بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عام جديد و عالم مختلف
د. أسامة الغزالى حرب
الإفتتاحية .....

ليس من قبيل المبالغة القول -ونحن فى بداية العام الجديد- إن هذه الأيام من شهر يناير 2009 لا تمثل مجرد بداية لسنة جديدة، وإنما هى فى الواقع بداية لحقبة تاريخية، أو مرحلة جديدة، إنها بداية لعالم جديد. ففى نهاية العام الماضى -2008- اهتز العالم لحدثين جللين، أولها: الأزمة المالية التى تعتبر الأخطر فى تاريخ العالم منذ الثلاثينيات، وثانيهما: انتخاب أول رجل أسود (من أصول إفريقية وإسلامية) رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.



وواقع الأمر أن العالم عرف -خلال العقدين الماضيين- أكثر من حدث عïدّî نقطة تحول تاريخية، يختلف ما بعدها عما قبلها، مثل تحطيم حائط برلين، وسقوط الاتحاد السوفيتى، والكتلة الشيوعية كلها أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وتحطيم برجى مركز التجارة العالمية فى نيويورك فى 11 سبتمبر 1002. وسبق تلك التطورات أو واكبها أعمال متميزة لمفكرين كبار حاولوا رصد جوهر ومغزى تلك التطورات، مثل كتاب هنتنجتون عن صراع الحضارات، وكتاب فوكوياما عن نهاية التاريخ ... الخ.

غير أن ما يحدث اليوم يبدو أعمق وأشمل من هذا كله. فهو -من ناحية- ليس مجرد تحول سياسى فى 'النظام العالمى الجديد'، أى تحول فى القوى الأكثر ثقلا ونفوذا فى النظام الدولى، وفى طبيعة العلاقة بينها، وهو ما تمثل فى الانتقال من نظام الثنائية القطبية، الذى ظل سائدا منذ ما بعد الحرب الثانية عام 1945 إلى أوائل التسعينيات (أى لمدة تقرب من نصف القرن)، إلى نظام الواحدية القطبية. ولكنه تحول سياسى واقتصادى معا، كما يتضمن أيضا أبعادا ثقافية وقيمية لا يمكن إنكارها.

وهذا التحول -من ناحية ثانية- يشمل العالم كله، ويؤثر على كافة البلاد والمجتمعات تقريبا، بما فى ذلك أكثرها عزلة وبعدا عن 'مركز' الزلزال الذى حدث. ويعنى ذلك أن القليل الذى أظهرته الأزمة ربما يكون مقدمة لما هو أعمق تأثيرا وأوسع نطاقا.

وهذا التحول -ثالثا- لن يكون قصير المدى، ولكنه -وفق آراء أغلب الخبراء والمحللين- لابد أن يمتد لفترة طويلة من الزمن، حتى مع الجهود الجبارة التى تبذل الآن لمواجهة الأزمة.

وبعبارة أخرى، فإن التحول الراهن هو محصلة لكل تلك التحولات الكبرى التى وقعت خلال العقدين السابقين، ويزيد عليها بأبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية لا شك فيها. وربما كان فريد زكريا (الكاتب الأمريكى الشهير، ذو الأصول الهندية ومحرر الطبعات الدولية لمجلة نيوزويك) هو أفضل من عبر عن ذلك التحول، عندما وصفه (فى كتابه الجديد: عالم ما بعد أمريكا) بأنه تغيير فى هيكل القوة والنفوذ فى العالم. فلمدة تقرب من خمسة قرون -منذ عصر النهضة- هيمن الغرب 'The Westس (أى أوروبا الغربية) على العالم، وكانت له الريادة سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعلميا وتكنولوجيا ..، ثم حدث تحول كبير، عقب الحرب العالمية الأولى وظهور الولايات المتحدة بقوة على مسرح السياسة العالمية، وبدأت الهيمنة الأمريكية، بمعنى التفوق الأمريكى على بقية بلاد العالم أيضا، سياسيا واقتصاديا وعلميا ... الخ. أما الآن، فإن العالم يشهد تحولا ثالثا تنتقل بمقتضاه الهيمنة إلى الآخرين ''The Rest. وهى ظاهرة أخذت تتبلور خلال العقد الأخير، مع ظهور عدد من القوى الصاعدة، بدأت مع تبلور مجموعة الـ BRICs أى (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين)، وهو ما انعكس فى توسيع دائرة القوى الأكثر تأثيرا ونفوذا فى العالم من مجموعة الثمانى (الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، ورسيا، واليابان) إلى مجموعة العشرين، التى تضم -بالاضافة إلى الدول الثمانى -كلا من (الصين، والهند، والبرازيل، وكوريا الجنوبية، والمكسيك، والأرجنتين، واستراليا، وتركيا، وإندونيسيا، وجنوب إفريقيا، والسعودية، فضلا عن تمثيل 'الاتحاد الأوروبي'). ولا يعنى هذا التحول -بداهة- أفول القوة الأمريكية (ولا الأوروبية)، ولكنه يعنى -تحديدا- إنهاء الاحتكار الأمريكى للهيمنة على العالم، ووجود شركاء أنداد وأقوياء فى تحديد مصير العالم، يستحيل إهمالهم أو تجاهلهم.

فى هذا السياق، جاءت أحداث الأزمة المالية العالمية الأخيرة لتؤكد -على نحو درامي- هذا التحول. فبعد الكارثة التى هزت الاقتصاد الأمريكى، والتى بدأت بالانهيار فى قطاع التمويل العقارى، ثم انتقلت إلى العالم كله ..، بدت الحاجة واضحة إلى نظام اقتصادى عالمى جديد يحل محل النظام الذى أعقب الحرب العالمية الثانية، وقام على اتفاقية بريتون - وودز، والبنك الدولى وصندوق النقد الدولي. نظام يسهم فيه (الآخرون!) بدور رئيسى يتناسب مع قدراتهم الاقتصادية الهائلة التى أخذت تنمو بسرعة وثقة.

غير أن التطور الآخر، الذى ألقى ظلالا، وطرح تساؤلات حول عمق وحدود هذا التحول الجارى فى العالم، كان يتعلق برد الفعل له، وبالتحديد من جانب القوة الأكثر تأثيرا (وتأثرا) بتلك التحولات، أى الولايات المتحدة الأمريكية. وفى هذا الإطار، يمكن فهم مغزى وأهمية انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية. ففى غمرة الأزمة، وفى لحظة لا شك فيما تضمنته من مظاهر للفشل والإخفاق الأمريكى داخليا ودوليا، فضلا عن التزايد غير المسبوق فى مشاعر العداء للولايات المتحدة على اتساع العالم كله، جاء انتخاب أوباما ليبعث برسالة واضحة وقاطعة على استمرار قدرة المجتمع الأمريكى على تجديد نفسه، وتجاوز أزماته، فضلا عن سرعة وعمق ذلك التغيير.

فانتخاب شخص بمواصفات باراك أوباما كان من المستحيل تقريبا تصوره منذ ما يقرب من أربعين عاما فقط، عندما أعلن مارتن لوثر كينج عن حلمه الكبير فى القضاء الكامل على التفرقة العنصرية. غير أن ذلك حدث بالفعل، وقفز المجتمع الأمريكى بذلك إلى الأمام، سابقا حتى تلك المجتمعات التى كثيرا ما تفاخرت بإخلاصها لقيم الحرية والعدالة والمساواة. وأخذ العالم يتساءل عن إمكانية ظهور أوباما، ليس فى بلد آسيوى أو إفريقى، وإنما فى فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا، والتى أخذت تسارع إلى تصحيح بقايا المشكلات العنصرية داخلها، والتى لا تزال تجد فيها أرضية خصبة لا شك فيها.

وواقع الأمر، أن مجرد انتخاب أوباما، ووصوله إلى قمة هرم السلطة فى أقوى دولة فى العالم، حمل رسائل ذات مغزى ثقافى وقيمى وأخلاقى إلى العالم كله. أما سياساته المختلفة، اقتصاديا وخارجيا، وتأثيراتها على الولايات المتحدة والعالم كله، فلا تزال موضعا للانتظار والترقب. ولا شك فى أن الأزمة المالية، وما خلفته من كساد اقتصادى فى الولايات المتحدة، والعالم، تحتل المرتبة الأولى فى قائمة اهتمامات الرئيس الأمريكى الجديد. وليس من قبيل المبالغة القول إن تلك الأزمة طرحت للتساؤل ليس هذه السياسة أو تلك، ولم تقتصر على إثارة التساؤلات حول جدوى النظام الاقتصادى العالمى الراهن (كما سبقت الإشارة)، وإنما تتعداها إلى مراجعة أسس نظام اقتصاد السوق الحر فى أكثر قلاعه ازدهارا. وربما بدا مثيرا بشدة مشهد رؤساء شركات سيارات جنرال موتورز، وفورد، وكرايزلر، وهم يناشدون الكونجرس الأمريكى تقديم الدعم والحماية لهم فى مواجهة الأزمة الاقتصادية، وهو مشهد ربما كان من الصعب على أشد الناقدين للنظام الرأسمالى تصوره.

ولا تقل التحديات السياسية المطروحة على الرئيس الأمريكى الجديد خطورة عن تلك الاقتصادية. فالتعثر الأمريكى فى العراق وأفغانستان، والإخفاق فى المعركة ضد 'الإرهاب' ليسا سوى أهم هذه التحديات وليسا كلها. إن هناك -فى التحليل النهائي- ثوابت فى السياسة الأمريكية والمصالح الأمريكية لا يمكن تجاهلها، فضلا عن أننا فى النهاية إزاء دولة 'مؤسسات'، يسهم فيها عدد من المؤسسات الحكومية، وأجهزة المخابرات، ومراكز البحث العلمى والتفكير الاستراتيجى، فى تقديم البدائل والسينايوهات لصنع القرار. ولكن يظل للرئيس الأمريكى وشخصيته، وعقليته، وتوجهاته دور لا شك فيه لاتخاذ القرار النهائي.

نحن إذن -فى بداية عام 2009- أمام التغير ونقيضه، أمام التحدى غير المسبوق للقوة الأمريكية، وأيضا أمام تجددها -غير المسبوق- وإظهار حيويتها وقدتها على الاستجابة لذلك التحدي. وربما كان ذلك هو الموضوع الكبير الذى سوف تكتب سطوره الأولى فى عام 2009.