{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ }الأنعام1
الحمد لله الذي ألف بين قلوبنا وهدانا إلى طاعته ولولاه ما اهتدينا .
أحمدك اللهم وأنت أهل الحمد والثناء جمعتنا على الإسلام وأخرجتنا من الظلمات إلى النور ورزقتنا حب الصالحين {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }الأنفال63
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103
وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله الذي بشرنا بنصرة هذا الدين وبلوغه للناس أجمعين فقد خرج أحمد في مسنده
عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ». وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِىُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِى أَهْلِ بَيْتِى لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِراً الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ.
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد :
إخواني في الله
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قبل أن أبدأ محاضرتي اليوم أحب أن أشير إلى أمر هام وهو أنني لا أدافع عن القرآن الكريم بل القرآن الكريم قوي ذو حجج بالغة معجز في لفظه وبيانه ولكني فقط أريد بمحاضراتي هذه أن أوجه رسالتين : الأولى إلى كل مسلم ومسلمة لأقول لهم هذا هو كتاب ربكم اعتزوا به يعزكم الله وتعلموا منه ففيه علم الأولين والآخرين ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم .
والرسالة الثانية لأولئك المغرضين من اليهود والنصارى والملحدين والشيوعيين والعلمانيين ومن وافقهم ورأى رأيهم وتعلق بركابهم أن القرآن الكريم كلام الله المعجز المتحدى بأقصر سورة منه منذ قرون خلت وبقي القرآن هو القرآن شامخا يغض الطرف عن الجهلاء الذين بقوا على جهلهم وخسروا التحدي
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء88
ورغم عجزهم وخسارتهم لم يهتدوا إلى الحق لأن الله وعدهم بالنار ووعد الله أمرا مفعولا فطمس الله على قلوبهم وعلى أبصارهم وعلى أسماعهم وسيظلوا كذلك إلا من سبق له من الله الهداية وصدق الله العظيم :
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179
هذا وليعلم الناس جميعا أن القرآن الكريم دقيق في اختيار مفرداته واستعمال مصطلحاته ... وكلما أمعنََّا الفكرَ في أسرار الألفاظ عند استعمالها في أساليب القرآن الكريم ، ودققنا النظر فيها في آيات الذكر الحكيم ، واستوفينا الكشف عنها في التعبير القرآني وقعنا على أسرار عظيمة ووجدنا لطائفَ عجيبة.
ومن هذه الأسرار واللطائف والعجائب ما ورد في سورة يوسف( عليه السلام ):
قال تعالى :{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ( 70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ( 72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } (74 ) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}.
أيها الإخوة والأخوات :-
هيا بنا لنقف على سر من أسرار التعبير القرآني عند الحديث عن : (السِّقَايَةَ ) و ( صُوَاعَ ) .
فالسقاية هي : الصواع في الواقع نفس الأمر.
لكن الله قد غاير في التعبير عنها
فـفي الآية رقم (70) قال : ( السِّقَايَةَ ) .
وفي الآية رقم (72) قال : (صُوَاعَ ) .
فلماذا غاير بينهما مع أن الحديث عن شيء واحد ؟
والجواب والله أعلم :-
في الآية الأولى جاء التعبير بكلمة (السِّقَايَةَ ) لأنها تحمل في ثناياها جلب المصلحة والإبقاء على الحياة لأنها تُستعمل في الماء عند العطش أو تناول الدواء ، وكأني بالقرآن وقد أَتَى بهذه الكلمة ليخبرنا أن يوسفَ (عليه السلام) عندما وَضَع السقاية في رَحْل أخيه (بنيامين) كان يقصدُ شيئاً فيه صلاح أمره، وأن عاقبة ذلك تؤول إلى أمن واطمئنان.
أما في الآية الثانية فجاء بكلمة( صُوَاعَ ) لأنها أنسب من كلمة (السِّقَايَةَ) لأنها تحمل معنى التفرقة وذلك لأن الصواع يفرق الحبوب بين المشترين لها ، وكأني بالقرآن حينما عَبَّر بهذه الكلمة يريد أن يشير إلى أن تَفَرُّقاً بين الإخوة سيتبَعُ هذا الحدَث وهو ما قد وقع بالفعل حيث أَخَذَ يوسفُ (عليه السلام) أخاه (بنيامين) فافترقَ عن إخوته ....
فسبحان مَن هذا كلامُه ...
والآن نبدأ المحاضرة على بركة الله فأقول مستعينا بالله تعالى
كنا قد تحدثنا من قبل حول قضية جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر وفي عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنهما- وقد بينا لكم أن ما يردده أعداء الإسلام من الخوض في جمع القرآن الكريم بحجة النيل منه واتهام المسلمين بالتحريف للقرآن كما حدث في كتبهم لا أساس لهم من الصحة وأن النص القرآني محفوظ بحفظ الله له لقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }( الحجر9) كما تعرضنا أيضا لنقط القرآن الكريم وتشكيله وعلامات الوقف وتنسيق المصحف وتقسيمه إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وأن ذلك تم لخدمة كتاب الله الكريم دون تحريفه من قريب أو من بعيد كما يزعم أعداء الإسلام وقلنا في نهاية اللقاء السابق أن تاريخ القرآن الكريم منذ بداية نزوله معلوم لنا ومعروف حتى قال ابن عباس والله ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيمن نزلت .
وقد أعجبني ما قاله أخي الحبيب فضيلة الشيخ بكر صالح محمد في مقال له حول الرسم العثماني :
وأما عن رسم المصحف فهو توقيفي لا يجوز تغييره بحال من الأحوال ، كما لا تجوز كتابته بالطرق الإملائية ولا بغير العربية ، كما أن رسم المصحف على هذه الكيفية إنما كان لعلل وأسرار كثيرة.....
وقد وقف بعض العلماء على حكم وأسرار كثيرة لبعض الكلمات وكتابتها برسم وهيئة معينة ... كما لا يزال منها لمَّـا يُعلم بعد ..
وإليكم بعض الأمثلة ليتبين من خلالها مدى الدقة في كتابة القرآن الكريم .
أولا: تأمل معي هاتين الكلمتين : ( لأعذبنه – لأاذبحنه ) في الآية رقم (21) من سورة النمل
{لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}وافتح مع السورة في المصحف وانظر إليهما جيدا ... فستجد أن كلمة : ( لأعذبنه خالية من حرف ( الألف ) بعد لأ) ، أما لأاذبحنه فستجد ( ألفا ) بعد لأ ) فما الحكمة من ذلك ؟
الحكمة والله أعلم : للدلالة على أن المؤخر أشد من المقدم فالذبح أشد من العذاب .
ثانيا: زيادة الياء في قول الله تعالى : {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (47) سورة الذاريات
وأطلب منك أن تفتح المصحف لتراها .
والحكمة من زيادتها : للفرق بين ( الأيد ) بمعنى القوة ، والأيدي التي هي جمع يد ، ولا شك أن القوة التي بني الله بها السماء هي أحق بالثبوت في الوجود من الأيدي ...
قال ابن عباس ( رضي الله عنه ) بأيــيــد : أي بقوة وقدرة ...
هذا وقد اختلف العلماء : هل الياء الزائدة هي الأولى أم الثانية ، والذي عليه العمل في المصاحف الآن : أن الثانية هي الزائدة ولذلك وضع الصفر المستدير عليها كما هي قواعد الضبط .
ثالثا: ( سبب ورود كلمة إبراهيم في سورة البقرة بدون الياء بعكس باقي القرآن )فلقد وردت كلمة
( إبراهيم ) في سورة البقرة 6 مرات بدون الياء ، بينما وردت 63 مرة في بقية المصحف بالياء
فما سر ذلك ؟
الحكمة والله أعلم ..
1. أن الرسم العثماني روعي فيه مطابقة اللفظ لكل القراءات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي سورة البقرة قريء إبراهيم وقريء إبراهام قرأها ابن عامر بخلف عن ابن ذكوان وهي قراءة متواترة ولم يقرأ هذا اللفظ بهذه الطريقة إلا في سورة البقرة فقط .
2. وقيل في توجيه هذه القراءة أن سورة البقرة معظم حديثها لبني إسرائيل وبنو إسرائيل ينطقونها هكذا إبراهام .
هذا والله أعلم هناك بعض الكلمات في القرآن قد كتبت بالتاء المربوطة وأحيانا بالتاء المفتوحة كالكلمات ( نعمة رحمة - كلمة - بقية) وغيرها من الكلمات
لا خلاف بين القراء في الوقف على الكلمات التي جاءت تاؤها مربوطة ، فيقفون عليها بالهاء مثل قول الله تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (53) سورة النحل فعند الوقف نقول : وما بكم من نعمه.. بالهاء الساكنة .
أما ما رسم بالتاء المفتوحة ففي الوقف عليه للقراء وجهان :
أحدهما : الوقف بالهاء كما هو الأصل في الوقف على تاء التأنيث وهو : إبدالها هاء.
ثانيهما : الوقف بالتاء اتباعا لرسم المصحف .
وبذلك يتبين أن الصحابة - رضي الله عنهم - فرقوا بين بعض الكلمات ، فرسموا بعضها بالهاء ، وبعضها بالتاء لتحتمل المرسومة بالتاء المفتوحة قراءتين ، بخلاف المرسومة بالهاء( التاء المربوطة ) فلا تحتمل إلا وجها واحدا .
فائدة : ومن الكلمات التي جاء رسمها بالتاء المفتوحة والمربوطة كلمة : ( امرأت )
وتوجيه ذلك : أن كل امرأة أضيفت إلى زوجها فتاؤها مفتوحة كـ(امرأت فرعون وامرأت عمران وامرأت نوح وامرأت لوط ) أما من لم تضف إلى زوجها فتاؤها مربوطة كقول الله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا ...} (128) سورة النساء
{...وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ....} (50) سورة الأحزاب
وانظر في المصحف لتشاهد ذلك ... فسبحان من هذا كلامه ...
ومع ذلك فما برح أعداء الإسلام - قديمًا وحديثًا - يتربصون بهذا الدين الدوائر، ويحاولون - ما وسعهم - الطعن به، والتشكيك فيه. وقد دأب علماء هذه الأمة - المتقدمين منهم والمتأخرين - على التصدي لهذه المحاولات التشكيكية، والرد عليها، والكشف عن زيفها وزيغها، والإبانة عن حقيقتها وغايتها، مستهدين في ذلك بقوله - سبحانه وتعالى -: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32(
ولعل القراءات القرآنية كانت من أكثر المجالات وأخصبها للطاعنين بهذا الدين، والمشككين بأمره، وكانت من جملة المداخل التي حاول أعداء هذا الدين الولوج منها، لتحقيق مآربهم، وتنفيذ أغراضهم.
وكان من جملة الشبه التي أثيرت حول القراءات القرآنية - وهي من الشبه القديمة الحديثة - شبهة تقول: إن اختلاف القراءات القرآنية يدل على اضطراب في النص القرآني، ويخالف أيضًا ما نص عليه القرآن من عدم وجود اختلاف فيه، كقوله - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) وقوله كذلك: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42.(
وقد عبَّر ابن قتيبة - قديمًا - عن هذه الشبهة، فقال - رحمه الله -: "..وكان مما بلغنا عنهم أنهم يحتجون بقوله - عز وجل -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} وبقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} وقالوا: وجدنا الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم يختلفون في الحرف... والقراء يختلفون؛ فهذا يرفع ما ينصبه ذاك، وذاك يخفض ما يرفعه هذا، وأنتم تزعمون أن هذا كله كلام رب العالمين، فأي شيء بعد هذا الاختلاف تريدون، وأي باطل بعد هذا الخطأ واللحن تبتغون؟!!.
وظاهر مما تقدم أن هذه الشبهة ذات شقين، الأول: يعتبر اختلاف القراءات اضطراب في نص القرآن، والثاني: يرى أن اختلاف القراءات يخالف ما أخبر الله به عن كتابه الحكيم، من نفي وجود الاختلاف فيه.
وفي الرد على الشق الأول من هذه الشبهة، نقول: إن معنى الاضطراب في النص: هو وروده على صور مختلفة أو متضاربة، لا يُعرف الصحيح الثابت منها، أما وروده على صور كلها صحيح، فليس في ذلك شيء من الاضطراب.
ثم إن قراءات القرآن المعتمدة، وإن اختلفت في النص الواحد قراءة، غير أنها كلها مقطوع بثبوتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا ثبتت القراءة سنداً ونقلاً، فلا مجال لردها أو إنكارها.
كما أن فيما أخبر به - عليه الصلاة والسلام - من أن (القرآن نزل على سبعة أحرف) والإذن بقراءته حسب ما تيسر من ذلك، ما يُثبت مشروعية القراءات القرآنية، وعدم الالتفات إلى قول من قال بخلاف ذلك.
وقد ردَّ ابن حزم - رحمه الله - على هذه الشبهة، بقوله: "... فليس هذا اختلافًا، بل هو اتفاق منا صحيح ؛ لأن تلك الحروف وتلك القراءات كلها مبلَّغ بنقل الثقات إلى رسول الله صلى الله وسلم أنها نزلت كلها عليه، فأي تلك القراءات قرآنًا فهي صحيحة، وهي محصورة كلها مضبوطة معلومة، لا زيادة فيها ولا نقص ".
فحاصل الرد هنا: أن اختلاف القراءات ليس من قبيل الاضطراب وعدم الثبات، كما يدعي ذلك الذين في قلوبهم زيغ، والذين يريدون أن يصدوا عن السبيل، بل جميع ذلك حق ويقين ثابت، أعلمنا به الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما الرد على الشق الثاني من هذه الشبهة، فجوابه ما أسلفنا من إخباره - صلى الله عليه وسلم - (أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ، فاقرؤوا ما تيسر) وهذا المعنى بلغ مبلغ التواتر في هذه الأمة؛ ووجه دلالته: أن القرآن نزل على سبع لغات من لغات العرب، رحمة ورأفة بهم ، إذ لو كلِّفوا بقراءته على لغة واحدة لشق الأمر عليهم، ولَدَخَلَهم من العنت ما جاء الشرع الحكيم لرفعه عنهم؛ ولأجل هذا سأل - صلى الله عليه وسلم - ربه التخفيف في ذلك فأجابه إليه.
ثم يقال أيضًا: إن الاختلاف - كما يقول أهل العلم - نوعان، اختلاف تغاير وتنوع، واختلاف تباين وتضاد؛ فأما اختلاف التضاد فلا يجوز في القرآن بحال، وهو غير موجود فيه عند التحقيق والتدقيق. وأما اختلاف التغاير والتنوع فهو جائز وواقع، واختلاف القراءات من هذا الباب. ففيه القراءة بالإمالة والتفخيم، والقراءة بالمد أو القصر، والقراءة بالهمز أو التسهيل، ونحو ذلك من القراءات الثابتة نقلاً متواترًا، لا شك في صحة ثبوتها.
يقول ابن تيمية - رحمه الله - في هذا المعنى: " ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقاً أو متقارباً، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلمَّ، وتعال.. ".
وبناء على ما تقرر آنفًا، نقول: إن القراءات القرآنية الثابتة، ولو تغايرت في المعنى واللفظ، فكلها حق باتفاق المسلمين، ويجب الإيمان بها كلها، والعمل على وفقها؛ أما الاختلاف الذي نفاه الله - تعالى -عن القرآن فهو اختلاف التضاد والتناقض، وشتان بينهما ...
هذا هو ما عندنا . فما هو الذي عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه. القديم (التوراة) التي بين أيدي اليهود الآن ، والجديد (الأناجيل) التي بين أيدي النصارى الآن .
ما الذي تعرض له الكتاب المقدس في تاريخه الأول المقابل لفترة تاريخ القرآن ؟
تعالوا معنا نفحص تلك الفترة من تاريخ الكتاب المقدس في رحلته المبكرة :
مولد التوراة وتطورها :
يضطرب أهل الكتاب عامة ، واليهود خاصة حول تاريخ التوراة (مولدها وتطورها) اضطرابًا واسع المدى ويختلفون حولها اختلافًا يذهبون فيه من النقيض إلى النقيض ، ولهذا عرضوا لتاريخ القرآن بالطعن والتجريح ليكون هو والتوراة سواسية في فقد الثقة بهما ، أو على الأقل ليُحرجوا المسلمين بأنهم لا يملكون قرآنًا مصونًا من كل ما يمس قدسيته وسلامته من التحريف والتبديل . وقد عرضنا من قبل تاريخ القرآن ، وها نحن نعرض تاريخ التوراة حسبما هو في كتابات أهل الكتاب أنفسهم ، مقارنًا بما سبق من حقائق تاريخ القرآن الأمين .
الكتاب المقدس بعهديه : القديم والجديد تتعلق به آفتان قاتلتان منذ وجد ، وإلى هذه اللحظة التي نعيش فيها :
آفة تتعلق بتاريخه متى ولد ؟
وعلى يد من ولد؟
وكيف ولد ؟
ثم ما هو محتوى الكتاب المقدس ؟
وهل هو كلام الله ؟ أم كلام آخرين ؟.
والمهم في الموضوع أن هذا الغموض في تاريخ الكتاب المقدس لم يثره المسلمون ، بل أعلنه أهل الكتاب أنفسهم يهودًا أو نصارى ممن اتسموا بالشجاعة ، وحرية الرأي ، والاعتراف الخالص بصعوبة المشكلات التي أحاطت بالكتاب المقدس ، مع الإشارة إلى استعصائها على الحلول ، مع بقاء اليهودية والنصرانية كما هما .
ومعنى العهد عند أهل الكتاب هو " الميثاق " والعهد القديم عندهم هو ميثاق أخذه الله على اليهود في عصر موسى عليه السلام ، والعهد الجديد ميثاق أخذه في عصر عيسى عليه السلام .
والمشكلتان اللتان أحاطتا بالكتاب المقدس يمكن إيجازهما في الآتي :
- مشكلة أو أزمة تحقيق النصوص المقدسة ، التي تمثل حقيقة العهدين .
- مشكلة أو أزمة المحتوى ، أي المعاني والأغراض التي تضمنتها كتب (أي أسفار) العهدين ، وفصولهما المسماة عندهم ب"الإصحاحات " .
والذي يدخل معنا في عناصر هذه الدراسة هو المشكلة أو الأزمة الأولى ؛ لأنها هي المتعلقة بتاريخ الكتاب المقدس دون الثانية .
متى ؟ وعلى يد مَنْ ولدت التوراة :
هذا السؤال هو المفتاح المفضي بنا إلى إيجاز ما قيل في الإجابة .
وهو تساؤل صعب ، ونتائجه خطيرة جدًا ، وقد تردد منذ زمن قديم . وما يزال يتردد ، وبصورة ملحة ، دون أن يظفر بجواب يحسن السكوت عليه .
وممن أثار هذا التساؤل في العصر الحديث وول ديورانت الأمريكي الجنسية ، المسيحي العقيدة ، وكان مما قال :
" كيف كُتبت هذه الأسفار (يعنى التوراة) ومتى كُتبت ؟ ذلك سؤال برئ لا ضير فيه ، ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد ، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة ، نتركه بعدها من غير جواب ؟!.
فقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن خروج موسى من مصر كان في حوالي 1210 قبل ميلاد السيد المسيح ، وأن تلميذه ويشع بن نون الذي خلفه في بني إسرائيل (اليهود) مات عام 1130 قبل الميلاد . ومن هذا التاريخ ظلت التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام مجهولة حتى عام 444 قبل الميلاد ، أي قرابة سبعة قرون (700 سنة) في هذا العام .
(444) قبل الميلاد فقط عرف اليهود أن لهم كتابًا اسمه التوراة ؟
ولكن كيف عرفوه بعد هذه الأزمان الطويلة ؟
وول ديورانت يضع في الإجابة على هذا السؤال طريقتين إحداهما تنافى الأخرى .
الطريقة الأولى :
أن اليهود هالهم ما حل بشعبهم من كفر ، وعبادة آلهة غير الله ، وانصرافهم عن عبادة إله بني إسرائيل " يهوه " وأن " الكاهن خلقيا " أبلغ ملك بني إسرائيل " يوشيا " أنه وجد في ملفات الهيكل ملفًا ضخمًا قضى فيه موسى عليه السلام في جميع المشكلات ، فدعا الملك " يوشيا" كبار الكهنة وتلا عليهم سفر " الشريعة " المعثور عليه في الملفات ، وأمر الشعب بطاعة ما ورد في هذا السفر ؟
ويعلق وول ديورانت على السفر فيقول: "لا يدرى أحد ما هو هذا السفر؟ وماذا كان مسطورًا فيه ؟ وهل هو أول مولد للتوراة في حياة اليهود " ؟ .
الطريقة الثانية :
أن بني إسرائيل بعد عودتهم من السبي البابلي شعروا أنهم في حاجة ماسة إلى إدارة دينية تهيئ لهم الوحدة القومية والنظام العام ، فشرع الكهنة في وضع قواعد حكم ديني يعتمد على المأثور من أقوال الكهنة القدماء وعلى أوامر الله ؟
فدعا عزرا ، وهو من كبار الكهان ، علماء اليهود للاجتماع وأخذ يقرأ عليهم هو وسبعة من الكهان سفر شريعة موسى ولما فرغوا من قراءته أقسم الكهان والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع ، ويتخذوها دستورًا لهم إلى أبد الآبدين .
هذا ما ذكره ديورانت نقلاً عن مصادر اليهود ، وكل منهما لا يصلح مصدرًا حقيقيًا للتوراة التي أنزلها الله على موسى ؛ لأن الرواية الأولى لا تفيد أكثر من نسبة الملف الذي عثر عليه " خلقيا " إلى أقوال موسى وأحكامه في القضاء بين الخصوم .
ولأن الرواية الثانية تنسب صراحة أن النظام الذي وضعه الكهان ، بعد قراءتهم السفر كان خليطًا من أقوال كهانهم القدماء ، ومن أوامر الله ؟!
أيها الأخوة أيتها الأخوات :
إلى هنا نأتي إلى نهاية هذا اللقاء داعيا المولى عز وجل أن يحفظكم ويرعاكم وأن يهدي الضالين من عباده إلى الحق الذي هو الإسلام وأن يزيدكم إيمانا مع إيمانكم ويقينا مع يقينكم وأن يوفقكم للسير على الصراط المستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ }الشورى53
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / صبري عسكر
إمام وخطيب بالأوقاف المصرية
مواقع النشر