[align=justify]
فتحَ عينيه بصعوبةٍ، كأنما رموشُه تعاندُه، وقد تلبَّطتْ من مرهَم العين. بدت له طيور مثل العصافير تحلِّق فوقَه، رفرفتْ قليلاً، ثم أخذت تتبدَّد تباعاً، و أشكالٌ بيضاءُ هلاميةٌ تقترب وتبتعد، وتعلو وتنخفض، ثم أخذتْ تثبت، وتتكثَّف، و تتخذُ ألوانها وأشكالها الحقيقية شيئًا فشيئًا. وكان منها المصباحُ وضوؤهُ الخافت في غرفته بالمستشفى الفاخر، ولوحةُ مرْجٍ معلقةٌ على الحائط، ونافذةٌ ينفذ من شيشها الحصيرِ خيوطٌ من نورِ النهار الفاتر، ثم هذا أبوه الذي يقف متوتراً متأثِّراً، وقد تهاوى بجواره على السرير لما شعر بإفاقته. خاطبَ أباه بلسانٍ ثقيلٍ ونفسٍ متقطِّعٍ:
- يا أبتي، افعلْ ما سأقوله لك.

فقال وهو يضغطُ على يدهِ الممدودة: أرِحْ نفسكَ، لا تتحدثْ.. (ثم أردف لائماً): هكذا كدتَ أن تَفجَعنيْ فيك في العيد!
- بل أتحدَّث، واسمعني وَعِ ما سأقوله لك، إن كنت تحبُّ أن تراني ماشياً على قدميّ مرَّة أخرى، معافىً مما أنا فيه.
- احْكِ، ولكنْ رويدك، لا تُجهدْ نفسك.

- اصعد إلى غرفتي، ليس في شقتنا، بل غرفتي التي بالقصر. دعْكَ من شُرفتها الكبيرة، وادخُل الروشن، وقفْ عند آخره بعيداً عن بابه، وانظرْ من هناك ليلاً، وضعْ عينيك ما بينَ نخلتي (الملكة)، وقع بصرُك على ترعة الزُّمر، تشقُّ الزراعات. لله رجل هناك، ثاوٍ في عشَّة حاضرة الترعة، تعرفها من نورٍ يأتيك مِنها ضعيفٍ أصفرَ من مصباح كاز. عيِّن مكانها، واذهب ، وإنْ تشابهت عليكَ العشش هُناك، فإنّ آيتها أنّ خلْفَها بالماء رَمَثٌ[1]، يربطه صاحبه إلى شجرةٍ... رجلٌ نحيلٌ ضعيفٌ فقيرٌ رثُّ الثوب، في وجهه بَرَصٌ، في جبهته مِثلُ غرَّة الحصان. اطرُق بابهُ، وقل له متودِّداً: الشابّان اللذان أتَياك أولَ أيام العيد عشاءً وصوَّراك، راقدانِ في المستشفى، ولم يؤدّيا الأمانة بعدُ، وسيؤدّيانها خمسينَ ضعفاً... فقط ادْعُ ربّك أن ينجيهما مما فيهما، ويغفرَ لهما سوأة.

- عشَّة.. وأبرص.. وترعة الزمر؟! (ومد شفته السُّفلى متأسِّفاً على حالِ ابنه).
- أنا لا أخرّف.. هذه التي تعاطَيناها في أوّل أيام العيد، وكادت أن تُعمينا لولا لطفُ الله، لم تكنْ خمراً مغشوشة ولا من مكانٍ منكور، هي خمرٌ معلَّمة، صُنعُ بلادها، إنما شِقْوتنا وسفاهتُنا كادتا أن توردانا المهالك. فافعلْ لأجلي ما قلتُ لك، واعجَل، ولاتنِ، أرجوك.

أتى الطبيبُ، وهو يشير له بأن يهدأ وألاّ يتكلم. وحقنَهُ حقنةً منوِّمةً، و ابتسمَ للوالد الشائب الوَجيه، ورجاه أن يَخرج ويترك ابنَهُ ليستريح، وطمْأنهُ على حالته...

خرج الرجل وهو يضرب كفًّا بكفّ مطأطئَ الرأس، عازماً على الذهاب لهذا الرجُل كما أوصاهُ ابنُه، ولعلّه يَفهم منه شيئاً مما حدث لابنهِ وصديقه، اللذَين قضَيا العيدَ بالمستشفى وكاد أن يصيبهما العمى.

في أول أيام عيد الأضحى، كان الشابُّ في حديقة القصر مساءً، ومعه صديقُه الملقَّب بـ (شَكَل) لعُنْجُهيّته وسوءِ طباعه وجرأته، يأكلانِ الشواء بنهم، ويشربان قليلاً من الخمر.

وبعد أن فرَغا، وأخذا يتنسّمان الهواءَ البارد، بدَأَا يتشاوران في خطةِ بهجتهما في باقي الليلة التي لم ينقضِ منها إلاّ قليلٌ.

كان (شَكَل) يَعرض على الشابّ ابن صاحب القصر عدّة ملاهٍ وأماكنَ للسهر، والشابُّ يعرض عنها واحدةً بعد الأخرى، ثم أفضى له برغبته في أنْ يبدأ السهرة بشيءٍ مختلفٍ يداعبُ ذهنه.
- ما هو؟
- يا صاحبي، ثمةَ رجلٌ ضعيفٌ أَلحظُه كثيراً وهو رائحٌ غادٍ إلى الجامع القريب، واليومَ كنت أرقُبهُ وهو خارجٌ من صلاة العشاء، يرتعد من البَردِ بثوبه السَّمَل، والريحُ تضرب ثوبه، وتعصف بجسمه تكادُ أن تطرحه أرضاً. فأخذتُ أنظر إليه عبْرَ المنظار، حتى بعُد قليلاً، وخفْتُ أن يتوارى عن عيني بين الأشجار والدُّروب المتربة؛ وقد غلبني الفضولُ لأن أعرف أين يضع هذا رأسَه، وعلامَ يكابد في صلاة الجماعة؟ فنزلتُ إلى سيارتي، وانطلقت بها خلْفَه، حتى اقتربتُ منه ببطءٍ شديدٍ، وقد أطفأتُ نورَ السيارة حتى لا أُريبه، وتركت بيني وبينه مسافة، أهدّئ سَيرها إذا زكَّ[2]، وأُسرع إذا أسرَع، وأنعطِف إذا انعطف، إلى أن آوَى إلى عشّته هناك، على حافة (ترعة الزمر)، قليلٌ بعد مزرعة الدواجن المهجورة.

- وماذا تُريد إذاً مِن ذهابٍ إليه؟! ضياعٌ للأمسية؟! تريد أن تُمَلِّيَ عينيكَ مِن ضنكِ عيشِه؟! أهذه ساعة الحظّ التي ادّخرتَها ليوم عيد؟!
- لا أدري، حقيقةً.. لا أدري. غير أني أودُّ أن أسمعَه، وأقتربَ منه، لا شفقةً ولا هُزواً؛ أريد أن أتفحَّصَه، أنا في حاجةٍ لرجلٍ غير مُهندَمٍ، وغير برَّاق.. أريد أن أطّلع على مشهدٍ مريرٍ، عند رجلٍ عليه نهكةُ الجوع، أفهمت؟
- لا، لم أفهم شيئاً؟ (ثمّ استتلى ساخراً) وكيفَ سنقتحم عليه عالَمه الخاص في منتجعه؟! وبأي صفةٍ؟! صَدِيقا دراسته مثلاً؟!
- فكِّر قليلاً، عهدتُك مسؤولَ التدابير وحلاَّل العُقد.

فأشاح بيده: في سهرةٍ حمراء، جلسةِ سكر، مشاجرة، ( مقلب ) رهيب، مُروق بالحشيش من بين اللجان والكمائن.

- بل دبِّر هذه أيضا.. وليكن في تدبيرك لِين، أسمعت؟ لين؛ لا نريد أن نخشِن عليه أو نُفْزعه، وليكن في تدبيرك أيضاً شيءٌ ما، أقدّمُه له آخرَ الزيارة.. ولك عندي أنك رائدُنا باقي اليوم، نغوي أينما تريد وفيما تريد.

شرَدَ الصديق وأخذ يحكُّ ذقنه فترةً، ثم قال:
- وجدتُها: نركب سيارتك (الهامر) ونأخذ معنا (كاميرا الفيديو) و(المايكروفون) وعدّة الإضاءة التي عندك، ونقدِّم أنفسنا له على أننا مذيعانِ في برنامجٍ عن المعلومات.
- أحسنت!!.. جائزته مائتا دولار.
- (مطّ شفتيه ممتعضاً): كما تشاء... وتسأله أسئلة بسيطة فيجيب عنها، وتعطيه الجائزة ونذهب فوراً.. أسمعت؟ فوراً.
- جيد!
- على أن تَعِدني بأن نسهر بعد ذلك كما يسهرُ الناس، فلا تفجعني بطلب الزيارة إلى معهد أورامٍ أو بيت أيتامٍ، هل اتفقنا؟
- اتفقنا.

وركبا في السيارة السوداء، يشقَّان الطريق إلى عشَّة الرجل، يحفّهما الزرع من جانبين، ونقيقُ الضفادع وعريرُ الصراصير اللّيلية. وهنا تضِيق الطريق، وهنا تتسع، وهُنا يَرَيانِ القمر، وهنا تحجبه عنهما أشجارُ الجميز والتوت. هنا يشمّان زهرَ الحقول، وهنا تفوح روائح الرّوث. ثم انعطفا يميناً، ومضَيا من أمام مزرعة الدواجن المهجورة، التي أفلس صاحبُها وانتحر، وتركها سُكنى للكلاب وأوهام البشر، حتى أنهَيا سُوْرها الحزين، وغاب عنهما قليلاً ما تعلَّق بالناحية مِن رائحة الدجاج..

وبعد قليلٍ وعن يمينٍ، وفي ظلمةٍ حالكةٍ، وضيقٍ، كانت السيارة التي تشبه المصفَّحة تُهملجُ على أرضٍ كثُر عليها ورقُ الشجَر الأصفر المتساقط، وكذا الأغصانُ اليابسة الصغيرة، والعظام، بسرعةٍ معقولة، فأخذتْ تحطِمُ ما تحتَها بكلّ عافيةٍ وكبرياء. وتبعتها جماعة من الكلاب، أخذت تنبح عليها وتطاردُها. ويمرّانِ كلَّ قليلٍ على عشَّةٍ عن يمينٍ، وهُما يبحثانِ عنها، وآيتها أنّ خلفها الرمث، حتى كانت أمامَهما العُشَّة المبتغاةُ التي نأتْ عن غيرها قليلاً، كانت هناك، كأنها تريد أن تنقضّ في الترعة. مالت السيارةُ إليها بهدوءٍ، ووقفت أمامها، بابُها الأماميُّ في حذاءِ الباب، بينما الكلابُ في نُباحها. وأُنزل زجاج السيارة من ناحية الصاحبِ، المطلِّ على باب العشَّة، وأخذا ينظران إلى الرجُل وهو جالسٌ في عشَّته يقرأ القرآن، هذا ينظر بلا مبالاة، وهذا أمال رأسه إلى المقوَد ينظر متعجِّباً.

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ}.

وقال له صاحبه متعجِّلاً مستخفًّا: إننا لن ننتظرَ هذا حتى يفرغ من وِرد يومه.

فضرب الشابُّ البوقَ، فانفزع الرجُل، وصدَّق، وقام مسرعاً. ونظر إليهما وهو يضع يديه على جانبي الباب المفتوح، وقد تخوَّف الجيئة، والسيارة الضخمةَ المَهِيبة، في الليل البهيم، والبرد الشديد، والريحِ التي تلعب أمامه على الأرض بجوِيلِها مِن ورق الشجر الساقط، مما يُنذر بجرمٍ في غيابة الليل والعزلة. ثم يرمي بجانب عينه نظراً على الكلاب، وقد سكتتْ متحفِّزة تنتظرُ هَلِ العربةُ ومَن بها للرجُل فتسكت، أم عليهِ فتنبح وتزمجر؟..

دام صمته قليلاً، ثم نطق بصوتٍ مستريب..
الرجل: خيراً؟
الشاب: خيرٌ يا حاجّ، كلّ سنة وأنت طيب... اسم الكريم؟
الرجل: وأنتما طيبان.. اسمي خُضير.. أي خدمة؟
الشاب: وهل ستتحدث إلينا ونحن هكذا داخل سيارتنا، ولا أهلاً ولا سهلاً؟!
فأُحرج الرجل: عدم المؤاخذة، المحلّ كما ترَون، لا يليق بضيافة أهلِ الطَّول[3].

فأفهَماه أنهما قدما من أجل برنامج، وشرحا له الأمر. وبدأ الصاحب ينزل أمام الرجل بالعُدَّة، ويمدُّ الأسلاك ، حتى ذهب عنه الروع، واطمأن للزيارة. وخرج إليهما، واستقبل (الكاميرا) التي أقيمت بوجهٍ بسيط مرحِّب. وقد أنارتِ الكشَّافاتُ الضوئيةُ المكانَ، وسكتتِ الرّيحُ عن جوِيلها، و تجمعَتِ الكلاب إلى بعضها البعض، وأقعَتْ في ركنٍ قصيٍّ عند شجرةٍ، ترقُبُ التسجيل في هدوءٍ يناسبُ موقع التصوير، حتى إنّ أحد الجِراء قد شاغب ونبح فأسكتته أمُّه!

وقف الصاحب خلْفَ (الكاميرا)، وأخذ يعالجها ويضبط الزّوايا ويصوِّر، فيما أخذ الشابُّ يسأل الرجل عن أحواله وقتاً، ثم استفسرَ منه عن رأيه في الدُّنيا وأحوال الناس، وأمنياته، والمثلِ الذي يؤمن به، حتى انفرجَتْ أساريرُ الرّجُل وتباسط تماماً، وهو ممنونٌ بهذه الحفاوة به من أحدِ أبناء الذوات، وهذه المعايدة التي خالفت نمطَ المعايدات التي اعتادها. و بدأ الشاب يوجِّه له أسئلةً بسيطةً مباشرةً لا تُعْيِي الأطفالَ إجابتُها، والرجلُ كلَّ مرَّةٍ يتحفَّز للسؤال، مراقباً فمَ الشاب، يلتقط كلّ كلمةٍ يتفوَّه بها، متوثِّباٍ للإجابة الصحيحة، ثم يُلقي بها بسرعة، وكأنه يتخوّف من أن يُجيب الشاب بدلاً منه.

ثم بارك له الشابُّ على أنْ أجاب الإجابة السليمة على كلّ سؤالٍ، وربَّت على كتفه طويلاً، حتى لانَ كتفُ الرجُل، كما يَلين ظهرُ قطٍّ عجوزٍ مِن حنانِ يدٍ تمسِّده على غير عادةٍ. حتى دمعتْ عينا الرجل من الحبور والامتنان. وقدَّم له الشابُّ المائتي دولارٍ بصوتٍ رسميٍّ مسرحيٍّ عالي النبرةِ كأنّما يحيطهم الجمهور، وهو يقول له إن الجمهور العريض عبْر الشاشة يهنّئ له الفوز والعيد، قالها وهو يطلب منه أن يوجِّه وجهَه ناحية الكاميرا، ويتكلمَ إليها. واقترب المصوِّر منه، حتى غطّى الشاشة وجهُه الكريم الذي تعلُوه غُرَّةٌ، وهو يبسم للجمهور العريض الذي خيَّله له الشاب: كلُّ عامٍ وأنتم طيبون جميعاً، نفرْ، نفرْ، والأمة كلّها بخير، ونشكر أسرة البرنامَج. والله يسعد الجميع، وربنا كبير!

كان يتكلَّم ببطءٍ وقد علَتْ وجهَه ابتسامةٌ عذبةٌ، وشفتاه تختلجانِ من فرحة الفوز، والحياء والتبجيلِ الذي لم يعتَدْهُ.
ثم استتلى بنبرةٍ بها طِيبةٌ وحميَّة: أنا متبرعٌ بهذا المبلغ لصالح أهلِ غزةَ، إيْ واللهِ، متبرعٌ به كلّه.
فأشار الشابُّ لصاحبه بأنْ يوقف التصوير..
- أيُّ تبرعٍ وأنتَ فيما أنتَ فيه؟!
- والله يا ولَدي، يحفظُ أهل الخير مِن لحوم الأضاحي ما يكفيني لثلاثة أشهر قادمةٍ، وإني وحدي لا أعول أحداً، وإني لأستحي من ربي أن آخذَ هذا المال وإخوانُنا لا يوقدون النار في بيوتهم ولا يجدون حتّى الشعير طعمةً لأطفالهم (حتى كاد أن يبكي). كان أملي أن أتبرعَ ولو مرَّة واحدةً في حياتي، ولكن (العينُ بصيرة واليدُ قصيرة)، وها قد جاءت.

فقال الصاحب الذي أطفأَ الكاميرا: يا رجل أنت..! فكَّنا من هذا، وخذِ المال، ودعنا نمشي من هنا، وتبرَّع أوْ لا تتبرَّع.
أُحرج الرجل مِن جفائهِ، ولكنّه تماسك وقال: عشَمي فيكما أن تدفعا نيابةً عني هذا المالَ لأهل غزة، فأنا رجلٌ بسيطٌ لا أعرف الحوالاتِ، ولا خبرةَ لي بالمصارف.

هزّ الصاحبُ رأسه كمن عقد عزماً، وأشار للشابّ بيده: دعهُ على راحته.
فوضع الشابُّ الورقتين في جيبه متعجِّباً، وأطفَأَا الإضاءة، ولملَما أشياءهما، ومضيا بالسيارة.
وبعد أن شرد قليلاً قال الشاب لصاحبه منبهراً وهو ينظر أمامَه متأملاً فيما حدث.

- أرأيت هذا الذي آثر أهل غزةَ على نفسه؟! لله رجال في الخِرَبِ لا يَعرف لهم وزناً إلا هُوَ!
الصاحب: ما أراك إلاّ ستفسد علينا ليلتنا، وما هذا الرجلُ ومن على شاكلتهِ، إلا بؤساءُ مدمنونَ للفقر ويقطعون وراءه البلاد.. ما لَهُ ولغزةَ ولجياعِ غزة؟!
الشاب: يا رجل!
الصاحب: إذاً ما لنا نحن ولغزة وجياعِها؟!
الشابّ: ماذا تقصدُ؟
الصاحب: لا أرى مزحةً أظرفَ من أن نشتري بالمائتي دولارٍ خمراً، ونشرب نخب غزةَ، ونخبَ أطفال غزة، وجياع غزة..
هذه هي الوقفةُ معهم التي تَليقُ بصاحبَي كأسٍ مثلِنا.
تعجَّب الشاب: أجُننت؟!.. لقد ائتمنَنا.

- أوَ أنا المجنونُ أم هذا الذي رفسَ النعمة؟!.. ائتمننا؟!. ألِهذا عندكَ مال؟! هل صدَّقت اللعبة؟!
وسكتا وقتاً، وكأنّما بدأ بينهما شيءٌ من نفورٍ خفيفٍ.. فعاجلَه الصاحبُ ليرطِّب الأجواء:
- خذ هذا، وانسَ الأمر.

وقدّم لصاحبه كأساً داخلَ السيارة، فكأساً آخر، وفتحا الزجاجَ. قليلٌ.. ولفحَهما الهواء، فسكِرا، ثم إذا بهما يضحكانِ فجأةً، وانطلقَتِ السيارةُ مسرعةً كأنها الغضبٌ، وقد أثارت غبرةً. وتقاسَما مِن داخلها ليشربا مِن هذا المال نخبَ غزةَ، وأطفالِ غزة، وجياعِ غزة!.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] الرمث: خشب مشدود إلى بعضه يُستخدم كعبَّارةٍ في التّرع والقنوات.
[2] زكَّ: سار بخطواتٍ متقاربةٍ من ضعفٍ.
[3] الطَّول: الغِنى والفضل.[/align]