بلدة الصويدرة (الطرف قديما) تبعد 60 كيلا شرق المدينة المنورة. وتكمن أهمية الصويدرة من الناحية الأثرية في الوادي الذي يخترقها. يضم الوادي على واجهاته الصخرية نقوشا وكتابات قديمة، بعضها يعود إلى فترة ما قبل الإسلام, والبعض الآخر يعود إلى العصور الإسلامية، وهذا يدل على استيطان بشري قديم في المنطقة، ومناحٍ بيئية متنوعة لإنسان هذا الوادي القديم.



أشار كثير ممن زار وادي الصويدرة إلى هذه النقوش الموجودة على جنباته، فمن ذلك ما نقله المؤرخ جواد علي عن عثمان رستم الذي ذكر موقع الصويدرة إلى جانب مواقع أخرى فيها نقوش قديمة، وذلك في تقرير نشره (رستم) في ثلاثينيات القرن الميلادي المنصرم عن نقوش الحجاز الصخرية وكتاباته.



وترجع أهمية هذه النقوش إلى أنها تعطينا صورة لما كانت عليه حال إنسان المنطقة في فترة ما قبل الكتابة وما كان يقوم به من أعمال يومية، وما يمكن أن يكون هناك من معان مختلفة أراد الإنسان التعبير عنها بهذه النقوش التصويرية. ومعروف أن النقوش الصخرية هي مرحلة سابقة لعصر الكتابة، وقد لجأ إليها الإنسان القديم للتعبير عن المعاني الني تختلج في مخيلته، فاستخدم في حينها صوراً ورسوماً تمثل المعاني التي يريد التعبير عنها.

انقل لكم : الرحلات هنا
تقرير زيارة واستطلاع بقلم : صالح بن محمد المطيري - محاضر بقسم الدراسات العامة - كلية التقنية بالمدينة المنورة

يقول الأستاذ صالح بن محمد المطيري: يزخر الوادي بالعديد من النقوش الكوفية الواضحة التي لم تطمس معالمها عوامل الزمن ومتغيراته، وهذه النقوش الكتابية الإسلامية في الموقع تمثل لنا ما كان يحتله هذا الوادي من أهمية كمحطة لمرور الحجاج المتجهين للمدينة حيث كانت هذه المنطقة تعرف قديما بالطرف، و تركزت معظم النقوش الكوفية حول طلب المغفرة والدعاء لكاتبها بأن يعفو الله عنه،



إضافة إلى كلمة الشهادة وعبارة بسم الله الرحمن الرحيم، وسأركز في هذا التقرير على النقوش التصويرية السابقة لمرحلة الكتابة، حيث سأتناول بالشرح تلك الآثار التصويرية التي تركها إنسان المنطقة كبصمات تدل على نمط الحياة الذي كان سائداً في قديم الدهر في ذلك الوادي، تاركاً المجال للباحثين المختصين بالكتابات الإسلامية لدراسة النقوش الكوفية التي توجد بكثرة.



نقشت هذه النقوش بطريقة الحفر الغائر على الصخر، وتوجد على واجهات صخرية متفرقة، يمكن للإنسان أن يصلها من غير ما مشقة، مما يعني أن الكاتب كتبها من دون أن يستخدم وسائل مساندة ، وبدراسة معظم النقوش يتضح للباحث أنها تشتمل الأشكال التصويرية التالية:

1- حيوانات الصيد: وذلك مثل المشاهد التي تصور النعامة، ويظهر هذا الحيوان عرضة لمطاردة الإنسان في أكثر من نقش، وفي أحد النقوش يظهر صيادان على جملين يراوغان نعامة.

ومن حيوانات الصيد الأخرى نجد نقوشاً تصور الوعل، أو تيس الجبل(ibex)، حيث رسم بقرون طويلة منحية من أعلى، وهو ينتشر بكثرة في النقوش، ويظهر أيضاً كهدف للإنسان الصياد مثل النعامة. ويظهر من تلك النقوش أن المنطقة كانت تزخر بحيوانات صيد من أمثال الحيوانات المنقوشة،



فأما الوعل فالأرضون المحيطة معظمها جبلية ، فلا يستغرب أنه كان موجوداً بكثرة في المنطقة. وهناك ظاهرة ملحوظة حول الجمل الذي يمتطيه الصياد، ذلك أنه لا يظهر في وضع مطاردة للوعل غالباً، ومن الطبيعي للرسام أن يحمل هذا التصور عن قدرة الهجين على الطرد ومتابعة القنائص، ذلك أن الجمل لا يستطيع الجري على الصخور وفي ثنايا الجبال لكي يتعقب تلك المعيز الجبلية، التي تقفز على الصخور بخفة ورشاقة، بينما يظهر مع النعامة أكثر لأنه يمكنه مطاردتها ومراوغتها في الفلاة بسهولة، والمعروف عن النعام أنها تؤثر العيش في الفلوات والمناطق السهلة. كما توحي الرسوم إضافة إلى ذلك باستخدام الإبل في مطاردة الصيد، ولكي تتمكن الإبل من ذلك لا بد أن تكون قد دربت على الطراد والمراوغة، وإلا لا يمكن لراكبها لحوق الصيد وإدراكه أو إصابته.



2- السباع، وهذه يوجد منها نقش فيه صورة سبع كبير، يغلب من شكله وكبر رأسه (ولبدته) أن يكون أسداً، ويبدو في الصورة يهاجم إنساناً بشراسة. ووجود هذا السبع في هذا النقش يمثل نموذجاً ملموساً لما كان يعيش في المنطقة من حيوانات مفترسة كالأسود والنمور والفهود، والتي لا يوجد لها أثر في المنطقة المحيطة بالنقوش في الوقت الحالي. وربما تكون قد انقرضت.

3- الحيوانات المستأنسة: وهذه تشمل صور الإبل التي تظهر في مشاهد الصيد كوسيلة لمطاردة القنائص مثل النعام كما سلف، وكوسيلة أيضاً للركوب والانتقال. كما توجد هناك صورة كبيرة لثور ذي قرون، كالنوع الذي يستخدمه الفلاح في حراثة الأرض والزراعة. ووجود هذه الحيوانات في النقوش، يدل على قدم استئناس الإنسان في المنطقة لهذه الحيوانات، وتسخيرها لخدمة أغراضه وتدبير أمور معيشته، كاستخدامها في الزراعة (كما في حالة الثور) أو الصيد والركوب (كما في حالة الإبل).




4- أشكال حيوانات خرافية: كما توجد أشكال لحيوانات غريبة الخلقة يبدو عليها الطابع الخرافي ، فمن ذلك صورة حيوان غريب الخلقة تكرر كثيراً، وطبيعة النقش وطريقة حفره توحي بأنه من نفس فترة النقوش التي فيها مناظر الصيد وحيواناته، بل هي متداخلة معها، مما يبعد معه أن يكون من العصور المتأخرة، وهو حيوان طويل القامة، أطول من الإنسان، يتكون من جسم إنسان ورأس حمار وأذنيه، وذيل ؛ مع أيد ذات أكف منجلية. وهذا الوصف الغريب يجعل المشاهد لا يشك في شره، كما لا يعدم المشاهد أن يجد في صورة أخرى نفس الحيوان الغريب وهو ممسك بتلابيب إنسان يرفعه فوق ويبدو كأنه يضربه بذيله أو كأنه يلعب به ويرفعه بيديه، والإنسان صغير بالنسبة إليه. ولو تأملنا شكل هذا الحيوان ذي الأوصاف الخرافية ورغبته الشريرة تجاه الإنسان لوجدنا أنها تشابه أوصاف ما يعرف بالغول وبالسعلاة في التراث العربي، بحسب ما أملته المخيلة العربية القديمة على رواة الأخبار وأهل اللغة، ففي الحيوان للجاحظ مثلاً نجد شاهداً يربط بين الغول والحمار في شكل بعض الأعضاء كالرِجل مثلاً، وشاهداً آخر يشير إلى تخلقها من أعضاء لحيوانات مختلفة. (والغول من الكلم المؤنث في الغالب، وقد تُذَكَّر)، ويذكر أهل الأخبار أيضاً، كما عند القزويني، أن السعلاة إذا ظفرت بإنسان أخذت ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر، وهذه الناحية ملحوظة في النقش فالحيوان الغريب يرفع الإنسان إليه وكأنه يلهو به ويرقصه، والإنسان الضحية يخفق برجليه في الهواء، محاولاً الخلاص بلا فائدة. وهذا النقش القديم يعطينا تمثيلاً حياً وملموساً لتصور العرب لهذه المخلوقات الخرافية وشرورها المحتملة، والتي وردتنا أصلاً عبر الرواية، فكانت تلك النقوش مصداقاً للرواية التي رسمت لنا تخيل العرب الأول لهذه المخلوقات العجيبة، والتي حقق أنواعها لغوياً ومعرفياً أمين المعلوف في كتابه معجم الحيوان. كما يوجد أيضاً نقش تظهر فيه ثلاث سعالي متقابلات وكأنهن يؤدين حركة مشتركة أو رقصة معينة.

تلك هي أهم النقوش التصويرية البارزة للعيان الموجودة في وادي الصويدرة، وهي كما رأينا تعطينا تصوراًَ حياً لأسلوب الحياة الذي كان سائداً في الوادي قديماً، وأنواع الأنشطة المعيشية التي كان يزاولها الإنسان هناك، كالصيد وتربية الإبل والزراعة، كما تزودنا بأدلة حية عن جوانب مهمة من تفكير ذلك الإنسان والمخاوف التي كانت تساوره، كخوفه من تلك المخلوقات الخرافية واعتقاده بشرورها المحتملة.