السلام عليكم
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى " لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كى يتم نضجهم هم فى أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهى تواجه الخطر ، وهى تدفع وتدافع ، وهى تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة .. عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدى دورها ، ولتتساند مع الخلايا الأخرى فى العلميات المشتركة ، ولتؤتى أقصى ما تملكه وتبذل آخر ما تنطوى عليه ، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هى مهيأة له من الكمال .
والأمة التى تقوم على دعوة الله فى حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفر كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كى يتم نموها ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .
والنصر السريع الذى لا يكلف عناء ، والذى يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولاً لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانياً لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه . فهى لا تتحفز ولا تحشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والتربية العملية تلك التى تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف ، والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها .. من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق .. ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة .. ومعها التجمع والفناء فى العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات فى ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور فى جميع الحالات .. وكلها ضرورية للأمة التى تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله .. جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء.
والنصر قد يبطىء علي الذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله .
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً !
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما فى طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقى عزيزا ولا غالباً ، لا تبذله هنيئأ رخيصاً فى سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما فى طوقها من قوة ، وآخر ما تماكه من رصيد ، فلا تستبقى عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً فى سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما فى طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهى تعانى وتتألم وتبذل ، ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجهاً إلا إليه وحده فى الضراء . وهذه الصلة هى الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذى نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد فى كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوتها فهى تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفى سبيله ، بريئاً من المشاعر الأخرى التى تلابسه . وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى .
فأيها فى سبيل الله فقال : (( من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله )) [رواه الشيخان] .
كما قد يبطئ النصر لأن فى الشر الذى تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً ، ويذهب وحده هالكاً ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب فى الغمار!

وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذى تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ، فتظل له جذور فى نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذى بقية !
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذى تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه ! ( قلت : وهذا هو سبب الإختيار لمنهج التربية ودعوة الناس ، دون مناهج التغيير الأخرى كالإنتخابات أو قلب أنظمة الحكم أو غيرها ..

من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر، فتتتضاعف التضحيات ،
وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصرؤ لهم فى النهاية .
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستقبائه :
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ..
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذى لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره .. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله ، القوى العزيز الذى لا يهزم من يتولاه ؟ إنهم هؤلاء :
{ الذين إن مكناهم فى الأرض } .. فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر .. { أَقَامُوا الصَّلَاةَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ } .. فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين .. { وَآتَوُا الزَّكَاةَ } .. فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحى – كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) .. { وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ }.. فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس .. { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ }.. فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التى لا تبقى على منكر وهى قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهى قادرة على تحقيقة ..
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذى أراده للناس فى الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه ، وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .