في التشكيك في الإنجازات، ويجب ألا يقودنا التأمل في الماضي إلى الرجوع إلى وراء، بل إلى أمام، فثمة حقيقة ثالثة بين التقدم إلى أمام والرجوع إلى وراء، هي الرجوع إلى... أمام. كلنا يحن إلى الازدهار العقاري الغابر، ويعلم أنه عائد مجدداً.


بقلم : سلوى ملحس "الحياة" اللندنية