بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مرض الفُصام العقلي أو الفُصام الذُهاني، والذي ربما يكون أخطر الأمراض العقلية على الإطلاق، والذي يُعاني منه ملايين الشباب في العالم، فهذا المرض العضال للآسف الشديد يبدأ في سنٍ مُبكرة، إما في سن المراهقة أو في بداية العشرينات من العمر عند الأشخاص الذين يُصابون بهذا المرض. المشكلة الآخرى أن هذا المرض يبدأ - في أغلب الأحيان - دون أن يلاحظه الأهل في بدايته، حيث أن الشاب أو الفتاة الذين يبدأ عندهم مرض الفُصام، يبدأ بسلوكيات قد يستغربها الأهل أو الأشخاص المحيطين بالمريض لكن لا يتوقعون أن يكون هذا بداية مرضٍ شرس، عضال يحتاج إلى العلاج بشكلٍ جاد، وكلما كان التبكير في العلاج كان ذلك هو الأفضل. المشكلة الثالثة هي أن المرض عندما يتطّور عند المريض فإن الأهل يبدأون في التخبّط، نظراً لجهل الكثيرين بهذا المرض. فعندما يتفاقم المرض ويبدأ المريض بسماع أصوات، ويبدأ في الكلام مع نفسه - حقيقة الأمر أن المريض يكون يستجيب للأصوات التي يسمعها - فإن الكثيرين يعتقدون بأن ما يسمعه أبنهم - أو أبنتهم - المريض هو أصوات جن ! وبذلك يبدأون رحلة البحث عن من يُخرج هذا الجن من جسد أبنهم . يتجهون إلى مُعالجين شعبيين عُرف عنهم إخراج الجن . نظراً للجهل المُتفشي في المجتمعات العربية، وثقافة الجن الذي يتلبس الإنسان، فإن هناك ثقافة مقبولة من العامة بأن الجن يدخل في الإنسان، يبدأ المعالجون الشعبيون بطقوس معروفة عند عامة الناس بمخاطبة الجن بأن يخرج، وأحياناً يتكلم المريض - حسب نظرية الإيحاء التي اختزلها اللاوعي عند المريض - بأنه لن يخرج، وتبدأ مساومات بين المعُالج الشعبي أو من يدّعي أنه يستطيع إخراج الجن من الجسد البشري (وقضية دخول الجن في الإنسان ليست قضيتنا)، ولكن قد يتعّرض المريض خلال عملية ما يُدعى بإخراج الجن من جسد مريض الفُصام إلى إيذاء بدني شديد، قد يحصل في بعض الحالات الوفاة للمريض بسبب شدة الضرب التي يتعّرض لها المريض، وقد قرأنا عن مثل هذه الحالات في عددٍ من المدن في المملكة العربية السعودية، وتم إحالة المعاُلجين إلى القضاء، لأن المعُالج ضامن.

ليس صعباً

نعود إلى قضية بدء مرض الفُصام عند المريض، فبعد أن يتعب الأهل من مراجعة أدعياء من يُخرجون الجن، يلجأ الأهل أخيراً إلى الأطباء النفسيين، وغالباً ما يكون تشخيص مرض الفُصام ليس صعباً للطبيب الذي لديه خبرة في الأمراض النفسية، ولكن قد يختلط أحياناً أعراض مرض الفُصام مع بعض الأمراض العقلية ولكن في نهاية المطاف فإن مرض الفُصام يتبين من الأمراض المُشابهة له.

و يحتاج علاج مريض الفُصام في بداية العلاج إلى العلاج الدوائي، خاصةً وإن الأعراض الإيجابية مثل الهلاوس السمعية (أصوات يسمعها المريض تُخاطبه أو تُعلق على سلوكياته أو تتحدث عنه بضمير الغائب)، وهذه الهلاوس السمعية مُزعجةٌ جداً للمريض وتجعله يتضايق منها بشكلٍ كبير، خاصةً إذا كانت تتكلم عنه بأمورٍ سيئة مثل أن تشتمه أو أن تأمره بأن يفعل أشياء ليست حسنة، مثل أن تأمره بأن يضرب أحداً أو أن يؤذي شخصاً آخر. وهناك أيضاً من الأعراض ما يُعرف بالضلالات ؛ وهي أفكار غير صحيحة يعتقد المريض بأنها حقيقية ولا يقبل
المناقشة في صحتها، وتكون هذه الأفكار لا تتماشي مع ماهو سائد في المجتمع وثقافته. وأكثر ما تأتي هذه الأفكار بصورة الشكوك في الآخرين بأنهم يتآمرون ضده لإيذائه أو يشك بأن هناك من يُراقبه أو من يتنصت عليه، وقد يختلق مشاكل في بعض الأحيان بسبب هذه الضلالات، وفي أحيانٍ قد يؤذي الأشخاص أو الشخص الذي يعتقد بأنه يتآمر لإيذائه دون أن يكون الشخص الآخر على علمٍ بأمر هذه الضلالات.

مريض الفُصام يحتاج إلى أن يتعاطى الأدوية لفترةٍ قد تطول، ويحتاج الأهل إلى الإشراف على متابعة أخذ المريض للعلاج لأن أكثر المرضى لا يعتقدون بمرضهم وبالتالي لا يعتقدون أنهم بحاجةٍ لعلاج لأنهم ليسوا مرضى!.

كثير من مرضى الفُصام يتحسنون إذا تابعوا أخذ العلاج بانتظام واستجابوا لهذه الأدوية التي تُعالج مرض الفُصام، وهي أدوية متنوعة، وقد يستجيب المريض لنوعٍ معين من الأدوية لا يستجيب لها مريض آخر، لذلك يجب عدم إعطاء دواء مريض بالفُصام لمريض آخر يُعاني من نفس المرض إلا باستشارة الطبيب. وكذلك بعض الأدوية لها أعراض جانبية، لذلك يجب مراجعة الطبيب بصورةٍ مُنتظمة لتقييم المريض ومراجعة الأدوية التي يتناولها، فقد لا يصُلح له دواء ولكن يستفيد من تغيير الدواء بنوعٍ آخر من الأدوية التي يُعالج بها مرض الفُصام. مرضى الفُصام أيضاً قد يُعانون من الكآبة بنسبة عالية قد تصل إلى 50%، وكذلك قد ينتحرون، حيث تصل نسبة مرضى الفُصام الذين ينتحرون حوالي 10% لذا يجب علاج الاكتئاب عندما يُصاب به مريض الفُصام وكذلك يجب الحذر والحرص على المريض الذي تبدو عليه بوادر الانتحار، حيث يجب تقييم حالة الرغبة في الانتحار عند مريض الفُصام، وقد يحتاج مريض الفُصام في أوقاتٍ كثيرة إلى الدخول إلى مستشفى نفسي أو في قسم نفسي في مستشفى عام.

تأهيل للمريض

بعد الأدوية وتحسّن حالة المريض من الأعراض الإيجابية (الهلاوس والضلالات)، يجب أن يكون هناك تأهيل للمريض بحيث لا يفقد مهاراته الاجتماعية، خاصة وأن مريض الفُصام مُعرّض لأن يُصبح فاقداً للمهارات الاجتماعية إذا لم يتم عمل تأهيل له. وللآسف فإننا نفتقد هذا الجانب بشكلٍ كبير في معظم دولنا العربية، الأكثر ألماً أنه لا يوجد أماكن في الوطن العربي لتأهيل من يعملون مع مرضى الفُصام لتأهيلهم اجتماعياً والمحافظة على ما لديهم من مهاراتٍ بعد المُعاناة مع مرض الفُصام في المستشفيات وتناول الأدوية.

من الأشياء التي أسعدتني كثيراً هو شروع بعض المهتمين بمرض الفصُام بإنشاء جمعية لمرض الفُصام في المملكة العربية السعودية، وإذا كتُب لهذه الجمعية أن تظهر إلى الوجود فإنها سوف تكون ذا نفعٍ كبير وفائدة جمة لجميع مرضى الفُصام في المملكة العربية السعودية، وأرجو من الله أن يوفق من يسعى لهذا الأمر، وآمل من المهتمين بأعمال الخير في المملكة بأن يدعموا هذه الجمعية التي سوف تكون أول جمعية لمرض الفُصام في الوطن العربي، وسوف يكون تأثيرها إيجابياً بكل المقاييس لأن من يسعى وراء إنشاء هذه الجمعية قد يكونون أشخاصاً لهم أقارب ؛ سواءً كانوا أبناء أو إخوة أو أزواج أو أباء ولكنهم يُريدون أن يشمل عملهم الخيري هذا جميع مرضى الفُصام بالقدر الذي يستطيعونه من مساعدة مرضى الفُصام وعائلاتهم ومساعدة المرضى في شؤون حياتهم اليومية والعملية بقدر ما يُتاحُ لهم من فرص وإمكانات، وأتمنى من وزارة الشؤون الاجتماعية المساعدة في تسهيل قيام هذه الجمعية الخيرية التي سوف تكون نقلةً نوعية في رعاية مرضى الفصام ومساعدة عائلاتهم

وبالتالي يعود النفع على المجتمع أجمع، لأن مريض الفُصام ليس مشكلة لأهله فقط ولكن مشكلة للمجتمع بأسره، فكثير من الأسر لا تستطيع رعاية مريضهم المُصاب بالفُصام، وغالباً يكون المريض بالفُصام لا يستطيع رعاية نفسه، وإذا كانت أسرته أيضاً لا تستطيع رعايته فإنه سوف يُصبحُ مُشرّداً، يعيش في الشوارع كما نرى البعض منهم في كل مدينةٍ كبيرة، حيث يهيمون في الطرقات بأسمالٍ بالية وينامون في الشوارع ويتعرضون لخطر الحوادث المرورية أو غيرها من الحوادث، وبذلك تُصبح قضية هذا المريض قضية مجتمع بأكمله وليس قضية أسرةٍ فقط.
مع تمنياتى للجميع بالصحة والعافية ...والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



د.ابراهيم بن حسن الخضير