السلام عليكم

الرائد في لغة العرب: هو الذي يبعث به أهله في أوقات الجدب ليرتاد لهم مكاناً خصيباً ينتقلون إليه، يقولون: راد الكلأ يروده روداً، بمعنى طلبه، والرائد هو الذي يرسل في طلب الكلأ، ولابد أن يكون صادقاً ثقة شجاعاً خبيراً بالمواطن المناسبة لنزول قومه، قادراً على معرفة الطريق حتى لا يضلوا .

ولأن هذا الرائد ذو صفات متميزة يعد الصدق أهمها، فإنه لا يمكن أن يكذب أهله، ولا أن يخدع قومه، لأنه لا يرضى لهم الهلاك، ولا يمكن أن يكون الإنسان رائداً محبوباً مطاعاً مصدقاً إلا إذا كان أهلاً للثقة، جديراً بالتقدير .

هكذا عرفت قبائل العرب الرائد ، فرفعت من شأنه، وقدرت صدقه وعنايته وشجاعته وسمو مقاصده.

هنا كانت هذه الجملة مهمة جداً من حيث مراعاتها لمتقضى الحال، ومن حيث تعبيرها الدقيق عن حالة البشير النذير الذي عرف بالصدق والأمانة والإخلاص، والشجاعة والإقدام.

لقد كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم الأولى في قومه بليغة في البيان والبلاغة والتأثير في نفوس المستمعين إليها.

هكذا وقف أفضل الخلق وأصدقهم أمام عتاة قومه يخاطبهم بما يعرفون، ويحدثهم بما يألفون: [إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً, وبالسوء سوءاً، وإنها للجنة أبداً ، أو النار أبداً] .

خطاب بليغ كل البلاغة، واضح كل الوضوح، مناسب للمقام ، موافق لحالة قوم ذوي جاه ومال، وأنساب يتفاخرون بها، خطاب يستخدم أمثال البيئة العربية، وعباراتها، ومصطلحاتها, ويوجه العناية إلى الهدف نفسه، اختصاراً للقول ، وتقريباً للغاية، وتقديراً لمقام المستمعين .

إنهم على يقين من أن الرائد لا يكذب أهله، فهو يدلهم على المكان الخصيب الذي ينقذهم من الجدب والجفاف، وها هو ذا الرائد الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام يستدل على أرض خصيبة ذات نبات وأشجار وأنهار، وذات ظلال وأرفة وثمار يانعة، فيسرع على أهله وقومه داعياً لهم، موجهاً إلى ذلك المكان الخصيب، ويستخدم في خطابه كل المؤكدات التي تدل على أن الأمر حق لاشك فيه، ويخاطبهم بروح فياضة مشرقة من المودة والرحمة بهم (( والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم )) ، فهنا قسم صريح من رجل صادق لاشك عندهم في صدقه، لأنهم يلقبونه بالصادق منذ أن نشأ بينهم يتيماً، وهنا حرف (( لو )) الذي يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره ولهذا يسمى (( حرف امتناع لامتناع)) ، فلو أن هذا الصادق كذب على الناس الأباعد، ما كذب على أهله رعاية لحق القرابة، فكيف يمكن أن يكذب على أهله وهو لا يكذب على غيرهم؟ ثم يأتي بعد ذلك تأكيد رسالته ونبوته إليهم خاصة وإلى الناس عامة ، ثم يدخلهم إلى عالم الموعظة مباشرة فيذكرهم بالموت والحساب، والجنة والنار لتقوم حجته عليهم كاملة غير منقوصة .

الرائد لا يكذب أهله، يا لها من عبارة رائعة واضحة الدلالة، جليلة المعنى، إني أراها كاليد البيضاء النقية تلطم وجوه رواد كثيرين من أبناء أمة الإسلام في هذا العصر، بعث بهم قومهم إلى بلاد الغرب والشرق يرتادون لهم من العلم والثقافة والتقنية، ما ينفع ويفيد ، فما أخلصوا في ريادتهم، ولا صدقوا في دلالتهم ، بل خدعوا أمتهم وخانوها، عندما دلوها على مواقع مليئة بأوحال الفكر الغربي، والثقافة المنحرفة عن دادة الصواب، وحسنوا لها الموقع (( الوخيم )) والخلق السقيم، حتى أوصلوها إلى حالة التبعية التي تعيشها اليوم، وحالة الضعف التي تسيطر عليها في هذه الفترة المؤلمة، لقد دعوا أمتهم العطشى إلى مستنقعات آسنة فاسدة الماء ، وإلى بقاع موحلة فاسدة الهواء، وإلى بريق خادع مغشوش الضياء، وتلك خيانة كبيرة يخون فيها (( الرائد )) أمانته، ويخالف بها ما تعود عليه الناس من أمانة الرائد وصدقه وشجاعته .

إن على الامة عبئاً كبيراً فيما جرى لها، ومسؤولية عظيمة فيما جرى منها من انسياق وراء روادها الكاذبين، أتدرون لماذا؟ لأنها نسيت رائدها الأول الصادق المصدوق الذي رسم لها معالم الطريق المستقيم، ودلها على المواقع الخصيبة الصالحة للحياة الحرة الكريمة، نسيت ذلك الرائد الذي قال لها بوضوح لا مجال فيه لشك أو تردد: (( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك )) .

(( إن الرائد لا يكذب أهله )) وهل هنالك رائد أفضل من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، يا أمة محمد ؟

إني برغم الحزن لست بيائس

فالفجر من رحم الظلام سيُولَد