بندر الدوشي - واشنطن
يعتبر الحج واحداً من أركان الإسلام الخمسة، وهو من الشعائر الإسلامية العظيمة التي تثير اهتمام المسلمين وغيرهم، ولطالما حكى كبار السن عن مصاعب الحج وعوائقها قبل عشرات السنين؛ مثنين على الجهود الجليلة التي قدمتها الحكومة السعودية بعد توحيد البلاد على يد المغفور له الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، والنقلة الكبيرة التي أحدثتها المملكة العربية السعودية في تنظيم نسك الحج وتأمين الحجاج للعودة إلى بلادهم سالمين غانمين، وهو هدف سخّرت له الحكومة السعودية الغالي والرخيص من أجل راحة الحجاج على اختلاف مللهم دون تفرقة.
وفي كتاب للكاتب الروسي "يفيم ريزفان" وحمل عنوان "الحج قبل مائة سنة"، اطلعت "سبق" على محتواه الذي جمع فيه تقارير وقصصاً واقعية كتبها ضابط روسي مسلم يُدعى عبدالعزيز دولشتين، والذي أرسلته السلطات الروسية إلى أراضي الحجاز بشكل سري؛ بهدف الحج وجمع معلومات وتقارير عن مشاهداته للعالم الإسلامي، والذي يعكس الحج معظم تفاصيله؛ حيث قدّم الكتاب معلومات قيمة عن المخافر العسكرية والقادة الأمنيين والحاميات والسلطات المركزية، وملامح الحياة العامة، والتعليم، والصحة، والتقسيم الإداري، والمساجد، وربما كتب عن كل شيء وقع نظره عليه. وشملت مشاهداته مكة والمشاعر المقدسة بكل تفاصيلها، والطائف، وينبع، والمدينة المنورة.
رواية وصفية
الكتاب عبارة عن 352 صفحة، وهو رواية وصفية بديعة للتاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع والإدارة في تلك المنطقة الاستراتيجية.. وهو متاح باللغة العربية، وقامت بنشره دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في بيروت عام 1994.
وتفصيلاً كانت فترة الحج للضابط الروسي 1898- 1899، وحكى الضابط تفاصيل تكليفه بالمهمة، ثم روى قصة سفرته البحرية الشاقة والمريرة للوصول إلى جدة؛ حيث وصفها بأنها كانت ذات منظر جميل من بعيد؛ لكن تتغير الصورة حين الوصول إليها.
ويتحدث كيف كان الحج مصدراً لانتشار الأوبئة والطاعون خصوصاً، والتيفوئيد والكوليرا المشؤومة على حد وصفه، ويضيف: كانت السلطات الروسية تعتبر العائدين من الحج كابوساً مرعباً بسبب هذه الأمراض.
وباء فتك بالحجاج
ويصف "دولشتين" طريقة انتشار الأوبئة بالقول: تنتشر أوبئة الكوليرا بكثرة في وقت توافد الحجاج، وبمتوسط مرة كل ثلاث سنوات؛ فتفتك بأكثر من نصف الحجاج وتمتد إلى أماكن ترحّل البدو المجاورة، وإلى أماكن آهلة أخرى في الجزيرة العربية.
ويضيف "دولتشين" في تقريره، أن هذا الوباء يبدأ أحياناً عند عرفات؛ ولكن بشكل ضعيف؛ لذا لا يسترعي الانتباه؛ لكنه ينتشر بكثرة في منى، ويبلغ قوته القصوى هناك.
ويقول: وإذا سارت جميع الأمور على ما يرام عند الانطلاق إلى عرفات وحتى مساء اليوم الأول من الإقامة في منى؛ فقد يكون هناك أمل في أن الوباء لن ينشب هذه السنة.
وأشهر الأوبئة التي أصابت موسم الحج -كما يقول- كان سنة 1831، وجاء من الهند إلى الحجاز ومات بسببه ثلاثة أرباع الحجاج، ونشب الوباء التالي سنة 1834، ثم سنة 1837، وسنة 1840. ثم عاثت الكوليرا فساداً طوال خمس سنوات على التوالي من سنة 1846 حتى 1850، ثم أطل الوباء برأسه مجدداً في سنة 1865 وكذلك في سنة 1883.
نهب وسلب
ويروي الضابط الروسي معاناة الحجاج الكبيرة من عمليات النهب والسلب والتي يقوم بها بعض سكان البادية وأسماهم "البدو"، ويتحدث عن اعتداءاتهم على القوافل، كما وصف المقاومة المسلحة التي تُبديها بعض القبائل لمرور القوافل في أراضيها.
ويشرح "دولتشين" في حكاياته أن البدو ينقسمون إلى كثير من القبائل التي يشرف على كل منها شيخ، وتشغل كل منها منطقة معينة، وهناك قبائل غالباً ما تتصارع فيما بينها وتهاجم بعضها، ولها حسابات دائمة بلغة الدم؛ في إشارة إلى الانتقام. ويضيف: ويعتبر أهل البادية أنفسهم الأسياد الحقيقيين لمناطقهم ولهم الحق في أن يُجيزوا أو يمنعوا القوافل من المرور في أراضيهم.
ويصف تسليح رجل البادية بالقول: "يحمل الرجل البدوي دائماً الأسلحة في اليدين؛ سواء بندقية شطف بقداحة أو بندقية بفتيل أو رمح، وعلى الكتف أو على الظهر يتدلى سيف ذو حد أو حدين، وعلى حزامه الجلدي مسدس وخنجر ولوازم معدنية مختلفة لحفظ البارود والرصاص".
الطريق المرعب.
ويحكي الضابط الروسي حالة الرعب ما بين مكة وجدة آنذاك بالقول: "وفي الطريق بين مكة وجدة حيث الحركة الدائمة، تَشَكّلت عصابات كاملة من قطّاع الطرق تنهب وتسلب على الدوام؛ برغم وجود المخافر؛ أما في الطريق بين مكة والمدينة المنورة وينبع؛ فإن هذا الشر يتطور أثناء حركة الحجاج؛ فمعظم القبائل تتعاطى السلب والنهب من دون أن تعتبر ذلك جريمة، وتبيع علناً -وبكل حرية- ما تحصل عليه من الأشياء بهذه الطريقة".
ويروي "دولتشين" كيف أن امرأة وهبت نفسها زوجة لمن يقتل مَن قتل والدها، وكيف هب أحد الشبان وقتل أحد الأفراد المشاركين في قتل والدها، وبالفعل تزوجته؛ لكن الشاب أصيب بالجنون خشية الانتقام منه، ثم مات بعد ذلك.
قاتل معترف
وفي إحدى قصصه يروي الضابط الروسي أنه أثناء إحدى الوقفات في الطريق بين مكة والمدينة المنورة، ظهر رجل من أهل البادية وأخذ يتنقل على الركب كله، عارضاً بيع سلاح وحزام وألبسة حج، وبدلة حاج اعترف بقتله على المكشوف، وبرغم السعر التافه الذي طلبه لم يعمد أحد من الركب إلى شراء المعروض.
الهجوم المباغت
وكانت بعض العصابات المتشكلة من أهل البادية يتعاطون السلب والنهب ويتتبعون القافلة كما تتبع الذئاب الجائعة القطيع؛ متخفين نهاراً في مكان ما يترقبون المسافرين المتخلفين. وحين تتوقف القافلة في الظلام لأجل الراحة ينقضّون عليها، ويحدث في هذه الحال الهرج والمرج، ثم يتسنى لهؤلاء الضواري أن يختلطوا مع أهل القافلة ويقطعوا الزنانير التي تُحفظ فيها النقود عادة؛ صاعقين مسبقاً بضعة أشخاص بضربات على مؤخرة الرأس بالهراوة، وهو ما يُسفر غالباً عن الموت.
البيئة القاتلة
ولم يفُت على الضابط الروسي أن يصف بيئة الطرق التي تربط ما بين مكة وجدة، وما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ حيث يستعرض "دولتشي" مصاعب الحركة وانتقال الحجاج من مكان لآخر، ويقول: "كانت تربة جميع الطرق في الحجاز من الرمل الخشن جداً، وهي موجودة بجوار الجبال، وتتناثر فيها أحجار متفاوتة الكبر؛ أما الطرق الضيقة والمعابر فتعترضها كسور من الصخور تصعّب الحركة كثيراً".
ويضيف: ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة توجد أربعة طرق؛ أحدها يتلوى حول جبال الحجاز من الشرق وآخر من الغرب، واختيار هذا الطريق أو ذلك عند الانطلاق من مكة يجري عادة بإشارة من الشريف الذي يعرف العلاقات بين مختلف القبائل، كما يعرف وضع الأمور بين البدو. وهناك طريق خامس هو السبيل البحري لكنه يتسم بالوعورة الشديدة؛ لذا لا يستفاد منه.
ويزيد قائلاً: " كان الحجاج القادمون من بلاد فارس يسلكون طريق القدس للمرور -بعد مناسك الحج- على كربلاء التي تعتبر أحد المدن المقدسة لهم. كما كانت الجنسية الهندية وقوافلها هم الأكثر في الحج. وقدم إحصائيات قيّمة عن أعداد الحجيج ودولهم والطرق التي يسلكونها، وهي معلومات من المستحيل أن تغيب عن رجل المخابرات الروسية.
تجارة الرقيق
روى الضابط الروسي كل تفاصيل رحلته؛ حتى إن تجارة الرقيق كان لها نصيب كبير من كتاباته؛ حيث يقول: "تنتعش تجارة الرقيق كثيراً أثناء تجمع الحجاج؛ حيث إن الأرقاء الذين يباعون في الحجاز ينتمون حصراً إلى قوميتين: الزنوج السود تماماً الذين يعتبرونهم في الحجاز أفضل الكادحين، ويشترون منهم الرجال والنساء لأجل العمل فقط، والثانية هم الأحباش وهم أقل سواداً، وتباع النساء كمحظيات". واستفاض الكاتب في شرح الرق وأسعارهم وكيف أن كثيراً من الحجاج يشترونهم ليعتقوهم لوجه الله طلباً للأجر من الله.
وللإيضاح كان الكتاب عبارة عن تقييم دقيق لحال الحج والفوضى التي عايشتها الأجيال السابقة، ولو طالت حياة الكاتب وشاهد الحج وجهود المملكة العربية السعودية بعد توليها أمر الحجاز ربما سيؤلف كتاباً جديداً يصف فيه الحج بأنه نزهة حقيقية، مقارنة بما شاهده وعايشه طوال رحلة حجه المرهقة والخطيرة قبل أكثر من 117 عاماً.
منقول من صحيفة سبق
مواقع النشر