تلك اللَّيلة العاصفة، لهيب النَّار الذي في أعلَى كَوْمة النفايات البعيدة، التي قامت مثل جبلٍ تُحيط به الأسلاك الشَّائكة، والذي انْدَلَقت منه خطوطٌ ملتهبةٌ من النِّيران إلى السَّفح، لهيب النَّار هذا يشدُّها إليه بألوانه القاسية، وبصوتِ طقطقة الأشياء وفرقعة الحشرات التي تحترق، ونواح الطَّير التي تسَّاقط عليه، سارتْ إليه محطَّمة النَّفْس، تتهادَى حينًا، وتُهرول حينًا، وتجري حينًا آخر، حتى دنتْ.

أريد أنْ أصعد إليك فأحترق فيك تمامًا وكفَى، أصير رمادًا مبعثرًا في الفضاء، فأنا بغيٌّ تستحقُّ الموت حرقًا، بغيٌّ مجبرةٌ، وعابرةٌ، بالثَّوب المسطَّر والنقاط، أريد السَّاعة أن أنتحر، وإنه - لو تدري - أشرف الانتحار.

يا أيها اللَّهب، إني أندفع إليك بقوةٍ داخليَّةٍ لا حدَّ لها، وبغضبٍ ليس له آخر، والرِّيح تدفعني كذلك والزَّوبعة، فلا تشبع حتى أجيئك، وتتخذني شيئًا من وقودك، انتظرني فإنِّي صاعدة إليك مهما علوتَ، انظرْ، ها أنا ذا سأقفز بكلِّ جهدي، حتى أتخطَّى هذا السِّلك الشَّائك الذي يفرق بينكَ وبيني، هيَّا، هيَّا، سُحقًا، سحقًا، قد علِقت إذًا، دعني أيها السِّلك، أرجوك، دعني، فإنَّ ما عليَّ من عارٍ لا يمحوه إلاَّ الحريق الشَّريف.

يهتزُّ السِّلك الشَّائك بعُنفٍ مع الرِّيح العتيَّة، فاهتزتْ معه قليلة الحيلة، حتى ثبتَ، حاولتْ أنْ تفكَّ نفسها منه بهدوءٍ، ولا فكاك، ثمَّ حاولتْ بسرعةٍ ولا فكاك، ثمَّ حاولتْ بحدَّةٍ وغضبٍ ولا فكاك.

حسنًا، سأحكي لك قصَّتي فتفلتني، فهل اتَّفقنا؟

قصَّة سقوطي الحزينة، بدأتْ منذ كنت هناك، منزويةً مع أخواتي في رُكنٍ من مكتبةٍ كبيرةٍ، وقد كان هذا القمَّص [1] الوغد يلفُّ ويَحوم كأنه ثعلبٌ يطارد ذيله، ويدندن بصوتٍ كأنه قباع الخنزير، برقبةٍ صلبةٍ كأنها لضبعٍ، وعيناه زائغتان تجاهنا تنزَّان جوعًا واشتهاءً، جفلنا منه جميعًا، وتَمنَّينا ألاَّ يقترب منَّا، إلاَّ أنَّها خطوةٌ، ثمَّ خطوةٌ، هذا آخر ما أذكره بوَعيٍ، ولا أعرف كيف حدث ما حدث: شعرتُ بدوارٍ شديدٍ فجأةً، وشممتُ رائحةً كريهةً كرائحة مِبولةٍ، وتثاءبتُ طويلاً، كأنما مسَّني سحرٌ أسود، وكأنما مسَّ السِّحر أخواتي أيضًا، فمدَّ الوغد يده لي، وأخذني من عالم البراءة ومن بين صغارٍ مدهَشاتٍ، بعد أن رمَى دراهم قليلةً، بُعْتُ كأني في سوق نخاسةٍ، ومضيتُ وأنا أهتزُّ في يده كالمنوَّمة، وأنا التي كانت تتمنَّى أن يقترن مصيرها بمصير عالم دينٍ أو طالب علمٍ، وأنا التي لم تتخيَّل قطُّ أن تُباع جاريةً، لقمَّصٍ وغدٍ، يا لَضياع أحلام بِكْرٍ كانت بيضاء الصَّفحة!

ألقاني أمامه، ضرب إصبعه في أنفه، ثمَّ حكَّ به في شاربه الكثِّ، فوضعه في فمه، كدت أن أموت قرفًا، ثمَّ، ثمَّ، ثمَّ، يا لَلعار، انكبَّ عليَّ، وهو يَخور كثَورٍ، برائحة أنفاسه النَّتنة، وسال لعابه القذر، ثم ارتدَّ عني فجأةً بعين مستعرةٍ، وأتى بألوانه ومساحيقه، وكقوَّادٍ قديمٍ وُلِد بعنَّةٍ مزمنةٍ، وضع لمساته الدَّاعرة على وجهي وهو يدندن طربًا، وأخذ يرجع للوراء يتأمَّل ويراجع، ثمَّ يعود ليغمس غمسةً ويضع لمسةً، ثمَّ يرجع، يريد أن يصل إلى نتيجةٍ محدَّدةٍ، وهكذا، حتى ضرب إصبعه في أنفه ثمَّ فمه معلنًا رضاه عن النَّتيجة.

لم يكتفِ الوغد بما أجرم، بل صوَّرني ووضع عاري على الشَّبكة لكلِّ الأنجاس أمثاله، شهَّر بي، هل قلت: إنه شهَّر بي؟! ومن أنا؟! بل استخدم صورتي بعد أن زيَّف وجهي بخطوطه الوقحة العاهرة، وشهَّر بصورتي، بمن لا يستحقُّ حتى أن يكحِّل عينه برُؤيته ولا في النَّوم، مدَّعيًا أنَّني ورَّطته وإثمَه وفضيحته التي ظهرتْ بعد سترٍ دام طويلاً، صرخ الخنزير بأكاذيبه، فجَرَتْ إليه الخنانيص[2] تهزُّ أذنابها الملوَّثة بالرَّوْث، اندفعتْ إليه من كل بركةٍ ومزبلةٍ ومبولةٍ.

والحمد لله، قد بيَّن الرجال كذبه، وقالوا وقالوا، وقالوا: إنَّني صغيرة من جيل آخر، ولم أكن في تلك الأيَّام التي ادَّعاها شيئًا، فهاج وماج وتفل، وأخذ يَحوم حول نفسه كثعلبٍ يطارد ذيله، برقبةٍ صلبةٍ كأنَّها لضبعٍ، حزينًا لاكتشاف كذبته السَّاذجة، فرفع صورتي الملفَّقة من على الشَّبكة، وضغطني ضغطةً حقودةً أخيرةً بين كفَّيه ورماني للرِّيح والنِّسيان، وهدأتْ جلبة الخنانيص حول الخنزير، وانفضَّت بأذنابها، ومن يومها وأنا أهيم على وجهي دائمة الأحزان.

وإنك لو علمتَ ما على وجهي لأفلتَّني حتمًا، أنا ورقةٌ مسطَّرةٌ من مقاس a4، كُتِب عليها بأقلامٍ حديثةٍ، وبخطٍّ عربيٍّ منقوط، لم يكن معروفًا في زمن النَّبيِّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنا ورقةٌ ادَّعى القمَّص الحقود كذبًا أنَّ بَحيرا الرَّاهب قد سطر بها سِرَّه مع النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيف علَّمه ولفَّق له دينًا يدين به العرب! ارتجَّ السِّلك الشَّائك رجًّا رجًّا، وخرَّ إلى خلفه أرضًا، وطارتِ الورقة إلى النَّار طير الفراش إلى اللَّهب.
-----

[1] القمص : رتبة كنسية أعلى من القس
[2] الخنانيص : صغار الخنازير