السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

الفائدة الاولى:

ضبط المشاق المقتضية للتخفيف .

المشاق على قسمين : مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبا , كمشقة البرد في الوضوء , والغسل . ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار ومشقة السفر , التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها . ومشقة ألم الحدود , ورجم الزناة , وقتل الجناة , فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات .

ومن استثنى من ذلك جواز التيمم للخوف من شدة البرد فلم يصب لأن المراد أن يخاف من شدة البرد حصول مرض من الأمراض التي تبيح التيمم , وهذا أمر ينفك عنه الاغتسال في الغالب , أما ألم البرد الذي لا يخاف معه المرض المذكور , فلا يبيح التيمم بحال وهو الذي لا يبيح الانتقال إلى التيمم .

وأما المشقة التي لا تنفك عنها العبادات غالبا , فعلى مراتب :

الأولى : مشقة عظيمة فادحة : كمشقة الخوف على النفوس , والأطراف ومنافع الأعضاء فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعا لأن حفظ النفوس , والأطراف [ ص: 81 ] لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة , أو عبادات يفوت بها أمثالها .

الثانية : مشقة خفيفة لا وقع لها

كأدنى وجع في إصبع , وأدنى صداع في الرأس , أو سوء مزاج خفيف , فهذه لا أثر لها , ولا التفات إليها ; لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها .

الثالثة : متوسطة بين هاتين المرتبتين .

فما دنا من المرتبة العليا , أوجب التخفيف , أو من الدنيا , لم يوجبه كحمى خفيفة ووجع الضرس اليسير , وما تردد في إلحاقه بأيهما اختلف فيه ولا ضبط لهذه المراتب , إلا بالتقرب .

وقد أشار الشيخ عز الدين إلى أن الأولى في ضبط مشاق العبادات : أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تخفيف تلك العبادة فإن كانت مثلها , أو أزيد , ثبتت الرخصة , ولذلك اعتبر في مشقة المرض المبيح للفطر في الصوم : أن يكون كزيادة مشقة الصوم في السفر عليه في الحضر وفي إباحة محظورات الإحرام : أن يحصل بتركها , مثل مشقة القمل الوارد فيه الرخصة .

وأما أصل الحج , فلا يكتفى في تركه بذلك , بل لا بد من مشقة لا يحتمل مثلها , كالخوف على النفس , والمال وعدم الزاد والراحلة .

وفي إباحة ترك القيام إلى القعود : أن يحصل به ما يشوش الخشوع , وإلى الاضطجاع أشق لأنه مناف لتعظيم العبادات بخلاف القعود , فإنه مباح بلا عذر كما في التشهد فلم يشترط فيه العجز بالكلية .

وكذلك اكتفى في إباحة النظر إلى الوجه والكفين بأصل الحاجة , واشترط في سائر الأعضاء تأكدها . وضبطه الإمام بالقدر الذي يجوز الانتقال معه إلى التيمم , واشترط في السوأتين مزيد التأكيد , وضبطه الغزالي بما لا يعد التكشف بسببه هتكا للمروءة , ويعذر فيه في العادة .

الفائدة الثانية : قال الشيخ عز الدين : تخفيفات الشرع ستة أنواع :

الأول : تخفيف إسقاط , كإسقاط الجمعة والحج , والعمرة , والجهاد بالأعذار .

الثاني : تخفيف تنقيص , كالقصر .

الثالث : تخفيف إبدال , كإبدال الوضوء , والغسل بالتيمم , والقيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع , أو الإيماء , والصيام بالإطعام .

الرابع : تخفيف تقديم , كالجمع , وتقديم الزكاة على الحول , وزكاة الفطر في رمضان , والكفارة على الحنث .

الخامس : تخفيف تأخير , كالجمع , وتأخير رمضان للمريض والمسافر ; وتأخير الصلاة في حق مشتغل بإنقاذ غريق , أو نحوه من الأعذار الآتية :

السادس : تخفيف ترخيص , كصلاة المستجمر , مع بقية النجو , وشرب الخمر للغصة , وأكل النجاسة للتداوي , ونحو ذلك .

واستدرك العلائي سابعا , وهو : تخفيف تغيير , كتغير نظم الصلاة في الخوف .

الفائدة الخامسة : بمعنى هذه القاعدة : قول الشافعي رضي الله عنه : ( إذا ضاق الأمر اتسع ) وقد أجاب بها في ثلاثة مواضع :

أحدها : فيما إذا فقدت المرأة وليها في سفر , فولت أمرها رجلا يجوز . قال يونس بن عبد الأعلى : قلت له : كيف هذا ؟ قال : إذا ضاق الأمر اتسع .

الثاني : في أواني الخزف المعمولة بالسرجين ؟ أيجوز الوضوء منها ؟ فقال : إذ ضاق الأمر اتسع حكاه في البحر .

الثالث : حكى بعض شراح المختصر أن الشافعي , سئل عن الذباب يجلس على غائط ثم يقع على الثوب فقال : إن كان في طيرانه ما يجف فيه رجلاه وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع .

ولهم عكس هذه القاعدة : إذا اتسع الأمر ضاق .

قال ابن أبي هريرة في تعليقه : وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت وإذا اتسعت ضاقت .

ألا ترى أن قليل العمل في الصلاة لما اضطر إليه سومح به وكثيره لما لم يكن به حاجة لم يسامح به . وكذلك قليل البراغيث وكثيره .

وجمع الغزالي في الإحياء بين القاعدتين بقوله : كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده .

ونظير هاتين القاعدتين في التعاكس قولهم : يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء . وقولهم : يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام وسيأتي ذكر فروعها .

تنبيه :

ضبط في الروضة , وأصلها , نقلا عن الأصحاب : المرض المبيح للفطر , ولأكل الميتة : بالمبيح للتيمم .

الفائدة الثالثة : الرخص أقسام : ما يجب فعلها , كأكل الميتة للمضطر , والفطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش وإن كان مقيما صحيحا , وإساغة الغصة بالخمر .

وما يندب كالقصر في السفر والفطر لمن يشق عليه الصوم في سفر , أو مرض , والإبراد بالظهر , والنظر إلى المخطوبة .

وما يباح , كالسلم . وما الأولى تركها : كالمسح على الخف , والجمع والفطر لمن لا يتضرر , والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل , وهو قادر عليه .

وما يكره فعلها , كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل .

تنبيه :

من المشكل على هذا الضابط : التيمم . فإنهم اشترطوا في المرض المبيح له : أن يخاف معه تلف نفس , أو عضو , أو منفعة , أو حدوث مرض مخوف , أو بطء البرء , أو شين فاحش في عضو ظاهر , ومشقة السفر دون ذلك بكثير .

قال العلائي : ولعل الفارق بين السفر والمرض : أن المقصود أن لا ينقطع المسافر عن رفقته , ولا يحصل له ما يعوق عليه التقلب في السفر بالمعايش , فاغتفر فيه أخف مما يلحق المريض . أشار إلى ذلك إمام الحرمين .

وأشكل من هذا : أنهم لم يوجبوا شراء الماء بزيادة يسيرة على ثمن المثل , وجوزوا التيمم , ومنعوه فيما إذا خاف شيئا فاحشا في عضو باطن مع أن ضرره أشد من ضرر [ ص: 82 ] بذل الزيادة اليسيرة جدا , خصوصا إذا كان رقيقا , فإنه ينقص بذلك قيمته أضعاف قدر الزيادة المذكورة , وقد استشكله الشيخ عز الدين وغيره ولا جواب عنه .

ص: 83 ] الفائدة الرابعة : تعاطي سبب الرخصة , لقصد الترخيص فقط , هل يبيحه ؟ فيه صور تقدمت في أواخر القاعدة الأولى .