مكة المكرمة - عبد السلام اليمني (الحياة) : الزمن لا يرحم، والشواهد والأحداث تكتب التاريخ، الأحكام وإن تأخرت ستحاصر يوماً ما الآمر الناهي، المفكر والفاعل، الشاهد والمشهود، قد يمنحك الحظ وقتاً وفرصاً للاستفادة وتعديل الأخطاء، ولكن المهم ألا تصل إلى معمعة الوقت الضائع، تكون أو لا تكون، وهنا تُصبح الشروط حُمراً والإجراءات باهظة الثمن وربما صعبة المنال.
تجارة خلاطات الأسمنت الخرســــاء شـــــوهت الهوية المعمارية، والدونيــــة قفزت بالأفكار والصنائع خارج الحدود من دون مراعاة للهوية والمكنوز الثقافي والعمراني فأصاب زبد الثقافة المستوردة العرف واللغة والأسماء والجغرافيا، ولا زلنا نعيش حال إرتباك وبحث عن البُعد الحضاري.
الهوية الثقافية عَرّفها المُفكر الفرنسي”إليكس ميكلفلي”بأنها منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي، وتتميز بوحدتها التي تتجسد في الروح الداخلية التي تنطوي على خاصية الإحساس بالهوية والشعور بها.
حَدّد مفكرون عرب أن الإطار المرجعي للهوية العربية يعتمد على الدين والعرف واللغة والجغرافيا والمكنوز الثقافي والعمراني والفنون”عندما ننظر إلى الدول العربية، النفطية منها على وجه الخصوص، لا تزال تعقد المؤتمرات والندوات في رحلة بحث عن حماية التراث والبعدين الحضاري والإنساني، وإعادة إحياء ما دمره النمو الأسمنتي والفسق المعماري المستورد من دون إحساس بمكونات الطبيعة وإرثها التاريخي.
يقول خبراء في العمارة”إن الهوية المعمارية إنعكاس للهوية الثقافية الوطنية والطبيعة المكانية، وتعبير ثقافي وحضاري لإبراز هوية المجتمع، أي اختيار الطابع والشكل المعماري المنسجم مع البيئة والإنسان، وإبراز للفنون الإنسانية.
استوقفني كثيراً ولفت انتباهي حديث نشرته صحيفة”الشرق الأوسط”مع أستاذ تاريخ العمارة بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الدمام، المشرف على مركز التراث العــــمراني الوطني، الدكتور مــــشاري عبدالله النعيم، وما قاله في ذلك الحديث:”هناك إشكالية كبيرة تواجهها الشخصية المعمارية في المدينة السعودية، فحتى هذه اللحظة لا يمكن أن نقول إن هناك هوية معمارية سعودية، على رغم أننا نملك تراثاً معمارياً عميقاً!”.
وأخطر ما قال في حديثه:”مدن الأسمنت هي محصلة لرسملة المدينة وتحويلها إلى سلعة تُباع وتُشترى، المدن السعودية تفتقد للهوية المعمارية، مجهدة ومنهكة لا تعمل على راحة من يسكنها، تزيد من التشتت الذهني ولا تصنع السعادة، تزيد من الضغط النفسي ولا تحث على التواصل الاجتماعي”، وطالب بمبادرة المعماريين والمثقفين السعوديين بالعودة إلى جذورهم الثقافية وأن يُعيدوا اكتشافها من جديد ويتبنوها كميثاق وطني معماري يلتزمون به جميعاً. نحن نحتاج إلى هذا”الميثاق”اليوم قبل الغد.
وكان القلق ذاته انتاب زميلنا الكاتب في صحيفة”الحياة”الأستاذ زياد الدريس بعد مناسبة تدشين المدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2013، إذ قال في مقالته المعنونة بـ”مدينة النور الروحاني””إن أهم فعالية يمكن الخروج بها من هذه السنة العاصمية، ليست ندوة أو معرضاً أو كتاباً، على رغم أهمية ذلك، بل هي البدء فعلياً في استعادة هوية المدينة التي استحقت أن تكون”منورة”من بين سائر مدن الكون. مرت المدينة المنورة في أعوام مضت بفترة عصيبة طاولت بالهدم والطمس كثيراً من رموزها ودلالاتها، وأشار إلى أن المدينة المنورة تكتظ بالعمائر العولمية ومطاعم”ماكدونالدز”وأشباهها من دون مراعاة لخصوصية المدينة النبوية وهيبتها ووقارها.
إذا كان زميلنا الأستاذ زياد الدريس ناشد أمير المنطقة في استعادة هوية المدينة التي استحقت أن تكون منورة”فإنني أناشد أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل باختيار مجموعة من المثقفين والمعماريين لوضع برنامج لاستعادة هوية قبلة المسلمين أم القرى، إنني يا سمو الأمير أشعر بالضيق والمرارة عندما أسمع وأشاهد لغتنا العربية، عنوان هويتنا وشخصيتنا تحترق في لغة جرمانية غربية، وأسماء”فيرمونت، أنتركونتننتال، موفنبيك، جراند كورال، ميريديان، رافلز، هارموني، وغيرها من الأسماء، تحيط وبعضها يطل على المسجد الحرام والمسجد النبوي. ما انطباع الحاج والمعتمر والزائر بعد أن يعود إلى بلاده وهو يحمل ذكريات السكن في فندق”الفيرمونت”، والغداء في”الأنتركونتــــننتال”، والعشاء في”ماكـــــدونالدز”، وترسخت في ذهنه أنماط معمارية شاهدها في واشنطن وماليزيا ودبي ولندن؟
أين قداسة أم القرى ومدينة النور وروحهما وتاريخهما والإحساس العميق والشعور بهويتهما العظيمة؟… سؤال سنظل نبحث عن إجابته إلى أن يبدأ مشروع إعادة الأمور إلى نصابها وطبيعتها المنطقية ذات الأبعاد الحضارية والجذور التاريخية.
مواقع النشر