جدة - أحمد المهندس (السويد) : يا صديقي ليس لهذا الحد! أعلم أن الوقت كالسيف، إن لم تقطعه، فقد قطعنا جميعا. و أؤمن أن احترام الوقت، هو عنوان الشعوب المتحضرة، و لكن ما يجري في السويد هو عمل مضني، يجعلك تحلم بصوت عقارب الساعة وأنت في أعماق منامك.
أعلم أن دقة الوقت هو شعار عام ينتهجه كل العالم، وهو أمر مفروغ منه، ولكن ما لمسته في السويد يصل لمراحل معقدة جداً في تقديس دقة المواعيد. ولست بصدد عمل مقارنات بين الدول العربية و السويد، فتلك مقارنة ظالمة، ولكني أقارن بين دول الغرب عموما، وهنا أقف عاجزا في الوصف بين المدح و الذم، فشخص عربي مثلي، بدأ حياته مولودا متأخراً بعض الوقت عن موعد ولادته، أفنى معظم حياته وهو لا يجيد حمل ساعة على معصمه، اعتاد وضع المنبة في هاتفه المحمول حتى يستمتع بإغلاقه صباحا كي يتلذذ بخمس دقائق أخرى على وسادته الثمينة، يقف محتارا بين التوصيف و التهكم، فلم أعتد أن أحافظ على مواعيدي بتلك الدقة، حتى أنني أتذكر أني جئتُ حفل زفافي متأخراً قليلا، ولكني لم أستشعر الذنب يومها، فقد اعتدت التأخير خمس دقائق على الأقل، فلكم وصلت في مواعيدي في “الوقت بدل الضائع” و الذي أحتسبه ابتداءً قبل الشروع بأي عمل. عموما وحتى أوقف هذياني اللامتوقف تجاه القضية، فقد قررت أن أحكي بعض مواقفي الساخرة التي عايشتها جهلا، و التي وضعتني في موقف لا أُحسد عليه، ولكنها قد تكتب الابتسامة على شفاة قارئة و هو ما قد يعزيني قليلا، و يجعلني أستعيد قليلا من وقتي بدل الضائع.
هذا الجليد لا يعطل أحدا عن مواعيده
جئت أول مرة للسويد في عام ٢٠١٢م، متجها من فتاة أحلامي مدينة جدة، إلى شقرائي جوتينبيرق، و التي أصبحت مؤخرا عشيقتي التي أطارحها الغرام كُلَّ ما اشتد الشتاء حتى نشعلُ بعضَينا دفئا، فقد كان لقاؤنا الأول، بسيطا جداً كلقاء غريبين، لم نهتم ببعضَينا كثيرا و لم نكترث لما نقوله، فاللقاء كان باردا جداً تماماً كبرودة أطرافها ذاك المساء.
أتيت لكلية طب الأسنان، بهذه المدينة قبل موعدي بنصف ساعة! متشحا بربطة عنقي الحمراء وبقميصي الأزرق الذي ابتل من سماء عشيقتي. جئتُ باكرا جدا قبيل موعدي، والسبب هو أني لم أقم بتعديل ساعة يدي ليلتها فلم أحسب فارق التوقيت بين السعودية والسويد، مما وفقني أن أصل بدقة فاقت توقعات السويديين أنفسهم، فلم يدركوا أني جئت متأخراً نصف ساعة ولكن فارق التوقيت كتب لي مظهرا متحضرا جدا واهتماما رفيعا بتلك المقابلة الشخصية حينها، وفي الحقيقة، أكملتُ القصة على مسمع اللجنة وأوعزتُ مجيئي باكرا بأني جدَّ مهتم، وأنَّ مذهبي والذي اعتدتُ عليه، هو القدوم باكرا، فلم أتذكر أني قد أتيت على الوقت أبدا، وفي الحقيقة لم أكذب، فأنا معتاد أن أجيء متأخراً قليلا كما أسلفت، تماماً كتأخري في كتابة تدوينتي هذه. على أي حال فقد استبشروا بي خيرا، و أخبروني جميعا بأنهم سعداء جداً أني بتلك المواظبة و على ذلك القدر من المحافظة على الوقت. وبعد تمحيص وفحص تم قبولي لإتمام تخصصي و إكمال دراستي العليا وهذا كله بفضل الله ثم بفضل فارق التوقيت بين السعودية والسويد. على أي حال، اتفق الأطباء حينها بأن يقضوا اجازة نهاية الأسبوع في أحد الحانات العتيقة بالقرب من أكبر كنائس المدينة، وكان اتفاقهم باهتا جداً فقد اخبروني بشكل عابرٍ أننا سنلتقي الساعة الحادية عشر مساء أمام تلك الكنيسة حتى نذهب سوية لذلك المكان، وافقتهم و أنا أتسائل هل يجب علي الذهاب أم لا! ولكني في النهاية قررت مشاركتهم ليلتهم حتى أستطيع التعرف عليهم شخصيا بعيدا عن رسميات العمل. وهو ما فعلته لاحقا، فقد وصلت للمكان المحدد قبل عشر دقائق من الموعد، وأنا أردد رائعة الأسير فائق عبدالجليل: ”قبل الوعد جيت بدقايق” و البرد يقتص من أطرافـي قليلا قليلا، حتى بقي على الموعد دقيقتان، ولم يصل أحدهم، وليس لدي أي وسيلة اتصال بأحدهم، فحدثتُ نفسي يبدو أنني سأنهي الخالدة “في الجو غيم” و سأعود مرددا “أرجوك ابعد” ولكن وبلا سابق إنذار، وصل تسعة أشخاص من اتجاهات مختلفة في نفس الوقت، وكأني أرى نملا يهاجم قطعة سكر ملقاة! فدقة التوقيت جعلتني أتسائل ”هل هم ذاهبون لتناول الجعة، أم للعمل؟”، فكنت طوال الليل مصدوما من الجميع محدقا في تفاصيل ليلتهم الشقية.
وسائل النقل العام دقيقة جدا.. لحد الملل
عموما عدت إلى موطني و قمت بإعداد حقائبي متجها لبلاد الفتنة و الشتاء من جديد، مهاجرا في سبيل الله، مؤمنا بما كتبه الله لي. وبعد وصولي ثانية للسويد أول خطأ ارتكبته هو تعديل ساعة يدي بحسب التوقيت المحلي للساحرة السويد، وهو ما وضعني مأزق شبه يومي، بين كر و فر. فأصبحت ساعة يدي جاثوما يحط على ساعدي. ففي أول يوم كنت ذاهبا للعمل في السويد، صعدتُ إلى حافلة النقل التي تتجه إلى المشفى الذي أعمل فيه، وبحسب ما أخبرت به بأن القسم سيقوم بحفل قهوة استقبالا لي و لزملائي المقبولين معي في ذات البرنامج، وسيحضر هذا الحفل كبار أساتذة القسم استهلالا بقدومنا الميمون، والمفارقة هنا، أني استقليت الحافلة التي تحمل الرقم ٧٥٨ و لكنها في الاتجاة المعاكس لوجهتي، فكنت طوال الطريق أحدق في خريطة المدينة و محطات التوقف ولكني لم أجد نفس المسميات التي في الخريطة، فكنت أقارن أسمائها كطفل في أوائل مرحلته الابتدائية، فلم أكن قادرا على قراء كامل أسماء المحطات، ولكني أقارن أول أربع أحرف، فلم أجد أي تشابه أبدا، حتى وصل الوقت المحدد لبدء الحفل، ولم أجد المشفى و لم أجد أي محطة تشابه قدري، حينها استجمعت قواي و اتجهت إلى قائد المركبة، كان أسمر البشرة، أصلع الشعر، يبدو متعبا من القيادة فجرا، سألته باللغة الانجليزية، عن مشفى “سالقرنسكا”، فلم يلقي لي بالا ! حتى توقفنا في أحد المحطات، كررت عليه السؤال، فأجاب بلغة غريبة لم أفهمها، فأعدت عليه السؤال ثالثة، فقال لي بلغة انجليزية مهترئة بأنه لا يعرف ما هي تلك المحطة! صُدمت حينها فأعدتُ عليه اسم المحطة، حرفا حرفا، فتبسم ابتسامة النصر، لم أعي معناها حينها، والتي فهمتها لاحقا، بأني كنت أنطق الاسم بشكل خاطئ، لدرجة أنه لم يعرف اسم المستشفى الوحيد في المنطقة، أومأ لي بعدها مبتسما بلطف، وقال لي أنها بالاتجاه المعاكس لطريقنا، و قال لي ترجل في المحطة المقبلة و اصعد ذات الحافلة والتي تتجه بعكس الاتجاه، وكأن حال لسانه يردد: ”أيها المتخلف، أنت تسير عكس اتجاه عقارب الساعة“.
وحتى لا أطيل عليكم وإن كنت قد فعلت، فقد فعلت ما قاله لي، و استعدت بوصلتي و قليلا من وقتي، حتى وصلت لوجهتي مرهقا يابسا كقطعة جليد، دلفت إلى القسم، وكان الجميع يهم بالرحيل، استقبلت استقبالا باهتا يليق بي تماماً، استجمعت ما بقي من ماء وجهي، و أخبرتهم بقصتي، فلم يكترثوا كثيرا، وكأني أقرأ في تعابير الجميع عبارة “الله يستر”! تعاملت مع تعابيرهم ببلادة، و تظاهرت بالبلاهة علِّي أجد القبول ولكني فشلت. فكانت الصدمة الأولى و الساعة الأولى في حياتي العملية في السويد. وكان الدرس الأول لي في دقة المواعيد في السويد.
عقارب الساعة لا تتجمد هنا أبدا
وبينما أكتب مقالي تذكرت قصة أخرى بينما كنت غارقا مع أحد المواعيد في العيادة، تأخرت على المريضة التالية لمدة خمس دقائق، و حينما أحضرتها للعيادة، أبدت لي استيائها من تأخري، لدرجة أحسست أني قمت بذنب عظيم، والذي احتاج لكثير من الوقت حتى أبرر موقفي بأني تأخرت لحالة طارئة وهو حقيقة ما أغضبني ولم أستطع أن أخفي انزعاجي من تلك الحالة، وهو ما شرحته لي الممرضة لاحقا، بأن السويديين يعتبرون التأخير عن الموعد المحدد إساءة شخصية، والذي يعتبر إهانة للعيادة و للمريض، كما نبهتني بأنه يتوجب عليّ تحمل المرضى فلهم كامل الحق، ويجب علينا تفهم ذلك وتقبله. حقيقة لم تعجبني النظرية ولكني تذكرت مرضاي في وطني و صبرهم على مواعيدي، فتمتمتُ ”يا غريب خليك أديب” و أطرقتُ مبتعدا و مبتسما و حالي بين مقتنعٍ و منكر.
من داخل عيادتي.. مع التحية
على أي حال، أتيت لموعدٍ لي في أحد الدوائر الحكومية في السويد و تأخر الموظف المسؤول قرابة الدقيقتين، فقمت بالثأر منه بطريقه سويدية بحتة، مما جعله يعتذر كثيرا و أنا أتحدث مع نفسي، قائلا: “ليست القضية التأخير و لكني أحببتُ أن انتصر لنفسي“.
ختاما، لدي الكثير من القصص المضحكة المحزنة ذات العلاقة والتي لن يتحملها المقال. قد أسردها لاحقا، ولكن يجب على أن أودعكم بدقة، آملا أن نلتقي لاحقا.. تحيتي.
بقلم :
أحمد المهندس
عربي يعيش في السويد، يمارسُ طب الأسنان كمهنة ويقوم بعمل الزمالة في علاج أمراض اللثة و زراعة الأسنان، تستهويه الكتابة والتدوين. له ديوان شعري بعنوان عمتِ مساءً.
مواقع النشر