هذا المقال الذي نشر في جريدة الجزيرة العدد 13024 بتاريخ 21/5/1429هـ حيث ذكر كاتب المقال موقف مليكنا ووالدنا المحبوب خادم الحرمين الشريفين حفظه الله مع جدي والد أمي جمعان محمد الخرش الزهراني رحمه الله واليكم الموضوع كما هو نقلته
موقف عبدالله بن عبدالعزيز مع جمعان الخرش
أ. د. عبدالرزاق بن حمود الزهراني
المواقف هي التي تمحص الرجال، وتظهر حقائقهم، وتبين معادنهم، فكم من إنسان يتحدث كثيراً عن نفسه، وعن بطولاته وإنجازاته، وعن استعداداته لمساعدة الغير ومد يد العون لهم، وعندما تأتي مواقف الجد يروغ كما يروغ الثعلب، ويذوب كما يذوب الملح في كأس من الماء،
وأشكال الناس قد تخدع فيظهر الشخص بمظهر لا يعكس حقيقته الداخلية ضعفاً أو قوة، ولهذا عندما جاء شخص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يزكي رجلاً آخر، سأله عمر: هل سافرت معه؟ فقال الرجل: لا، فأضاف عمر: هل عاملته بالدرهم والدينار؟ فقال الرجل: لا، ثم سأله عمر: هل سكنت معه؟ فقال الرجل: لا، فقال عمر رضي الله عنه، اذهب فأنت لا تعرفه، ويقول أحد الشعراء:
ترى الرجل النحيل فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
وتحت عنوان (الرجال مواقف) يقول كاتب هذه السطور:
تقدَّمت للجلى وغيرك خائف
وفي الجو نوء موحش وعواصف
وفي الناس من كنا نظن وداده
وفيهم بعيد للظنون مخالف
ولونك يا وجه الصداقة كالح
وجرحك يا قلب الشهامة نازف
ومرت بنا الساعات تأكل بعضها
وماتت أحاسيس وماتت عواطف
تقدمت للجلى وأثبت للذي
يخادعنا أن الرجال مواقف
وملك الإنسانية عبدالله بن عبدالعزيز عرف عنه حسه الراقي، وتواضعه، وقربه من الناس، ومخالطته لهم وتحسس مشكلاتهم، والعمل على مساعدتهم، وهذا أمر ليس بجديد في حياته، بل هو جزء من شخصيته وتركيبته النفسية، ومن المواقف التي توضح معدنه، وتؤكد حقيقته، وأنه لا يتصنع ولا يتكلف في مساعدته للغير، موقف حدث في الثمانينات الهجرية مع المواطن جمعان الخرش وهو شاب غادر قريته في مرحلة مبكرة من العمر، وعمل في أعمال مختلفة، وكان من أوائل من تعلم قيادة السيارة، ولم يكتف بذلك بل تعلم قيادة المعدات الثقيلة مثل الجرافات (والتركتورات، والجريدلات)، وكان من الذين عملوا في إنشاء مطار جدة القديم، وعمل في بلدية مكة المكرمة عندما كان عبدالله عريف رئيساً لها، وانتهى به المطاف موظفاً في بلدية الطائف، عمله شق الطرق وتسوية الأراضي بواسطة تلك المعدات الحديثة التي أجاد التعامل معها، وفي يوم من الأيام ذهبت فرقة البلدية لتسوية أرض للحرس الوطني في الحوية شمال مدينة الطائف، وشق الطرق خلالها، وعندما حان وقت الغداء أقبل الأمير الشاب عبدالله بن عبدالعزيز رئيس الحرس الوطني ليتفقد العمل، وترجل من سيارته وتناول طعامه مع العمال، وبعد الغداء اصطف العاملون للسلام على سموه، ورئيسهم يعرفه على كل واحد منهم، وعلى العمل الذي يقوم به، وقبل أن يغادر أمر بإكرام هؤلاء العاملين الجادين الذين يمثلون المواطن السعودي المحب لوطنه، المتفاني في خدمته، وعاد كل منهم إلى مكان عمله، وركب الأمير سيارته وقام بجولة في المكان، وعندما مر قريباً من (القريدل) الذي يقوده جمعان، طلب من السائق أن يقف، وأشار بيده لجمعان أن أقبل، فأوقف جمعان الآلة وتوجه إلى سمو الأمير، وقال له: سم طال عمرك؟ فقال الأمير وهو يبتسم: اسمع.. لقد أمرت لك بخمسة آلاف ريال،!!! فدعا له جمعان وعاد لمواصلة عمله، وفي نهاية اليوم اصطف الجميع ليأخذوا مكافأة الأمير وإكراميته. وعندما وصل جمعان قدم له الشخص المعني خمسمائة ريال!!! رفع صوته قائلاً: الأمير وقف عندي وقال لي بأنه أمر لي بخمسة آلاف ريال!!! فما كان من الشخص إلا أن قال: لقد أشار لي الأمير بأصابع يده الخمسة فظننت أنه يقصد خمسمائة ريال!!!، أما وقد قال لك إنها خمسة آلاف فهذه هي. استلم جمعان المبلغ وعاد إلى أسرته فرحاً وهو يدعو للأمير بطول العمر، ويطلب من أسرته أن تدعو له كذلك، فالمبلغ في ذلك الوقت كبير، ويحل له الكثير من المشكلات المالية. لقد أدرك الأمير أن هؤلاء مواطنون يستحقون التشجيع، وأن المكافأة سوف تحفزهم إلى مزيد من الجد والعمل في خدمة الوطن، كما تنبه الأمير إلى أن الموكول إليهم توزيع المكافآت قد يخطئون بقصد أو بغير قصد، فحذر جمعان من أن يقع ضحية لذلك، هذه صورة من التلاحم الإنساني والأخوي بين القيادة والمواطن، قل أن تجدها خارج المملكة العربية السعودية، فقد توفي جمعان قبل ثلاث سنوات إثر نوبة قلبية في مكة المكرمة وعمره يناهز الثمانين عاماً، وقد سمعت منه هذا الموقف أكثر من مرة، نسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يديم على هذا الوطن أمنه ورخاءه واستقراره، وأن يوفق قادته إلى كل عمل في صلاح البلاد والعباد، وأن يرزقهم البطانة الصالحة المصلحة إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله من وراء كل شيء.
* أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.
فاكس: 012283689
zahrani111@yahoo.com
مواقع النشر