(( 18 ))

حسابات وهموم




-------------------------------------------------------


كان نجم يسرق من وقته المشغول جدا بحساباته ورسم خططه الكبرى تجاه أسرته بعض الوقت ليخلو إلى نفسه ويطلق لأحزانه العنان بكاءا مريرا على فراق والده وكان شديد الحرص ألا يلحظ أحد آثار حزنه في عينيه وملامحه فكان يذهب إلى جبل يحاذي جبل أبو مخروق من ناحية الشمال

حيث يطلق لمشاعره العنان فيسكب عبراته أدمعا حارة تغشى خديه الطريين
حتى إذا ما انتهى من تفريغ تلك الشحنات المريرة من أحزانه أنتابته تناهيد متتابعة تكاد من سطوتها أن تنتزع أضلعه من فرط احتدامها في صدره حتى إنه يحس بارتجاف وارتعاش شاكلتيه فيمضي مجترا عبراته كما يجترها طفل أحس بظلم جراء انتهاره بشده

كان من المصادفات الحزينة أن هناك أغنية جديدة تغنيها المطربة صباح وتذيعها الإذاعة السعودية بين حين وآخر على أساس أنها أغنية جديده ومن بعض كلماتها المؤثرة في نجم
جينا الدار نسأل عالحبايب – لقينا الدار تبكي عاللي غايب


وفي غمرة أحزانه وهمومه يذهب نجم بأفكاره ووجدانه متأملا في ماض قريب حيث كان والده يقسو عليه في كثير من الأمور ففي سن السابعة وهو في الصف الأول ابتدائي
كان والده يكلفه برعي الأغنام بعد العودة من المدرسه وخلال ثلاث سنوات من رعي الأغنام

اكتسب نوعا من الإعتماد على النفس والخشونة المبكرة فمن حيث الإعتماد على التفس فقد أعطاه والده من باب التشجيع والإعداد تسع عنزات صغيرات تعلم كيف ينميها
ويستثمرها استثمارا جيدا

صلى الله وسلم على خير من رعى الغنم وقاد خير الأمم

وفي كل شأن حسن لنا في رسول الله قدوة حسنة
كان والد نجم أميا لايقراء ولايكتب وأصما من عاهة في صغره و لكنه كان شاعرانبطيا فحلا ومن الشعار المشهود لهم في مجتمعه ومحيطه ومن أشعاره على سبيل المثال لا الحصر

من عاش بالعليا له العز مضمون
---------------- ومن عاش في تبع النذالة هفتبه
ادارج الحيلات وامشي على الهون
---------------- واكشف قلوب قرابنا وش هقتبه
اذا ابديت الجود ولاهم يفوزون
---------------- =======ووجه الغلا ناورت به
ويارعي الحاجة لك الحق مضمون
---------------====== ووجه القباحة كشرتبه
جربتهم ولاهم عفاريت وجنون
-------------- والاحسن من هذا ضميري كمتبه


وقد كان على شيء من الشدة والصلف في التربية وفي المواقف الجادة ولا مجال لليونة والميوعة في مجالس الرجال ومواقفهم وقد انعكست هذه الطباع تربويا على نجم حيث يلتزم بتعليمات شديدة الصرامة من والده أثناء استقبال الضيوف والقيام على خدمتهم بمنتهى الأدب والإنضباط ابتداءا من المظهر ووجوب تهلل أسارير الوجه وترديد الترحيب والإحتفاء بالضيوف مرورا بتبخيرهم بالمجمرة أو المدخن حسب أصول محددة
وصولا إلى طريقة الإمساك بدلة القهوة وكيفية صب القهوة وشدة الإنتباه والتركيز
على الضيوف ومراقبة شربهم للقهوة ووجوب سرعة صب القهوة في الفنجان بمجرد انتهاء الضيف أو الضيوف من شرب آخر قطرة من الفنجان الذي يجب أن لاتتجاوز جرعة القهوة فيه أكثر من الربع لضمان حراة القهوة فيه وعدم برودتها جراء الجرعة الزائدة

كذلك عدم المشاركة في الحديث مع الكبارإلا في حالة السؤال أو في أضيق الحدود
والموت الموت إن ضحك طفل أو غلام بين الضيوف وتشمل طقوس خدمة الضيوف الوقوف خلفهم أثناء تناول الطعام بأواني الماء ومراوح اليد المصنوعة من سعف النخيل في فترة الصيف لتلطيف الجو وهش الذباب وحتى صب الماء لغسيل الأيدي مع الوقوف بفوط التنشيف حيث لاصنابير للمياه ولامغاسل عصرية ولا ورق تنشيف في تلك الأيام

إنها لعمري تعليمات وطقوس شديدة الصرامة و الإنضباط أشد بأسا من الإنضباط العسكري ولعلها ميزة لذلك الجيل على الأجيال التي جائت من بعده من حيث الخشونة والسلوكيات واحترام التقاليد ووجوب احترام الكبار بل ان الصبية والغلمان كانوا يؤدون هذه الواجبات والأدوار برحابة صدر ودون أدنى تذمر كلازمة ومظهر من مظاهر الفخر والرجولة المبكرة

أبو نجم كما كان يؤمن إيمانا راسخا بصحة أسلوبه ووجهة نظره في معالجة الأمور بأسلوبه الخاص الذي يرى فيه البعض أسلوب جاف وخشن شديد الصلف حد العنف بينما يراه هو من جانبه رجولة واستقامة من واقع ظروف الحياة التي عاشها والتي يرى بالضرورة أن تنطبق على غيره دون أدنى اعتراف أو اهتمام باختلاف الزمان والظروف

توقف نجم أثناء تأملاته عند بعض النقاط التي لم يكن ليفهمها أثناء حياة والده ولكنها برزت له بعد رحيله كحقائق موثقة بالتجارب حيث فهم أن والده كان يعده ويجهزه لتحمل مسؤلياته بطريقته الخاصة وحسب فهمه ومفاهيمه التربوية التي يؤمن بها ويرى أنها هي الأصلح



يتبع