في السُّرادقِ الواسعِ، الّذي تَهتزُّ جَنَباتُه مِن وَقْعِ صَدَى الصّوتِ للمُكبِّراتِ المُتناثرةِ، جَلسَ الحضورُ يُتابعونَ الجالسَ على المِنَصَّةِ يَخطُبُ خُطبتَهُ السِّياسيةَ العصماءَ في الموسمِ الإنتخابيِّ الشرسِ.
كلماتٌ ناريَّةٌ اندلعَتْ مِن فَمهِ الواسعِ المدرَّبِ على الكذِبِ، وقَدِ انتفخَتْ أوداجُهُ على آخرِها، وتدلَّى لُغْدُهُ السّمينُ، وصوتُه الجَهْوَرِيُّ يكادُ أن يمزِّقَ طبولَ الآذان. والحضورُ قابلُوها بتصفيقٍ حادٍّ، اتَّصلَ لدقائقَ، وهُنا وهُناكَ، تتالَى رجالٌ يهتفونَ بهتافاتٍ سَمِجَة.
وهذا الشابُّ الجالسُ بينَ الصُّفوف المكتظَّة، التفَتَ حوْلَهُ وَسطَ الضَّجيجِ والهتافاتِ، وَوجدَ كلَّ الذينَ حَوْلَهُ يصفّقونَ بحرارةٍ... الضوءُ بعيدٌ عنهُ، والعيونُ مشخصةٌ للجالسِ فوق المِنصَّة، ولكنَّ مِن الكَياسةِ ألاَّ يُبديَ امتِعاضَهُ.
يَشعُرُ أنّه مكشوفٌ وحدَهُ، متعرٍّ بلا تصفيق!
مدَّ يدَهُ في جيبِ السُّترةِ الداخليِّ، وأخرجَ علبةَ السجائرِ الأجنبيةِ، وسحبَ منها سيجارةً... يدٌ تحملُ العُلبةَ، ويدٌ تحملُ السيجارةَ التي لم تشتعلْ، وهكذا أعفَى نفْسهُ مِن التصفيق.
يَصرخ المخرجُ المنتج:
روعة، روعة! .. نُكمل غداً مساءً.
وأشار بإبهامهِ للممثِّل الشابِّ الَّذي لاذَ بالسيجارةِ حتَّى لايصفِّقَ علامةً للتوفيق في الأداء.
كان ابنُ المخرِج، الطالبُ في جامعةٍ خاصّة، قد خرجَ من الجامعة و ذهبَ إلى (البلاتوه) دُونَ أن يواعدَ أباه. وقفَ مندهشًا ممّا دارَ حولَه، ولمّا أوقفَ والدُه التصويرَ، اقتربَ منه وهو جالسٌ على الكرسيِّ سعيداً بنجاح المشهد، ومالَ عليه وعلى وجهه امتعاضٌ وتساؤلٌ مَريرٌ:
- ما هذا يا أبي؟!
- (المدخِّنُ واعٍ ونزيهٌ): رسالة ممرَّرة في دقيقتين، ألَّفها أبوكَ بنفسه، فدفعَتْ عنها شركة السجائر ربعَ ميزانيّة الفيلم.. تخيَّل!
- ولكنْ ! أنا لمْ أتخيّلْ أبدًا أنكَ أنت...
قاطعَه أبوه، وهو يفرك أذنَه مداعباً ، وعلى وجهه ابتسامة:
- وكيف أغيِّر لكَ السيَّارةَ إذاً ؟!
بَعدَ يومين، دُعي الوالدُ لندوةٍ عن (السينيما ورسالتها).
كان الوالدُ هناك على المنصَّة يخطبُ بفمٍ كالفم، وأوداجٍ كالأوداج، وكانَ الابنُ تلك المرَّة في القاعةِ المكيَّفة.
وعندما أنهى كلمتَه، صفَّق الحضور بحماسَة، صفَّقوا كلُّهمْ، إلا شابًّا واحداً متأفِّفاً، رفضَ التصفيق، بدونِ أنْ يُخرجَ عُلبةَ سجائر مِن جَيب سُترته.
مواقع النشر