محمد كمال القدرة (العلوم بالعربية) في عام 1947 صرّح مهندس الحاسوب الأمريكي هوارد أيكن بأن ست أجهزة حواسيب إلكترونية رقمية تكفي لتلبية احتياجات الولايات المتحدة الأمريكية للحوسبة.



بالطبع، هوارد لم يأخذ بحسبانه الانفجار المعرفي والكميات الهائلة من المعلومات الناتجة من الأبحاث العلمية والأعداد المتزايدة من الحواسيب الشخصية وظهور شبكة الإنترنت التي زادت من حاجتنا إلى المزيد والمزيد من القدرات الحاسوبية.

فالواقع اليوم يشير إلى أن ستة أجهزة حواسيب إلكترونية رقمية بالكاد تُلبّي احتياجات عائلة صغيرة! وعلى الرغم من القدرات الحاسوبية الهائلة التي بين أيدينا والتقدم المذهل الذي توصلنا إليه في مجال الحوسبة الإلكترونية في هذا العصر، إلا أن متطلباتنا واحتياجاتنا لمزيد من القدرات الحاسوبية لم تُشبع، بل هي آخذة في الازدياد.



ولكن، في ظل النهم الإنساني المتواصل لمزيد من السرعة والقدرة الحاسوبية،
- إلى أي حد يمكن أن يستمر تطوير الحواسيب؟ أو بصيغة أخرى،

- هل سيمكننا في يوم من الأيام أن نتوصّل إلى قدرات حاسوبية كافية لتحقيق احتياجاتنا وإشباع نهمنا؟


حدود تُمليها الفيزياء
لكي نجيب على هذا السؤال نحتاج إلى أخذ نظرة على تاريخ تطور الحواسيب والإلكترونيات.

إن المتتبع لهذا التطور الإلكتروني ولسرعة المعالجات الحاسوبية يجد أن هذه السرعة تتزايد بشكل أسي منذ تطور الحواسيب إلى يومنا هذا.

يتم التعبير عن هذه القاعدة من خلال قانون شهير يُعرف بـ “قانون مور” نسبة إلى الأمريكي جوردون مور، الرئيس الفخري لشركة إنتل وأحد مؤسسيها، والذي يُعتبر أول من توصّل إلى هذه الملاحظة.

وينص هذا القانون على أن “عدد الترانزستورات في الدارات المتكاملة يتضاعف كل عامين تقريباً”.

وبطبيعة الحال، فإن تضاعف عدد الترانزستورات يعني زيادة في السرعة وقوة في الآداء وصغر في حجم الشرائح الإلكترونية.

منذ عام 1975 إلى اليوم، لا يزال هذا القانون يحكم التطور (التقني) في مجال الحوسبة الإلكترونية لدرجة أن البعض يعتبره بمثابة نبض القلب لوادي السيليكون، مهد التطور الإلكتروني.

فالمعالج الأول الذي أنتجته شركة إنتل كان يحتوي على عدد 2300 من الترانزستورات، بينما يصل عدد الترانزستورات في معالج إنتل core i5 إلى ما يقارب المليار! ويرجع الفضل في ذلك إلى التقليص المتواصل لحجم الترانزستورات عبر العقود، فبفضل هذا التقليص أصبح بالإمكان وضع مليارات الترانزستورات على شرائح إلكترونية لا تتجاوز مساحتها بضع السنتيمترات.

الشكل المرفق يوضّح تزايد عدد الترانزستورات في المعالجات على مدى العقود الماضية.


شكل يوضح تزايد عدد الترانزيستورات على الشرائح الإلكترونية في الفترة ما بين 1970-2011

وفقاً لقانون مور، فإننا وفي غضون عشرين عام سنصل إلى ترانزستورات بحجم الذرة المنفردة، الأمر الذي يعني أن الفيزياء قريباً ستضع حداً لقانون مور. وذلك لأننا عندما نتحدث عن الذرات فإننا نتحدث عن عالم مختلف تحكمه قوانين مختلفة تماماً عن تلك القوانين التي نعرفها، هذه القوانين تعرف بميكانيكا الكم.

وإذا أردنا الاستمرار في زيادة القدرات الحاسوبية والسرعات فإننا نحتاج إلى تصغير الترانزستورات أكثر وأكثر لكي نزيد من أعدادها على الشرائح الإلكترونية، وبما أننا في طريقنا إلى ترانزستورات بأحجام الذرات، فسيتوجب علينا التعامل مع نوع جديد من الحوسبة وهي الحوسبة الكمومية.

ما هي الحوسبة الكمومية
حتى نفهم ما هي الحوسبة الكمومية نحتاج أن نأخذ لمحة سريعة عن نظرية الكم أو ميكانيكا الكم.

نظرية الكم هي نظرية تم تطويرها خلال القرن الماضي، وهي تدرس سلوك الجسيمات الذرية وما دون الذرية.

عندما درس العلماء الذرات وجدوا أنها تتصرف بشكل عجيب جداً ومخالف للتصرفات البديهية التي اعتدنا عليها، فمثلا يمكن للذرة –أو الجسم الذري بشكل عام– أن يتواجد في أكثر من حالة في نفس الوقت في ما يعرف بالتراكب (Superposition)، ويمكن لذرتين أن يتواصلا معاً لحظياً مهما كانت المسافة بينهما من خلال ما يعرف بالتشابك الكمي (Quantum Entanglement)! بالإضافة إلى العديد من الخصائص العجيبة.

في العقود القليلة الماضية بدأ العلماء يفكرون في إمكانية استغلال هذه الظواهر العجيبة للتوصل إلى نمط جديد من الحوسبة اسموه الحوسبة الكمومية.

كيف تعمل الحواسيب الكمومية؟
في الحواسيب التقليدية، يُعتبر البت Bit هو العنصر الأساسي الذي يتم تخزين البيانات وإجراء الحسابات من خلاله. ويأخذ البت إما القيمة 0 أو القيمة 1. البت في هذه الحالة هو ترانزستور يعمل في حالتين، إما حالة Off ويقابلها 0 أو حالة On ويقابلها 1. ويتم من خلال هذه البتات تصميم بوابات منطقية وخوارزميات بحيث تسمح للحاسوب بتخزين البيانات وإجراء مجموعة من العمليات عليها بشكل متسلسل.

أما في الحواسيب الكمومية فالبت الكمومي QuBit هو العنصر الأساسي، وهو يختلف تماماً عن البت العادي. فقد يكون البت الكمومي ذرّة أو أيون أو إلكترون أو فوتون. ويتم استغلال صفة أساسية لهذه الجسيمات تسمى الدوران الذاتي Spin، هذا الدوران الذاتي يمكن أن يكون up ويقابله الحالة 1 أو قد يكون down ويقابله الحالة 0 ويُمكن كذلك أن يتواجد في حالة متراكبة من 0 و 1 معاً، وذلك بفضل خاصية التراكب الكمومي Quantum Superposition.

هذا الخاصية المميزة تعطي قدرات هائلة جدا للحواسيب الكمومي، فبفضلها يمكن للحواسيب الكمومية أن تقوم بملايين العمليات الحسابية في نفس اللحظة بشكل متوازي بدل من أن تقوم بها بشكل متسلسل كما في حالة الحواسيب العادية، تُعرف هذه الظاهرة بالتوازي الكمومي Quantum Parallelism أي القيام بعدة عمليات في نفس اللحظة وبشكل متوازي.

هذا الأمر يجعل من الحواسيب الكمومية حواسيب خارقة بشكل لا يتصوره العقل، ويمنحها قدرات مذهلة لدرجة أن الحواسيب الكلاسيكية الخارقة تُعتبر مجرد ألعوبة إذا ما قورنت بالحواسيب الكمومي. ففي حين أن زيادة عدة البتات في الحواسيب التقليدية تؤدي إلى زيادة القدرة بشكل خطي، فإن زيادة عدد البتات الكمومية في الحواسيب الكمومي يؤدي إلى زيادة أسية في قدرة الحاسوب.

فمثلا يُعتبر حاسوب كمومي مكوّن من 30 بت كمومي أقوى من أقوى حاسوب خارق نمتلكه اليوم، بينما حاسوب كمومي مكوّن من 300 بت كمومي يفوق قدرة كل أجهزتنا الحاسوبية الكلاسيكية متصلة معاً!

تصميم البتات الكمومية تُعتبر عملية معقدة، فالأمر يتعلق بالتعامل مع جسيمات ذرية وهذا يتطلب درجات حرارة قريبة من الصفر المطلقة وبيئة مفرغة من الهواء ومعدّات معقدة لكي تحفظ استقرار الجسيمات الذرية.

لقد تمكّن العلماء خلال الثلاثون عام الماضية من التوصّل إلى عدة طرق يتم من خلالها عزل البتات الكمومية والتحكم بها، ومن أهم هذه الطرق:
  • لواقط الأيونات Ion Traps: حيث يتم استخدام مجالات مغناطيسية وضوئية من أجل التقاط الأيونات وحصرها، ومن ثم التحكم بحالتها من خلال المجالات المغناطيسية المستخدمة.
  • اللواقط الضوئية Optical Traps: ويتم فيها استخدام موجات الضوء لعزل الجسيمات والتحكم بها.
  • النقاط الكمومية Quantum Dots: ويتم تصميمها من مواد شبه موصلة بأبعاد صغيرة جدا تصل
  • إلى النانومتر، ويتم التحكم بالإلكترونات من خلالها.
  • شوائب أشباه الموصلات Semiconductors impurities: ويتم فيها حصر الإلكترونات من خلال إدخال ذرة معينة إلى بلورة من مادة شبه موصلة.
  • الدارات فائقة الموصّلية Superconducting circuits: حيث تسمح للإلكترونات بالتدفق بدون أي مقاومة وذلك عند درجات حرارة قريبة من الصفر المطلق.


شركات كبرى تستثمر في المستقبل
إن القدرات الهائلة التي تتميز بها الحوسبة الكمومية أثارت اهتمام العديد من الشركات الكبرى بالموضوع، مما أدى إلى استثمارات ضخمة قامت بها الشركات في مجال الحوسبة الكمومية.

فقد قامت الحكومة البريطانية في عام 2014 بضخ مبلغ 270 مليون جنيه استرليني لأبحاث (التقنية) الكمومية حيث استفادت عشرات المجموعات البحثية العاملة في الموضوع داخل جامعات بريطانيا.

كما أعلنت شركة إنتل مؤخراً بتعاقدها مع جامعة ديلفت التقنية في هولند واستثمار مبلغ 50 مليون دولار لأبحاث الحوسبة الكمومية.

وكذلك تقوم شركة جوجل ومايكروسوفت و IBM ووكالة ناسا بالإضافة إلى العديد من الشركات بالاستثمار والإنفاق على أبحاث تطويرية في مجال الحوسبة الكمومية لما لهذا المجال من تطبيقات واعدة جداً في المستقبل.


أعلنت شركة D-wave هي شركة متخصصة بتطوير الحواسيب الكمومية وقد أعلنت قبل سنوات عن تمكنها من صناعة حاسوب كمي. (Credits: D-wave Systems, INC.)

تحديات وعقبات
رغم مرور حوالي ثلاث عقود على وضع الأسس النظرية للحواسيب الكمومية، إلا أننا لا نزال في مرحلة البدايات حيث توجد العديد من التحديات التي تحتاج من العلماء أن يجدوا لها حلولاً كي تصبح الحواسيب الكمومية أمراً واقعاً.

فعلى سبيل المثال، تتطلب الحواسيب الكمومية توفر درجات حرارة تقترب من الصفر المطلق وبيئات مفرغة من الهواء، وهذا الأمر يحتاج إلى معدات متطورة ومختبرات عالية التقنية، مما يشكل عائقاً أمام إمكانية انتاج الحواسيب الكمومية بشكل تجاري.

كما أن التعامل مع جسيمات ذرية يجعل الوصول إلى حالة الإستقرار أمراً صعبا. وذلك لأن أقل تشويش في النظام الذري يجعله يفقد استقراره. لا زال العلماء والباحثون يعملون جاهدين للتغلب على هذه العقبات لجعل الحواسيب الكمومية أمراً واقعاً، هذه الجهود توحي بأننا سنصل حتماً إلى حواسيب كمومية فاعلة.

المصطلحات:
البت الكمومي (Qubit): هو وحدة البناء الأساسية في الحواسيب الكمومية، وهو يقابل البت في الحواسيب التقليدية، يتميز البت الكمومي بقدرته على أن يأخذ أكثر من قيمتين على عكس البت الكلاسيكي الذي يأخذ قيمتين فقط (0 و 1). هذه الميزة تضاعف من قدرات الحواسيب الكمومية بشكل أسي.

التوازي الكمومي (Quantum Parallelism): هي من خصائص الحوسبة الكمومية، حيث يتم القيام بالعمليات بشكل آني في نفس اللحظة أي بالتوازي وليس بشكل متوالي كما في حالة الحواسيب التقليدية. هذا الأمر يمنح الحواسيب الكمومية سرعات هائلة عند اجاء العمليات المختلفة.