اعتبره الإمام علي كرم الله وجهه من مفاتيح الرزق..
في مأمن من الحاسوب.. الخط العربي يبقى جماله ويفنى مبدعوه



خضير البورسعيدي بجانب أحد أعماله الفنية

القاهرة - دار الإعلام العربية

الخط أحد أرقى الفنون البشرية، ووسيلة رئيسية من وسائل الاتصال الإنساني، نقل إلينا تراث الأجداد عبر مختلف القرون، ليصبح نافذة إشعاع لتواصل الفكر والمعرفة. قال عنه الإمام علي كرم الله وجهه: "الخط الحسن للإمام جمال، وللغني كمال، وللفقير مال". وأضاف: "عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق".

أما أبو العباس أحمد بن رجب صاحب كتاب "زاد المسافر" فقال: "الخط لليد لسان، وللخَلَد ترجمان". وقال شاعر: "وما من كاتب إلا سيفنى.. ويبقى الدهر ما كتبت يداه، فلا تكتب بخطك غير شيء.. يسرك في القيامة أن تراه".

وعن تجربته الطويلة مع الخط العربي ومدارسه أوضح مسعد خضير البورسعيدي رئيس الجمعية المصرية العامة للخط العربي لـ"العربية.نت" أنه اتخذ من عبارة "الخط يبقى زماناً بعد كاتبه وكاتب الخط تحت الأرض مدفون" نبراساً أفاده كثيراً في حياته العملية، موضحاً: "اخترت هذه العبارة؛ لأن الخط العربي يعمل في ميدان ضد الطوفان، حيث لا يوجد اهتمام حقيقي به؛ فهناك إهمال شديد يواجه الخطاط العربي، ويتمثل في الاهتمام بأنواع غير عربية، مثل التركي والأمريكي والإنكليزي والصيني، ومن يتمعن بنظرة فاحصة إلى جمال الخط العربي يقرأ شهادة الفنان العالمي بيكاسو في مقولته: "إن أقصى نقطة أردت أن أصل إليها بالرسم وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها، وهو ما يميز العبارة الإسلامية والعربية عامة".

مزاوجة القديم والحديث
وينتقل بنا البورسعيدي ليعطي مشاهدة حية من خطوطه داخل لوحاته بزخرفتها العربية والإسلامية التي يزاوج فيها بين القديم والحديث بأسلوب متوازن، فنقرأ خطوطاً تعبر عن أمثلة شعبية في صورة معبرة عن المعنى، مثل "لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك"، ففي هذا المثل العربي أفرزت خطوطه راقصاً على شكل حصان يطأ على كل قدم أهانت حرف "الهاء"، حيث إنه من حروف الإهانة.


لوحة للفنان عبد الكريم في نقابة الصحفيين

وننتقل إلى لوحة أخرى تبرز بناء العصفور لعشه، ويقول معنى خطوطه "العصفور يبني عشه قشة قشة"، ثم زهرة أخرى من جماليات الخط العربي على شكل لفظ الجلالة وفرعها يقرأ محمد، وعنها يقول: "لقد تعمدت أن تأتي خطوطي باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أعلى إلى أسفل.

ويوضح أن بقاء وتواصل الجمال في الخط العربي يظل متجسداً في آيات القرآن الكريم، ويقدم صوراً على ذلك في لوحات كثيرة، منها "وربك فكبر" تكتب يميناً ويساراً، وأخرى يظهر فيها أسلوب ابتكاري بالحروف العربية والإنجليزية في وقت واحد، ويتجسد الإبداع أكثر في الكتابة على الكسوة الشريفة، مؤكداً أنه لا يستعرض جمال حروف الخط مجردة، لكنه بحسه الفني وثقافته ورؤيته يُسبغ على أعماله لغة الفن بتركيبات خطية تتوالد فيها الحروف وتنساب وتتكرر بتشكيلات من التراث الإسلامي.

في مأمن من الحاسوب
ولأنه أفنى حياته في محراب الخط العربي، ابتكر البورسعيدي أسلوباً جديداً في إبداعاته أطلق عليه "فن الكتابة رايح جاي"، حيث يصفه بأنه يتميز بكتابة كلمات عربية تعطي شكلاً لاتينياً، مثل لفظ الجلالة "الله" وتقرأ باللاتينية، واللوحة الشهيرة "محمد رسول الله" تقرأ أيضاً باللاتينية، وهذا الأسلوب يؤكد مدى الثراء اللامحدود للخط العربي.

ويختم البورسعيدي قائلاً: "أحسب أن مدرستنا العربية في الخط تتميز بخفة الظل، وتتسم بهالة روحانية، حيث لا يكون الحرف يتيماً، بل يعيش طبيعياً بين إخوانه، ومن يدعي أن فن الخط العربي يواجه خطر الحاسوب مخطئ، فالحاسوب عاجز حتى الآن عن محاكاة أسلوب الخط الديواني كما يخطه الخطاطون، لا ندعي أن الحاسوب غير مهم، لكنه ليس بديلاً عن أنامل الإبداع البشري، وسيظل الخط هو تاريخ الأمة وتراثها وناقل لمعرفتها وحضارتها".

شيوخ الخط العربي
بدوره، يؤكد الخطاط تيسير عليوة الذي ورث المهنة عن والده على أن الخط العربي يفنى كاتبه ويبقى جماله، منوهاً إلى ثمانية من شيوخ الخط العربي مازالت خطوطهم نظرية جمالية تدرس في الحياة، أولهم "أبو علي محمد بن علي بن الحسن بن عبدالله بن مقلة"، الذي كان وزيراً وأديباً وشاعراً وخطاطاً ماهراً وبليغاً حاذقاً.


من أعمال الفنان خضير البورسعيدي

وثانيهم "أبو الحسن علي بن هلال البغدادي"، الملقب بابن البواب؛ لأن أباه كان بواباً بدار القضاء في بغداد. وثالثهم "جمال الدين ياقوت المستعصي البغدادي"، الذي أسس مدرسة للخط بعد ابن البواب سار على نهجها الخطاطون الأقدمون والمحدثون، ومن ثم جاء "حمد الله الأماسي"، وهو رابع شيوخ الخط، فكان إمام الخطاطين في عصره وشيخهم بلا منازع.

وخامسهم "الحافظ عثمان التركي"، وسادسهم "مصطفى الأرقم"، وكان رساماً بارعاً قبل أن يكون خطاطاً لامعاً، ومازالت آثاره الخطية منتشرة في مساجد إسطنبول. أما سابع شيوخ الخط العربي فهو "حامد الآمدي التركي" ومن أعماله كتابة القرآن الكريم مرتين طبعتا في تركيا وألمانيا، بينما ثامنهم "هاشم البغدادي" الذي برع في خط الثلث والزخارف الإسلامية.

ويتفق عليوة مع ما ذهب إليه البورسعيدي من أن جمال الخط العربي وإبداعاته اليدوية لن تتأثر بمنافسة أجهزة الحاسوب، مؤكداً أن لكل منهما استخداماته، ويسيران بتوازٍ فعال.

وعاء اللغة وعينها
أما الخطاط محمد همام عضو الجمعية المصرية العامة للخط العربي فقال: "إذا كان الخط العربي يفقد كاتبه، فإن جماله يحفظه المولى عز وجل، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فالخطاط وأدواته من أدوات حفظ الذكر، حيث يرى المسلم في مادة الخط اللمسة والنظرة الجمالية؛ لأن الخط وعاء اللغة وعينها".

ويوضح أن العين تتذوق جمال الخط، فإن لم يكن جميلاً فإنه يؤذي العين، ويشعر النفس بالنشاز.

ويقدم دليلاً على بقاء جمال الخط العربي، وهو انتشاره في الخارج حتى أصبح له مبدعون مشهورون، مثل الفنان محمد زكريا في الولايات المتحدة وغيره في اليابان والصين وماليزيا وإندونيسيا.

وختم قائلاً: "هو الفن الوحيد الذي مازال يعلق كجماليات داخل القصور وكبرى المساجد وأماكن العبادة، وسيظل قائماً وحاضراً مهما بلغت درجة المحاكاة التقنية التي تقدمها وسائل العصر الحديثة"