وجدت مقالة للكاتب : منصور العسّاف، عن أشهر أيام العرب في الجاهلية بعنوان (الموت ينتصر لحياة الآخرين!) يقول : ظلت جزيرة العرب أحدوثة المؤرخين وملهمة الشعراء الأقدمين، ففي كل فرسخٍ من أراضيها ملاحم صاغها الشعراء ونقلها الأدباء تحكي في مجملها حقبة طويلة من تاريخ بني إسماعيل حروبهم وضروبهم.. آثارهم ومأثرهم، كتب عنها الرحالة، ودوّنها المؤرخون، وحفظها الشعراء بقصائدهم ومعلقاتهم رغم أن معظمها كانت حروب كر وفر بين بني العمومة وأبناء الحي الواحد، وهو ما حدث في يوم خزاز أحد أشهر الأيام في تاريخ العرب في الجاهلية والذي سمي على جبل خزاز في عالية نجد وسط الجزيرة العربية.


الجبل من الجهة الغربية

الموقع والتسمية

قال «السكوني» أصل «خزاز» ماء لِغَنيٍّ. يقال له: خزازة. وخزاز في ناحية منعج دون إمرَةَ وفوق عاقل على يسار طريق البصرة إلى المدينة ينظر إليه كل من سلك الطريق.

وحدد «أَبو عمرو» خزازاً فقال: هو جبل مستفلك، قريب من إمَّرَة عن يسار الطريق، خلفه صحراء منعج. وصحراء منعج الشمال من بلدة دخنة وتسمى الآن سهب الظاهرية.

وقال «زهير»:

شهدت الوافدين على خزاز *** وبِالسُّلاَّنِ جمعا ذا هواءٍ

وقال «ياقوت»: خزاز وخزازي: هما لغتان كلاهما بفتح أوله، وزاءين معجمتين، قال أبو منصور: وخزازى مشكل في النحو، وأحسنه أن يقال: هو جمع سمي به كعراعر ولا واحد له من لفظه، وقال الحارث بن حِلَّزة:

فتَنَوُّرت نارها مِن بعيد *** بخزازى، هيهات منك الصِّلاء

قال «أبو عبيدة»: كان يوم (خزاز) بعقب السُّلاَّن، (وخزاز) وكير ومتالع أجبال ثلاثة بطخفة مابين البصرة إلى مكة. فمتالع عن يمين الطريق للذاهب إلى مكة، وكير عن شماله أي جهة الشمال، وخزاز بنحر الطريق، إِلاّ أنه لا يمر الناس عليها ثلاثتها.

وقال «ياقوت»: وغلط الجوهري فيه غلطاً عجيباً فإنه قال: خزاز جبل كانت العرب توقد عليه غداة الغارة، فجعل الايقاد وصفاً لازماً له وهو غلط. إنما كان ذلك مرة في وقعة لهم.

ثم نقل كلاماً لأبي زياد الكلابي عن قصة يوم خزاز إِلى أن نقل عنه قوله: يوم خزاز، أعظم يوم التقته العرب في الجاهلية.وقد حدثنا من أدركناه ممن كنا نثق به بالبادية أن نزاراً لم تكن تستنصف من اليمن، ولم تزل اليمن قاهرة لها في كل شيء حتى كان يوم (خزاز) حتى جاء الإسلام.

قال الشيخ محمد بن ناصر العبودي في معجم بلاد القصيم ما نصُّه: «قال أوس بن حجر: وأنت في الموضع الذي ترى منه كيراً، والأنيعم واحد الأنعمين، وهما جبلان صغيران يقعان بقرب مدينة الرس يسميان الآن (القشيعين). أقول: هذا هو الواقع بالنسبة لمن يكون لدى خزاز بأي قرية، فإنه يرى جبل (كير) رؤية واضحة إلى الشمال منه، ومن يكون في الأنعمين (القشيعين في الوقت الحاضر) فإنه يرى خزازاً ويرى كيراً كليهما) انتهى كلامه».


الجبل مكون من صخرة واحدة صماء

ويضيف الرحالة العبودي في موقع آخر قوله: «يتبادر إلى الذهن معنى لكلمة خزاز معروف في الفصحى والعامية، وهو الشوك الذي يوضع في أعلى الحائط ليمنع من يريد أن يطلع عليه. وفيها يقال: خز الجدار ونحوه؛ إذا جعل الشوك فيه. وفي الفصحى الخز: الانتظام بالسهم، والطعن بالرمح الاختزاز. وظني أن تسمية الجبل من المعنى الأول، فكأنه لمناعته وصعوبة صعوده قد جُعل عليه خزاز؛ أي ما يمنع الصعود إليه» انتهى كلامه.

دخنة

ومن هذا يتضح أن «خزاز» على بعد خمسة أكيال من بلدة دخنة جنوب غرب محافظة الرس على بعد (45كم) عنها، وقد وصف الرحالة الغربي «لوريمر» مدينة دخنة حين زار بين عامي (1903-1015م) بأنها أرض منبسطة على بعد 50 ميلاً جنوب الغرب من عنيزة و4-5 أميال من جبل «خزاز» وتوجد بها أربعون بئراً مبعثرة على مساحة ميل أو ميلين ومياهها جيدة على عمق 3 قامات.

ولكون دخنة (التي كانت تسمى منعج قديماً) تمثل إحدى أهم موارد المياه المنطقة للرحالة وطريق الحاج، فقد استوطنتها قبائل شتى من أقحاح العرب تداولوا في مروجها ومراعيها، وقال فيها الشيخ مشعان بن هذال:

يا الله طلبتك عند سرحات الأدباش *** ذودٍ مغاتير ويبرى لهن سود
مرباعها الصمّان تبعد عن الطاش *** ومقياظها دخنة إلى صرّم العود

ودخنة اليوم مدينة عامره يسكنها فرع من بني سالم من حرب منذ أكثر من قرن من الزمان، وقد قال العبودي: «وقد عمّر دخنة في العصر الأخير الأمير مفضي بن فهد البهيمة وجماعته من الحصنان الواحد منهم «حصني» من الذين هم فرع من بني سالم من قبيلة حرب نزلوها عام 1333ه».

ويذكر في حديثه عن خزاز ومنعج (دخنة) في كتابه معجم بلاد القصيم قصة حصلت لفتاة كانت ترعى الغنم في خزاز ما نصُّه: (وحدثني الأخ بدر بن مفضي البهيمة من أهالي دخنة التي كانت تسمى في القديم منعج أن راعية غنم من أهالي دخنة كانت ترعى غنمها في سفح جبل خزاز بعد وقعة السبلة التي كانت عام 1347ه، ووجدت خبيئة في أسفل جبل خزاز فظنت أنها كنز وعالجتها مع رفيق لها فوجدا ما يشبه التنور من الفخار نازلاً إلى الأرض بحوالي المترين، فحفراه ووجدا بداخله جثة رجل بقي منه جمجمته وبعض فقار ظهره، ويعتقد أنه كان في التابوت متخذاً جلسة القاعد، فتركاه وأخبرا أهالي دخنة بذلك). ثم يعلّق على ذلك قائلاً: (إن هذه الواقعة المؤكدة تدل على أن منطقة خزاز كانت قد شهدت عمراناً قديماً، وأن هذا الرجل الذي دفن على طريقة غير الطريقة الإسلامية كان أحد الكبار من جنود اليمن).


الجبل يقع على بعد خمسة أكيال من بلدة دخنة و(45 كم) عن الرس

يوم خزاز

وملخص يوم خزاز كما ذكره «ابن الأثِير» أَن ملكاً من ملوك اليمن كان في يديه أسارى من مُضَر وربيعة وقضاعة، فوفد إليه وفد من وجوه بني معد، فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينة، وقال للباقين: ائتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي، وإلاّ قتلت أصحابكم، فرجعوا إلى قومهم، فأخبروهم الخبر، فبعث كليب وائل إلى ربيعة فجمعهم، واجتمعت عليه معد، فسار بهم، وأمرهم أن يوقدوا على (خزاز) ناراً ليهتدوا بها، وقال: إن غشيكم العدو فأوقدوا نارين.

فبلغ مذحجاً اجتماع ربيعة، ومسيرها، فأقبلوا بجموعهم واستنفروا من يليهم من قبائل اليمن، فساروا إليهم، فلما سمع أَهل تهامة بمسير مذحج انضموا إلى ربيعة.

ووصلت مذحج إلى (خزاز) ليلاً، فرفع السفِّاح التغلبي وكان على مقدمة جيش ربيعة نارين، فلما رأى كليب النارين، أقبل إليهم بالجموع فَصَبَّحَهُمْ، فالتقوا (بخزاز) فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثروا فيه القتل، فدارت الدائرة لصالح كليب وقومه، فقال السفاح في ذلك:

وليلة بتُّ أُوقدُ في خزاز *** هديتُ كتائباً مٌتَحيراتِ
ضللن من السهاد وكنَّ لولا *** سهاد القوم -أحسب- هاديات

وظلت وقعة (خزاز) وما فعلته ربيعة هناك مذكوراً مشهوراً موضع فخر لربيعة بين الأدباء حتى القرون الوسيطة ممن ذكره ونوه به الشاعر الإحساني «أبن مقرب» فقال من قصيدة:

ألاّ إنما فعل الأمير محمد *** لإحياء ما سن الجدودُ الأوائل
هم (بخزازي) دافعوا عنكم العدى *** وذلك يوم ممفر الطعم باسل
فكشراً بلا كفر، لسعي ربيعة *** فما يكفر النعماء في الناس عاقل

خلاف المؤرخين

وقد قيل في يوم خزاز قصائد وأشعار لا يسع المجال لذكرها؛ غير أن الروايات المنقولة والمتواترة عن أحداث ذلك اليوم وما سبقه من استعدادات الفريقين يشوبه خلط في مسميات القبائل فتجد أن بعض المؤرخين يشير للقبائل اليمانية بحمير، وفي آخر حديثه ينعتها بقبائل مذحج، والمعروف أن مذحج القبيلة العربية ذائعة الصيت عائدة إلى «كهلان» أخو «حمير»، و»حمير وكهلان» أبناء سبأ هم جذمي العرب اليمانية، كما أن بعضهم يذكر أن «همدان» وهي من كبرى قبائل اليمن من «كهلان»، وشاركت في المعركة في حين لم يذكر البعض مشاركتها، ولعل ذلك عائدٌ إلى مقصودهم بأن المشاركة كانت من عدة فروع من قبائل اليمن وليس كلها؛ بدليل أن «أبن الأثير» ذكر أن بعض هذه القبائل شاركت مع ربيعة وذلك بقوله: «فلما سمع أهل تهامة بميسر مذحج انضموا إلى ربيعة» وإن كان ذلك مستبعد لدينا.

كما أن بعضهم ذكر أن «قضاعة» شاركت مع «ربيعة» على قول أنها قبيلة نزارية، وهذا لا يرجحه الكثير، حيث يرون أن قضاعة من القبائل اليمانية، مستشهدين بما يروونه من الروايات ومنها قول الصحابي الجليل «عمرو بن مرة الجهني القضاعي»:

نحن بني الشيخ الهجان الأزهر *** قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر *** في الحجر المنقوش تحت المنبر

وعليه فمشاركة قضاعة في المعركة أمر يحتاج إلى دراسة.

ومن المعلوم أن الحروب والمعارك بين القبائل العربية كانت محصورة في أرجاء جزيرة العرب مهد أمجادهم، ومعقل أجدادهم، ولم تكن الغلبة لفريق ضد آخر إذ كانت حروبهم طوال ومعاركهم سجال، لا تحقق لهم فيها غاية ولا ترفع لأحدهم راية، وإن حدث غير ذلك فإن الحال يتبدل سريعاً في المعركة الأخرى، حتى سطع فيهم نور الإسلام، وتوحدوا تحت هدي النبوة فوصلوا بأمجاد الإسلام إلى أصقاع الشرق والغرب، وسجّل لهم التاريخ فضل نشر الرسالة المحمدية عليها وعلى صاحبها أفضل الصلاة والسلام.


تجاوزات من تجار الرخام للجبل