الرياض - محمد القحطاني (واس) : اتسمت العلاقات السعودية الأمريكية بالشمولية في مضامينها، فلم تعد تقتصر إدارتها على منظومة عمل مؤسسي رسمي يعزّز جوانب التعاون بين البلدين فحسب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال بناء جسور ثقافية تدعم التواصل ما بين الشعبين الصديقين في صور وتجليات عدّة مثل ثقافة الآثار القديمة التي لا ينفك الإنسان عن الاهتمام بها، بوصفها مرآة لحضارات بشرية عاشت على الأرض منذ قرون مضت، وأداة لكشف هوية المجتمعات الإنسانية وثقافاتها.



لذا حرّكت معالم 400 قطعة أثرية نادرة ُعرفت ببعدها الحضاري وإرثها الثقافي في الجزيرة العربية شجون الأمريكيين المعروفين بشغفهم للمعرفة بعد أن اطلعوا عن كثب على تاريخ الحضارة الإنسانية في الجزيرة العربية الممتد من العصر الحجري القديم (مليون سنة قبل الميلاد) حتى عصر الدولة السعودية، وذلك في خمس ولايات تجولت فيها مقتنيات معرض "طرق التجارة في الجزيرة العربية ـــ روائع آثار المملكة عبر العصور" الذي نظمته الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على مدى عامين.

وُنظم معرض "طرق التجارة في الجزيرة العربية ـــ روائع آثار المملكة عبر العصور" في كل من: مدينة واشنطن، ومدينة بيتسبيرغ بولاية بنسيلفانيا، ومدينة هيوستن بولاية تكساس، ومدينة كانساس في ولاية ميسوري، ومدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، وقرأ زواره تاريخ الجزيرة العربية وما حمل من معلومات تصف حجم التراث الكبير الذي جسّد قيمة المجتمعات التي عاشت على أرض الجزيرة بمختلف مكوناتهم حتى قيام الدولة السعودية.



وسعى المعرض إلى تعزيز التواصل الثقافي بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في إطار العلاقات المشتركة بين البلدين، والتأكيد على أن المملكة ليست طارئة على التاريخ بل مهد الحضارات الإنسانية الضاربة في القدم، إلى جانب ما تتمتع به من مكانة إسلامية ودور إقليمي ودولي مؤثر في السياسات الدولية، فضلا عن مكانتها التاريخية بوصفها ملتقى للحضارات على مر القرون التي توّجت بحضارة الإسلام.

وتعرّف الأمريكيون على تاريخ المملكة عبر قراءة الإنسان والمكان والتوقيت، وأبعاد التسلسل الزمني والمكانة الجغرافية للجزيرة العربية بوصفها نقطة التقاء مهمة لقارات العالم الأمر الذي جعلها مستقرا للحضارات، محدثة أفضل تنمية عرفتها البشرية عبر التاريخ في وقت وجيز، بجانب دورها الأصيل في التواصل الإنساني وترسيخ الأمن والسلام الدوليين.



وغطت القطع المعروضة الفترة التي تمتد من العصر الحجري القديم (مليون سنة قبل الميلاد) حتى عهد الدولة السعودية، مبرزة تاريخ عصور ما قبل التاريخ إلى العصور القديمة السابقة للإسلام، ثم حضارات الممالك العربية المبكّرة والوسيطة والمتأخرة، مروراً بالفترة الإسلامية والفترة الإسلامية الوسيطة، حتى نشأة الدولة السعودية بأطوارها الثلاثة إلى عهد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله -.

وأقيمت أولى محطات معرض "طرق التجارة في الجزيرة العربية ـــ روائع آثار المملكة عبر العصور" في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012م، وذلك في متحف فرير وساكلر بمؤسسة سميثسونيان بواشنطن، وافتتحه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ورئيس مجلس أمناء مؤسسة سميثسونيان وين كلوف، واستمر ثلاثة أشهر زاره خلالها أكثر من (700) ألف زائر، منهم (90) ألفاً زاروا المعرض في مقر المتحف، و (610) آلاف عبر موقع المعرض الإلكتروني، وموقع مؤسسة السميثسونيان.



وشملت فعاليات المعرض تنظيم مجموعة من البرامج العلمية والثقافية تضمنت محاضرات علمية عن آثار المملكة العربية السعودية، وورش عمل للأطفال للكتابة باللغة العربية، وتقديم عرض تاريخي لبعض القصص العربية على مسرح صغير داخل المتحف، وعرض عدد من الأفلام الوثائقية والصور، وتوزيع عدد كبير من المطبوعات والكتيبات التي تبرز البعد الحضاري الذي تتميز به المملكة، وعرض أفلام وثائقية عن المملكة.

ولم يقف الحال إلى هنا، بل تم تنظيم عدد من العروض الفلكلورية التي تعكس تراث المملكة بمختلف المناطق، وتقديم مأكولات شعبية، وتوزيع الهدايا التذكارية لزوار المتحف جذبت الكثير من الزوار لها.

كما تنظيم فعالية خاصة بتكريم مُعيدي القطع الأثرية لعدد من الأمريكيين والأمريكيات ممن ولدوا وعاشوا بالمملكة مع آبائهم العاملين في شركة أرامكو السعودية، وقاموا بإعادة القطع الأثرية إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.



وعلق على المعرض رئيس متحف سميثسونيان بواشنطن البروفيسور جوليان ريبي قائلا: إنه أماط اللثام في الوقت المناسب عن حقب الماضي الثرية في شبه الجزيرة العربية.

بعد ذلك، انتقل معرض روائع آثار المملكة إلى العرض في (متحف كارنيجي) بمدينة بيتسبيرغ، وافتتحه الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، وحاكم ولاية بنسلفانيا توم كوربت في 12 شعبان 1434هـ، واستمرت فعالياته خمسة أشهر، بحضور عدد من الشخصيات السياسية والثقافية والدبلوماسية العربية والأجنبية المعتمدة في العاصمة الأمريكية واشنطن، وشخصيات تمثل المؤسسات الحكومية والأهلية والمنظمات الدولية والجهات التي تعنى بالآثار والتراث والثقافة في المملكة وأمريكا ودول العالم.

وقال حاكم ولاية بنسلفانيا الأمريكية توم كوربت: إن المعرض أوضح للشعب الأمريكي صورة التاريخ العريق للمملكة، مبيناً أن كل قطعة معروضة في المعرض تنطق بحضارة ممتدة في عمق التاريخ حتى 9 آلاف ‏عام، بينما أوضح رئيس جامعة روبرت موريس غريغوري أن المعرض يشكل فرصة كبيرة للتعريف بالثقافة والحضارة السعودية ومدى ما تمتاز به من عمق تاريخي.



أما المحطة الثالثة للمعرض فكانت في (متحف الفنون الجميلة) بمدينة هيوستن، وانطلقت فعالياته في 18 ديسمبر 2013م، واستمر ثلاثة أشهر حظي خلالها باهتمام إعلامي مكثف، وإقبال كبير من المجتمع الأميركي بفئاته المختلفة.

وحينها استقبل الرئيس جورج بوش (الأب) الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان، في مكتبه بمدينة هيوستون بولاية تكساس بحضور جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الذي وصف المعرض بالرائع، مبينًا أنه استعرض تاريخ المملكة الغني، ويدعم العلاقات المتميزة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.

وكانت المحطة الرابعة للمعرض في متحف "نيلسون - أتكينز للفنون" بمدينة كنساس في ولاية ميسوري، ودشن في 23 جمادى الآخرة 1435هـ، واستمر ثلاثة أشهر اطلع خلالها سكان الولاية على تاريخ المملكة وحضارتها الممتدة عبر العصور، والتعريف بما تكنزه المملكة من إرث تاريخي وثقافي عريق. وعن المعرض قال عمدة مدينة كنساس سلاي جيمس: إنه عكس مكانة وعمق التراث السعودي العريق، في حين أشار المدير والرئيس التنفيذي لمتحف نيلسون أتكنز للفنون كيفين زونير إلى أن المعرض يعد إلهامًا قيمًا للبشرية، معربًا عن إعجابه بالقطع الأثرية التي شاهدها، وطرق التجارة التي امتدت من العصر الحجري إلى العالم المعاصر.



وقال زونير: إن المعرض ظاهرة بحد ذاته، فقد نشأت في المملكة عندما كان أبي يعمل في شركة أرامكو السعودية، وجئت اليوم لأرى ما لم أراه من قبل وما لم أتوقع وجوده، والحقيقة أنني لا أستطيع التعبير عما يدور في عقلي الآن، أشعر أنه على العودة للعيش هناك من جديد.

وحضر الجمهور الأمريكي للمعرض وسجلوا انطباعاتهم عن ما شاهدوه ومنهم جيسيكا تيرسي التي قالت: أنا مندهشة لما شاهدته في المعرض، فهذه المرة الأولى التي أشاهد فيها مثل هذه القطع الرائعة، لدي صديقات من المملكة لكنني لم أعرف أن بلادهم بهذا الثراء، فيما أكد جين ويلكس أن المعرض غاية في الروعة حيث التنوع الجميل في المعروضات الذي يعبر عن ثراء حقيقي.

وأخيرًا حط معرض "طرق التجارة في الجزيرة العربية - روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور" رحاله في "سان فرانسيسكو"، وافتتحه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز في 27 أكتوبر 2014م في متحف الفن الأسيوي بمدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، بحضور حشد من المهتمين بالشؤون الثقافية ورجال الأعمال والشخصيات البارزة في الولاية.



ونوّه سمو الأمير سلطان بن سلمان في كلمته خلال حفل الافتتاح إلى رعاية واهتمام قادة المملكة بالتراث الوطني، ودعم جميع المبادرات والمشروعات التراثية من خلال إصدار الأنظمة والقوانين الوطنية المهمة، مفيدا سموه أن المعرض لا يهدف للترويج للسياحة أو لأي شيء آخر إنما يهدف للتعريف بالوجه الآخر للمملكة وإلى عمقها وبعدها الحضاري وموقعها الاستراتيجي الذي جعل منها ملتقى ومعبراً للحضارات الإنسانية.

وقال سموه: أكدت الاكتشافات الأثرية أن الجزيرة العربية لم تكن مجرد معبر للبشر قبل 20 ألف سنة، بل أنها في الحقيقة كانت موطناً للكثيرين وكانت مركزاً لانطلاق العديد من الهجرات والقوافل، مبينًا أن الدين الإسلام وحضارته العظيمة نزلت في أرض شهدت تداولاً حضارياً كبيرا منذ عصور ما قبل التاريخ، ولفت سموه النظر إلى متانة العلاقة بين المملكة الولايات المتحدة الأمريكية، وقال: إن هناك شراكة قوية تربط الدولتين، والمنطقة حالياً تشهد نقلة تاريخية نوعية، أظهرت فيها المملكة العربية السعودية أنها شريك حقيقي يقوم على المبادئ والقيم المشتركة.



ومن جهته رحب مدير متحف الفن الأسيوي جاي شو، بإقامة المعرض في المتحف، معبراً عن سعادته بالفرصة التي أتاحها المعرض للتعرف على التاريخ الحضاري العريق للمملكة ومكانتها بوصفها مهد الإسلام وقبلة المسلمين في أرجاء العالم.

وبعد ثلاثة أيام من عمر المعرض، وقع الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز في نيويورك مذكرة تفاهم مع مدير متحف متروبوليتان بنيويورك توماس كامبل بشأن التعاون في مجال المتاحف التي وافق عليها مجلس الوزراء وفوض سمو رئيس الهيئة بالتوقيع عليها.

وقال سموه في تصريح له: إن المذكرة تشمل معارض زائرة ومعارض مشتركة، وإعارة بعض القطع الأثرية للعرض في متحف المتروبليتان، علاوة على قطع موجودة للعرض في متاحف المملكة، وذلك وفقاً للضوابط المقرة في نظام الآثار في المملكة.



أما مدير متحف متروبوليتان توماس كامبل فقد قال: نحن نهتم غاية الاهتمام بالمحافظة على الروابط القوية مع الدول والثقافات التي تركت أثراً واضحاً في الثقافات الإنسانية وخارطة الحضارات عبر العصور ومنها الجزيرة العربية التي كانت ممراً مهماً لحركة الحضارات ومنبعاً لحضارات مهمة.

وأشار إلى أن مذكرة التفاهم مع المملكة مهمة جداً لأنها تضع الأساس للتعليم والتدريب والتبادل، مبينا أنه خلال الخمس سنوات القادمة سيحضر متخصصون محترفون من المملكة إلى متحف متروبوليتان للعمل مع نظرائهم في أمريكا في مجال التدريب وفهم أفضل الممارسات في علم المتاحف.