عندما تم الاتفاق بين دار النشر باللغات الأجنبية ببكين وبيني بشأن إصدار كتاب حول تجربة حياتي وعملي في الصين، كان علي أن أقترح على الناشر عنوانا لمشروع الكتاب، فوقعت في حيرة بالغة. تذكرت وقتها كتابا لصحفي مصري كان عائدا بعد أربع سنوات عمل في



الولايات المتحدة وألف كتابا أعطاه عنوان "تفكيك أمريكا". تذكرت العبارة التي نطقت بها فور مطالعة عنوان الكتاب.. .. تفكيك مرة واحدة؟" مع إدراكي أن الكاتب يقصد تفصيل وشرح أمريكا. إذا كان الأمر كذلك، من وجهة نظري، بالنسبة لبلد عمره قرنان من الزمان أو يزيد قليلا، فما بالك بالصين ذات الخمسة آلاف عام؟



والحق أن عناوين كثيرة جالت بخاطري، غير أنني لم أجد أفضل من "سفر الصين"؛ ذلك أنه بالرجوع إلى معاجم اللغة تدهشك المعاني التي تشتمل عليها كلمة "سفر" والتي وجدتها تعبر إلى حد كبير عن رؤيتي للصين وتجربتي فيها ومعها، فالسفر بفتح الفاء يعني قطع المسافة والجمع أسْفارٌ، والسِّفْرُ بكسر السين هو الكتاب والجمع أسْفارٌ والسُّفْرةُ بالضم هي الطعام والسَّفِيرُ الرسول المصلح بين القوم والجمع سُفَراء،ُ وسَفَرَ بين القوم يسفر بكسر الفاء سِفَارَةً بالكسر أي أصلح، وسَفَرَ الكتاب كتبه، وأسْفَرَ الصبح أضاء. كما أن كلمة الأسفار لها ارتباط وجداني بالقداسة والغموض أحيانا، فنحن نشير إلى الكتابات البوذية مثلا بأنها الأسفار، وكذا أسفار العهد القديم. والسفر ليس مجلدا أو عملا موسوعيا وإنما كتاب ربما ضمن مجموعة كتب، فهو جزء من كُل. ولأنني أزعم أن أحدا لا يستطيع أن يكتب عن كل شيء في الصين، وكفى المرء أن يتعرض لقطرات من بحر معارف الصين الواسعة التي تكتنفها الأسرار، لم يرق لي عنوان أكثر من "سفر الصين"، وهنا كان ماثلا أمامي قول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في مذكراته "إن لدى الصين أسرارا لا متناهية، لذلك فإننا لن نعرف كل شيء عن الصين، ولكن ربما نستطيع أن نتعلم شيئاً منها…."..


غلاف كتاب ((سِفر الصين))

وأعترف أنني كنت أتحسس وقع قلمي في كل كلمة وضعتها في " سِفْرُ الصين.. رحلةُ في فكر وحياةِ ومجتمعِ الصينيين". وأعتقد أن سطور مقدمة الكتاب تبين الحذر الذي يصل إلى حد التخوف من الكتابة عن الصين. كتبت في مقدمة هذا السفر: "الكتابة عن الصين وأنت في الصين، ليس كمثل الكتابة عنها وأنت خارجها، فالصين في الداخل تختلف، قليلا أو كثيرا، عن صورة الصين في الخارج، بجمالها أو قبحها. ولا شك أن الكتابة عن الصين، وخاصة في السنوات العشرين الأخيرة باتت غواية يقع في شراكها المفتونون بجمال الصورة والمنزعجون من قبحها، كما تصوره لهم تمنياتهم أو هواجسهم.


شارع تشانغآن في ثمانينات القرن الماضي


شارع تشانغآن اليوم

البعض يكتب عن الصين مبشرا ومرحبا بصعودها أو نهوضها أو تقدمها، أياَ كان الوصف الذي يُلصق بها، والبعض يكتب مُحذرا متوجسا من هذا الصعود أو النهوض أو التقدم. ولكن الكتابة عن الصين تظل مغامرة، ذلك أن هذا البلد الكبير بحجمه وتنوعه الهائل؛ المكاني والسكاني والعرقي والثقافي والتاريخي، يعطيك الصورة ونقيضها، فالصين لا تعرف الأحكام المطلقة. أنت تستطيع أن تكتب عن الثراء والرخاء في الصين، ويمكن أيضا أن تناقض هذا فتكتب عن الفقر والعوز، وبوسعك أن تتحدث عن التصاق الصينيين وتمسكهم بتقاليدهم وتراثهم وإرثهم الثقافي، ولديك مساحة واسعة للحديث عن تآكل تلك التقاليد والتراث والإرث، تكتب عن لادينية الصينيين، وعن أديانهم وعقائدهم الكثيرة، عن سرعة بديهتهم وقدراتهم الإبداعية وعن بطء تفكيرهم واستجابتهم، كما يصوره لك فهمك. تكتب عن التقدم التكنولوجي المدهش وعن الفقر التقني، عن انفتاح الصينيين على العالم وعن انغلاقهم على أنفسهم، عن سياسة الصين الخارجية النشيطة ودورها العالمي الفاعل وانخراطها في الشئون الدولية، وعن السياسة الخارجية المنكفئة على مصالحها، عن الأثر الإيجابي لنمو الاقتصاد الصيني على اقتصاد العالم وعن الأثر السلبي له. الكتابة عن الصين مثل النظر في لوحة حبر صينية، يمكنك أن ترى فيها صورا شتى متناغمة أو متناقضة، حسب النظارة الفكرية والمعرفية التي تقرأ بها. لا أحد يملك الحقيقة الكاملة عندما يكون الحديث عن الصين. ومعضلة الكتابة عن الصين، أنك كلما عرفت عنها أكثر فتر حماسك للكتابة وزادت حيرتك، وآثرت الانتظار حتى تنجلي الصورة، أو هكذا تظن.



معظم ما كُتب عن الصين، في السنوات الأخيرة يدور في فلك الاقتصاد والسياسة، فتأثير التجربة الاقتصادية الصينية ونمو الاقتصاد الصيني طغى على جوانب كثيرة من الصورة الصينية، وبحثُ حالة التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية الفريدة في الصين جار على النظر في مجتمع الصينيين وثقافتهم وأدبهم وفنونهم. وفي عبارة قصيرة، لا يرى كثيرون في الصين غير السلع الصينية التي تشاركهم حياتهم، يرونها منتجات اقتصادية، وتلك رؤية مبتورة ومجحفة بحق الصينيين.



عندما كنت في الطائرة إلى الصين، كان وخز عقلي لقلمي عنيفا، يستفزه للكتابة، متصورا أن ما عرفته عن الصين، قبل أن أصل إليها، يكفي لكتاب إن لم يكن عدة كتب، فالصين فضاء هائل وبحر عميق؛ تخال أنه يسمح لك بالتحليق والسباحة، ولكنه فضاء ما إن تحلق به حتى تضيع في المجهول، وبحر ما إن تسبح فيه حتى تأخذك أمواجه وتدفعك إلى أعماق هيهات أن تصلها. وعندما ترسو قدماك على أرض الصين تحار من أين تبدأ، وإلى أين تنتهي، وتظل الحيرة رفيقا لك، تغذيها سرعة تغير وتحول تعجز العين عن ملاحقتها، أو كما يقول الصينيون، تهز الأرض والسماء.



ولا شك أن إقامتي وعملي في الصين لسنوات طويلة أتاحا لي فرصة لمعرفة الصينيين عن قرب، ومتابعة ما يكتبه الصينيون عن أنفسهم وعن بلادهم، وما يكتبه الآخرون عنهم، ولهذا فإنني اعتمدت رئيسيا في (سِفْر الصين) على بيانات ومعلومات من مصادر صينية، وأسجل هنا أن مجلة "الصين اليوم" وإصدارات المجموعة الصينية للنشر الدولي، والكتب العديدة الصادرة عن وزارة الثقافة الصينية والتي تغطي مجالات متنوعة، من ثقافة الطعام عند الصينيين إلى فن عمارتهم وطبهم ولغتهم وفنونهم وموسيقاهم وأعيادهم، وفرت لي مادة ثرية لفهم جوانب متنوعة من فكر وحياة الصينيين، كما أن جهود الزملاء الصينيين في إيضاح وشرح ما استشعرت فيه غموضا من فكر وتاريخ وحياة الصينيين، كانت عونا وحافزا لي لخوض مغامرة الكتابة عن الصين.



وتنبغي الإشارة إلى أن (سِفْر الصين) ليس كتابا عن اقتصاد أو سياسة الصين بقدر ما هو محاولة لفهم الشخصية الصينية في ماضيها وفي حاضرها، والتغيرات التي شهدها المجتمع الصيني في السنوات العشرين الماضية، وإن كان هذا لا يعني أنه يخلو من إطلالات على التنمية الاقتصادية والسياسية في الصين، ولكنها إطلالات لم يكن ممكنا تجاوزها لعلاقتها الجدلية بكافة جوانب حياة الصينيين المعاصرين.



لقد نصح الصينيون منذ قديم الزمان بأهمية "التدبر بعناية قبل مباشرة الفعل" وقال العماد الأصفهاني "إني رأيت أنه لا يكتب أحد كتابا في يومه إلا قال في غده، لو غُير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قُدم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل"، وأحسب أن هذا إن كان صحيحا بالنسبة لكل كتاب فإنه أكثر صوابا وصدقا بالنسبة لكتاب عن الصين. وأتمنى أن يكون هذا الكتاب عونا لمن يريد أن يعرف شيئا عن الصين، فرحلة الألف ميل - إلى الصين- تبدأ بالخطوة الأولى والتي هي في رأيي فهم الصينيين أنفسهم.


الفنادق في الصين

وقد شرفت بأن يكتب تقديما للكتاب السفير الدكتور محمد نعمان جلال، سفير مصر السابق لدى الصين وأحد أبرز المتخصصين في الشئون الصينية، والذي لم ينكر أن الكتابة عن الصين مهمة جد عسيرة، وهنا أنقل بعضا مما كتبه في تقديمه: "الصين تتغير بسرعة غير معتادة، مما يجعل الكتابة عنها تحتاج إلى تحديث الفكر والمعلومات باستمرار حتى لا يشعر المرء أنه يعيش ويتحدث عن عصر غير العصر. وأنه بعد الإطلاع على الكتاب، وجدته عميقاً وشاملاً من حيث المعلومات والتحليل والأفكار، فهو يجمع ما بين الكتابة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما بين الكتابة الصحفية السلسة، ويجمع ما بين السياسة والثقافة، إنه يهم العامة كما يهم الخاصة. إنه يتحدث عن صين كونفوشيوس كما يحلل صين دنغ شياو بينغ، إنه يتناول الفكر والدين والتقاليد والطقوس والمراسم بسهولة واقتدار. ومن ثم أصبحت المسيرة صعبة حول ماذا يمكن أن يكتب المرء في تقديمه لمثل هذا الكتاب.


زهور الفوانيا الشجرية في مدينة لوهيانغ بمقاطعة خنان

يقارن المؤلف بين نظرة الصيني للدين ونظرة شعوب أخرى وأديان وعقائد أخرى. ولعل هذا يُذكر بمدارس الفلسفة في أوروبا في عصر النهضة التي تحدثت عن اختراع الإنسان للإله لملء الفراغ النفسي، وهذا بالطبع يختلف عن نظرة الأديان السماوية التي تذهب إلى أن الله هو الذي خلق الإنسان. ثم نجد عبقرية الشعب الصيني في تاريخه الثقافي، حيث نظرته لخلق الكون من كتلة من الهيولي ثم انشقاقها وهذا يعيد للذهن نظرية (الانفجار العظيم) في خلق الكون التي تحدث عنها بعض العلماء المعاصرين في أمريكا، رغم أن القرآن الكريم أشار إليها بقوله: (إن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما) سورة الأنبياء الآية رقم 30، أي التصاق السماء والأرض ببعضهما في كيان واحد ثم فصلهما بواسطة الله سبحانه وتعالى. السؤال هو: أي من النظريات والمدارس تأثر بالآخر؟ وأيهما أسبق زمنياً؟ أم أنه لم تتأثر أي من تلك النظريات بالأخرى، وأن الإله هو المبدع الحقيقي للكون، ومن هذا المنطلق هو الذي وضع في عقل الإنسان في أقصى الشرق وأقصى الغرب وفي الوسط - حيث الأديان السماوية - نفس المفاهيم والأفكار.


فندق فى مدينة سونغجيانغ شانغهاى بالصين مستوحى من مياة طبيعية وشلالات

و"سفر الصين" حشد فريد للمعلومات والتحليلات ويعد بحق ضرورة لكي يقرؤه كل شخص، لمعرفة كيف تفكر الصين اليوم وكيف تتطور وتتغير نحو المستقبل وما هي الخلفية الفكرية لكل ذلك.

ويمتاز الكتاب بثلاث سمات: الأولى، السلاسة في الأسلوب. الثانية، البساطة في استخدام الكلمات. الثالثة، فهم المؤلف للأفكار التي يطرحها ويعبر عنها، مما يجعله في سياق ما يسمى بالسهل الممتنع. فنظريات مثل ين ويانغ، والتي هي أحد المحاور الرئيسة للفلسفة الصينية، يشرحها المؤلف بأسلوب جذاب بحيث يربط فيها ما بين الأسطورة والخيال والفلسفة والحقيقة الكونية الثنائية، فتعاقب الليل والنهار، الظلام والنور، الرطوبة واليبوسة، الأنوثة والذكورة، يعبر عنها الكاتب في سطور قلائل ولكنها عميقة وواضحة.


المصدر : حسين إسماعيل (من العدد الثاني لعام 2009 لمجلة الصين اليوم)