بخطواتٍ متثاقلة، ويدينِ خاويتَين تتأرجحان، مضى العاطلُ عن العمل في شوارع المدينة الراقية.

هوَ ذا معتمٌ حتى تحت الضوء الباهر الذي يتناثر عليه من الأعمدة، ومِن ثريّات الغرف المُطِلّةِ على الشارع. هو ذا صاخبٌ في جوفهِ رغمَ السكون الوديعِ الذي يحفُّه. ومتعرِّقٌ، يشتمُّ هذا بوضوحٍ رغمَ عبق الفلّ والياسمين الذي يفوح عليه من حدائق القصور، وأطيطُ حذائه القديم يزيده ضجراً وسخطاً.

يمرُّ وحدَه بعد مُدة من تحت شرفة قصرٍ فارهٍ، وفي الشُّرفةِ ثمةَ طفلٌ شقيٌّ يلهو بزجاجةٍ بلّوريّةٍ لعطرٍ باريسيٍّ وهو يغني وحدَهُ أغنيةً طفولية، ولازالَ الحذاء يئطُّ تحتَ الشُّرفة والصراخُ الداخليُّ على أشُدِّه. والزجاجة تدور مع يد الطفل، وتدور، وتدور، غير أنَّها أفلتَتْ إلى أعلى، ثم أخذت تهبط وهي تلفُّ حولَ نفسِها، والعطرُ يَمُوج ويرغو داخلَها، فيما كان الضوء الباهر ينعكس على بلّورِها، ويُلألئ ثوبَ الليل الداكن.

(آه.. آه.. آه)..
صرخاتٌ عظيمةٌ صرخَها الشابُّ من أعماقه. ووقع على ركبتَيه، وشعرَ بدوارٍ يغمرُه مثلَ موجةٍ عالية يعلوها الزبد، وارتمى على ظهره متألماً و مستريحاً.

خلصَ من الصُّراخ الداخليِّ ومن الأطيط، وفي شبه الإغماءة، أخذَ يشتَمُّ العطرَ الذي تحمّم به وغسلَ قميصَه، متمتعًا رغم الألم.. الألم والفرح ليسا عدوّين دائماً، لذا قد تذكرُ بلا مُناسبةٍ، كيفَ كان أبَواهُ سعيدَينِ في يوم ختانه رغم أنه كان يبكي بكاءً حارًّا، وكيف ألبَساه ثوباً أبيضَ، وسلقا له دجاجة، وكيف أنّ الزوار يومها لقَّبوه بالعريس.. (مبروك يا عريس!).

هُرِعَ إليه خدَم القصر، وحملوه إلى الداخل -هذا الداخلِ الذي لمْ يعرِفْهُ أبداً- وقد كان سعيداً ممتنًّا ولازال يشتَمُّ العطرَ الباريسيَّ فيما بين الإفاقة والإغماء. وأضجَعوه في غرفة أنيقة على فراش وثير، وضمّدوا جرحه.

ودخلَ عليه سيّد القصر الوجيه، معتذراً قلقا؛ فهو رجل أعمال كبير، ودخلَ عالم السياسة قريباً بلا خبرة، ويخشى من محضر (إهمال) في قسم الشرطة، قد يصل خبره إلى صحف المعارضة فتعمل من الحبة قبة!

بعد قليلٍ، كان الشابُّ في ثوبٍ أبيضَ، وأمامه دجاجةٌ مسلوقة، بعد أن خاط الطبيب جرحه، وتذكَّر ختانه مجددًا، وآمنَ بأنَّ ثمة سعادة، فاليوم دجاجة وثوبٌ أبيض وألمٌ ودم ورعاية، تماماً، هي كل العلامات!

وتبادل السيد مع العاطل كلماتٍ قليلة، عرف منها السيد أن طريح الفراش عاطلٌ عن العمل، فعرض عليه ترضيةً، إمّا بتعويضٍ ماليٍّ، أو بفرصةِ عمل عندَه في مصنعه. واختار الشاب التعويض الكبير ، ودفعه الرجل فورًا.

وبعد ساعتين، كان يودِّعُه إلى باب القصر، بينما المصاب يتمنى أن يحلفَ عليه بأن يبيت ليلته هنا في الفراش الوثير، ومضى عازما على ألاّ يغسل قميصه أبدا.

ولمّا عاد لأمِّهِ آخرَ الليل، نصحَته بأن يفتح مشروعاً صغيراً بالمال الذي حصل عليه، وتعلّل لها بأنه سيدرس الأمر على مهل، وأنه لا داعي للتعجل.

وهكذا لشهور، كانت الأم تنصح، وكان يتعلّل، وفي الخزانة قميص لم يغسل من بعدها أبداً.


وشفي رأسهُ تماماً، غيرَ أنها لم يشفَ على الإطلاق؛ إذ ظلَّ يمرُّ ليلاً مِن تحت شُرفات القصور الفارهات؛ منتظراً إطلالةَ طفلٍ ما، وقد كان يسمي هذا: حسنَ ظنٍّ بالله!