بسم الله الرحمن الرحيم
أكثر ما يلفت النظر اليوم في مجتمعاتنا هو تزايد مساحة الهمس الخفي بين الناس , وأكثر ما يصدم المراقب هو تسلل هذه الظاهرة إلى طبقة الصفوة التي من المفترض أنهم يشكلون عقول الأمة , و يقودها إلى بر الأمان , وإذا أردت أن تعرف حجم هذه الظاهرة فقط ارع سمعك لكل ما يقال حولك في المواصلات , وعلى المقاهي , وفي المنتديات الخاصة, عندها ستتعرف على حجم الظاهرة .
إنها ظاهرة يجب أن تقلق الجميع حكام ومحكومين . فعندما يرى المرء في محيط عمله تجاوزا ويكتفي بلوي شفتيه فهذه خيانة , وعندما يسكت المرؤوس على أخطاء رؤسائه ويكتفي بهز كتفيه فهذه خيانة , وعندما نرى جنوحا في القرارات أو السياسات أو التوجهات التي يتخذها أولي أمرنا ويكتفي المحيطون بمتخذي القرار بالهمس الخفي , وانتقاد تلك القرارات أو السياسات أو التوجهات همسا في أحاديثهم الخاصة فهذا معناه استمرار لحالة الضعف والفساد والفوضى , وكل هذا مما يجر البلاد والعباد إلى مزيد من التقهقر والتخلف.
. فهل كانت - مثلا - مصر عبد الناصر في حاجة إلى كل هذا الهمس الخفي من كبار مسئوليها , وعلمائها , ومثقفيها الذين اكتفوا فقط بممارسة هذه الرذيلة في أنديتهم الخاصة لسنوات طوال , وتركوا الرجل يغرد وحده حتى وصلت البلاد والعباد إلى ما وصلوا إليه من جراء ممارسة تلك الرذيلة ؟ وهل كان عراق صدام حسين - بتاريخه وإمكانياته ومجده- يستحق من أبنائه وعلمائه ومثقفيه كل هذا الهمس الخفي , وهذا الخوف الشجاع لعقود طوال حتى أودى فرد بحياة أمة ودفع بها إلى الهلاك ؟
والآن وأنت تقرا هذه السطور توجد الكثير من الدول , والإمارات , والممالك , و الجمهوريات كلها تمارس فيها هذه الرذيلة بامتياز. لذلك إن لم يتنبه الجميع لخطورة هذا الأمر فإن العواقب وخيمة , والأضرار ماحقة , والآثار قد تمتد إلي أجيال و أجيال . ولعظمة هذا الأمر وخطورته امتدح الله سبحانه وتعالى الشجاعة والشجعان , وحذر من الجبن والفرار, وامتدح قول الحق وعدم الخشية إلا من الله سبحانه وتعالى حيث قال في سورة الأحزاب :
" الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً {39}.
إن الشجاعة ليست مقصورة على الحروب و المعارك : فكلمة حق عند سلطان جائر شجاعة , والصدع بكلمة الحق شجاعة , الدفاع عن النفس والمال والعرض شجاعة . ونصرة الدين والمظلوم شجاعة , وتذكير الغافل شجاعة . والنقد البناء شجاعة , والدعوة إلى الحق شجاعة , والإصلاح في امة فاسدة شجاعة , والثبات أمام الشبهات والشهوات شجاعة .
إننا نخاطب في شريحة الصفوة عامة , والمحيطين بمتخذي القرار في بلادنا خاصة - كل في موقعه - نناشد فيهم الشهامة , والرجولة , والوطنية . نناشدهم ونقول لهم كفا همسا , بل اصدعوا بما تهمسون به في أنديتكم الخاصة , وأعلنوا لمتخذي القرار مرئياتكم, وتصوراتكم , وما ترونه صحيحا, وما تعتقدونه صوابا عله ينتشل البلاد والعباد من كارثة نسأل الله ألا نراها . كما نسأله أن تدرك الطبقة المستنير في بلادنا دورها ومسؤولياتها تجاه حكامها , وشعوبها , ومجتمعاتها التي تعيش فيها . فمن مسؤولية الصفوة المستنيرة في المجتمع أن تنشر الاستنارة العامة بين صفوف الناس , وأن يعبدوا الطريق ليسير الناس من خلفهم كما يقول الدكتور عبد الكريم بكار .
إن التاريخ يخبرنا بأسماء عديدة سجلها بأحرف من نور لأشخاص رفضوا أن يكونوا أنتيكات في قصور الحكم , بل مارسوا دورهم المنوط بهم تجاه الحكام , والأمراء , والسلاطين , وكبار المسئولين ذكروهم بالصواب , وحذروهم من التمادي في الخطأ , وردوهم إلى جادة الصواب , وانتشلوهم من هاوية الضلال , بينما استقر في مزبلة التاريخ كل من نافق , وصفق , وهلل , وطبل , وهتف بحياة الزعيم , وفكر الزعيم , وبعد نظر الزعيم , ورجاحة عقل الزعيم وعمق أفكار الزعيم ... إلى آخر هذه الترهات التي ما كسبنا من ورائها إلا الهزائم والنكبات .
ولنتساءل : ماذا لوصمت الحباب بن المنذر - رضي الله عنه- يوم بدر ومارس رذيلة الهمس الخفي ولم يبح بمرئياته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم ؟ ماذا لو اكتف بالجلوس متفرجا على ما رأي من أوضاع مقلوبة في أرض المعركة يوم بدر ؟ لم يمارس رضي الله عنه وأرضاه رذيلة الهمس الخفي مع أقرانه , بل توجه إلى رسول الله وعرض رأيه في أدب الجندي مع قائده وكان من وراء ذلك الخير الكثير والكثير. ثم ماذا لوصمت العز بن عبد السلام ولم يناصح سلطان مصر نجم الدين أيوب ويصدع أمامه بكلمة الحق ويحذره من انتشار الخمور والفساد في بر مصر ؟ مما حدا بالسلطان بإغلاق حانات الخمر والفساد في مصر وكان من وراء ذلك الخير الكثير والكثير .
إننا نتوق إلى أن تسود في مجتمعاتنا اليوم ثقافة : "لا خير فيكم إن لم تقولوها , ولا خير فينا إن لم نسمعها"؛ نسمعها السماع الإيجابي وليس السماع الذي هو من فصيلة الطين والعجين , ولا خير فيهم إن لم يسمعوها . وفي الوقت نفسه - وكما نتوق إلى السماع الايجابي - نتوق بشغف إلى الأقوال الايجابية المخلصة والمنزهة عن كل غرض أو هوى ؛ الأقوال الشجاعة التي لديها الرغبة في أن تخرج للحياة لتسود , تبني ولا تهدم , تصلح ولا تفسد, تحل مشاكل البسطاء ولا تعقدها , سواء صدرت تلك الأقوال من عامة الناس أو من صفوتهم , ولا خير فينا إن لم نقولها . يومها ستتغير كثير من أوضاعنا المقلوبة بعيدا عن رذيلة الهمس الخفي , و إن شئت قل بعيدا عن رذيلة الخوف الشجاع .
طارق حسن السقا
مواقع النشر