يقول صلاح الزامل أن في تاريخ التراث العربي القديم هناك علماء وادباء اتلفوا انتاجهم الفكري، وذلك يرجع الى عدة أسباب متنوعة منها ما هو سياسي بحت، و البعض الآخر ديني واجتماعي او طائفي او لغيرها،، والحقيقة انه جهلا بقيمة هذه الكتب،، ولعل اول من طرق هذا الميدان من حيث اتلاف المصنفات وحرقها هو العبقري الجاحظ والثاني ابو حيان التوحيدي رحمه الله في كتابه الممتع والنفيس الإمتاع والمؤانسة،، فذكر جملة من العلماء الذين اتلفوا مؤلفاتهم وهو من اوائل الذين اتلفوا مصنفاتهم ضناً بها على اهل زمانه الذين لم يقدروا قيمة العلم والعلماء فهو كما معروف لم ينل حظوة ومكانة عند السلاطين والولاة.

avicenna.jpg
أبو حيان التوحيدي

المهم انها عندي أنا أصبحت سوقه كاسدة عندهم،، كانت ردة فعل منه قاسية ومروعة ومؤسفة بحرق واتلاف هذه المصنفات القيمة، ولولا ما كان بأيدي الوراقين من نسخ بعض مؤلفاته لذهبت كلها ولحرمنا من علمه وادبه،، ولازلت اذكر مقالة للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في برنامجه العالمي نور وهداية عندما تحدث عن بعض العلماء الذين توفوا،، فقام ورثته الجهال بحرق كتبهم جهلاً منهم بقيمة ونفاسة هذه الكتب واعتقد انه من علماء دمشق.

المهم انه لم ينجو منها الا كتاب واحد رآه بعضهم فالتقطه اعجابا بغلافه الجميل والجذاب.

ويهمنا هنا هو اتلاف بعض الشعراء الشعبيين لشعرهم او من اقربائهم واصدقائهم،، ومن ذلك الشاعر المشهور شاعر الزبير عبد الله بن ربيعة رحمه الله، فالذي وصل الينا من شعره لا يمثل الا القليل من انتاجه الشعري الجيد،، وبالأخص ان ابن ربيعة امتد عمره اكثر من ستين سنة،، بعكس صديقه ورفيقه الشاعر الغزلي الكبير محمد بن لعبون رحمه الله الذي كان عمره قصيرا،، حيث توفي وعمر 42 سنة،، ومع ذلك فيعد ما نقله الينا الرواة شعراً كثيرا بالنسبة لصديقة ابن ربيعة الذي امتد عمره.

ومن المعروف ان ابن ربيعة ليس شاعرا أميا،، بل هو يقرأ ويكتب،، فقد كان يدون قصائده واشعاره،، وقد أورد سبب قلة شعر ابن ربيعة الأستاذ المعروف بلدي ابن ربيعة عبد الله الحاتم رحمه الله في كتابه خيار ما يتلقط،، حيث ان نجل الشاعر ابن ربيعة وهو محمد قد احرق شعر ابيه،، ويضيف ابن حاتم نقلا عن احد كبار السن بالزبير من أقرباء الشاعر ابن ربيعة ان هذه الاشعار كانت أكياس مملوءة بالورق كلها من شعر ابن ربيعة فكانت خسارة كبرى في اتلاف هذا الموروث الرصين،، كان قد انتجه شاعر يعد من الطبقة الأولى من شعراء الأدب العامي ومن مشاهير شعراء القرن الثالث عشر الهجري، وعلماً راسخاً في ذاكرة مدينة الزبير والخليج العربي وقد احسن الصديق الباحث إبراهيم الخالدي في صنع ديوان لابن ربيعة حيث تتبع المطبوع من شعره وتقصي المخطوط منه بصورة بحثية جيدة والمقارنة بين روايات جماع شعر ابن ربيعة واثبات الصواب منها والادق تحقيقاً للنص الشعري وبما يليق بمكانة هذا الشاعر الفحل.

9.jpg
محمد بن لعبون

ومن الشعراء الذين اتلفوا شعرهم الشعبي والفصيح الغزلي منه فقط الشاعر الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين رحمه الله تعالى الذي كان مبدعاً في شعره الفصيح وكذلك الشعبي وقد نشرت من قبل سبع سنوات او تزيد قصيدته الوحيدة اليتيمة التي قاله وهو في دولة قطر أعني انها التي حفظت ونقلت الى الرواة ومطلعها:

النوم عاود للعيون السهارا
والقلب قر بما كره عقب ما طار

والنفس عقب إمزوامتها المرارا
ترعى زهر عشب من الغرنوار

الى أن قال: رحمه الله

عودتنا عادات عز اكبارا
ونصرتنا الى خاب من خاب أوبار

فلا نأتي العيلاة عمداً جهارا
ونغطي ونرفا زلة الخل وا لجار

والقصيدة طويلة وهي تدل دلالة واضحة على ان الشيخ محمد بن عثيمين له قدم راسخة في عالم الشعر الشعبي وانه ضليع به ومن خلال قصيدته هذه الشعبية يظهر انه جيد السبك في ابياته هذه وسلس المعاني ويقول: العالم المشهور خير الدين الزركلي رحمه الله

انه احرق شعره العاطفي الذي كان قبل بلوغه الخمسين وقال ان الجمع الذي جمعه سعد بن رويشد فهو ما نظمه بعد عام 1320هـ اما هذا فلم يظهر منه شيء ويقال انه اتلف شعره العاطفي قبل وفاته ووفاته كانت في عام 1362هـ بالحوطة مقر آبائه واجداده والحق يقال ان شعر ابن عثيمين قد فاق جميع الشعراء الذين طرقوا الفصيح النجديين الذين من قبله بقرون وقد خلت نجد من القرن الرابع الهجري من شاعر الفصيح كأمثاله حتى أكد هذا البلبل فأعاد سنوات المجد الشعري لنجد واليمامة أمثال الأعشى والنابعة الجعدي وجرير وعنترة ومجنون ليلى ويزيد بن الطثرية ويحيى بن طالب الحنفي وأسرة ابن ابي حفصة وشعراء بني حنيفة وقشير وقبائل اليمامة واما حراق ابن عثيمين لشعره طبعا يرجع الى سبب رئيسي هو تنسكه وتدينه ولا غرور فهو طالب علم وليس عامياً رحمه الله تعالى.

ويأتي محمد بن قاسم بن غنيم الزبيري بلداً الذي كان يقرض الشعر الفصيح والشعبي وهو من العلماء المشهورين ومن فقهاء الحنابلة رحمه الله وشعره الشعبي الموجود قليل بل يعد بالأصابع بل هي قصيدته الوحيدة التي وجدت وهي موجهة الى ابنه مرداس ومنها :

هيه ياركب على مثل الحيام
وان دون في دوهن مثل النجوم

عيد هيات عليهن الكرام
صيعرات وهن تحت الكروم

الى ان قال :

خص مني بالتحية والسلام
عزوتي مرداس مع ربعه عموم

قل له ترى والدك سهر ما ينام
خاطره وياك البال مغموم

وقد ذكر الرائد عبد الله الدويش رحمه الله في كتابه مختارات من اعلام شعراء النبط ان ابن غنيم احرق شعره ا لشعبي ولعل هذه يرجع الى مكانته الدينية في الزبير.

ومن جملة هؤلاء الشعراء كذلك الشاعر عبد العزيز بن الشيخ رحمه الله من أهالي ثادق والبير وله قصائد جميله غزلية رقيقة وقد روي لي الأستاذ الأديب محمد الحمدان ان ابن الشيخ هذا قد اتلف شعره قبل وفاته ولعله ورعاً منه رحمه الله ولعل معاصرة الشاعر عبد الله بن فيصل رحمه الله الذي طلب العلم واصبح قاضياً فيما بعد قد اتلف شعره لأن له شعراً ليس بقليل في شبابه والجدير بالذكر ان ابن فيصل هذا كان يحفظ كتاب منتقى الأخبار للمجد ابن تيمية رحمه الله اما قصائد ابن الشيخ فمنها قصيدته السامرية المعروفة ومنها:

سقى الله مرب من حد الاسهال
هما ليل وسمي تقفاه غربية

سقاه الولي من مدلهم الى انجال
فيه الطها مثل المغاتير مركية

وقد نشر أ. محمد الحمدان قصائد جيدة من شعره في كتابه السامري ونشر قصائد له لأول مرة تنشر

ومن اهل الشعر وصانعيه الذي اتلفوا شعرهم شار الكويت الأول الشعبي حمود بن ناصر البدر رحمه الله تعالى فهذا الشاعر مكثر من الشعراء وليس مقل لأنه تفرغ للشعر منذ ان بلغ مبلغ الرجال ودخل عالم الشعراء الشعبيين وقد نال شهرة واسعة وكبيرة بسبب قصيدته العصماء قبيل موقعة الصديف سنة 1318هـ،.

ويؤكد الباحث والرائد الشعبي عبد الله الدويش رحمه الله جامع ديوان البدر ان حمود البدر كان في اخريات حياته احرق شعره ولهذا لم يوجد القليل من انتاجه ولولا مساعي عبد الله الدويش البحثية وتقصية وتحمله عناء ومشقة البحث لما رأينا للبدر ديواناً منشوراً بين الناس وهذا من حسنات الدويش رحمه الله وكم له من ايدٍ مشرفة نحو التراث الشعبي الخليجي.