الحلقة الخامسه


لقطات من حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم )

ينتمي النبي محمد ( ) لقبيلة قريش العريقة في منطقة الحجاز بالجزيرة العربية والتي تعيش في مكة ، والتي لها أسماء أخري منها أم القرى و بكة ، القبيلة كانت لها الزعامة الدينية بين القبائل العربية باعتبارها تنتمي الي نسل إسماعيل ابن إبراهيم خليل الرحمن ، واللذان بنيا البيت العتيق أو الكعبة هناك كأول بيت عبادة وضع للناس في الأرض ، كانت قريش قبيلة تجارية تنظم لنفسها رحلتان تجاريتين أساسيتين في العام ، واحدة للشام وواحدة لليمن ، كان مكة البلدة وقريش القبيلة تمثلان نوعا من المركزية الدينية في الجزيرة ، كان العرب في معظمهم عبدة للأصنام ، لم يكن الإله الخالق غائبا عن وعيهم تماما ، ولكنهم كانوا يشركونها معه في العبودية ، أي أن الله الذي نادى به موسى والأنبياء غيره كان هو رب الأرباب ،

المكان كان يعيش فيه نسل لإبراهيم يحملون في قلوبهم إجلالا للبيت الذي بناه وابنه ، وإجلالا لهما كجدين . كان العرب قد مالوا لعبادة الأصنام بعد قرون من عصر إسماعيل ، واغلب الترجيحات تشير إلى أن الفكرة كانت منقولة عن الشام الذي كان ينظر له كمهد للديانات ، لم تكن مكة مدينة روحية بالمعني الحرفي للكلمة ، إنها بلدة ثرية بها كل شيء ، أصنام ومجالس شعر وصفقات تجارية وأماكن لهو وعدد كبير من السراة الذين اغتنوا بسبب الموقع التجاري الوسيط للبلدة ، والقليل من الباحثين عن الحقيقة الذين يشعرون بالنفور من عبادة الأصنام المقتنعون تماما بأن الجدين الكريمين لم يكونا الا موحدين ،

بلدة حية ولكن بدون عواصف ، فالمكانة بين العرب متميزة ، وعلي غير حال البلاد التي تجاور الدول العظمي لم يكن سكان مكة يشعرون بالخوف من الزمن ومن جيوش غازية ، وكانوا في أمان من طيش القبائل البدوية العنيفة نظرا للمكانة الخاصة .

لم يدم استمرار المكيين في العيش في هذه البراءة ، إذ قرر قائد حبشي يحتل اليمن بجنوب الجزيرة ، أن يغزو مكة الوقورة الآمنة ليهدم الكعبة ، صدمة قوية وخوف من عار الهزيمة المؤكدة ، فقد قدم القائد ( أبرهة ) بجيش قوامه 60000 جندي ومعهم قطيع صغير من الفيلة ، هاهي مكة المتحصنة بالصحراء والبعيدة عن أطماع ونزق الحكام في وجه عاصفة هادرة تقترب منهم لتقتلع بيتا بناه إبراهيم منذ 2500 عام ، التاريخ والدين والشرف علي وشك الزوال ،

لكن وبينما أبرهة وجيشه علي مشارف مكة إذا بالجيش يتعرض لموت مباغت ومفاجئ ، لم يتبق إلا القليل من الرجال الذين قروا إلى صنعاء باليمن ومنهم أبرهة ، وماتوا هناك بعد أن حكوا عن مأساتهم ، القصة معروفة تاريخيا وأيما كان تفسيرها بجدري أو تشوهات جلدية ظهرت فجأة أو طيور ظهرت من جهة البحر رمتهم بحجارة ألهبت أجسادهم ، فإن ما حدث كان غريبا ومعجزا ، ورسًخ وضعية البلدة بين العرب ولدى الجوار أيضا .

ولد النبي محمد ( ) سنة 571م من هذه القبيلة العريقة ، وٌلد يتيما ، اذ مات أبوه قبل ميلاده ، وذهبت أمه به لجده لأبيه كي تبشره بالمولود ، فسماه اسما فريدا لا يعرفه العرب قبل ذلك ( محمد ) أي المحمود جدا ، ولما بلغ السادسة أخذته أمه لزيارة قبر أبيه ( عبد الله ) علي بعد 500 كم ، ويشاء الله أن يشعر الطفل بيتم كامل ، إذ ماتت والدته في طريق العودة ، وكفُله جده لأبيه ( عبد المطلب ) ، وتوفى الجد بينما محمد في الثامنة .

وكفله بعدها عمه ( أبو طالب ) ، وكان الطفل اليتيم ابيض شديد الوسامة ، مما ذكره احد الرجال الذين ذهبوا لزيارة مكة في تلك السنوات ، وكانت البلدة تعيش في قحط بسبب عدم نزول الأمطار ، وكان العم ( أبو طالب ) هو سيد وقور من سادات البلدة ، في هذه الحالات كانت العرب تستسقي ، أي تطلب من الله أن ينزل الغيث ، ويُفضل أن يكون ذلك عند الكعبة

وطلب الناس من أبي طالب أن يستسقي لهم ، ويقول الرجل الزائر أن أبا طالب خرج ومعه طفل كالشمس ( محمد ) الصق ظهره للكعبة بيد بينما الطفل متعلق بأصابع اليد الأخرى للعم ، وعلي الفور تجمعت السحب وأمطرت أهل البلدة ، وفي هذا هناك شعر معروف عن العم منه بيت شعر يقول فيه العم ( وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ) .
في سن الثانية عشر خرج في تجارة مع عمه إلى الشام ، وفي الطريق نادى على القافلة العربية راهب اسمه جرجيس ولقبه ( بحيرى ) واستضافهم وأعد لهم وليمة ، ولفت انتباهه هذا الغلام ، وتفرس فيه علامات النبوة ، وأطلعهم على ذلك .

في سن الخامسة والعشرين خرج محمد في تجارة في أموال لسيدة أعمال شريفة وقورة من نساء القبيلة اسمها ( خديجة ) كانت تكبره بخمسة عشر عام ، وعاد محمد من رحلته التجارية بمكاسب جيدة جدا ، تبين لها منها انه أمين ، كما أن مساعدها ( ميسرة ) الذي رافقه في الرحلة عاد منبهرا بشخصيته ، بحكم أن المعايشة في السفر والعمل كفيلة بالتعرف العميق على الناس ، واخذ ميسرة يعدد لها مزاياه ، وشخصيته الوقورة الصادقة ، لم يمارس محمد أثناء تأدية عمله التجاري أي عملية غش بسيطة ، كان واضحا وملتزما ويٌطلع المشتري علي مستوى جودة البضاعة ، وفوق هذا لم يخسر ، كما أنه لم يهمٍش لنفسه أي مكاسب من ورائها ، كانت المرأة الأرملة يتقدم لها أكابر القبيلة ، ولكنها فكُرت في محمد رغم فقره ، وتزوجها محمد ، وعاش معها مخلصا لها كل الإخلاص وأنجبت له ستة أبناء ، ذكران ماتا في طفولتهما ، وأربع بنات .

استقامة محمد وصدقه في كل أحواله وبعده عن المهاترات ، وترفعه عن الصغائر ، وعن الكلام فيما لا طائل منه ، كل هذه الصفات جعلته شخصا محل ثقة للجميع ، وكان له احترامه بين السادة بسبب هذه الرزانة والحلم والأمانة وهو لازال في سن الشباب ويبدو انه أنضج من الكل ، وفي تلك الفترة كان محمد عازفا بالكلية عن التعبد للأصنام ، ولا ينظر لها إلا بكل تقزز واحتقار ، كما لم يشرب الخمر ولم يلعب القمار ، ولم يعرف اي امرأة قبل زوجته خديجة ، ولم يكن انصرافه عن عبادة الأصنام ليسبب له مشاكل ، المهم الا يتعرض لها بشكل علني بسوء .

وعاش حياة أسرية جيدة ، لم يكن محمد يفكر في الجدال مع أي شخص بسبب موضوع عبادة الأصنام ، ولم يكون أي خلية من الشباب الذين يجد فيهم رفضا لهذه العبادة ، كان محمد ميالا للعزلة ، ولم يكن يمتلك أي خطة من أي نوع ، لكن فطرته النقية تأبى عليه أن يسجد لصنم ، أو يرتكب أي حماقة ، وهذا كل ما في الأمر

ومنذ وصل لسن السابعة والثلاثين بدأ يعتكف لمدة شهر في العام ، تحديدا في رمضان ، في غار يطل علي البلدة ، بعيدا عن ضجيج البلدة وصراعاتها وأمنياتها وملذاتها وحماقاتها ، ينظر للكون الفسيح وللسماء ، ويشعر براحة نفسية لهذا الإنفراد ، ولما وصل للأربعين كان يحدث معه أمر عجيب ، إذ كلما رأى رؤية جاءت بحذافيرها ، تكرر معه ذلك كثيرا ، وبعد ستة أشهر من الرؤى التي تتحقق حدث حادث تاريخي فارق ، اذ بدأ اتصال جبريل بمحمد في عام 610 م .

واضطرب محمد لرؤية جبريل ولكلامه معه ، ونزل إلى زوجته يرجف ، وطمأنت زوجها ( كلا ، ابشر فوا لله لا يخزيك الله أبدا ، انك لتصل الرحم ، وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) ورأت هي أن يستشيرا ابن عمها المئوي الكفيف الذي اعتنق النصرانية ، الذي أكد بدوره بأن ما نزل علي محمد مثل ما نزل علي موسى ، وأن محمدا ( ) هو هذا النبي لهذه الأمة

وبدأ محمد ( ) يمارس دوره الدعوي بلا كلل في العاصمة الدينية للعرب ، بلا كلل ولكن بدرجة عالية من السرية ، آمنت به الزوجة المحبة الوفية وابن عمه الصبي علي بن أبي طالب ، وصديقه المقرب أبو بكر ، وبدأت الدائرة تتسع شيئا فشيئا وبحذر ، استمر الحال علي هذا المنوال ومحمد ( ) يعلم ويدعو ويتلو عليهم القرآن الذي ينزل عليه ، ثم بدا محمد ( ) يظهر الدعوة ، بدأ يعلن وحدانية الله ويدعو للأخلاق الحميدة ويحط من شأن الأصنام وعبادتها ويحذر الناس من الآخرة ، ارتجت قريش القبيلة ومكة البلدة بسبب دعوة محمد الجريئة والصادمة التي تهدد عبادة الأصنام وبالتالي مركز مكة وقريش بين العرب ، ومما أزعجهم أنها جاءت من رجل لا مجال للطعن فيه ، ولكن الإختلاف كاف لتوليد العداوة مهما كان الرصيد ومهما كان الإنطباع المستقر عند الناس ، ولم يغفر لمحمد ( ) أنه كان الرجل المحبوب الموقر الذي سموه ( الأمين ) ،

ومن الناحية العملية كانت أحوال الغالبية من تجار البلد علي خير ما يرام ، بحيث أن كل ما كانوا يتمنونه هو أن يستمر الحال علي ماهو عليه ، فطالما انه يسير فيجب التصدي بقوة لكل من يهز القارب .

بدأوا في التحدث إلى عمه أبي طالب ليمنع محمدا من الإسترسال في هذه الدعوة ، ولم يكن محمد ( ) يرد علي عمه الا بأدب ، ولكن هيهات ، وبدأت سلسلة من المضايقات اتخذت في البدء طابع الإعلام المضاد من استهزاء وتشويه وإثارة شبهات ، ثم بدأت اضطهادات أكثر نال منها محمد ( ) تطليق ابنتيه من ابني عم أبيهما ، ونال بعض السباب ورمي القاذورات في طريقه أو عليه ، أما الضعفاء من المسلمين فقد ذاقوا الويل ومورست ضدهم فنون التعذيب ، ولم تستثن امرأة من هذا الويل ، وكانت أول شهداء الدعوة عامة هي امرأة اسمها سمية ، فقيرة وعجوز عذبوها وضغطوا عليها لتعود إلى عبادة الأصنام وهي ترفض حتى أن تنطق بالكفر لتتخلص من العذاب ولما يأسوا منها طعنوها بخسة ونذالة في منطقة حساسة من جسدها فماتت .

في السنة الخامسة من دعوة محمد ( ) وكان المسلمون قد أُرهقوا إرهاقا شديدا هاجر مجموعة منهم إلى الحبشة بإيعاز من محمد فارين بدينهم ، وقد أحسن حاكم الحبشة استقبالهم ،وأرسلت القبيلة وفدا إليه لاسترداد الفارين ولكنه رفض تسليمهم.
محمد( ) لازال هناك في مكة وسادة القبيلة في حالة غليان ولازالوا يضغطون علي العم ليضغط علي ابن أخيه ولكن لا جدوى ، ولعل من المواقف الصعبة التي تعرض لها محمد ( ) شخصيا هي موقف ( عتيبة ) ابن عمه الشاب ومطلٍق ابنته ( أم كلثوم ) بسبب دعوة محمد ،

جاء لمحمد( ) فاقدا لأعصابه وتحدث إليه بطريقة غليظة جدا رغم القرابة اللصيقة وسابق المصاهرة وفارق السن حيث كان محمد في منتصف الأربعينات ، واستخف بآيات القرآن وشق قميص محمد ( ) بل وتفل في وجهه إلا أن البزاق لم يأت علي وجه محمد ، كل هذا ومحمد ( ) كان من قبل هذه الدعوة رجلا محترما رزينا مهيبا ، وكان من قبلها حما هذا الشاب يعامله الشاب بأدب ، فقال محمد له ( سلط الله عليك كلبا من كلابه ) ، وكل ما حدث بعدها أن الشاب سافر مع مجموعة للتجارة في الشام ونزلوا وخيموا في (الزرقاء ) ، وحام حولهم أسد ، وقد كانت بعض الأسود تسرح في براري الشام والعراق في تلك الآونة ، فزع الرجال من منظر الأسد الذي بدا كمهاجم يبحث عن ثغرة وغفلة ، وشعر عتيبة أن الأسد قادم له هو تحديدا وقال لهم ( يا ويلي هو والله آكلي كما دعا محمد عليً ) وبالأخير وبهدوء انقض وتناول عتيبة من رقبته ، وترك باقي المجموعة .

وبعد إيذاء محمد ( ) عدة مرات ، بدأوا في مساومته بعرض المال والملك عليه ولكنه رفض تماما

وكانت كل المؤشرات تشير إلى أن محمدا ( ) قد يغتال في أي مساء ، لذا تعاقد العم الذي يوفر الحماية لمحمد مع أفراد العائلة التي تمثل بيتا من بيوت القبيلة ليحموا ابنهم ، كان الإتفاق يشمل التيارين داخل العائلة من المسلمين والوثنيين ، وأساسه حماية القريب بصرف النظر عما يؤمن به ويدعو إليه ، ولم تسكت القبيلة التي عرفت بتعاهد عائلة محمد ( ) علي حمايته ، بل سجل رجالها وثيقة مقاطعة تامة ضد العائلة استمرت لمدة ثلاث سنوات جوعوا فيها هذا الفرع جوعا شديدا ، كان محمد هناك ، وكانت هناك خديجة الثرية أيضا مع زوجها

وبعد ثلاث سنوات شعر البعض بالشفقة علي حال هذا الفرع من القبيلة الذي يكاد يموت جوعا ، وبعد شد وجذب تم نقض الوثيقة .
وفي السنة العاشرة من دعوته مات عمه أبو طالب وبعده بقليل ماتت زوجته خديجة فيما سمى هذا العام بعام الحزن حيث فقد فيه من يبثها همومه ومن يوفر له الحماية .