[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم



حتماً قد سمعت عبارة " القرون الوسطى " تتردد كثيراً على ألسنة بعض المثقفين العرب والسعوديين منهم وحتماً احترت في تفسير المقصود من القرون الوسطى .
لكن حيرتك ستتبدد إذا قرأت في الفكر الغربي . حينها ستكتشف أن هذه العبارة عبارة دارجة على ألسنة المفكرين والأدباء والكتَّاب الغربيين , ويقصدون بها القرون الوسطى الأوربية التي تبدأ سنة 476م على قول أغلب المؤرخين وهي آخر عهد الغرب بالإمبراطورية الرومانية القديمة وتنتهي سنة 1453م مع نهاية حرب المائة عام الشهيرة بين انجلترا وفرنسا . والقرون الوسطى هي قرون تمكُّن الكنيسة والإقطاع وبالتالي التخلف والاستبداد والخرافة من السيطرة على مقاليد الأمور وهو ما سمح بتغييب وتسطيح عقول وأفئدة الناس. ويستخدم الغربي سواءً أكان شخصاً عادياً أو مثقفاً هذا المصطلح للرد على ما يراه تخلفاً أو تعسفاً أو إقطاعاً أو تغليباً للتشدد - غير المبني على العقل - على التسامح والحق في الاختلاف وهو ما وُسِمت به القرون الوسطى الأوربية التي كانت غاية في الاضطهاد والتطرف والاستبداد والتخلف .
والغربي حين يفعل ذلك فله كل الحق فماضيه الديني ماض غير مشرف على الإطلاق وخصوصاً في فترة القرون الوسطى فلقد ساد الفساد واستشرى بشكل مريع وسط الطبقات الدينية عمودياً وأفقياً . يقول صاحب كتاب المسيحية في العصور الوسطى : " ولسنا مغالين إن قلنا إنَّ غالبية رجال الدين في تلك الأيام كانوا من مدمني الخمر , مستعبدين للعديد من الخطايا كخطيئة الزنى , وكانوا يعيشون في بحبوحة من العيش , يسعون وراء المتع الزائلة مهملين القيام بواجبات الخدمة الموكلة إليهم ...وكانوا يشترون المناصب بالمال حيث كانت ظاهرة السيمونية (وهي ظاهرة شراء المناصب الدينية بالمال ) متفشية في ذلك الزمان . ولم يكن الرؤوساء أفضل من مرؤوسيهم , بل كانوا أردأ وأشر منهم بكثير , وكانت السيمونية هي الطريق الوحيد للحصول على منصب الأسقف , وكانت هناك تعريفة محددة للحصول على هذه الوظيفة " . انتهى كلامه.
يقول جون لومير صاحب كتاب تاريخ الكنيسة: " إن التهمة الأكثر انتشاراً كانت الاستغلال المالي , فلقد ضج الناس بالشكوى من أعلى حاكم حتى أدنى قروي بأن الكنيسة عاشت للمال , ومن داخل الكنيسة ضغط البابا على الأساقفة الذين عصروا الكهنة الذين هم بدورهم عصروا الشعب " . ويقول : " يبدو أنَّهم في كل يوم اخترعوا طرقاً جديدة لتنمية دخول الكنيسة فقد كان هناك محصلون خصوصيون من قِبل البابا سافروا إلى الأرياف كانوا يطالبون بعُشر دخل الكاهن, ويحصلون على كل حصيلة الكاهن عن السنة الأولى من خدمته , وبالطبع كانت المراكز والوظائف الكنسيِّة لمن يدفع المبلغ الأكبر , والضرائب كانت تفرض سنوياً على رؤوساء
الدول , وإذا سافر البابا أو احتفل بأحد الأعياد حينئذ تُفرض لذلك ضريبة إضافية . يُقدِّرون أن الكنيسة في فرنسا وألمانيا استولتا على ما يتراوح بين ثلث إلى نصف كل أملاك الدولة , وفي إنجلترا أتلفت الكنيسة وصرفت حوالي 25% من الدخل القومي ". يقول لومير : " لقد سلم المؤرخون أن البابوية خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر والجزء الأول من القرن السادس عشر وصلت إلى أدنى درك خلقياً وروحياً . كانت بابوية دنيوية ...وكانت مركزاً لبلاط فاسد عاجز عن تقديم قيادة روحية , وإرشادات كنسيَّة , وحقاً كان هذا البلاط يغوص منحدراً إلى أدنى درك في القيم الأخلاقية ".
لم يكن هذا الفساد غريباً , لأنه ينبع من فساد العقيدة التي وضع أسسها المجمع المسكوني الأول في العام 325م الذي دعا إليه الإمبراطور قسطنطين الأول الذي كان وثنياً لكنه استشعر أن الخلافات المسيحية قد تهدد سيطرته على الحكم فدعا الفريقين المتنازعين إلى الحوار الذي كان طرفه الأول يقول بعدم ألوهية المسيح عليه السلام وبأنه بشر بينما يقول طرفه الآخر أنَّه إله , وانتهى الحوار بالإمبراطور " الوثني " إلى تأييد القول الثاني ونفي دعاة القول الأول من البلاد وحرق كتبهم ووصمهم بأعداء المسيحية تنفيراً للناس عنهم. من هنا اكتمل قدر الله بتحريف المسيحية وهو ما سمح بدخول الكثير من العقائد الوثنية على المسيحية المحرفة . يقول ول ديورانت صاحب كتاب قصة الحضارة : " إن المسيحية لم تقض على الوثنية بل تبنتها , ذلك أن العقل اليوناني المتحضر عاد إلى الحياة في صورة جديدة في لاهوت الكنيسة وطقوسها , وأصبحت اللغة اليونانية التي ظلت قروناً عدة صاحبة السلطان على السياسة , أصبحت أداة الآداب والطقوس المسيحية , وانتقلت الطقوس اليونانية الخفية إلى طقوس القداس الخفية , وساعدت عدة مظاهر أخرى من الثقافة اليونانية على إحداث هذه النتيجة المتناقضة الأطراف , فجاءت من مصر آراء الثالوث ... وعبادة أم الطفل ... ومنها استمدت الأديرة نشاطها والصورة التي نسجت على منوالها ... ومن فريجيا عبادة الأم العظمى , ومن سوريا جاءت عقيدة موت الإله وبعثه ...وقصارى القول : أن المسيحية كانت آخر شيء ابتدعه العالم الوثني القديم " . انتهى كلام ديورانت.
لقد تحولت المسيحية على يد الوثنية لتصبح عقيدة وثنية متخلفة تعجنها أيدي رجال الدين الذين كانوا يتسابقون على الانتفاع منها فيزيدون ويحذفون كلما عنَّ لهم أن مصلحتهم في ذلك , وهو ما دعاهم في القرن الثاني عشر لاختراع مسألة الاستحالة وكان الهدف من اختراعها التأكيد على أهمية رجال الدين حيث لا يستطيع أن ينال أحد من المسيحيين هذه المسألة إلا بواسطتهم , فهم الذين يعطون صفة القداسة على الشعائر كما يقول صاحب كتاب أثر الكنيسة على الفكر الأوربي. والاستحالة هي عقيدة مسيحية حيث يأكل المسيحي الخبز ويشرب الخمر في يوم الفصح معتقداً أن الخبز يستحيل إلى جسد المسيح , والخمر يستحيل إلى دم المسيح , فمن أكل الخبز وشرب الخمر وقد استحالا هذه الاستحالة فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه ودمه !! يقول ديورانت :
" وبهذه الطريقة تُعظِّم الحضارة الأوربية والأمريكية اليوم شعيرة من أقدم الشعائر في الأديان الوثنية - وهي أكل الإله " . وقبلها في القرن التاسع منحت الكنيسة صكوك الغفران لأول مرة . وأول صك في الغفران الكلي عرضه إربان الثاني في العام 1095م على من يشتركون في الحروب الصليبية الأولى . وكرَّت سبحة بيع الصكوك حتى تجاوزت كل حد معقول , ولك أن تعرف أن البابوات كانوا يعهدون إلى بعض المصارف المالية في ألمانيا ببيع صكوك الغفران إلى عملاء البنك !!
سدنة هذه العقيدة المُحرَّفة كانوا يعملون بكل طاقتهم الاستيعابية لاستدامة سيطرتهم على البسطاء والسذج من المؤمنين , ولذا فقد قامت بكل ما يلزم من قتل ونفي وتشريد وحرق وطرد من الجنَّة لكل من تُسوِّل له نفسه طرح الأسئلة البدهيِّة حول هذه العقيدة مثل : كيف يكون الثلاثة واحد ؟ وكيف يدخل المسيح بلحمه ودمه إلى الجسد ؟ وكيف يدخل صاحب الصك الجنة مهما فعل من الآثام والذنوب والطوام ؟
لقد كانت هذه الأسئلة وغيرها مُحرمة على أتباع هذه الكنائس فمجرد طرحها أو الهمس بها كفيل بالوصف بالهرطقة والإلحاد والزندقة . وهو ما أسس لمحاكم التفتيش الشهيرة التي مارست عن طريقها الكنيسة التعذيب البشع والقتل والحرق والشنق للمخالفين لمعتقداتها أو المشككين فيها .
هل تتساءلون : ما الذي دفعني لكتابة هذا حول الكنيسة ؟ لا تستعجلوا . لم يبق إلا القليل :
لم تكتف الكنيسة بمنع تداول ما كانت تسميه " الأفكار الخبيثة " , بل إنها وضعت في كتبها المقدسة - بغباء واستسهال لا نظير له- معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية صبغتها بالصبغة الدينية حتى باتت من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها , وألفوا في ذلك كتباً وتآليف ,...وعضوا عليها بالنواجذ وكفَّروا كل من لم يدن بها , كما يقول أبو الحسن الندوي الذي يذكر أن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا ومن أكبر جنايتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه أنَّهم دسُّوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية , ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية , ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر, ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني ...ذلك أن العلم الإنساني يختلف من عصر لآخر فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل . انتهى كلامه.
لذا يغدو مفهوماً موقف الكنيسة من العلم كالقول بدوران الأرض حول الشمس , وما فعلته في العالم الشهير " المتدين " جاليليو كي يعود عن قوله بدوران الأرض حول الشمس , ومطاردتها وزجها في السجن لكل من يشكك في الحقائق العلمية التي احتكرت الكنيسة التصديق عليها .
لا أريد التوسع أكثر في الكتابة حول هذا الصراع الذي انتهى بانتصار العقلانية والعلم على الخرافة والتخلف والطغيان...
نعود الآن للحديث عن مثقفي بلادنا العربية والسعوديين منهم بوجه خاص الذين يرددون كالببغاء مصطلح " القرون الوسطى " كلما جوبهت أفكارهم ومشاريعهم التي تقفز على ثوابت الدين الإسلامي الحنيف والسالم من كل تحريف وطغيان ومطاردة ومحاكم تفتيش وحرق وصكوك غفران سخيفة وتضاد صارخ مع العلم.
هل ما حصل في المسيحية من تحريف وتغيير وتبديل وما اعتورها من تخلَّف واضطهاد وإقطاع ومحاكم تفتيش حصل في الإسلام كي يتم نقل هذا المصلح المسيحي إلينا ؟
أفهم أن يتم نقل أو نحت أو توظيف أو ترجمة مصطلح علمي أو وصفي غير ذي إرث تأريخي لكنني لا أفهم كيف يتم نقل مصطلح مثل مصطلح " القرون الوسطى " المسيحية التأريخي فيُسقَط على زمان ومكان وواقع مغاير تماماً . السبب من وجهة نظري هو الانبهار والعبودية التي تسكن عقول وقلوب هؤلاء والتي تجعل قصارى ما يملكونه من موهبة هو ترديد رجع الصدى الغربي .
وليتهم يقرأون بعيونهم التي سيأكلها الدود كيف كانت الحضارة الإسلامية باسقة ومهيمنة وعزيزة وعقلانية إبَّان القرون الوسطى حتى كان الغربيون يسافرون إلى بلاد الإسلام من أجل العلم والمعرفة على العكس من الظلام والاضطهاد والتعسف والتخلف الذي كانت تقبع فيه أوروبا ..
يقول المفكر الفرنسي الشهير موريس بوكاي صاحب كتاب " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة " : " وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعتُ أن أحقق قائمة أدركتُ بعد الإنتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث " .
إنَّ هؤلاء المثقفين من بني جلدتنا لا يتكلمون عن " القرون الوسطى " الزاهية خاصتنا وفخرنا نحن العرب والمسلمين , بل عن " القرون الوسطى " المتخلفة خاصة الغرب المسيحي الذي تهيم قلوبهم وعقولهم بحبه .
إنهم ويا للعجب لا يريدون أن يقرأوا تاريخ حضارتهم العربية والإسلامية بأنفسهم بهدوء وروية وحياد وموضوعية . والسبب أنَّهم عبيد لا يقرأون إلا ما يقرأه السيد الذي إن سمَّى عصورنا الزاهية بالعصور الوسطى سمَّوها كذلك , وإن سمَّى الجهاد بالإرهاب سمَّوه كذلك , وإن سمَّى الكفر بالحرية سمَّوه كذلك . وهل قصارى العبيد إلا الطاعة العمياء . وهي الطاعة التي تشبه طاعة السذج والحمقى والبسطاء من النصارى لأسيادهم القساوسة في العصور الوسطى.
إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .



عبدالله الشولاني

سبق
[/align]