تونس، حمادي معمري (إندبندنت) حذر أثريون من احتمال تعرض القطع الأثرية الموجودة في متحف باردو في العاصمة التونسية إلى التلف، بسبب استمرار إغلاقه منذ الخامس والعشرين من يوليو (تموز) 2021، أي نحو ثلاثة أشهر ونصف.


- المتحف الوطني بباردو (متحف باردو) يقع في مدينة باردو - ويكيبيديا

وقد أغلق المتحف الوطني من قبل قوات الأمن عبر حواجز وضعت في الطريق المؤدي إلى بابه الرئيس، مع منع العمال وأعوان التراث من دخوله، باعتبار أن الباب الرئيس للمتحف مدخل مشترك مع مبنى البرلمان.

قطع تتأثر بالرطوبة والإضاءة
ونبه توفيق العمري، محافظ مستشار التراث في المعهد الوطني للتراث، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، إلى أنه علمياً "يجب صيانة القطع الأثرية الموجودة في المتحف بشكل دوري، سواء كانت قطعاً نقدية، أو رخامية، أو تماثيل، من خلال الاعتناء بها، وتنظيفها وحمايتها من الأتربة، بخاصة القطع الحساسة التي تتأثر بالرطوبة والإضاءة".

ودعا المحافظ إلى عدم ربط القرار السياسي بالمتحف الذي يعد من أهم متاحف تونس وقِبلة الزوار، وأبرز وجهة سياحية في البلاد، علاوة على أنه يمثل مورداً مالياً لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية.

وشدد العمري على أنه كان من الأجدى فتح المتحف خلال هذه الفترة للصيانة، وتفقد القطع الأثرية، وتحييد هذه المنارة الثقافية الوطنية عن التجاذبات السياسية، مقترحاً أن يجري غلق مبنى البرلمان المحاذي للمتحف، وتحويله إلى مقر مجلس المستشارين القريب.

ولفت إلى غياب قانون خاص بالمتاحف في تونس، وبعث مؤسسة تعنى بالمتاحف تبدأ مهمتها من الحفريات وصولاً إلى الاستغلال والتثمين والعرض للقطع الأثرية. داعياً إلى ضرورة إعادة هيكلة المعهد الوطني للتراث، ومجلة التراث التي قال إنها تجاوزها الزمن، بخاصة أنها لا تجرّم الاعتداء على التراث اللا المادي، على الرغم من أن تونس صادقت على الاتفاقية الدولية لحماية التراث اللا مادي.

فضاء للدروس التطبيقية
من جهتها، أبدت منى الهرماسي، وهي محافظ تراث رئيس في المعهد الوطني للتراث، دهشتها من استمرار إغلاق متحف باردو، التي قالت إنه "منارة ثقافية"، لا يستقطب السياح والزوار فقط، بل أيضاً الطلبة والأساتذة الباحثين، لأنه "فضاء للدروس التطبيقية، من أجل تأصيل الهوية الوطنية وتثمين التراث".

وأكدت الهرماسي أن القطع الأثرية داخل المتحف باتت في خطر، لأنها تتأثر بسهولة بالرطوبة والإضاءة، داعية إلى التعجيل بفتح المتحف من أجل صيانتها وحمايتها من التلف.



قطع برونزية مهددة
وأكدت أن الغبار المتراكم على القطع البرونزية مثل حطام سفينة المهدية، أو التماثيل، يمكن أن يلحق بها الضرر، وتنتشر عليها بقع سوداء يصعب تنظيفها، إضافة إلى أن الرطوبة والإضاءة الخاطئة قد تتسببان في تلف لا يمكن ترميمه.

واعتبرت المختصة في الآثار أن إعادة فتح المتحف الوطني أصبح حاجة ملحة لحماية القطع الأثرية، لتجهيزه لاستقبال السياح مع عودة الرحلات البحرية السياحية. مشيرة إلى أن متحف باردو يعد أهم وجهة ثقافية لهذه الفئة من السياح وأبرز معلم في العاصمة.

عريضة إلى رئاسة الجمهورية
يُذكر أن أكثر من 60 مختصاً في الآثار وقعوا عريضة موجهة إلى رئاسة الجمهورية، منذ فترة، للمطالبة بجملة من الإصلاحات في قطاع الآثار، ومن بينها الدعوة إلى إعادة فتح المتحف الوطني بباردو، إلا أنها لم تجد أي صدى.

وعبر الموقعون على العريضة عن استيائهم من إغلاق متحف باردو، وانصراف رئاسة الجمهورية عن الاهتمام بقطاع التراث، واعتبروا أن إغلاق المتحف هو "أسوأ رسالة يمكن أن توجه إلى عموم التونسيين، وإلى زوار تونس والمهتمين بموروثنا الحضاري".



المتحف سيفتح قريباً
في المقابل، أكد فوزي محفوظ، المدير العام للمعهد الوطني للتراث، في تصريح خاص، أن المتحف مغلق لأسباب معلومة، (يقصد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية في الخامس والعشرين من يوليو 2021، وأن وزارة الثقافة والمعهد الوطني للتراث طالبا بفتحه.

وأضاف محفوظ أن متحف باردو سيفتح قريباً للعموم وللسياح. مشدداً على أنه لم يلحق أي ضرر بالقطع الأثرية الموجودة في المتحف.

ويصنف متحف باردو من بين أهم 10 متاحف في العالم، ويضم ثاني أهم مجموعة فسيفساء في العالم، إضافة إلى قطع أثرية نادرة جداً على غرار لوحة الشاعر الروماني "فرجيل"، التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي، وقد جرى اكتشافها في موقع أثري في "حضرموت القديمة" في مدينة سوسة في الساحل التونسي.


"قصر باردو" شاهد على تاريخ تونس 11 أكتوبر 2022
باردو، حمادي معمري (إندبندنت) يعود تاريخ بناء "قصر باردو" إلى القرن الـ16 (1574 ميلادي) وشهد عمليات توسعة في مناسبات كثيرة على أيدي البايات العثمانيين الذين تعاقبوا على حكم تونس. ويضم إلى اليوم مقر مجلس النواب (البرلمان) ومتحف باردو وكان في الماضي مقر إقامة البايات الذين حكموا تونس قبل عام 1956.


- يمثل "قصر باردو" نموذجاً من أروع نماذج الفن التونسي بكامل مظاهر تطوره من أوائل القرن الـ18

يتألف المبنى من القصر الصغير والقصر الكبير وتقول المصادر التاريخية إن "قصر باردو" شيد في البداية ليكون قصراً لحريم العائلة الحسينية بنمط معماري تونسي أندلسي وهو اليوم مقسم إلى معلمين، معلم أول يحتضن مجلس النواب ومعلم ثان يمثل مبنى متحف باردو.

وفي القرن الـ17 أولى بايات الدولة المرادية عناية كبيرة بـ"قصر باردو" فرمموه وجعلوه مقراً لحكمهم وسار البايات الحسينيون على منوال سابقيهم من المراديين واتخذوا باردو مقراً لدولتهم ورمموا ما تركه المراديون وشيدوا القصور والبناءات المتنوعة، حتى أصبح باردو بمثابة مدينة صغيرة لها سورها وأبراجها وجامعها وسوقها ودكاكينها وحماماتها ومدارسها.

وبالنظر إلى أهميته التاريخية شهد "قصر باردو" أحداثاً تاريخية طبعت تاريخ تونس من بينها "موكب الإعلان عن عهد الأمان عام 1857" و"موكب الإعلان عن أول دستور لتونس عام 1861".


- يعود إنشاء أول برلمان تونسي حديث إلى منتصف القرن التاسع عشر


روح تونسية تسكن المعمار
ومن الناحية المعمارية يمثل "قصر باردو" نموذجاً من أروع نماذج الفن التونسي بكامل مظاهر تطوره من أوائل القرن الـ18 إلى أواخر القرن الـ19 من حيث الهندسة المعمارية وفنون التزويق والنقش بمختلف أصنافه (على الجبس والجليز والخشب والسقوف المذهبة...).

ويقول المهندس المعماري عادل بوعزيز إن "الروح التونسية مسكونة في كل تفاصيل المعمار المكون لـقصر باردو"، لافتاً إلى أن "جميع المواد المستعملة من الموارد الطبيعية التونسية، علاوة على اللمسات الفنية من التزويق والنقش على الخشب الذي يغطي جانباً كبيراً من السقف وأيضاً النوافذ الكبيرة المطلة على الحدائق المحيطة بالقصر، كلها تحمل أبعاداً رمزية تعكس التاريخ والحضارات التي تعاقبت على تونس".

ووصفه بعض الرحالة الأوروبيين كالرحالة تيفيو في دفاتر رحلته عام 1653 بقوله "قصر باردو يتألف من ثلاثة أدوار غير بعيدة من تونس، فيها عدد كبير من النوافير والأحواض المحفورة في الرخام المستورد وقاعة مفتوحة على الهواء الطلق تتوسطها فسقـية وبلاط أرضي من الرخام الأبيض والأسود، كما هو الشأن في جميع الغرف الأخرى المزخرفة بالذهب واللازورد والنقش على الجبس".

رمز الحكم
ويبعد "قصر باردو" الذي يضم حالياً مجلس النواب ومتحف باردو حوالى أربعة كيلومترات من العاصمة ويمثل رمزاً للحكم في تونس في فترة مهمة من تاريخ البلاد، أي بداية من القرن الـ16 إلى القرن الـ20 مع تأسيس الجمهورية.

ويعود إنشاء أول برلمان تونسي حديث إلى منتصف القرن الـ19، تاريخ إنشاء محمد الصادق باي للمجلس الأكبر الذي كان يضم 60 شخصية يعينهم الباي، إلا أن هذه المؤسسة لم تعمر طويلاً، إذ وقع حلها بعد ثورة علي بن غذاهم.

وبعد الاستقلال أحدث المجلس القومي التأسيسي الذي أعلن النظام الجمهوري وأصدر أول دستور للجمهورية التونسية عام 1959 مجلس الأمة الذي بقي المجلس الوحيد للسلطة التشريعية إلى عام 2002، تاريخ قرار بعث غرفة ثانية (مجلس المستشارين).

ويعتبر القصر إلى اليوم رمز السلطة التشريعية، إذ يؤوي البرلمان ومجلس المستشارين، وعرفت تونس منذ الاستقلال إلى اليوم انتخاب 15 مجلساً نيابياً باعتبار انتخاب مجلسين تأسيسيين، وهما المجلس القومي التأسيسي (1956-1959) والمجلس الوطني التأسيسي (2011-2014).

هزات ما بعد 2011
وبعد 2011، أي بعد إطاحة حكم زين العابدين بن علي تم حل مجلسي النواب والمستشارين وعوّضا موقتاً لأشهر بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، ثم أجريت انتخابات في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 ونصب المجلس الوطني التأسيسي الذي قام بالمهمات التشريعية لمدة ثلاثة أعوام وأعد الدستور الجديد للبلاد، ليسلم العهدة رسمياً إلى مجلس النواب الشعب في مدته النيابية الأولى عام 2014، ثم الثانية عام 2019 التي لم تكتمل، إذ علقت اختصاصات البرلمان وجمدت عضوية جميع النواب ورفعت الحصانة عنهم للمرة الأولى بتاريخ البلاد في 25 يوليو (تموز) 2021، وأعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد الإجراءات الاستثنائية وفي 30 مارس (آذار) 2022 حل البرلمان بشكل رسمي.



البرلمان ليس مطلباً نخبوياً
ويؤكد أستاذ التاريخ في الجامعة التونسية عبدالجليل بوقرة أن "التشريع في تونس بدأ مع حضارة قرطاج، بينما عرفت تونس في المرحلة العثمانية مجالس يمكن تسميتها بالمجالس العسكرية. ومع الحسينيين في القرن الـ18 تم التخلي عن المجلس العسكري وأصبح الحكم وراثياً عند عائلة حسين بن علي وتواصلت الحال كذلك إلى القرن 19 مع تطور الحياة السياسية في الغرب".

ويوضح بوقرة أن "البرلمان في تونس لم يكن مطلباً نخبوياً، بل كان مطلباً شعبياً، إذ تظاهر التونسيون في 9 أبريل (نيسان) 1938 من أجل برلمان تونسي".

وبعد الاستقلال كان أول إجراء اتخذته الحكومة الوطنية الجديدة بقيادة الطاهر بن عمار، انتخاب "المجلس القومي التأسيسي" في 25 مارس 1956، أي بعد خمسة أيام من إعلان الاستقلال وكانت مهمته سن الدستور، إلا أنه قام ببعض المهمات غير التأسيسية كالنظر في الموازنة العامة للدولة.

ويضيف بوقرة أن "الزعيم الحبيب بورقيبة وقتها احتكر كل المهمات التشريعية وسن بنفسه القوانين وانتخب أول برلمان له دور تشريعي في نوفمبر 1959".

نحو مؤسسات تشريعية وتنفيذية صلبة
ويعتبر أستاذ التاريخ أن "من شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية المستقرة توفير مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية صلبة ومتماسكة".

ويذكر أن مقر البرلمان ومتحف باردو تم تطويقهما بالوحدات الأمنية منذ 25 يوليو (تموز) 2021 وتستعد تونس بعد أسابيع قليلة لانتخاب برلمان جديد هو الأول بعد مسار 25 يوليو، وعاشت البلاد من دون مؤسسة تشريعية لحوالى عام ونصف العام وسيكون التونسيون على موعد يوم الاقتراع مع التصويت على الأفراد بدل القائمات للمرة الأولى في تاريخ البلاد، ما سيفرز مشهداً سياسياً مختلفاً عما كان سائداً، علاوة على إحداث غرفة ثانية وهي "المجلس الوطني للأقاليم والجهات" الذي مكنه الدستور من صلاحيات تضاهي صلاحيات البرلمان.