- العروسة الثانية -ثريٌّ عصاميٌّ، بدأ من الصِّفر أو تحتِه، وعارك الحياةَ وعاركتْهُ، حتى تسلّق قمةَ الثراء والجاهِ في المجتمعِ المخملي.
في العام الأخير، همسَ في أذنَيهِ مستشارُ أعماله وصديقُهُ في آنٍ، بأنْ يُنشئ قناةً فضائيَّةً للغناء والمجون، واندهش من الفكرة! لكنَّ الرجلَ تكلّم في أذنهِ بصوتِ غواية، حتى زاغتْ عيناهُ على أرباحٍ مَهُولة:
.. قناة فضائية، و(استوديو) به مسرح، وبناتٌ شاباتٌ جميلات بملابسَ جريئة، يلتففنَ حول المغنِّي على أنغامِ الموسيقي، وستنهالُ عليك رسائل (SMS)...
مكاسبُ ضخمةٌ بمجهودٍ قليل، تلك محطتكَ الأخيرة، المريحة جدًّا!
القناة نجحت..!
يسيرُ بسيارته مسرعاً جدًّا.. لديه دُفعةٌ جديدة، اليوم لديه كشفُ هيئة: سينتقي من البنات اللائي تقدمن للوظيفة، ينتظرنه في (الاستوديو) مع المغنّي.
في غَمضة عين، تنقلب به السيارة في منتصف الطريق. عيناه تَلعبانِ في مِحْجَرَيهِما، وهو بين حيٍّ وميت.. والعروسةُ المعلَّقة على مرآة الخلف، تتراقصُ أمامَهُ مع الريح القوية التي هبت تقتحم السيارة؛ العروسة تتراقص كأنها تتشفَّى مِن سيدها.
• • • • •
- العروسة الأولى -في سَيَّارة الإسعاف التي تحمله، ينبعث من ذاكرته شيءٌ قد نُسي، وطلَّ عليه كضِفدَعٍ خرج من الطين:
في طفولته المدرسية، كان مدرسُ الأشغال النشط يَبرَعُ في صُنع العرائس وفي ملاعبتها بالخيوط. تفنَّنَ في صُنع عروسةٍ جميلة مثيرة، وألبسها لباسًا رقيعاً، وذهب بها إلى داره حيث يسكن في الطابق الأرضي، وعلّقها في سقف الشُّرفَةِ، تاركاً إيَّاها للتيار؛ والمارُّون يضحكون مِن العروسة الماجنة وقد تركتْ جسمها للهواء والهوى..!
وغاب المدرِّسُ عن المدرسة لأيام. واقترح هو على الزُّملاءِ الصِّبية أن يَذهبوا جميعا إليه في بيته.
مَشتِ المجموعةُ بعد انتهاء اليوم الدراسي، حتى وصلوا إلى بيته... صُدموا به مربوطاً بحبلٍ من عنقه في الشرفة، ويعوي ويَزُوْمُ[1]، ولعابه يسيل..
انفجرَ الصِّبيةُ في البكاء، والمدرِّسُ يتطلعُ إليهم حائرًا مِن نفسه ومتأسِّفا على صورته أمامهم.
هروَلوا جميعا مذعورين بأنفاسٍ مضطربة؛ والعروسةُ اللَّعوب تتراقصُ أعلاه مع الريح، لا تأبَهُ به، بل تسخرُ منه، وكأنما سكنتها روحٌ شيطانيَّة؛ وهوَ يعوِيْ عليها مِن تحتها، وكأنما يحمِّلُها وِزرَ ما حدث!
• • • • •
- عرائسُ كثيرة -في المستشفى الفخم، أفاق الرجلُ في اليوم الثاني، وحكى لابنهِ الشابِّ عَنِ العروستين، ثم غاب عن الوعي مجدداً.
ثُم إنه أفاق إفاقة أخرى -في اليوم التالي- فاجأ فيها الأطباءَ بوجهٍ مرتاح ونبضٍ طبيعيٍّ وحالةٍ جيِّدة، وطلب جهازَ تسجيل؛ يريد أن يسجلَ وصيةً لابنه، فأحضرتْهُ الممرضة مُسرعة.
"سُعارُ مال، ونصيحةُ لئيم، طوَّقا عُنقي يا ولدي. وشرفةٌ فضائية، أُدْليَتْ منها عرائسُ كثيرة، ها هُنَّ يتراقصنَ من فوقي وأنا بين الحياة والموت، كأنَّهن يَدهَسْنَ على جسدي.
.. بربِّكَ، أعتقني وأغلِقها، الآن.. وليس غداً).
واستغفر اللهَ وبكى، ثم مات، وتغيّبتْ مِن بعدها إحدى الشُّرفات... والمارُّون، الذين يضحكونَ ولا يبكون، تجمهَروا عندَ غيرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يزوم: يموت.
مواقع النشر