"على العالم العربي الذي يعاني من مشكلة نقص المياه، أن يشرع على الفور في تطبيق ، وبشروط علمية محددة، برامج معالجة المياه العادمة، او مياه الصرف الصحي، لتغطية قسم من مياه الري المستخدمة في الزراعة والتي تستنفد ما بين 75% إلى 85% من الموارد المائية".


محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في العراق من مخلفات القوات الأمريكية (Keystone)

هذه هي خلاصة تجربة الخبير العربي نضال سليم الذي يُدير منذ عدة أعوام معهدا متخصصا في شؤون المياه والبيئة في مدينة جنيف.
إذا كانت دول مثل سويسرا، التي تلقب بـ "خزان مياه أوروبا" قد طورت مسألة معالجة مياه الصرف الصحي لديها، وترغب في إنجاز المزيد رغم عدم حاجتها العاجلة لذلك، بل فقط بدافع حماية البيئة والمحيط، فكيف هو الحال في المنطقة العربية التي تعاني من نقص حاد في المياه؟

في الحوار التالي، يجيب الدكتور نضال سليم، مدير المعهد العالمي للماء والبيئة والصحة عن هذا السؤال وغيره من التساؤلات المرتبطة بملف المياه الحيوي في المنطقة.

swissinfo.ch: تتابعون ما يتم على مستوى معالجة مياه الصرف الصحي في سويسرا. هل بدأ العالم العربي الذي يعرف نقصا حادا في المياه في إجراء نقاش مشابه؟ وعلى أية مستويات؟

د. نضال سليم: في الواقع يستفيد العالم العربي من بعض التجارب والخبرات التي تمت في مختلف أنحاء العالم، ومن الممكن أن تكون سويسرا أحد الأمثلة التي يمكن الاستفادة منها كبلد يضع سياسات مائية جيدة على مستوى العالم. لكن عندما نتحدث عن التوعية الجماهيرية لكيفية الاستخدام الرشيد للمياه، فإنني أرى اننا مازلنا في العالم العربي في مرحلة متأخرة جدا. فالتجارب التي تمت لحد اليوم هي تجارب محدودة، وتمت بشكل متفاوت، سواء في مجال توعية الجمهور، أو في مجال معالجة المياه العادمة او مياه الصرف الصحي. أما عندما نتحدث عن عملية فصل النفايات من الحمامات عن مياه الإستهلاك المنزلي في المطابخ، مثلما هو الحال في سويسرا ، فإن هذه التجربة غير موجودة قطعيا في الوطن العربي. إذ أنها مرحلة متقدمة جدا يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار في السياسات المائية المستقبلية في الوطن العربي.

وهل هناك أمثلة يمكن اعتبارها نماذج عربية في مجال التوعية لمعالجة المياه العادمة حتى بدون فصل أولي؟

د. نضال سليم: حتى في هذا المجال هناك وعي محدود. إذ هناك دول او مناطق بدأت تعي لأهمية استعمال " المياه الرمادية" أي المياه المعالجة لتجمعات سكنية. ونذكر في المقام الأول الوعي الجيد في فلسطين ولكن بدون تطبيقات عملية نظرا للوضع الأمني ولنقص التمويل.

وهناك تجارب في دول مثل الأردن والمغرب وتونس والجزائر التي بدأت تضع هذا الاهتمام في عين السياسات القادمة ، ولكن لم يترجم هذا الوعي بحجم المشاكل، الى مشاريع عملية مطبقة على ارض الواقع. لكن ذه التجارب المحدودة يمكن أن تتطور أكثر في المستقبل.

دول منطقة الخليج لا تعرف مشاريع من هذا النوع لأنها تعتمد لحد الآن وبشكل كبير على تحلية مياه البحر. لكن هناك اليوم وعي في المنطقة بضرورة البحث عن بدائل. ومعالجة مياه الصرف الصحي واحدة من البدائل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في السياسات المائية المستقبلية بالمنطقة.


معهد في جنيف للمساعدة في إدارة الموارد المائية
أسس المعهد العالمي للمياه والبيئة والصحة في جنيف في عام 2007 كمؤسسة سويسرية غير ربحية. مقره الرئيسي في جنيف وله فروع في كل من السودان والأردن والنرويج. وهناك طموح لفتح مكاتب قريبا في مصر وفي بلدان افريقية وآسيوية.

أُسس المعهد بمبادرة من مديره نضال سليم لما كان طالبا بجامعة جنيف وبمساعدة زملاء آخرين من جامعة نوشاتيل والمعهد التقني الفدرالي العالي في لوزان. ويقول نضال سليم: "بدأت الفكرة بإنشاء مؤسسة فكرية تتداول في أمور المياه والبيئة في الدول النامية. وتحاول تقديم المساعدة بالتركيز على تبادل الخبرات والتوعية الجماهيرية تحديدا في الوطن العربي وإفريقيا. ثم توجهنا بعد ذلك الى عملية التدريب في مجال الإدارة المتكاملة لمصادر المياه، وتقديم النصح والاستشارة لبعض منظمات الأمم المتحدة والدول النامية".

يحصل المعهد على دعم من السلطات السويسرية وله تعاون وثيق مع بعض الجامعات السويسرية حيث يدير برنامجين في مجال إدارة الموارد المائية : الأول بدعم من الحكومة السويسرية وبالاشتراك مع معهد جنيف للدراسات العليا والتنمية في جنيف، ويطبق في منطقة البحيرات الكبرى في افريقيا ويشمل بوروندي ورواندا وكينيا وتنزانيا وأوغندا والسودان ومصر وأثيوبيا ودول حوض النيل. ويُنجز المشروع الثاني في منطقة القوقاز مع التركيز على أرمينيا وآذربيجان وجورجيا.

شارك المعهد أيضا بصفة مراقب في كوريا الجنوبية في سياق برنامج "الإقتصاد الأخضر" وهو "مشروع عملاق استطاعت كوريا بسببه ان تستضيف المقر الرسمي العالمي للتغيرات المناخية"، مثلما يقول نضال سليم.

في الأثناء، يتجه المعهد، حسب مديره، إلى الإنتقال إلى لعب دور "وسيط لنقل التكنولوجيا إلى مناطق تحتاج لتلك التقنية والخبرات، والتحول خلال الخمس سنوات القادمة، وبعد التغلب على عملية التمويل، الى مشرف على تطبيق بعض المشاريع في البلدان النامية". ويضيف نضال سليم "نساهم كوسيط لحل المشاكل في مناطق الحساسية العالية بخصوص موضوع المياه لكي تتحول المياه الى وسيلة تعاون وتكامل وتنمية مستدامة بدل اعتبارها عنصر توتر وحرب، وهذا ما نركز عليه في منطقة حوض النيل لكي يستفيد الجميع لأن ما تعاني منه المنطقة هي مشكلة حسن إدارة مصادر المياه".


هناك دول ساحلية راهنت على تحلية مياه البحر أكثر من المراهنة على معالجة المياه العادمة، كيف تحكم على هذا الخيار؟

د. نضال سليم: التحلية هي إحدى الحلول لمشكلة نقص المياه ولن يكون لا الأول ولا الأخير. فنحن لسنا ضد التحلية، لكن التحلية عملية مُكلفة، وتنجم عنها تأثيرات كبيرة مضرة بالبيئة. فحتى الدول التي التجأت بكثرة إلى عمليات التحلية مثل السعودية والإمارات، تواجه اليوم مشاكل بيئية، واقتصادية وأخرى في ميدان الصيانة. وحتى في هذه الدول، بدأت تتطور فكرة تنقية المياه العادمة لأن عملية المعالجة أقل تكلفة وأقل آثارا على البيئة.

من خلال تجربتك كخبير يشارك في المؤتمرات الدولية المخصصة لموضوع المياه، هل تطرح هذه الأفكار للنقاش بين الخبراء في المنطقة العربية وكيف يتم تقبلها؟

د. نضال سليم: لدينا مؤتمرا سنويا يعقد في المغرب، وسيكون هذه المرة في شهر فبراير 2013. ومن المواضيع التي سنتناولها بالتحليل خلاله ملف "سوق المياه العادمة". إذ سنتطرق لفوائد استخدام المياه العادمة المُعالجة، سواء من حيث الأهمية الاقتصادية والصحية والبيئية. كما سنتناول موضوع الفصل بين مياه الحمامات ومياه الإستهلاك المنزلي في المطبخ وما إلى ذلك.

نظرا للنقص الذي يعانيه العالم العربي في مجال المياه، كيف يمكن لعملية معالجة المياه العادمة أن تخفف من هذا النقص في المنطقة العربية؟

د. نضال سليم: يمكن أن تُستغل هذه المياه المعالجة في أمور كثيرة. فأكبر القطاعات المستهلكة للمياه هي الإستعمال المنزلي، والزراعة والصناعة. فقطاع الزراعة في الوطن العربي يعتبر أكبر مستهلك للمياه وذلك في حدود ما بين 75% الى 85% من الإستهلاك العام. فلو تتم معالجة هذه الكميات الهائلة من مياه الصرف الصحي التي تذهب هدرا، وبشروط ومواصفات محددة، فسيمكن لهذه المياه أن تعوّض جزءا كبيرا من المياه التي تذهب للزراعة والصناعة، ونحتفظ بالمياه المتواجدة للإستخدام المنزلي. وسنكون مرتاحين لو نتمكن فقط من تعويض نصف تلك الكمية من المياه المستخدمة في الزراعة.

في خطابكم للجمهور، هل يوجد ما يُساعد على تجاوز التوجس الراسخ لدى البعض والتخوف من مخاطر تناول خضروات مروية بمياه الصرف الصحي المعالجة؟

د. نضال سليم: في الواقع، لا يقتصر التوجس في العالم العربي على تخوف من مخاطر التلوث، بل ايضا هناك أفكار دينية معترضة. ولكن كما قلت من قبل، يجب احترام المعايير الدولية لمعالجة هذه المياه والوصول بها الى حد مناسب للإستخدام في الزراعة، أي إلى مستوى انعدام الملوثات التي قد تكون لها تأثيرات على البيئة وعلى صحة البشر سواء من الناحية الكيميائية أو البيولوجية. وهذه مسؤولية الحكومات التي يجب أن تراقب تلك العملية.

هل لديكم أمثلة عن دول غير عربية لجأت بشكل كبير الى استخدام المياه العادمة المعالجة ونجحت في ذلك؟

د. نضال سليم: هناك دول غربية كثيرة نجحت في استخدام المياه العادمة المعالجة، فأوروبا بأكملها تستخدم تقنية معالجة المياه العادمة، وهناك دول مثل سويسرا وهولندا وصلت الى حد تسخير المياه المعالجة حتى للشرب وليس فقط للإستعمالات الزراعية ا الاقتصادية. وهناك اليابان في الوقت الحالي تخطو خطوات متقدمة في هذا المجال. والمانيا تعد من الوراد في هذا المجال ونفس الحال بالنسبة لسنغافورة في آسيا. وقد استخدمت تلك المياه المعالجة لتغطية قسم هام من حاجياتها.

فنحن عندما نقول بأن الوطن العربي مازال متأخرا، فإن ذلك مقارنة مع ما يتم في هذه البلدان. لذلك نحث بقوة دول الوطن العربي لكي تحذو حذو هذه الدول وتشرع في التطبيق بشكل عملي وإيجابي. وفي انتظار تعميم عملية الفصل بين مياه الحمامات ومياه الاستعمال المطبخي في مشاريع البناء المستقبلية، على كل دولة أن تبدأ بما هو متوفر لديها وأن تشرع إن لم نقل في وضع خطط طوارئ فعلى الأقل خطط عملية أساسية في ميدان معالجة المياه العادمة، لأن هذه العملية لم تعد خيارا بل ضرورة مُلحة.

فلو تقوم بزيارة إلى أية مدينة من مدن الوطن العربي، فإن أول ما تستقبل به عند مدخل المدينة هو رائحة المجاري وهذا بسبب انعدام المعالجة وعدم وجود فصل بين المجاري. وهذا أمر مُحرج للمواطن وملح صحيا وبيئيا واقتصاديا واجتماعيا وحضاريا.

فالموضوع من وجهة نظري كمدير معهد مياه، لم يعد موضوع نقاش بل موضوع تطبيق ملح. فالعالم العربي يعيش ثورات. ومن صالح هذه الدول العربية أن تنتقل من وضع الثورات السياسية الى وضع ثورات التنمية، لأن التخلف وتباطؤ التنمية كانا من أسباب هذه الثورات. وعندما نتحدث عن التنمية فإننا نتحدث مباشرة عن المياه. ومشكلة المياه مشكلة مستعصية في كامل أقطار الوطن العربي بدون استثناء. وسببها سوء الإدارة وإهمال هذا القطاع لفترات طويلة. واليوم نحن على المحك. ويجب أن نبدأ فورا، لأن هذا أصبح اليوم أمرا للتطبيق وليس للنقاش.

في انتظار إيجاد برامج عملية وقابلة للتطبيق في هذا المجال على نطاق أوسع، ما هي نصيحتك للمواطن العربي؟

د. نضال سليم: يمكن أن تكون الرسالة هي أنك كمواطن أنت المسؤول الأول عن صحتك وعن صحة غيرك. فحافظ على نظافة منزلك ومحيطك وبيئتك. والمياه عنصر أساسي من عناصر الحياة، لذلك تعلّم كيف تحافظ عليها وتقتصد في استخدامها، لأن ما تُهدره اليوم، سيكون عجزا بالنسبة لأبنائك في المستقبل. فالمياه ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها، فعلم نفسك وعلّم من حولك وابدأ بنفسك في انتظار تحرك الحكومات.

المصدر : swissinfo.ch