-
الحلقة الأربعون
أحاول في سرد قصصي ورواياتي هنا أن أحشر مواقف ومناقب عن شيخنا بين العبارات والكلمات كلما وجدت ذلك سائغا..
ذكرت منذ بداية قصتي أنني سأروي موقفا واحدا لشيخنا!!
ومن خلال السياق بعثرت عددا من القصص والشواهد
مما يزيد حبكة الموضوع ويعطي له نكهة خاصة..
ويوصل رسائل وانطباعات اقصدها وتفيد القراء الكرام..
أما بالنسبة عن شخصي فليس لدي شيء يستحق الذكر سوى ما يمر
بي من مواقف مع الشيخ والتي هي صلب الموضوع ..
لاحظت عددا من المتابعين للقصة يطلبون مني الاسترسال في الحديث
وأنا أتفهم أن القصد من ذلك معرفة حياة الشيخ محمد بن عثيمين
كما رأيتها وعاصرتها.. وهذا موضوع أوسع وأشمل مما يتصور أولئك
و لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله...!!
لذلك سوف يختلف البرنامج قليلا ..
سأحرص على استكمال قصتي حتى النهاية وكلما سنحت لي فرصة
لذكر منقبة أو موقف سوف اذكرها وأسترسل أحيانا ..!!
فأرجو أن لا يصيب ذلك إخوتي القراء بالملل ..
فهي لا تخلو من فوائد وعبر هداني الله وإياكم صراطه المستقيم..
مع أن الذاكرة أحيانا تخونني .. لبعد الزمن وكثرة المشاغل ..
والله خير معين سبحانه..
أرجع لقصتنا..
بعد مرور حوالي عشرة أيام من عودتنا من جده ..
كلف الشيخ الأخ محمد زين العابدين والأخ محبوب والأخ بندر الحربي بالسفر معي للطائف لكي أحضر مكتبتي وحاجياتي..
نزلنا بسيارة الأخ بندر حيث هي من نوع النيسان الداتسن ذات الأربعة
أبواب.. .. وتوجهنا للطائف من طريق عفيف..
وهو طريق طويل وممل ولكن صحبة هذه الرفقة الصالحة ..
تنسيك تعب السفر ومشقته..
حدثنا الأخ محمد عن ذهابه للجهاد في أفغانستان ..
وروى لنا قصصه ومشاهداته هناك
ومما أذكره أنه في أحد الليالي المظلمة ..
وكان مع مجموعة من المجاهدين العرب والأفغان...
طاردتهم طائرة روسية..
وقصفتهم بالمدافع والصواريخ حيث أن معهم عددا من الأسرى
الروس وشيوعيون أفغان..
وروى كيف أنهم تمكنوا من إسقاط تلك الطائرة بصاروخ موجه..
بعد عناء وإثخان فيهم.. من العدو..
أذكر أيضا ما رواه لنا الأخ محبوب عن طلبة العلم في باكستان..
وكيف أنهم يجدون المشقة الهائلة في تحصيل العلم
والوصول إلى الشيوخ الثقات ..
وما يواجهه الطالب من عقبات من أهله وجماعته الذين قد يخالفونه
المعتقد أو النهج..
وكيف أنتقل من العقيدة الضالة والمبتدعة لعقيدة السلف ..
وازدادت رسوخا بعد قدومه للمملكة..
وقال : إن أكبر نعمة حصلها هو تمكنه من طلب العلم في حلقة شيخنا
عليه الرحمة والرضوان.. ويغبطه أنداده على ذلك ..
كان انطلاقنا من القصيم بعد صلاة العصر تقريبا ..
وسرنا أغلب الليل. ..
ووصلنا لضواحي الطائف بعد منتصف الليل..
كان الحديث مع الإخوة ممتعا غير أنهم كلما صمتوا ..
أتضايق من التفكير مما قد يحدث... وأتذكر أنني متوجه لرؤية عائلتي..
فافتح بابا للحديث
فينشغل فكري عما أنا مقدم عليه..
لم أكن أحب أن أتخيل ما سيحدث..
لا شك أن عائلتي قد وجدت في نفسها علي ..
مما فعلته..
خاصة وأنني لم أتصل بهم شهورا عديدة..
فأنا أبنهم وحق علي أن لا أقاطعهم .. وأصلهم واتصل بهم..
وهذا مافعلته بحمد الله بعد ذلك طوال بقائي في القصيم..
حينما اقتربنا من حينا أصابتني كآبة وخوف وارتباك..
وهو أمر طبيعي جدا...
فالمرء حينما يطول بعده عن أهله وذويه بسفر أو غياب لأي سبب
كان ،تصيبه نوبة من الارتباك والتردد..
قبيل ولوجه دارهم أو ينزل حلتهم..
هذا فيمن حاله طبيعية وفي أمر معتاد؟؟
أما حالي فهو معقد للغاية ، فالوطأة أشد والخوف والتردد أعمق..!!
حينما وصلنا قريبا من حينا ..
دارت في ذاكرتي تلك الأيام الخوالي..
تذكرت لحظة الهروب من البيت..
وكيف أنني خرجت من البيت خائفا أترقب...
وهاأنذا أعود الآن وكلي أمل لعهد جديد وصفحات مجيده إن شاء الله
سبحان من يبدل الأحوال ..
طلبت من الأخ محمد أن يتوقف قليلا لنستريح من عناء السفر..
ويأكل الإخوة شيئا ..
وكان مقصدي في نفسي أن أهيئ فؤادي وعقلي لمقابلة العائلة..
تضايق الأخ محمد من ذلك وكان يرغب أن استضيف الإخوة في بيتنا..
وكلامه مقبول ورأيه أسد..
فهو من سلالة كرام وأهل نخوة وشهامة..
فلا يرضى الواحد منهم أن يطعم الضيف سوى في بيته ومن طعامه
ولكن وضعيتي وحالي مختلفة للغاية ..
فعاداتنا وتقاليدنا ونخوتنا لا تقل عنهم والحمد لله ..
يقول الفقهاء..
الحكم على الشيء فرع عن تصوره!!
ويقولون أيضا..
مراعاة الحال ، والحكم على شواهد الأعيان كل بحسبه ..
فما كنت أحب أن أشغل عائلتي أو أشعرهم بتكليف..
خاصة لطول الغيبة ولخصوصية وضعي..
على كل..استرحنا لفترة من الزمن..
ثم طلبت الهاتف من صاحب المطعم ..
فاتصلت على البيت..
فردت علي الوالدة..
فرحبت بي وسرت بسماع صوتي وكأن شيئا لم يحدث!!
رضي الله عن والدتي وعفا عنها وجعلني معها في فردوسه الأعلى..
قلت لها سنقدم عليكم بعد قليل ..
وسوف ننقل المكتبة فورا في السيارة..!!
قالت : ألن تباتوا عندنا؟؟
فقلت لها: لا أريد أن أكلف عليكم والإخوان يرغبون الرجوع من غد!!
فقالت : باتوا عندنا الليلة والصباح رباح!!
توجهنا للبيت ..
واستقبلنا الوالد..
فرحب بي وبالضيوف ..
والحمد لله كانت نفسيته ممتازة ولم أرى منه أي تضايق أو انزعاج..
خاصة أن شيخنا بعث معي برسالة للوالد هذا مضمونها..
الأخ المكن ............. حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد..
فأريد أن أبشركم أن ابنكم فلان مجتهد في دراسته وطلب العلم
ومحافظ على صلاة الجماعة خلف الإمام.. الخ..
وقد بعثته إليكم لكي يحمل مكتبته ويسلم على والدته..
ويحضر ملف الدراسة لكي يكمل دراسته الثانوية..
ثم دعا الشيخ لي وللوالد جزاه الله عني خير الجزاء..
وأحتفظ بعدد من رسائله للوالد عندي .. رحمهما الله..
سلمت على أمي وإخوتي جميعا ...
اشق شيء في السفر الطويل والانقطاع عن اهلك وأحبابك
هو أن تنزل عليك الأخبار جملة واحدة وقد يكون بعضها مرا وموجعا
ولذلك أحرص دوما أن اتصل على أهلي باستمرار خوفا من مرارة
الفواجع دفعة واحدة!!
فاجئني مرض أحد إخوتي الكبار بمرض قريب من الصرع !!
حيث أصيب بمس أو عين ..
فما استطعت الحديث معه أو افهم حاله.. فهو لا يكاد يعقل !!
سألت الوالدة عن أمره؟؟
فقالت: والله هو كما ترى ، وما تركنا مستشفى ولا عيادة إلا
وعرضناه عليهم ، استمرت حالة أخي كذلك لعدة شهور ..
ولكنه تعافى وعادت له صحته وهو الآن سيد نفسه وله ذرية وشأن!!
اجتمعت بالعائلة أخيرا ..
لقيت العمة .. التي وقفت معي في محنتي..
وقلت لها: الحمد لله فقد أوفى الله بظني ونجوت!!
فضحكت وفرحت ..
جلست مع إخوتي الصغار الذين اشتقت لهم كثيرا..
وخاصة أختي الصغرى التي أحبها حبا لا يعلمه إلا الله تعالى وما زلت..
وكم تألمت لفراقها وللبعد عنها فالحمد لله الذي جمعني بهم جميعا..
وجدت كثيرا من كتبي وأغراضي معدة لي عند باب البيت بناء على
طلبي..
لم يشق علينا تكديسها في مؤخرة السيارة وبالكاد وسعتها..
بات الإخوة في المجلس..
وسهرت طوال الليل مع الوالدة والعائلة ..
حيث كان يوم خميس ...
بعد صلاة الفجر ودعت العائلة ..
وتوجهت مع الزملاء لمكة لأداء العمرة ..
أدى الأخوة العمرة وبقيت أنا في السيارة أحرس متاعنا وكتبي..
ثم رجعنا للقصيم ووصلنا قريبا من العشاء..
أوقفنا السيارة .. وناديت على عدد من الزملاء.. ليعاونونا
في نقل الكتب للغرفة .. التي أمتلاءت أدراجها أخيرا بالكتب!!
لم أنم تلك الليلة من الحماس..
ورتبت غرفتي ورصصت كتبي في مواضعها حتى أذن الفجر..
نزلت للصلاة ..
وانتظرت شيخنا أمام باب المسجد ..
فجاء للمسجد وهو حاف !!
ويضع أعلى عباءته على رأسه..
قبل أن يدليها على كتفه قبيل دخول المسجد..
قبلت يديه ورأسه..
وليتنا قبلت قدميه ..
فله الفضل علي بعد الله في انطلاقتي الجدية ..
جزاه الله عني وعن المسلمين خير الجزاء...
-
الحلقة الواحدة والأربعون
سألت شيخنا رحمه الله يوما ...
ما خير وسيلة وأقصر طريق لتحصيل العلوم وخاصة علوم الفقه..؟؟
قال: عليك بالقواعد والأصول...
قلت له : وأين أجد تلك القواعد والأصول؟؟
فقال: يصعب أن تجدها جميعا كلها في كتاب واحد ..
ولكن عليك بالتنقيب في كلام الفقهاء والعلماء الأصوليين..
وستجد في تعليلاتهم واستدلالاتهم كثيرا من القواعد الجامعة لفروع
المسائل أو الأصول التي تبنى عليها الأحكام..
اشتغلت بجمع تلك القواعد والأصول من كتب الفقهاء والأصوليين
ومنها كتب ابن قدامة المقدسي.. كالإقناع والكافي ..
ورجعت لكتب القواعد للحافظ ابن رجب والحافظ السيوطي
وكذلك لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ..
ومن أكثر الكتب التي استفدت منها بمشورة شيخنا شرح العمدة
للحافظ ابن دقيق العيد الشافعي المالكي!!
وكذلك فتح الباري للحافظ ابن حجر ..
والمجموع شرح المهذب للنووي..
ومنها أضواء البيان للشنقيطي ومذكراته في الأصول..
كنت اقرأ وأراجع تلك الكتب ثم أدون تلك التعليلات والقواعد
وفي اليوم التالي أقرأها على الشيخ وأسجل تعليقاته وتفصيلاته
لها ويفرع عليها قواعد أخرى يسردها شيخنا على السليقة دون
مراجعة وتردد ، مما حيرني في عقلية وسعة إطلاع هذا العالم الجليل..
رحمه الله رحمة واسعة..
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء..
سألته ذات مرة : ياشيخنا هل تراجع أو تحضر لدروسك؟؟
فقال : الحمد لله العلم أحمله في صدري ،ونادرا احتاج للمراجعة!!
ولقد شهدته مرارا ينقل من حافظته مسائل ونصوصا يحتاج الواحد من
للبحث فيها والتحرير عنها دهرا ،يسوقها الشيخ ببيانه الشافي بكل
ثقة واقتدار.. من صدره بالنص والكمال!!
كما ذكرت سابقا مرت علي فترة من الهدوء من قبل صاحبنا العتيد!!
ولكنه لم يصبر ولم يطق الانتظار حيث ظن ذلك المسكين أن البساط
سيسحب أو كاد أن يسحب من تحته وما درى أن شيخنا
قلبه سيسع الجميع لو كنا نعقل أو نرشد!!
فاجأني ذات مرة أن لحقني وأنا خارج من المسجد ونادى علي!!
فالتفت إليه .. فما صدقت نظري ؟؟
انه صاحبي ذاته؟؟
ابتسم في وجهي ابتسامة لا أكاد أميزها!!
وقال لي : كيف أحوالك وما هي أخبارك؟؟
فقلت ك أنا بخير حال والحمد لله ...
لم يطل الحديث معي بل كان يريد أن يعطيني انطباعا معينا ونجح فيه!!
لمن يفهم ما اعنيه!!
انصرف فبقيت واقفا حائرا لا اصدق ما جرى..
هل من المعقول أن الرجل عاد لرشده ؟؟
قلت في نفسي: لا يستغرب ذلك من طالب علم في مثل مستواه ..
يعلم الله تعالى شدة فرحي بما حصل واستبشاري بذلك..
وظننت أن ذلك هو نهاية تلك المآسي التي لا تليق بطلبة العلم
خصوصا على سمعة شيخنا رحمه الله..
في اليوم التالي بادرته أنا بالسلام في صلاتي الفجر والظهر..
كان قصدي أن استوثق من الرجل هل ما فعله حقيقة أم أنه كيد ؟؟
جاءني بعد صلاة العصر وقال لي: هل ممكن ترافقني لفنجان قهوة في
بيتي؟؟
قلت : لدي برنامج مع الشيخ...
ولكن لأجلك سأذهب معك!!
ركبت معه على سيارته ..
وأنا فرح بهذا التقدم الغير متوقع!!
وقطعنا الطريق لبيته الواقع في أطراف عنيزة..
كان يتحدث ويتبسط في الكلام ويبتسم ويظهر السرور والفرح..
مما زاد وثوقي واطمئناني..
وما كنت أعلم أنني كالشاة تسقى وتطعم العلف وهي تساق لسكين
الجزار !!
وصلت لبيته ، وهو منزل عائلته وكان شبه خال !!
دخلنا المجلس ..
ولم يقدم لي القهوة والشاي كما هي العادة بل تحول الحديث بشكل
مفاجئ..لتحقيق وتدقيق ..!!
ولكنه كان من النوع الهادئ ولم يكن عاصفا أو مدويا!!
ولم أفهمه أنه كذلك إلا حينما قال لي :
أريدك أن تفرغ كل مافي جيبك من أوراق !!
قلت له : لماذا ؟؟
قال: أفعل ما أطلبه منك !!
أخرجت ما في جيبي من أوراق فبعثرها وفتش فيها ودقق
فقال : أخرج كل مافي جيبك ؟؟
فقلت : لا يوجد شيء سوى مناديل وأقلام..؟؟
قال : أخرجها!!
أخرجتها حتى لم أترك شيئا في جيبي!!
لم افطن لمقصده حينها!!
فتش في تلك الحاجيات وبحث فما أشفى ذلك غليله ونهمه!!
فقام إلي وأخذ يفتش جيوبي بنفسه ورفع شماغي عن رأسي
وانزلها !!
قلت له : عماذا تبحث يافلان؟؟
قال : لا يعنيك!!
قلت : وكيف لا يعنيني؟؟
قال : أنت تخفي شيئا ولا ادري أين وضعته.. ولكن سوف أجده يوما!!
ثم أمرني بالخروج معه من المنزل ..
خرجنا وكان وجهه مسودا من الغيظ وهو كظيم ويكاد يفتك بي!!
ركبت للسيارة وأنا خائف منه ..
ولم نتكلم حتى اقتربنا من السكن ..
عندها دار في فكري شيء...!!
وفهمت ماذا يقصد وعماذا يبحث!!
قلت له : يافلان أما آن لك أن تعقل !!
أنت أحضرتني لبيتك وفتشتني وأهنتني ماذا تريد من ذلك؟؟
سكت ولم يجبني !!
قلت له : هل تظن أنني سحرت الشيخ وأنني اخفي السحر في جيبي؟؟
فالتفت إلي ونظر في عيني وكاد أن يوقف السيارة ولكنه نظر أمامه
ولم يتحدث بكلمة واحده!!
نزلت من سيارته وأنا خائر وحزين من فعل هذا الخائب..
ترددت في الاتصال على شيخنا ..
هل أخبره بما فعل ذلك الرجل؟؟
لم أصدق والله أن بلغت به الظنون هذا الحد!!
هل ياترى لو أخبرت الشيخ سيصدق؟؟
أليس من المعيب أن اشغل شيخنا بتلك التفاهات؟؟
خاصة بعد انتهاء مشكلتي مع الوالد قريبا..
حضرت الدرس تلك الليلة وأنا لا أكاد أشعر بما هو حولي ..
بعد صلاة العشاء انتظرت الشيخ ..
فسألني أين كنت اليوم؟؟
فقلت له : ذهبت مع فلان في بيته!!
فتعجب وقال : مع فلان؟؟ صحيح؟؟
كأنه فرح بذلك ..
ثم ناولني عباءته ودخل لدورات المياه .. حيث سيذهب بعد ذلك
لزيارة إحدى قريباته كما هي عادته..
لم يكن لدي فرصة للحديث معه أو إبلاغه بما فعل صاحبنا معي..
في اليوم التالي ..
لم أقابل الشيخ لصلاة الفجر ولا الجمعة ذلك اليوم...
حيث كنت تعبانا وكسولا ومتضايقا للغاية ..
رأيت الشيخ من نافذة غرفتي وهو خارج من المسجد من صلاة الجمعة
ومعه جمع من الناس ومنهم صاحبنا ذاك!!
بعد صلاة العصر .. مشيت مع الشيخ وقرأت عليه عددا من القواعد..
وحينما اقتربنا من منزله وكنت وحيدا مع الشيخ ..
لاحظت صاحبنا يسير بسيارته ويراقبني..
حيث مر بسيارته من أمام منزل الشيخ..
سلمت على الشيخ ثم رجعت للسكن..
وفي الطريق بدر لي أن ارجع للشيخ وأحدثه بما تم بالأمس..
فرجعت لبيته .. وطرقت الباب ...
فرد علي أهل الشيخ .. فطلبت منهم أن ينادوه...
فقالو لي: انتظر قليلا...
حينها .. مر صاحبنا بسيارته مرة أخرى فرآني واقفا أمام بيت الشيخ..
فأوقف السيارة و ترجل منها وتوجه نحوي..
فاقترب مني .. وصرخ في وجهي ..
وقال: ماذا تفعل هنا ؟؟
هيا أغرب عن وجهي ؟؟
فقلت له : أنا أمام بيت الشيخ ، وليس بيتك وهذا ليس من شأنك!!
فرفع يده فجأة..
ولطمني على وجهي بشدة فسقطت على الأرض..
وتبعثرت أوراقي ومسجلي..
فحمل المسجل وضرب به على وجهي فسقطت مرة أخرى ثم رمى به على جدار منزل الشيخ فتكسر ولم يعد ذا نفع..
ثم دفعني بشدة وعنف وقال : هيا اذهب وإلا فعلت بك وفعلت!!
حملت متاعي وأوراقي المبعثرة وتمنيت أن يخرج الشيخ فيرى ما حصل بعينه.. ورجعت للسكن وأنا أبكي من الألم والحسرة..
سبحان الله.. أهكذا العلم وهكذا حال طلبة العلم؟؟
وممن ؟؟ من أقرب الناس للشيخ ؟؟
واعيباه وفضيحتاه على العلم وطلبته!!
والله الذي لا إله سواه إنني أتحدث لكم ولا أكاد اصدق ما حدث وجرى
دخلت على سكن الطلبة وطلبت من علاء الدين أن يعطيني هاتفا..
فقال لي: مالذي حصل لوجهك؟؟
فقلت : دعني ياعلاء سأخبرك لاحقا..
فقال : إن هاتفي يستقبل ولا يمكن الاتصال منه..
ولكن اذهب لتلفون المكتبة فيمكنك الاتصال منه..
دخلت على مشرف المكتبة وهو الأخ عبيد الله الأفغاني وهو من أصحابي القريبين جدا مني..
فاستأذنته للاتصال على شيخنا لأمر هام...
فتفهم الأمر وعرف أن هناك كارثة حصلت معي!!
فاسـتأذنته أن أخلو بالتلفون ..
لم أكن ارغب أن يسمع الطلاب تلك المهزلة والفضيحة..
فخرج من المكتبة ولم يكن حينها سواه ورد الباب خلفه..
فاتصلت على تلفون الشيخ الخاص..
فردت علي أهله وحولتني للشيخ...
حينما سمعت صوته ، انفجرت باكيا ولم أستطع أن أنطق جملة واحدة مفهومة ..
فقال لي: ..
اهدأ وحدثني بما حصل ...
فرويت له القصة وما فعله طالب العلم ذاك معي..
فاسترجع شيخنا ، وعرفت الغضب والحيرة من صوته ..
وقال لي: سوف أرى مالذي سأفعله مع هذا الرجل..
ثم أغلق السماعة ....
-
الحلقة الثانية والأربعون
لم أحضر الدرس ذلك اليوم من الخوف والحياء..
ولم أخرج من غرفتي طوال ذلك اليوم وحتى اليوم التالي ..
صليت الظهر مع الشيخ ثم لحقته بعد الصلاة..
وكان الشيخ واجما ويستمع لأسئلة الناس حتى انتهوا وبقيت أسير
وحدي معه..
كانت الحيرة والغضب واضحة عليه..
لا شك أنني أردت منه أن ينصفني من ذلك الطالب المعتدي..
فهو حق لي ....
ولكن ما معنى ذلك؟؟
سيكون في ذلك فتحا لباب الأقاويل في الشيخ وطلبته حينها..
وهو مؤذ للشيخ ...
وهذا شيء لا أرضاه البتة ..
حتى ولو أدى ذلك لأذيتي والتعدي علي مرارا والله..
ومالذي يضيرني لو تحملت في ذات الله تعالى وطلب العلم أذية ؟؟
فقد أوذي وضرب وشتم وتعدي بل وقتل من هو اشرف مني
وخيرا وأتقى عند الله تعالى..
لم يطلب مني شيخنا شيئا ولم ينهني عن شيء ولم يخبرني مالذي
جرى بينه وبين ذلك الطالب..
..ولا أشك انه استدعاه واستوثق منه ما فعله..
فهو رجل قريب من الشيخ وهو طالب مجتهد في العلم إن لم يكن اعلم
طلبة الشيخ في بعض العلوم!!
فأي عار سيجلبه ذلك الرجل لنفسه ولشيخه ولحلقته ولطلبة العلم لو
أشيع الخبر حينها؟؟
لو طلب مني الشيخ أن أصبر وأصمت لفعلت ولكن سيبقى في نفسي
شيء!!
ولو أمرني بفعل شيء نحو أن أشتكيه أو شيخنا فعل ذلك لكانت
كارثة!!
لذلك سكت الشيخ وكأنه يشير لي أن القرار راجع إلي!!
ولا أدعي والله أنني كنت راشدا حكيما في أفعالي حينها..
ولكنني كظمت غيضي وفوضت أمري لله سبحانه..
وصمت ولم أشتكه للشرطة أو أي جهة تحاسبه..
وأنا أحمد الله تعالى أنني فعلت ذلك ..
فمنذ تلك المشكلة وأنا أشعر في نفسي أنني جزء من عائلة هذا العلم
الشهم الكريم الذي آواني وكفلني ..
فالحمد لله أنني لم أضيق صدره بشيء أو أن أفتح له بابا للمشاكل..
ولكن هل ارتدع ذلك الرجل السفيه عن غيه وعقل وتاب عما فعل..
دعوني أكمل فصول الرواية وأحداثها وستعرفون مالذي حدث!!
كما سبق لم يطلعني الشيخ عما جرى بينهما..
ولكنني أدركت بعض الأمور من خلال تصرفاته..
والتي من خلالها نستطيع استنباط ما يجري..
حيث انقطع رفيقنا عن الدروس لفترة طويلة !!
وتوقف عن القراءة على الشيخ في درس العصر..
بل لم يعد يصلي خلف الشيخ في المسجد كما هي عادته..
ورأيت بينه وبين الشيخ جفوة ..
وأنا لم آمر بذلك ولم تسئني !!
كما قال أبو سفيان رضي الله عنه.. !!
فبعد فعلته معي صرت لا أطيق رؤيته ولا أطيق مجاورته ..
وحينما رجع لحضور الدرس بقي سنوات يحضر الحلقة
دون أن ينطق بكلمة واحدة أو يكلمه شيخنا إلا ما ندر..
وكل ذلك من نتائج أفعاله المشينة معي حينها...
لقد سعى ذلك الرجل طوال بقائي في عنيزة في تشويه صورتي والنيل
مني سواء في عنيزة عند طلبة الشيخ أو لدى أقاربه وأهله وولده..
وكذلك لدى كل المشائخ الذين يصل إليهم دون أن يردعه دين أو خلق
أليس من المعيب أن يكون شغلنا نحن طلبة العلم أن نفتري على بعضا
بعضا ونشغل الناس بمثل هذه التفاهات..
لا يظنن جاهل أو مغفل أنني أردت بكتابتي عن تلك القصة النيل من ذلك
الطالب أو الانتقام من تصرفاته معي ..!!
إن هذا سيكون حسابه بين يدي رب العالمين سبحانه..
ولو قصدت ذلك لفضحته باسمه ولذكرت مخازيه باسمه..
وهذا مالا يليق بنا معاشر طلبة العلم وفي ذلك أذية لشيخنا ولأهله ..
فدعونا ياإخوتي نستفيد من تلك القصة دون أن ننشغل بمعرفة من هو
فلان أو فلان..
إن كل ما قصدته من كل ذلك هو رد جزء من جميل شيخي وأستاذي
ووالدي الشيخ محمد رحمه الله ورضي عنه ..
فدعوني احكي الحكاية واروي الواقعة بكل اطمئنان وراحة ضمير..
إن موقف شيخنا محمد معي هو موقف شريف ونبيل أريد أن أحكيه
للناس لتعرف فضله وعقله وسعة حلمه رحمه الله ..
أريد أن يعرف أبنائي و كذلك كل من اساؤا بي الظنون ممن قرب وبعد
أريدهم أن يدركوا ما حصل ويكفيني أن تبلغهم الحقيقة التي أدين الله
بها وبعد ذلك فالقرار راجع لهم وأمري وأمرهم لله تعالى..
لقد شحن ذلك المسكين نفوس بعض الناس حتى وصل بهم الحال أن
يفعلوا أفعالا لا تكاد تصدق..
سافر مجموعة من أصحابه بإيحاء منه للطائف من أجل أن يستوثقوا
عني لدى من يعرفني من المشائخ ..
وليتهم أكتفوا بذلك فليس هناك سوى ما يشرف والحمد لله ...
بل كذبوا وافتروا و صوروا لهم أنني في شهور بسيطة قد صرت أقرب
الناس للشيخ فلا بد أنني استعملت وسائل غير شرعية وقصدهم أنني
سحرت الشيخ !!
ورجعوا لعنيزة ونشروا بين الناس أنهم وجدوا سر المسألة
وكيف أنني سأكون خطرا على الشيخ وولده وأهله ..
اختلفت آراء أولئك السفهاء ..
فمنهم من قال : هو ساحر ..
ومنهم من قال : بل هو جاسوس ..
ومنهم من قال : هو !!!
والذي أريد أن يعرفه هؤلاء ممن يقرأ هذا الكلام اليوم أنني طوال
بقائي في عنيزة لأكثر من عشر سنوات والذي لا إله سواه لم اسمع
شيخنا يقول كلمة واحدة عن سحر أو جاسوسية لا عني ولا عن أحد
من طلبته فهو رجل عاقل وحصيف ويخشى الله تعالى في أعراض
الناس ويعرف أنه موقوف بين يدي الله ومسئول عن كل ما يقوله
فليعد أولئك جوابا لربهم عما قالوه وافتروه ..
وليأتوا بالبرهان إن كانوا صادقين ..
لم يرو لي الشيخ ما يقوله هؤلاء عني ولم اسمعه يتكلم به معي أو
مع غيري لا من قريب ولا من بعيد ولم يحاول الإستيثاق من ذلك
فهذه شهادة شرف أعتز بها من الشيخ رحمه الله..
كان الشيخ يقول لي : أنت مثل ابن عباس رض الله عنه حينما قال:
أدركت العلم بثلاث (بقلب عقول وجسم غير ملول ولسان سؤول) أو كما
قال رضي الله عنه..
لم يشتغل الشيخ ولم يشغلني بمثل هذه الخزعبلات ..
بل كان وفيا معي وبعهده الذي قطعه لوالدي بأن يرعاني وأكون تحت
نظره وتربيته ..
جاءت أيام الدراسة فدرست في ثانوية ابن سعدي وبالكاد تخرجت من الثانوية..
حيث أن نفسي طابت من الدراسة النظامية ولولا ضغط الشيخ علي
لتركتها ولم أكمل مطلقا..
جاء رمضان ذلك العام ..1412 للهجرة..
حيث يتبع فيه شيخنا برنامجا صارما في قراءة القرءان
وتتوقف دروسه تقريبا سوى تدريس بعض الأبواب الفقهية التي
تتعلق بالصيام ورمضان..
حينما بلغنا الخبر برؤية الهلال ذلك العام ..
لم نتمكن من صلاة التراويح ليلة الأول من رمضان ..
فلم يبلغ الناس إلا متأخرين وأظنهم أعلنوا ذلك في آخر الليل ..
في ذلك الصباح استقبلت الشيخ وهنأته بالشهر الفضيل ..
وسألته عن برنامجه ؟؟
فقال : سأجلس أقرا القرءان في المسجد..
قلت له : سأبقى معك ..
قال: لا دروس سوى قراءة القرءان فحسب..
فقلت : نعم سأفعل إن شاء الله..
وكنت حينها مرهقا ومتعبا ولم انم أغلب الليل ..
صلى الشيخ الفجر ذلك اليوم ثم بعد التسبيح والذكر ..
دخل لمصلى الجمعة الذي في مقدمة المسجد..
ورمى عباءته على الأرض وابتدأ في قراءة القرءان وهو يسير
ذهابا وإيابا..
فقرأ عشرة أجزاء .. حيث يختم كل ثلاثة أيام ..
فتكون ختمته في الشهر عشر ختمات ..
ولو شاء لختمه كله في يوم واحد ولكنه يرى أن السنة أن لا يقل عن
ثلاث لحديث عبد الله بن عمرو ابن العاص.. المعروف..
و بما انه ينزل لمكة ويمكث العشر في الحرم تدريسا وإفتاء
ولكثرة أشغاله وضيق الوقت فهو يقرأ أيضا بعد صلاة العصر ليعوض
عن نفسه الختمات التي يريد أن يقرأها في مكة ..
ومن عمل شيخنا انه يواظب على الشيء إذا فعله مهما كانت الظروف
ويحترز لذلك .. رحمه الله رحمة واسعة..
طلب مني الشيخ أن أراجع حفظي ثم بعد ذلك يسمع لي حينما ينتهي
من قراءة حزبه .. في المسجد أو ونحن نسير لبيته..
حيث لا يكون أحد سوانا..
ويكون ذلك بعد انقضاء حوالي ثلاث ساعات من بعد الصلاة..
كانت لحظات روحانية أجد المتعة واللذة في استذكار تلك اللحظات
الجميلة ..
أذكر أن تلك الأيام كانت باردة ولذلك يلبس شيخنا عباءته الغليظة
ذات اللون المسمى ( العنابي ) !!
وكنت أتدثر بعباءتي وأقرأ القرءان ويصيبني النعاس أحيانا..
فأنام فيرفع شيخنا صوته بالقرءان كأنه يوقظني فأستيقظ وأكمل
حزبي..
حاولت مرارا أن أفعل مثل الشيخ وأسير في المسجد كما يسير هو
ولكنني تعبت وعجزت ..
وهو يفعل ذلك لكي لا ينام وينعس ولا يكسل ..
ذات مرة في تلك الأيام ونحن نسير لبيت الشيخ وحولنا هدوء وسكينة
فالناس كلهم هجوع..
والأسواق والشوارع خالية من الناس والسيارات ..
فلا تسمع سوى سقسقة وتغريد العصافير..
طلبت من الشيخ أن يحدثني عن نفسه ..
وعن حياته في شبابه ..
فأخذ يروي لي أشياء جميلة سأذكرها في الحلقة القادمة
بحول الله تعالى ...
-
الحلقة الثالثة والأربعون
ذات يوم من أيام رمضان المبارك تلك..
وبعد أن أكمل الشيخ حزبه من القرءان في الصباح..
دعاني لكي يراجع لي حفظي ..
فكنت أقرأ عليه ويفتح علي إن أخطأت ..
وكنت أمشي بجواره بين زوايا المسجد ..
دنا الشيخ من النافذة في الزاوية الغربية من الجامع..
ثم توقف قليلا!!
وأخذ يمعن النظر في مسجد الطين القديم الذي بني منذ زمن بعيد
يتجاوز القرن من الزمان وما زال حتى تلك الأيام يصلى فيه ..
قال لي الشيخ : أتدري؟؟
لقد حفظت القرءان في هذا المسجد ..
عند عمي سليمان آل دامغ رحمه الله ..
وكنت مؤذن هذا المسجد الصغير لفترة من الزمن...
قلت له : كم كان عمرك حينما حفظت القرءان ؟
قال : حوالي العشرة أعوام..!!
ثم أكملت تسميع حزبي .. وخرجنا من الجامع..
وكان الوقت حينها ضحى ..
ونكاد نسير لوحدنا في كل الطرق التي مررنا بها..
أخفيت مسجلي الجديد في جيبي ..
وقلت للشيخ : ياوالدي هل يمكن أن تحدثني عن شبابك وحياتك في
صغرك.. ؟؟
فتنفس الشيخ الصعداء ثم أخذ يروي لي في عبارات رقيقة ومعاني
سامية لا تحضرني جميعها ...
ولكن سأنسجها من ذاكرتي وأضيف عليها أشياء رواها الشيخ لي
في مواقف أخرى وهي بذات مضمون ما قاله.. دون زيادة أو مبالغة..
ولو كانت عندي مكتوبة أو مسجلة لرقمتها لكم بحرفها ولكن للأسف
لم يبق سوى ما في ذاكرتي وبالكاد تجود معي بشيء!!
قال رحمه الله:
كانت عائلتنا فقيرة .. كأغلب العوائل في عنيزة حيث مر على الناس
جوع ومخمصة لقلة الأمطار ولندرة المال، ولانعدام الأمن ، حيث يعجز
الواحد أن يخرج من عنيزة لبريدة أو لأي مدينة أخرى حينما يحل
الظلام .. خوفا من السراق وجماعات النهب والسلب...
كانت عائلتنا تملك بقرة حلوب نشرب من حليبها ولبنها ونتغذى من
سمنها ولحمها في المواسم.. كما هو الحال في كل بيوت عنيزة..
وكان والدي يذهب نهارا للوادي لكي يزرع ويسقي نخله وغرسه..
فكنت أساعده في شؤون عمله ..
حبب الله تعالى لي العلم وطلبه قبل أن تنشأ المدارس النظامية
والمعاهد، فالتحقت بحلقة شيخنا ابن سعدي رحمه الله مرورا بدروس
بعض تلاميذه الكبار اللذين كانوا يدرسون مبادئ العلوم لصغار الطلبة
ومنهم أنا (يعني الشيخ نفسه..)
فكنت أحرص على الجمع بين الطلب ومساعدة الوالد رحمه الله..
استمر الشيخ عدة سنوات في الدراسة على شيخه ابن سعدي
وأقبل الطلبة عليه من عنيزة وخارجها ..
حيث هو علامة القصيم حينها بلا منازع..
يقول الشيخ : كان شيخنا ابن سعدي رجلا حليما ورحيما بطلابه فكان
يشجعنا على الطلب بكل ما توفر له من إمكانات ..
فكان يثير جو المنافسة بين المجموعات بالمناظرات والمجادلة
والمحاورة ، فيكافئ المجموعة الفائزة أو الطالب المجد بحفنة من
تمرات الرطب أو العنب أو بمكافأة مالية رمزية ..
وكان الشيخ في دروسه يبسط الكلام ليستوعب الصغير والكبير عنه
ويحاور طلابه ويمازحهم أحيانا في دروسه ، مما يثير جو الحرص
وحب الاستماع والاستفادة من علمه وأدبه ..
وكان الشيخ يزور الطلبة في بيوتهم ويحضر مناسباتهم ويعود مرضاهم
يقول شيخنا : كانت مكتبتي حينها عبارة عن غرفة صغيرة ، انحشر
فيها وتصعب علي فيها الحركة سوى بمشقة ولها كوة صغيرة تشرف
على زريبة البقر ولم أكن أتأذى من روائحها النتنة لأنني لا أشم
أصلا!!
أراجع في مكتبتي المتواضعة دروسي من كتاب الروض وتفسير
الجلالين وغيرهما ..
يقول الشيخ : ثم مرت بعد ذلك فترة من الركود العلمي فتضائل عدد
الطلاب عند الشيخ ابن سعدي...
وشغل الناس بأمور سياسية ومذاهب فكرية كالناصرية والقومية
العربية الاشتراكية وغيرها بسبب الإعلام المنحرف والموجه..
وانفتحت أبواب التجارة والعمل والتعليم في الجامعات والمعاهد
فهاجرت كثير من العوائل للمدن الكبرى كالرياض والمنطقة الشرقية
وغيرها...
يقول الشيخ : ثم إنني أصابني ما أصاب الناس فانصرفت عن دروس
الشيخ واشتغلت بالزراعة في الوادي مع الوالد ..
قلت له : كم الفترة التي انقطعتم فيها عن العلم؟؟
قال : خمس سنوات تقريبا!!
قلت له : وماذا كنت تعمل حينها ؟؟
قال: أزرع واحصد ولم أكن أذاكر أو أراجع العلم الذي حصلته عن
الشيخ ابن سعدي، وكدت أنسى القرءان غير أنني كنت أراجعه وأنا
أسير على حماري إلى الوادي!!
ولولا ذاك لنسيته ولكن الله سلم..
يقول الشيخ: ولم يكن يحضر حلقة الشيخ بن سعدي سوى عدد بسيط
من كبار طلبته ، ومع ذلك صمد الشيخ واستمر في التعليم والتأليف
والإفتاء.. والخطابة وتدريس العوام ..دونما انقطاع.. رحمه الله
رحمة واسعة..
يقول شيخنا: ثم إن الله تعالى حينما أراد بي خيرا ..
جئت يوما لجامع الشيخ ابن سعدي وحضرت درسه لأول مرة منذ
سنوات ..
فما عاتبني الشيخ ولا نهرني لانقطاعي ولم يقل لي:
لم غبت ؟؟
أو لم تركت العلم؟؟ أو نحو ذلك ...
مما أثر في نفسي وحبب الشيخ ابن سعدي لنفسي..
فرفع ذلك السلوك من الشيخ همتي ..
و توجهت بكل جوارحي للعلم ، فزاحمت الكبار وثنيت الركب بين يديه
وحصلت من علمه وأدبه ما فتح الله علي به ، فحزت رضاه وإعجابه
فقربني وخصني بدروس لي خاصة أو مع خاصة تلاميذه..
فقرأت عليه متونا كثيرة في الفقه والتفسير والأصول والنحو والصرف
والحديث والمصطلح وغيرها من العلوم النافعة..
وحصل أن انتقلت عائلة الشيخ محمد لمدينة الرياض ..
فطلب الشيخ ابن سعدي من والد الشيخ محمد كما سبق وذكرنا أن يبقى
شيخنا في عنيزة ليكمل طلبه للعلم ، حيث رأى الشيخ فيه علامات
النبوغ والنباهة فحرص على بقائه ليستمر في التحصيل وهذا ما كان..
و بعد سنوات افتتحت المعاهد العلمية..
فاستأذن شيخنا من شيخه ابن سعدي أن ينتقل للدراسة
في المعهد العلمي في الرياض ..
فأذن له شيخه ..
يقول شيخنا ..
حينما دخلت قاعة الدرس في المعهد العلمي في الرياض ..
وتغيرت علي وجوه الطلبة اللذين عهدتهم ..
وكان الجو الدراسي وطرق التدريس مختلفة عما أعتدت عليه ..
تنكرت علي الأمور وضاقت علي نفسي ..
وندمت على حضوري للرياض..
وكان يجلس بجواري شاب كفيف خلوق وطيب فأحببته واستأنست به
منذ أول لقاء به..
وهو الشيخ العلامة عبد الرحمن البراك العالم المشهور ..
يقول الشيخ : ونحن في القاعة وأنا أتحدث مع صديقي وجاري
دخل علينا رجل بدوي الهيئة اسمر البشرة رث الثياب ..
وجلس على مقعد التدريس فقلت في نفسي:
الآن أترك شيخنا ابن سعدي وعلمه الواسع وطيبته وأريحيته
وسماحة نفسه ..
وكنت في بلدي وديرتي وبين أقاربي وأصحابي
أترك كل ذلك من أجل أن أتعلم عند هذا الإفريقي البدوي..؟؟
ياضيعة العلم والعلماء..
يقول الشيخ : ثم إن هذا الأعرابي بدأ في الكلام ..
فحمد الله وصلى على رسول الله ..
وتكلم في فنون العلم وصنوفه من حفظه بلا كتاب
فشرق وغرب وتلا الآيات ونقل أقوال المفسرين والفقهاء ..
وخلافاتهم ، قديمها وحديثها..
وذكر الأحاديث بأسانيدها وشواهدها والحكم عليها..
وروى الأشعار والشواهد والنصوص الطويلة.. الهائلة وتفجرت أنهار العلوم من بين جنباته
و تدفقت من لسانه كالسيل الهادر ..
علوم وأقوال لايكاد يحويها صدر عالم لقيناه أو عاصرناه..
فلله دره ..
ما أقوى حجته ..
وما أسد بيانه ..
وما أرفع كعبه في العلم وبيانه ونقله ..
رغم احتقارنا لهيئته أول الأمر ..
يقول الشيخ : ففرحت بذلك أيما فرح ..
وشكرت الله تعالى أن تمكنت من لقيا هذا الجبل الأشم والبحر الزاخر..
إنه العلامة المفسر الفقيه النحوي الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله رحمة واسعة..
صاحب التفسير الكبير تفسير أضواء البيان..
أستفدت من علمه في التفسير والأصول والنحو وغيرها..
يقول الشيخ: ولازمت دروس سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عليه رحمة الله ..
فقرأت عليه جزءا من صحيح البخاري وأبواب الفرائض..
وقد أهتم بي الشيخ وخصني بدروس في منزله
فقرأت عليه عددا من المتون في قواعد التفسير والحديث وغيرها..
وحسبك بهذين العالمين الجليلين علما وفقها وسعة اطلاع ..
عليهم وعلى شيخنا سحائب الرحمة والرضوان..
-
الحلقة الرابعة والأربعون
بعد أن أكمل شيخنا دراسته في المعهد العلمي في الرياض..
رجع لموطنه عنيزة ..
ومكث في هذه المدينة الهادئة الوديعة طوال حياته..
وحينما افتتح المعهد العلمي في عنيزة عين شيخنا مدرسا فيه..
وأكمل دراسته بالانتساب في كلية الشريعة في الرياض..
أصيب الشيخ ابن سعدي بعارض صحي فسافر للعلاج إلى لبنان..
فتعافى .. ولكن المرض عاد له بعد فترة من الزمن..
فأرسلت طائرة الإخلاء لنقله فتوفي قبل أن ينقل للرياض..
وذلك في عام 1376 للهجرة..
واحتار الناس فيمن يخلف الشيخ ابن سعدي في الإمامة في الجامع الكبير والخطابة والتدريس في حلق المسجد..
ووقع اختيار عدد من الوجهاء على الشيخ محمد ..
رغم أنه لم يكن أكبر الطلبة سنا أو أقدمهم في حلقة الشيخ ابن سعدي..
وتبين للناس بعد حين أن اختيارهم لشيخنا كان توفيقا وتسديدا من الله تعالى ..
سبب موت العلامة الفقيه ابن سعدي رحمه الله فراغا في التعليم
الشرعي ، ولكن لم يطل الوقت حتى سد شيخنا مسده بل كاد يجاوز شيخه أو قد فعل!!
سلك شيخنا أسلوب الشيخ ابن سعدي في الإلقاء حيث التبسيط والتركيز على الكيف لا الكم..
والعجب من بعض طلبة العلم في زماننا هذا ..
ترى الواحد منهم يسوق في الدقيقة الواحدة كما كبيرا من المسائل والنقولات ولا يكاد يستوعب الطلبة من أستاذهم سوى النزر اليسير من علمه.. !!
يقول ابن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما..
في قوله تعالى ( وكونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) قال هم من يبدؤون بصغار العلم قبل كباره..
قال لي احدهم يوما: ما بال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في دروسه التي نسمعها على الأشرطة فيها كأنه يدرس أطفالا لا طلبة علم ؟؟
قلت له : أنت تبالغ في كلامك.. لكن الشيخ يبسط المسألة لأن أفهام الناس تتفاوت فيستفيد من كلامه الطالب المبتدئ و كذلك الطالب المجد النهم .... فهي ربوع نظرة وبساتين عامرة كل يقطف منها ما
يسد حاجته ويروي عطشه ..
لقد ورث شيخنا هذا الأسلوب عن شيخه ابن سعدي والشيخ ابن سعدي
أخذ هذا الأسلوب عن الشيخ محمد الشنقيطي وليس هو صاحب أضواء البيان بل هو أحد العلماء اللذين مروا على عنيزة في طريقهم لمدينة الزبير في العراق حيث تتلمذ عليه الشيخ ابن سعدي في فترة بقاءه
في عنيزة واخذ عنه سند رواية الكتب الستة متصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وبهذه المناسبة يسرني أن أزف هذه البشرى لطلبة شيخنا ابن عثيمين رحمه الله جميعا ممن تتلمذوا على يديه وحضروا دروسه واستحقوا أن يطلق عليهم عرفا أنهم تلاميذ لديه بأن لهم جميعا نسبا شريف
متصلا برسول الله صلى الله عليه وسلم !!
هو خير الأنساب وأفضل وأزكى عند الله لمن اتقى!!
من نسب الرحم والقرابة ..
ولهذا النسب وتدوينه قصة سأحكيها لكم لاحقا ..
ومضمونها أنه حينما ابلغني الشيخ رحمه الله بإصابته بمرض السرطان في القولون تألمت لذلك أشد الألم وحز في نفسي وتكدرت علي أموري ..
فكتبت له هذه الورقات ومعها أوراق أخرى وفيها أبيات شعرية نظمتها
وسلمتها له ..
ففرح بها الشيخ وأثنى عليها ويسعدني أنها كانت سببا لإدخال السرور على نفسه رحمه الله رحمة واسعة والآن دعوني أذكر السند والذي أطلقت عليه (نسب العلماء )
علما أن الفضل يعود بعد الله في تدوين هذا النسب للشيخ العلامة عبدالله البسام رحمه الله
حيث نقلت أغلب ذلك النسب النبيل من تحفته النادرة الطراز
(تاريخ علماء نجد خلال ثمانية قرون)
قلت فيها :
هذا هو نسب شيخنا وأستاذنا العلامة الفقيه المفسر النحوي ..
الشيخ محمد بن صالح العثيمين ..
وقد أخذ العلم عن شيخه العلامة عبد الرحمن الناصر السعدي ..
وهو أخذ العلم عن الشيخ صالح بن عثمان القاضي..
وهو أخذ العلم عن الشيخ عبد الله بن عائض..
وهو أخذ العم عن الشيخ علي بن محمد بن علي قاضي عنيزه
وهو أخذ عن الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين مفتي نجد المشهور
وهو أخذ عن الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الإحسائي..
وهو أخذ عن العالم الشهير محمد بن فيروز وهو أخذ عن والده عبدالله بن فيروز ..
وهو أخذ عن والده محمد بن فيروز الجد..
وهو أخذ عن عبد القادر التغلبي ..
وهو أخذ عن محمد البلباني وعن الشيخ عبد الباقي والد أبي المواهب...
وهما أخذا عن العلامة منصور البهوتي .. صاحب الروض..
وهو أخذ عن يحي بن موسى الحجاوي ... صاحب الزاد..
و عن الشيخ أحمد الوفائي وهما...
عن الشيخ موسى الحجاوي صاحب الإقناع ...
وهو أخذ عن الشيخ أحمد الشويكي...
وهو أخذ عن أحمد العسكري..
وهو أخذ عن علي بن سليمان المرداوي العلامة المشهور منقح المذهب الحنبلي ..
وهو أخذ عن ابن قندس...
وهو أخذ عن ابن اللحام...
وهو أخذ عن الحافظ ابن رجب الحنبلي..
وهو أخذ عن شمس الدين ابن قيم الجوزية ...
وهو أخذ عن شيخ الإسلام ابن تيمية ....
وهو أخذ عن شيخه شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر صاحب الشرح الكبير..
وهو أخذ عن عمه موفق الدين ابن قدامة ...
وهو أخذ عن شيخه العابد الزاهد عبد القادر الجيلاني...
وعن الحافظ ابن الجوزي وعن ابن المنى الفقيه المشهور وهم ..
أخذوا عن أبي الوفاء بن عقيل صاحب كتاب الفنون..
وعن أبي الخطاب صاحب الهداية...
وهما عن القاضي أبي يعلى...
وهو أخذ عن أبي حامد ...
وهو عن أبي بكر بن عبد العزيز غلام الخلال...
وهو أخذ عن أبي بكر بن الخلال...
وهو أخذ عن المروزي وأولاد الإمام أحمد بن حنبل صالح وعبدالله...
وهم أخذوا عن الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنه....
وهو أخذعن أئمة ومنهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي...
وسفيان بن عيينه وهما عن عمرو بن دينار والإمام مالك بن أنس....
وهو أخذ عن نافع مولى ابن عمر...
وهو أخذ عن صاحب رسول الله الفقيه عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما...
وهو أخذ عن إمام المتقين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم....
هذه سلسلة كريمة مليئة بالنجوم الزاهرة وبالكرام الأولياء وعلى رأسهم رسولنا وحبيبنا سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله الهاشمي عليه افضل الصلاة والسلام أهديها لكل طالب علم درس على يد شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله..
-
الحلقة الخامسة والأربعون
في أيام رمضان تتوقف الدروس في الجامع سوى تلك التي تعني
بالشهر الفضيل
والصوم والوعظ ونحوه.. كما سبق بيانه ..
في طريق عودة شيخنا للمنزل قبيل غروب الشمس حيث يمكث لقراءة حزبه في المسجد ..
يدعو الشيخ كل من رآه من طلبته وغيرهم لمرافقته لتناول الإفطار في منزله...
أما أنا فكنت افطر كل يوم من تلك الأيام في بيته..
وقبل أذان العشاء بقليل يتوجه الشيخ مشيا على قدميه للجامع ..
ويصلي بالناس العشاء والقيام ..
و يقرأ كل ليلة نصف جزء من القرءان تقريبا
ويصلي إحدى عشرة أو ثلاثة عشر ركعة كما هي السنة..
يختمها بقنوت خاشع وخاضع .. ولا يقنت أحيانا قليلة..
بقيت في عنيزة خمسة عشر يوما أو ثمانية عشر يوما تقريبا ..
ثم استأذنت شيخنا للذهاب للطائف لزيارة العائلة والبقاء عندهم..
حتى قدومه لمكة.. حيث أرغب في رفقته وصحبته هناك ..
فقال الشيخ لي: على بركة الله .. واللقاء في مكة..
فرحت بهذا الشرف حيث سأكون رفيقا لشيخنا في تلك الأيام الفضيلة..
حجزت من مطار القصيم مرورا بالرياض إلى الطائف ..
وأكدت الحجز بمشقة كبيرة ..
ودعت شيخنا بعد صلاة الفجر و أوصلني أحد رفقائي للمطار ضحى..
وكانت تلك أول سفرة لي للطائف بعد ذهابي لإحضار حاجياتي..
وصلت للمطار .. وتوجهت لكاونتر السفر ..
فقال لي الموظف: الطائرة تأخرت !!
فقلت له: وكم ساعة تأخرت؟؟
قال : لا ندري ؟؟
ولكن طائرتكم المغادرة للرياض سوف تذهب أولا من الرياض إلى منطقة الجوف
ثم تعود للقصيم لتنقل المسافرين إلى الرياض...ّ!!
وهي حتى هذه اللحظة لم تغادر من الرياض والمفروض أنها غادرت فجرا ..
ونصيحتي لك تبدل حجزكم لجده .. فهي مغادرة بعد ساعتين....
ترددت بين الخيارين ..
ولكن في النهاية عزمت على البقاء للسفر على رحلتي الأصلية ..
حيث أن رحلتي المغادرة من الرياض للطائف ستكون قريبا من العصر..
فأملت أن أدركها ..
ألح علي أحد زملاء السكن أن أسافر على جده فهي أضمن ولكنني أبيت !!
غادرت رحلة جده حوالي الساعة الحادية عشرة حيث تأخرت قليلا ..
انتظرت رحلتي في المطار من الساعة الثامنة صباحا وحتى قريبا من العصر ..
وبلغ بي الجهد والانتظار والملل مبلغه ..
حيث لم يعد لي أي خيار آخر سوى تلك الرحلة ..
وأخيرا جاءت طائرتي حوالي الساعة الخامسة عصرا... ولم تكد تصل..
انطلقنا للرياض .. ووصلنا بعد أربعين دقيقة ..
ولكن للأسف رحلة الطائف كانت قد غادرت الساعة الثالثة عصرا!!
توجهت لكاونتر المبيعات لأستفسر عن الرحلة التالية للطائف..
فوجدت طوابير هائلة من البشر تقف في صفوف مبعثرة وغير مرتبة ،
يستجدون موظفي الخطوط العابسين المشمئزين!!
وقفت مع الناس حتى أذن علينا المغرب فغادرنا الموظفان الكريمان دون أن يخبرا الناس .. أين وجهتهما !!
وبقينا حوالي النصف ساعة والأرتال واقفة فيهم الكبير في السن والمريض وصاحب الحاجة ، ولا تسل عن تأفف الناس وتضايقها ؟؟
وأخيرا رجع أصحاب السعادة وهم فرحون ويتمايلون ويضحكون بعد
تناول وجبة الإفطار وأداء الصلاة طبعا بكل خشوع واطمئنان !!
ولا بأس قليلا من نيل قسط من الراحة والاسترخاء ومعرفة آخر الأخبار !!
عاد صاحبانا وهما يمضغان العلك!!
ليرطبا نسماتهما الزكية من روائح الطعام الشهي واللذيذ !!
كانا في قمة النشوة والنشاط بحيث أنهما لم ينهيا سوى عدد ضئيل من
المسافرين( الضعفاء) حتى أذن عليهما لصلاة العشاء، فانصرفا راشدين فخورين
لأداء صلاة الفرض ومعها ربما !!كم ركعة من التراويح!! ليروحا عن نفسيهم
من عناء العمل والمكدة على الناس!!
قد يقول البعض أنني أبالغ ولكن والله هذا ما حصل ذلك اليوم..
وهو شيء مشاهد للأسف ولا يخفى على الجميع..
ونراه ونشاهده بوتيرة مختلفة من مطار لآخر ومن زمن لآخر ..
والله من وراء القصد..
أذكر مرة أنني كنت في ماليزيا ذلك البلد الآسيوي العملاق ..!!
وأسميه عملاقا ليس بسبب حداثته وتطوره فحسب !!
بل لثقافة شعبه المسلم والمتمسك بقيم الحضارة مع تمسكه بدينه ومبادئه!!
كنت بصحبة عدد من الأصحاب في منطقة اسمها (قنتن هايلاند ) وهي منطقة
ساحرة وخلابة تقع في شرق العاصمة كوالالمبور على بعد عشرين دقيقة تقريبا
(بالمناسبة !! سعر التذكرة على التلفريك شاملة ركوب الباص من العاصمة
وحتى محطة التلفريك مع ركوب التلفريك ، جميع ذلك ذهابا بخمسة ريالات فقط!!)
حينما وصلت مع أصحابي للطابور الواقف أمام العربات المعلقة والمسماة التلفريك ، هالني العدد الهائل من الناس ..
والذين يقفون في طوابير لا تكاد تعد ولا تحصى من البشر ..من النساء والأطفال والشباب والشيوخ..
فقلت لصحابي سنصل لأول عربة غدا إن شاء الله ..؟؟
فالتفت لي صاحبي وقال: أنت في بلد منظم ياعزيزي أنتظر وسترى !!
كان الصف يتحرك بانتظام وبدون توقف ولا يتقدم احد على الآخر كل يعرف سبيله وحدوده..!!
وصلنا لأول الصف بعد عشرين دقيقة تقريبا .. وهذا والله ما حدث!!
دعوني أكمل رحلتي فمالنا وما لماليزيا ؟؟
أخيرا وصلت لسعادة الموظف في كاونتر المبيعات ..
تصنعت ابتسامة وردية حتى أكسب وده وتعاطفه ورحمته..
وكأنني واقف في طابور للشحاته !!
تكلم معي دون أن ينظر لوجهي الكئيب!!
بكل برود وعنجهية قال :
مافي رحلات رح بر اصرف لك !!
فقلبت حساباتي ودرست وضعي النفسي والجسدي خلال ثانيتين !!
فلم يطق صاحبي الانتظار وقال لي : خلصنا يامطوع!!
قلت :يا أخي (وكدت أقفز من فوق الكاونتر واقبل يديه!! )
أنا مواصل من القصيم وتعبان .. شفلي أي مقعد ولو درجة أولى.. الله يخليك!!
قال ورفع يده ومسح بالأخرى على قفاه : رح سجل انتظار وبعدين أشتري
التذكرة من عندي!!
قلت وأنا أمسح بيدي : طيب لا مشكله ، بس إن رجعت عندك هل يجب علي
أمسك الطابور مرة ثانية؟؟
قال: طبعا !!
هذا النظام!!
ثم أمرني بالانصراف لينهي من بعدي من البؤساء!!
توجهت أجر ذيول الخيبة للكاونتر المذكور..
ويالله العجب !!
كل الوجوه عابسة ذلك اليوم ..
العسكر والموظفون و حتى عمال النظافة ..
أعوذ بالله ...كأننا في حرب ولسنا في مطار ..
حينما عبرت من عند نقطة التفتيش .. الداخلية ..
لم أجد مكانا لأقف عنده.. من الزحام وكثرت الرائح والغادي!!
ولا يكاد المرء يجد مساحة للهواء ليتنفس الهواء النظيف !!
كنت كلما مر بجواري موظف رسمي أمسك به و اسأله أين كاونتر الانتظار؟؟
يقول لي أحدهم .. يمين !!
والآخر يقول هناك أمامك ..
وآخر ينظر لي شزرا وباحتقار ولا يرد علي ..!! كأنني قتلت أباه وأمه!!
ولكن أخيرا دلني عامل النظافة جزاه الله خيرا ..!!
ويا للعجب ..
حينما وصلت للكاونتر .. رأيت أكداسا من البشر أغلبهم من الجاليات الآسيوية من الهند وبنغلادش وسيرلنكا وغيرها من البلدان ..
وأغلبهم بلباس الإحرام ..
مكدسة أمام موظف واحد لا تسل عن وصفه وعن ملامحه ؟؟
وعن تجهمه المفرط ؟؟
حينما ترى صفوفا من هذا النوع فالوسيلة الوحيدة للوصول للموظف ..
هو أن تخترق الأرتال بالدفع عن اليمين والشمال والمزاحمة وشد الشعور واللطم أحيانا!!
وإلا فوا لله لن تصل إليه أبدا..
أما أنا فبقيت واقفا بكل أدب أنتظر دوري ..
وكنت كلما اقتربت للموظف جاءت أمامي طوابير جديدة
فيعيدني العسكري الأسمر ذو الشوارب الذابلة !!
قائلا: من أول الصف يامطوع!!
شاهدت عاملا توجه لموظف الخطوط ويظهر انه مسئولهم أو مديرهم
فانكب على يده يقبلها ويبكي ويتلوى ويرفع تذكرته ويقول..
والله أنا من ثلاثة يوم مافي أكل وشرب ولا نوم أبغى أسافر للدمام..!!
فقال الموظف بعد أن شعر بالحرج من نظر الناس وتجمعهم لهذا المشهد المخزي!!
المشكلة من الكفلاء يرمون هذولا المساكين ولا يؤكدون حجوزاتهم!!
رمى السيد المشكلة على الكفلاء نور الله قلوبنا وعقولنا ؟؟
في كل مكان ترى الهمج من شبابنا للأسف !!
وقف مجموعة من الفتية متوسطي الأعمار والمراهقين!!
مستغلين تلك الفوضى والهرج والمرج !!
ودلوا رؤوسهم من فوق السور العلوي
في أعلى المطار فوق كاونتر الانتظار مباشرة !!
وصرخوا على العمالة المسكينة المتجمهرة أمام الموظف وقالوا لهم: تبغون
تسافرون مكة؟؟
روحوا هناك فيشيرون عليهم للكاونتر المجاور ..
فيتراكض الضعاف ويحدثون جلبة .. ثم يكتشفون أنهم خدعوا !!
فيعودون مرة أخرى ..
فيتمايل أولئك الفتية بالضحك والمزاح!!
مع أنه يحيط بموظف الخطوط مجندين من الشرطة بزعم تنظيم الصفوف والأرقام.. !!
وهيهات!! فهما لا يتحركان ساكنا وكأن الأمر لا يعنيهما ..
إن وظيفة هذين الأخوين الكريمين كما شاهدت بعيني هو السوالف والحديث مع بعضهما أو مع موظف الخطوط ولا بأس من التوسط لصديق أو قريب على حساب المساكين اللذين لهم الله تعالى!!
لا أريد أن أطيل عليكم وقد فعلت !!
بقصة فارغة وطويلة قد لا تكون مفيدة ..
ولكن يعلم الله تعالى أنني لم أصل للطائف سوى بعد مرور أكثر من أربعين ساعة من الانتظار والعذاب أخلف الله علينا خيرا !!
-
الحلقة السادسة والأربعون
حينما صعدت للطائرة المتوجه لجده..
لا أذكر سوى شيئين اثنين : جلوسي على المقعد .. ثم شعوري بهبوط الطائرة الجانبو العملاقة على أرض المطار !!
حيث استسلمت لنوم عميق مر علي كخفقة جناح!!
من التعب والإرهاق ..
نزلت من الطائرة وتوجهت لسيارات الليموزين وطلبت من السائق أن يقلني لمحطة التكاسي ..
وصلت للمحطة فوجدت عددا من الرجال المتجمهرين في مدخل المحطة
و ينادون في الناس .. مكة مكة الطائف .. أبها .. !!
توجهت لمن نادى على الطائف .. فقلت لهم : أريد الطائف ..
فأحاطوا بي كما يحيط السوار بالمعصم ..!!
وأخذوا يتلمظون بي كما تتلمظ الأفعى بفريستها..
هذا يقول : يالله اوديك مشوار.. وقال الآخر : كم تدفع؟؟
وقال الآخر بقي عندي راكبين ..
وأحدهم قال : مابقي عندي إلا راكب واحد ..
فقلت له : سأذهب معك أنت وين سيارتك ..
فحمل حقيبتي وقال: اتبعني...
وصلت لسيارته الكر يسيدا متوسطة الحال !!
موديل 82 !!
فوجدت السيارة فيها راكبين اثنين فقط !!
فقلت له : وين الركاب الآخرين ؟؟
قال: كانوا هنا وراحوا !!
بس اصبر دقايق ويجون ركاب بسرعة !!
قلت له : ياعم أنا مستعجل ولازم أمشي على طول ..
فقال : اصبر شوي لا تحرمنا من الرزق ..
انتظرت وكنت لا أكاد أستطيع الوقوف من الإعياء ..
ثم فكرت قليلا وقلت له:
اسمع سأدفع لك حق ثلاثة ركاب ويالله نمشي !!
وجدت المبلغ ليس بكبير وكنت مرهقا وأريد الوصول للطائف بأسرع ما يكون
فقال لي الرجل وهو في الخمسينيات من عمره وقد ملأ الشيب حواجبه
وشواربه وما بقي من لحيته وشعر رأسه!! :
طيب، خلاص هات بطاقة أحوالك حتى أسجل اسمك ..
ناولته البطاقة والمبلغ مقدما لثلاثة ركاب ..
فذهب للتسجيل ورجع بعد عشر دقائق ولم يعد وحيد
بل جاء ومعه راكبين !!
فقلت له : من هؤلاء ؟؟
فقال: ركاب !!
قلت : طيب ، أنا دفعت حق ثلاثة ركاب رجع لي قروشي اللي دفعتها
لراكبين !!
فقال : والله ما أحد قال لك تدفع !!
ظننت في البداية الرجل يمزح!!
ولكن رأيت علامات الجد بادية على محياه!!
شدهت من الموقف ، وبقيت أنظر له بحيرة ..
هل جن هذا الرجل ؟؟
كيف يستحل هذا المال ؟؟
وفي شهر رمضان ؟؟
أنا أكتب لكم إخوتي الكرام أخواتي الكريمات ووالله لو لم تحدث لي القصة
لكدت أن لا أصدق حدوثها ..
كيف طابت نفسه بفعل ذلك وبأي مبرر ؟؟
قلت له : ياعم كيف ترضى تطعم أولادك مال حرام؟؟
قال ويظهر أنه استصغرني : أركب وخلينا نمشي بدون كلام فاضي!!
العجيب أن الركاب قد شاهدوا ما حدث ولم يتكلم منهم أحد ..
لم يكن لدي فرصة لأن أفعل أي شيء فقد اخذ الرجل المبلغ وليس معي
مستند يثبت ذلك ويستطيع الإنكار بكل سهولة ..
لم أذق طعم النوم طوال الطريق من تصرف هذا الظالم ..
وأقسمت بعدها أن لا أركب مع سيارة أجرة تكسي أبدا وهذا ما فعلت!!
قلت له : أوصلني لبيت أهلي على اقل تقدير ..
قال : أوصلك مع الركاب للمحطة !!
هل كوني تركت الرجل يفعل ما يفعل دون أن أتصرف أو استرد حقي ولو
بالقوة هو جبن وخور حيث كنت ضعيف البنية؟؟
هل هو احترام لشيبته وكبر سنه؟؟
هل هو بسبب الشهر الفضيل وكوننا صائمين؟؟
هل هو بسبب ربكة الموقف وصغر سني وقلة خبرتي في الحياة ؟
ربما كل ذلك أو بعضه !!
هل أن الله تعالى أراد بحكمته وتقديره يعلمني أن الحياة كلها جهاد وكفاح
فلا تركن ياهذا ولا تطمئن ؟؟
كل ذلك وارد ..
وصلت للطائف ومنذ دخولي للمنزل ورؤية الوالدة الكريمة والوالد والإخوان
والأخوات نسيت كل ما مر علي من تعب ومشقة وإذلال ..
أول شيء فعلته بعد ذلك أنني اتصلت على الشيخ لأخبره بوصولي..
حيث أمرني هو بذلك ..حتى يطمئن من وصول الأمانة التي في عنقه لأصحابه
اتصلت عليه وسلمت عليه وبلغته بوصولي فتعجب حينما علم أنني لم أصل إل
بعد يومين!!
قلت له : ياشيخنا الحكاية طويلة وخلها على الله تعالى .. الحمد لله أنني وصلت
ثم ناولت الوالد السماعة والوالدة فكلمهما وسلم عليهما وقال للوالدة:
الله يجعله قرة عين لك!!
بقيت في الطائف عدة أيام واستمتعت فيها أيما استمتاع حيث أن الشمل قد
اجتمع بفضل الله ثم بفضل الشيخ..
لم يحدث شيء يستحق الذكر في تلك الأيام ،
استأذنت والدي ونزلت لمكة بعد أيام ..
لكي أقابل شيخنا هناك.. وأكون برفقته ..
في اليوم الموعود أحرمت من بيتنا ومررت بالميقات ومنه لبيت للنسك
ووصلت لمكة قبيل صلاة الظهر تقريبا ..
وكان موعدي مع الشيخ أن ألقاه قريبا من محراب الإمام حيث سيصلي خلفه
لمحت الشيخ وهو بالإحرام يسير متوجها لمقصده ومعه الأخ علي السهلي ..
وحدث موقف طالما تكرر معنا ..
حينما اقترب الشيخ من الصف الأول تقدم له جندي من الجنود ودفع الشيخ
وقال : صل ياحجي هناك!!
ولم يعرف الشيخ طبعا..
فتقبل شيخنا الأمر واستدار وأراد أن يرجع ،فلمحه المشائخ في الصف الأول
فعرفوه ..
فلحق عدد منهم الشيخ وأرجعوه وعنفوا الجندي المسكين ..
شيخنا رجل بسيط ولا يحب التعقيد وكثرة النقاش ..
أذكر مرة أننا كنا نريد الدخول لمواقف السيارات بجوار الحرم ..
فردنا الجندي وأبى كل الإباء أن يسمح لنا بالمرور ..
فرجعنا ولم ندرك الصلاة في الحرم بسببه ..
وكان بالإمكان أن نتصرف معه بوسائل أخرى!!
ذات مرة في طريق المدينة القصيم أوقف الشيخ رجل أمن ومعه أخاه عبد
الرحمن .. فقال له العسكري : هات هويتك ؟؟
فقال الشيخ : هويتي في حقيبتي وهي خلف السيارة!!
فقال العسكري: انزل وجب الهوية من الحقيبة ..!!
فترجل الشيخ وفتح الحقيبة وأخرج هويته للعسكري ..
فنظر لبطاقة أحوال الشيخ فقال : وين صورتك؟؟
وللعلم هوية الشيخ بدون صورة مكتوب مكان الصورة ( معفى) !!
فقال الشيخ : أنا معفى من التصوير!!
فقال الجندي وشك في القصة: ليش ؟؟
أول مرة يمر علي شخص معفى من التصوير!!
فقال الأستاذ عبد الرحمن : هذا الشيخ ابن عثيمين!!
فما عرف الرجل الشيخ وقال مستهزئا: كلكم شيوخ !!
وبالكاد أرجع الهوية وسمح لهم بالمرور !!
وهذه قصة قريبة حدثت لمجموعة من طلبة العلم من الأردن ..
وعددهم ثلاثة..
حيث ذهبوا لأداء العمرة وحضروا دروس شيخنا رحمه الله في مكة
وفي طريق عودتهم للأردن حدث لهم حادث مروري في المدينة واصطدمو
بإشارة مرور بسيارتهم العتيقة فأتلفوا الإشارة ولم تعد صالحة للاستعمال ..
فتحفظت عليهم إدارة المرور وأمر الضابط بحبسهم حتى يستوفى منهم قيمة
الإشارة كما هو النظام..
فمكثوا في الحبس عدة أيام دون نتيجة أو عفو وحاولوا وتلمسوا أن يسمح لهم
الضابط بالسفر للأردن وسوف يجمعون له مبلغ الإشارة التالفة ويحولونه له
بعد التعهد بذلك..
فرفض الضابط وقال لهم : يجب أن تدفعوا القيمة أو سوف أحيلكم للمحكمة !!
عندها قال أحدهم : لما لا نتصل على أحد المشائخ ونطلب منه العون فنحن
عابروا سبيل ولعل الله ييسر لنا فكاكا من الكرب الذي نحن فيه..
فوقع اختيارهم على الشيخ محمد لقرب العهد به ولعلمهم أن الشيخ لن يقصر
معهم إن شاء الله ..
ولكن المشكلة كيف سيصلون للشيخ؟؟
نادوا على الضابط واجتمعوا به في مكتبه وقالوا جميعا : نريد نتصل على الشيخ
ابن عثيمين !!
فقال : هل عندكم رقم هاتفه قالوا : لا !!
فقال : أعطوني اسمه كاملا !!
فقالوا : اسمه محمد بن صالح العثيمين .. فاتصل على آمر السنترال
فأعطاهم الرقم ..
وبعد معاناة ومحاولات مضنية لانشغال الخط رد الشيخ على الهاتف ..
فتكلم أحد الشباب من المجموعة .. وشرح للشيخ الموقف وأنهم طلبة علم
قد حبسوا بسبب الحادث ..الخ القصة..
فقال الشيخ : هات الضابط أتحدث معاه !!
فتحدث الشيخ مع الضابط واستوثق منه ، فأكد على ما قالوه ..
فقال له الشيخ : أطلق سراح هؤلاء الشباب وسوف أضمن لك كل المبلغ !!
فقال الرجل : والله لا استطيع إطلاقهم حتى يصلني المبلغ ..!!
فقال الشيخ : أنا ضامن لك أن يصلك المبلغ غدا إن شاء الله دع هؤلاء يذهبون
لأولادهم وذويهم ..
فأبى الرجل وأصر على ذلك ..
فقال الشيخ : ما اسمك لو تكرمت ..؟؟
فأعطاه اسمه وحدد له طبيعة عمله .. ثم أغلق الشيخ السماعة..
بعد مرور فترة من الوقت رن جرس ذلك الضابط ..
بعد أن ارجع الفتية للحبس..
فكان المتحدث من الطرف الثاني مدير عام مرور المدينة ..
فقال : هل اتصل عليك ابن عثيمين قبل قليل وطلب منك أن تطلق السجناء
فأبيت؟؟
قال : نعم ..
فقال : اتصل علي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز بنفسه ويقول لك
أطلق هؤلاء الشباب فورا .. وقال : هذا ابن عثيمين لو يأمر على كل شيء
لأطعناه!!
فأطلقوا سراحهم ..
-
الحلقة السابعة والأربعون
حينما صلينا الظهر ذلك اليوم اقتربت من شيخنا وكان حوله حشد من الناس
فلما أبصرني نظر إلي نظرة أنكرتها !!
فسلمت عليه فقال لي هامسا في أذني: هل أخذت شيئا من شعر لحيتك؟؟
فقلت : أبدا والله !! لماذا؟؟
فقال : كأني ألاحظ أنك خففت منها!! ثم أكمل كلامه وقال:
ولتعلم أني قربتك مني لعلمي أنك صاحب دين ،وتتعلم لتعمل بعلمك!!
كانت تلك كما يقولون ضربة معلم ، وتوجيها لا أنساه أبدا ،ولا يفوتني القصد والغاية منه !!
والمعروف أن شيخنا يفتي بتحريم اخذ شيء من اللحية كما هو قول جمع من الفقهاء..
ابتدأنا في أداء المناسك من الطواف وكان الزحام شديدا والجو خانقا، مع أننا في موسم الشتاء!!
انتهينا من أداء العمرة ثم توجهنا لمكان استراحتنا وهي شقة تابعة لأحد الإخوة واسمه محمد الغامدي .. وهو كابتن متقاعد ورجل فاضل من سكان جده..
كنت أنا والأخ علي السهلي مكلفين بتنظيم برنامج الشيخ وتسجيله على أوراق
طوال فترة بقاءه في مكة ..
والبرنامج اليومي تقريبا سار بوتيرة واحدة ولا يختلف طوال بقاءنا إلا ما ندر
وبالجملة هو كالتالي : الصلاة فجرا في الحرم قريبا من كرسي الدرس في الطابق الثاني من الحرم ، ثم إلقاء الدرس والإجابة على الفتاوى المقرؤة حتى شروق الشمس ، ثم التوجه للسكن للنوم حتى قريبا من الظهر ..
ثم نتوجه للحرم لصلاة الظهر ...
ثم يعود الشيخ لغرفته في الحرم ليستقبل الفتاوى من الهاتف لساعة وبعدها
يقيل حتى قريبا من أذان العصر .. بعد العصر تفتح بوابة الغرفة للزوار
والطلاب والمحتاجين وذلك حتى أذان المغرب .. ويفطر الشيخ مع الناس على
تمرات وقهوة وماء زمزم ، وشيئا من العصيرات إن أمكن إدخالها !!
ثم بعد الصلاة يتوجه الشيخ لمن حدد في البرنامج ويشترط فيهم شرطان:
أن لا يكون بعيدا عن الحرم .. وثانيا أن يوافق عليه شيخنا
وغالب من يدعو الشيخ هم من المشائخ والعلماء وكذلك عدد من الأمراء وأصحاب
الشيخ وأقاربه ..
ثم يتوجه الشيخ للحرم لصلاة العشاء والتراويح .. وذلك في الطابق العلوي
( السطوح ) قريبا من كرسي الدرس ..
ثم بعد الصلاة يتوجه الشيخ لكرسي الدرس ويلقي الدروس ويجيب على
الفتاوى حتى ينادى على صلاة القيام ..
فيصلي مع المسلمين حتى يختم بالقنوت ..
ثم يتوجه لطعام السحور وذلك حسب البرنامج المحدد والمكتوب ..
وهكذا طوال أيام العشر الأواخر .. حتى عودته للقصيم ..
الإنسان حينما يروي ويحدث الناس عن ذكرياته ومواقف حياته مثله مثل
الراكب على قطار سريع يسير في درب محدد ولوجهة مقصوده ..
والراوي يتلفت يمنة ويسرة ثم يحكي للناس ما استطاع بصره أن يعيه ويتلقفه !!
ولا يظنن ظان انه سيقدر على الإحاطة بكل ما رآه ويشاهد فهذا مما تفنى
الأعمار القصيرة ولا يفنى .. والله ييسر ويعين على ما تبقى..
في ذاكرتي عن تلك الأيام صور شتى مبعثرة وغير مرتبة أنزعها من أطراف
الذاكرة وأطارد تلك ، فأمسكها وألقيها في دفتري بعد نظمه ،وتفوتني أخرى
فلا يمكنني اللحاق بها فهي طريدة صعبة المراس !!
ويحتاج الوصول إليها لجهد لعل الله مع الأيام يمكننا منها!!
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مقدمة ذكرياته ( فهذه ذكرياتي .
حملتها طول حياتي ، وكنت أعدها أغلى مقتنياتي لأجد فيها يوما نفسي ،
وأسترجع أمسي ، كما يحمل قربة الماء سالك المفازة لترد عنه الموت عطشا ولكن
طال الطريق ، وانثقبت القربة . فكلما خطوت خطوة قطرت منها قطرة
حتى إذا قارب ماؤها النفاد وثقل علي الحمل وكل مني الساعد جاء من يرتق
خرقها ويحمل عني ثقلها .. الخ كلامه النفيس رحمه الله..
ومع أنني والحمد لله ما زلت في عز شبابي ولم ابلغ ما بلغه الشيخ علي رحمه
الله في سنه إلا أنه وللأسف لم يبق في ذاكرتي مما يفيد وينفع الناس سوى
القليل النادر ..
كما سبق وذكرت كان البرنامج طوال الأيام العشر يسير بنمط واحد ..
وحيث أن الأخ علي قد سبق له أن رافق الشيخ فقد تولى تسجيل من
يدعونا، في دفتر أو ورقة يحملها معه فكان الشيخ يقول له ..
سجل عندك غدا السبت عند الشيخ عبد الرحمن السد يس .. والسحور عند
الشيخ عبد العزيز الحميدي وغدا عند فلان وهكذا ..
مما أذكره في تلك الأيام عدد من المواقف ..
كما لا حظتم لا ينام شيخنا طوال الليل إلا أن يغفو قريبا من النصف ساعة إن
وجد لها متسعا من الوقت قبل السحور..
ذات يوم لم أتمكن أنا و شيخنا من النوم نهارا بسبب شغل ما ، فأثقل ذلك
علينا جدا فكنت أذهب للمسجد للصلاة أو لقراءة القرءان أو لاستماع الدروس
فتغلبني عيني فأنام ولا استطيع القراءة أو الإصغاء ..
غير أن المشقة الأكبر هي على شيخنا رحمه الله فهو لا يجد فرصة ليستريح
لكثرة الناس والمحتاجين ..
فتحنا الأبواب للناس كما هو العادة في عصر ذلك اليوم وجلس الشيخ للناس
والمحتاجين وللفتاوى عبر الهاتف ..
ولا تسل عن حال شيخنا المسكين فقد كان يرفع سماعة الهاتف ويستمع لسؤال
السائل فينام وتسقط سماعة الهاتف من يده فيرفعها ويقول : أعد سؤالك فينام
ويكاد يسقط على وجهه دون أن يشعر..
وكان السائل يجلس بين يدي الشيخ فيكلمه والشيخ ينصت له ولكن النوم يغلبه
فينام ويبقى السائل حائرا ولا يدري ما يفعل حتى أغمز شيخنا فيستيقظ فيقول
: أين كنا؟؟
واستمر شيخنا في برنامجه حتى اليوم التالي وصمد للناس حتى بلغ به الإعياء
حدا لا يوصف..
وكانت القاصمة فجر اليوم التالي .. حيث أن الشيخ رحمه الله نام وهو يستمع
لقراءة الأسئلة وحوله الجمع الهائل من المستمعين والمقدر بالآلاف وكل يشهد
هذا الموقف وقد يذكره بعضكم !!
.. ولقد كان يتوقف أحيانا في الدرس فيغفو لثوان معدودة ثم يكمل حديثه في
موضوع مختلف .. حتى ظن بعض الجهال أن الشيخ خرف!!
أما أنا فاستمعت لبعض درسه فلم اقدر على التحمل فبحثت
عن زاوية في الحرم وتوسدت كتابي ونمت نوما عميقا ..
وظننت أني سأستيقظ قبل فراغ الشيخ من درسه ..
وهذا مالم يحصل ..
الذي حدث أن شيخنا حينما وصل للسيارة التي تنتظره عند الحرم ويقودها الأخ
علي التفت الشيخ حوله فلم يراني ..
وكان بإمكانه أن يذهب وسوف ألحقه فالدرب ليس ببعيد غير أن شيخنا لم
يفعل ذلك وليته فعل !!
قال لعلي : وين صاحبنا ؟؟
قال : والله ما رأيته ..
فرجع الشيخ من فوره لمكان درسه وهو بعيد عن موقف السيارة ،رجع
ليبحث عني والناس حوله ولا يعلمون مالذي يفعله الشيخ ..
بقي الشيخ يبحث عني لساعة من الزمن ..
حين ذلك استيقظت من نومي فتلفت حولي فوجدت المسجد شبه فارغ ..
فقمت وسرت في الأسياب على غير هدى كأنني مخمور من شدة التعب..
فالتقيت بالشيخ في منتصف الطريق وحوله عدد من الطلبة .. فقال لي:
أين كنت ؟؟ أنا ابحث عنك من ساعة !!
فخجلت والله خجلا لا يعلمه إلا الله .. ولم استطع أن أجيبه من الحياء
لكن شيخنا بسماحة نفسه ..
تجاهل الموضوع لعلمه بسبب ذلك وقال لي: النوم سلطان جائر!!
أنا شاب في قوتي نشاطي ومقتبل عمري وشيخنا رجل سبعيني ومع ذلك
يتحمل شيخنا مالم أطقه أنا أو غيري من الشباب ..
أذكر مرة في حج إحدى السنوات أن شيخنا لم يكن ينام خلال
أربع وعشرين ساعة سوى أربع ساعات تقريبا ..
ولقد كان يبلغ منه الجهد فينعس وينام وسماعة الهاتف في يده ..
فأقوم أنا أو أحد مرافقيه بغلق السماعة وفصل خط التلفون وترك الشيخ وحيدا ليستريح ، فيستيقظ ويقول أين الهاتف ؟؟
فنقول له : أجهدت نفسك ياشيخي نم قليلا..
فيقول : الناس محتاجة لمن يفتيها وأنا أنام؟؟
هات التلفون .. فيرغمنا على إحضاره ونحن نشفق عليه من التعب ..
من المواقف التي حصلت لنا تلك الأيام ..
من عادة شيخنا أن يتصدق على فقراء الحرم من الأفارقة وغيرهم ..
وهذا ما يفعله كل عام .. وعرف الناس عنه ذلك ..
فطلب مني أنا والأخ علي أن نستقبل الطلبات وندون الأسماء ونجردها ..
وحينما جاء يوم التوزيع وهو قبل العيد بيوم تقريبا ..
تجمهر عدد هائل من الأفارقة وغالبهم من المفتولين وأصحاب الأجسام الضخمة
وقوية البنية .. وكان لهم جلبة وضجيج فكنا ننادي على الأسماء فيدخل
الشخص لداخل الغرفة ويستلم ما ييسره الله له ..
غير أن الأمر خرج عن السيطرة ولم نقدر على ترتيبهم وتنظيمهم ..
وتدافع الناس واختلط الحابل بالنابل وخفنا على الشيخ وهو لوحده في الغرفة
ولم يشعر بما يحصل في الخارج ..
فجهدنا أنا وعلي أن ندخل الغرفة وبالكاد دخلنا ..
وأردنا أن نغلق الباب حتى يقل عدد الناس ويسهل تنظيمهم ..
ولكن المشاغبين لم يرقهم هذا التصرف فدفعوا على الباب حتى كادوا أن يخلعوه
حينها جاء شيخنا ورأى بنفسه الحال ..
فقال: خلاص أوقفوا التوزيع !!
لا يمكن أن نعطي الناس بهذا الشكل..
ولكن كيف سنغلق الباب .. فنحن اثنين نقف أمام مئات ..
فحاولنا جاهد ين أن نغلق الأبواب فلم نقدر .. بل تدافع الناس ودخل عدد منهم في داخل الغرفة ..
حينها استشط شيخنا غضبا .. وتقدم بنفسه ووقف أمام رجل أفريقي ضخم الجثة عظيم الرأس مفتول العضلات .. فوقف شيخنا أمامه ولا يكاد يصل بطوله لنصف جسده !!
وهو النحيل ضعيف البنية فأمره بالخروج !!
فكأن الإفريقي لم يفهم ولا يتكلم اللغة العربية ..
فقال له الشيخ : أخرج يارجل ..
فما تحرك من مكانه وصار يرطن بكلام لا نعيه ..
فحاول الشيخ دفعه وفحص في الأرض بقدميه والرجل ثابت كالجبل الراسي
فأشفقت على شيخنا منه .. فتقدمت إليه ولاطفته بالعبارة ومسحت على ظهره حتى خرج وكفانا الله شره ...
-
الحلقة الثامنة والأربعون
من المشاكل التي كانت تواجهنا في الوصول للحرم هو إيجاد موقف لسيارتن
وذلك أن سيارة شيخنا ليست فارهة..
وفرها لنا الشيخ صالح الزامل جزاه الله خيرا ..
وذلك بناء على رغبة الشيخ أن تكون من السيارات العادية البسيطة..
كما قلت إن الناس تغريها المظاهر وتلهبها الزخارف
فقلما نحصل من البوابين البسطاء على التقدير..
ولذلك نعجز أحيانا في التعامل معهم ..
ذات مرة مررنا بجوار بواب فقلنا له نريد أن نوقف سيارتنا بالمواقف ..
فقال : هل معكم تصريح ؟؟
فقلنا : لا ..
وحدثناه سرا وهمسنا في أذنه ..
اسمح لنا فمعنا رجل ذو قدر وعلم ..!!
فالتفت ورأى شيخنا و سيارته فقدر وفكر في المسألة بناء على ما رآه ..!!
أما إن مررت أنا أو علي بالسيارة بدون الشيخ فلو دقت أعناقنا فلن نحصل على
الأذن بذلك !!
بمناسبة ذكر السيارات ..
حين وصولي لعنيزة ..
كان لدى الشيخ سيارتان ..
الأولى سيارة مازدا بوكسي موديل ثمانين ..
وهي سيارة الشيخ ويحبها ويهتم بها ..
حتى أن قراطيس المقاعد حينها مازالت عليها في تلك السنوات..
أما ضرتها الأخرى من السيارات فهي وانيت داتسن باب واحد
ويقودها أبناء الشيخ ولقد رأيت الشيخ مرارا يركبها في تنقله في عنيزة
روى لي أحد الثقات ..
يقول منذ زمن بعيد حيث لم يكن شيخنا يملك سيارة ..
اتصل عليه الأمير سلطان بن عبد العزيز ودعى الشيخ ليزوره في مزرعته
المعروفة في القصيم..
فلبى شيخنا الدعوة .. واستأجر سائقا أعرابيا ويقود سيارة تاكسي توصله
لمزرعة الأمير..
فكان البروتوكول التابع للأمير قد رتب أن يستقبل الأمير سلطان
شيخنا من باب السيارة ..
فتوسطت تلك السيارة العتيقة سيارات الأمير وحشمه وضيوفه
فأصابها الخجل والحياء أمام أخواتها الفارهات الحسن ..
غير أن شيخنا لم يتأثر من ذلك..
فهو زاهد بالمظاهر ولا تحرك في مشاعره شيئا ..
فلما رأى الأمير الشيخ ورأى أنه قدم مع سيارة تاكسي ..
تغير وجهه وأشفق على شيخنا ..
وقال : ياشيخ محمد ،لا بد أن نشتري لك سيارة ..
فقال الشيخ : تعبرنا وتقضي حاجتنا ..
أنا مرتاح والله يغنيك ويجزاك خير..
ولقد روى لي شخص قصة وسألت عنها شيخنا فأكد لي ما حدث..
حيث أن أحد الأمراء بعث لشيخنا سيارة فارهة جدا هدية منه ..
إكراما للشيخ وحبا فيه ..
فرد شيخنا ذلك وشكر المهدي وقال : اعتبر هديتك وصلت وأعفني من
قبولها!!
شيخنا حينما يرد تلك الهدايا لا يقصد احتقار ما يهدى أو من يقدم
الهدية..
أبدا والله ..
غير انه رحمه الله رجل بسيط ويحب البساطة ولا يريد التكلف في
اللباس والمظهر أو المركوب .. عاش على ذلك ومات عليه ..
كما هو شأن سلفنا الصالح..
فرسولنا عليه الصلاة والسلام قبل هدايا الملوك والأمراء كما هو ثابت عنه..
وكان ابن عمر رضي الله عنه يقبل هدايا الملوك.. كما صح ذلك عنه..
وهو من هو في زهده وإتباعه لآثار النبي عليه السلام وسننه..
وللعلماء في ذلك تفصيلات وتقسيمات معروفة ..
يرجع لها من يريد الاستقصاء والبحث..
روى لي جمع من الناس ومنهم شيخنا بنفسه ..
أنه في عام 1407 للهجرة حينما زار الملك فهد رحمه الله وعفا عنه
منطقة القصيم ..
اتصل الملك على شيخنا وقال له : نريد أن نزورك في منزلك..
فرحب به الشيخ وقال على الرحب والسعة إن شاء الله..
فشقت المواكب الهائلة الطرق إلى بيت شيخنا وغصت بالجنود والعسكر
الطرقات في عنيزة .. ودوت صفارات الشرط..
وظن الناس أن المزور هو إحدى قصور عنيزة الفسيحة ..
فتجمعت الحشود لذلك الضيف الكريم..
وقال الناس: هنيئا لمن سينزل هذا الكريم في داره..
وما علم الناس أن شيخنا هو المقصود..
وأن بيته المتواضع هو قبلة الملك والأمراء ...
فلما ترجل الملك من سيارته ..
ونزلت الحاشية من المواكب..
تفاجأ الملك وحشده الكبير ..
أن الشيخ محمد يعيش في بيت من طين!!
فصعقوا من ذلك .. وتعجبوا واستغربوا ..
ولعلهم بلغهم الأمر فظنوه مبالغة..
فدخل الملك البيت .. وتجول بنظره فيه وفي جدرانه البالية ..
وسقوفه المتواضعة..
فما رأى شيئا يرد النظر ويملأ العين..
ولعل الذاكرة حينها عادت به لسنوات بعيدة جدا في صغره ..
حيث البيوت المشابهة في الرياض القديمة والدرعية ..
فشق ذلك على الملك وأبت عليه نفسه إلا المبادرة ..
فعزم على الأمر وعقد النية ..
وحينما دخل للمجلس ..
وجلس على الأرض مع الشيخ الكريم..
الذي هلل ورحب بالملك وضيوفه ..
بادره الملك قائلا:
يا أبا عبد الله لا بد أن تقبل مني هدية بسيطة..
ولم ينتظر جواب الشيخ .. وقال:
أريد ابني لك بيتا ..
فابتسم شيخنا ..
وقال : جزاك الله خيرا
ولكنني مرتاح في هذا البيت وخيركم وصل يا أبا فيصل وهديتكم مقبولة ..
ولكن أعفني من ذلك ..
فألح عليه الملك وأصر ..
ولكن شيخنا أبى..
وقال له: وجودك في منزلي هو أبلغ إكرام ..
فقبل الملك منه ذلك وعرف أنه رجل زاهد ومهما حاول معه فسوف يعجزه
ولقد زار شيخنا في هذا المنزل البسيط الملك سعود والملك خالد والملك فهد رحمهم
الله جميعا..
قال لي الشيخ مرة : والله لقد مر علي زمان لا أملك الريال الواحد في جيبي!!
وبعد سنين ابتنى شيخنا بيتا آخر بعد أن وسع الله عليه ..
ونزله منذ عام 1409 للهجرة وبقي فيه حتى وفاته.. رحمه الله ورزقه القصور
في الفردوس الأعلى..
نرجع لقصتنا!!
في تلك الدعوات التي يتلقاها شيخنا من المشائخ والعلماء وغيرهم..
تدور نقاشات وحوارات مع المشائخ فيخرج المستمعون والحاضرون بدرر ونفائس
لا تجدها في المجالس المعتادة ..
فوجود هؤلاء الصفوة يضفي على المكان ذوقا وطعما خاصا ..
ما رأيك بمجلس يجتمع فيه أسماء لامعة لخيرين ومصلحين ..
نحو .. الشيخ عبد العزيز بن باز ..
والشيخ ابن جبرين .. أو الشيخ عبد الله البسام أو الشيخ ابن منيع
أو مشائخ وأئمة الحرم كالسد يس والسبيل والشريم وابن حميد وغيرهم
أو الشيخ عائض القرني وسعيد بن مسفر وعبد العزيز الحميدي..
هذا الأخير وهو الشيخ عبد العزيز الحميدي
هو من أحب الناس وأقربهم لشيخنا..
و طالما استضاف شيخنا في بيته العامر بكرمه هو وأبناءه الأبرار
وعندي من الذكريات الجميلة في بيتهم العامر في العزيزية ما أجد لذته
حتى هذه اللحظات وبعد تلك السنوات المديدة ..
الشيخ عبد العزيز عالم جليل وهو أحد تلاميذ الشيخ القدماء جدا والذين
تتلمذوا على شيخنا في عنيزة قبل أن يعرف ويشتهر..
للشيخ عبد العزيز الحميدي مؤلفات جميلة ومفيدة ومنها كتابه الرائع
(التاريخ الإسلامي دروس وعبر ) وهو من أنفس ما قرأت في بابه..
وله درس معروف في إذاعة القرءان الكريم..
من يستمع للشيخ عبد العزيز ويصغي لنبرات صوته الهادئة وهو يقرأ تلك
الرياحين العطرة.. والنسائم العذبة ..
تجعلك تعيش وتنغمس في تلك المشاهد الجميلة والقصص الفذة الرائعة
عن سلف الأمة .. رضوان الله عليهم ..
كنا نمكث في بيتهم في أيام الحج وغيرها فلا نشعر بالغربة أو التكلف..
كنا كأننا في بيوتنا بل أحلى !!
من البساطة والسماحة وصفاء الروح وطهارة الباطن قبل المظهر..
هم كما قال حاتم الطائي...
أضاحك ضيفي عند إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب..
وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى ..ولكنما وجه الكريم خصيب
إن من أكثر اللحظات التي أرى شيخنا فيها مسرورا وسعيدا
هي تلك الساعات والليالي التي يقضيها في منزل الشيخ عبد العزيز وبين أولاده
روى ليش الشيخ عبد العزيز يقول:
تتلمذت في شبابي عند الشيخ محمد في عنيزة وذلك قبل انتقالي للعيش في مكة
فكنا نجد من الشيخ محمد مالا نجده لدى المشائخ الآخرين من قوة الحجة
ونصاعة البيان والاهتمام بالدليل ونصرة أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه
ابن القيم رحمهما الله ..
فلما انتقلت للرياض لإكمال دراستي النظامية ..
افتقدنا الشيخ محمد وأسلوبه الفذ ..
ولم نجد في الرياض ما كنا نجده في علم الشيخ ..
فعلماء الرياض حينها ساروا على الأسلوب القديم في التعليم
وهو أن يقرأ على الشيخ فيعلق تعليقات بسيطة دون استرسال وبسط في المسألة
فيمر عليها مرورا سريعا دون بحث متعمق وهو ما كنا نجده عند الشيخ محمد
فأثر ذلك على نفسي وأصابني بإحباط وكسل ..
وذلك كردة فعل على فقدان الشيخ وعلمه وأسلوبه..
فتوجهت لقراءة كتب الأدب والتاريخ .. الخ كلامه عن شيخنا
-
الحلقة التاسعة والأربعون
ذات يوم من أيام العشر الأخيرة من رمضان
و بعد صلاة الظهر ونحن جلوس في غرفة الحرم
سمعنا صراخا وعويلا تردد صداه في الحرم !!
فأفزعنا ذلك جدا ..
وكان الشيخ محمد أولنا في التوجه لمصدر الصوت ..
وحينما لحقناه وجدنا أن سبب الصراخ أن مجموعة من النساء المعتمرات
من ذوات البشرة السمراء وممن آتاهن الله تعالى سعة في الأجسام..
وقوة في البنية ..
ويسرن في صف مستقيم كأنهن جنود كتيبة في جيش..
لا يردعهن رادع ولا يمنعهن حائل..!!
لم يجدن طريقا للوصول للكعبة المشرفة بسبب الزحام ..
ومنع الناس من الوصول للكعبة من الاكتضاض ..
فهداهن فكرهن المبتور وعزمن على شق طريق لهن مهما كانت النتائج..!!
فوجدن أيسر طريق وأسهل سبيل هو أن يمشين من فوق النساء المفترشات
لأرضية المسجد..!!
وهذا والله ما حدث!!
وفي النساء المسكينات النائمات على البلاط ، الكبيرة والمريضة والضعيفة..
فوطأن تلك النسوة القاسيات على الأجساد النحيلة..
ولم يرحمن ضعفهن .. ولا استغاثتهن !!
عندها حدثت الجلبة وصرخن صراخ المكلومات
توجعا من الدهس والرفس!!
ولكن دون استجابة أو رحمة..
فحاولنا نحن جاهدين أن ندرك الموقف
ونقلل الخسائر بقدر المستطاع..!!
ولكن كتيبة الموت تلك مرت وما عبأت بندائنا وترجينا لهن ..!!
حتى وصلن للجهة الأخرى ومخرن عباب الزحام بكل جدارة واقتدار!!
عجيب أمر بعض الحجيج والمعتمرين!!
كنت مرة أطوف مع الشيخ حول الكعبة ..
فسمعنا رجلا يحمل سبحة في يده..
وكانت من طولها وعدد حجارتها تزحف في الأرض!!
وجسمه ضخم كالبعير وبشرته سمراء.. وشعره أجعد وهو كفيف البصر
سمعناه يصرخ ويدعو: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي!!
ومرة لحق الشيخ رجلا نصف رأسه محلوق والنصف الآخر غير محلوق..
ومنظره مقزز ..
فقال له الشيخ : لم نصف رأسك محلوق وتركت الآخر؟؟
فقال : أنا سأعتمر عمرتين أحدها لي والأخرى عن أمي
فهذه الحلاقة للعمرة الأولى!!!
وروى لنا الشيخ صالح الزامل حفظه الله أنه سمع معتمرا يطوف بالكعبة المشرفة
ويسبح بسبحته ويقول في تسبيحه : ياحسين ابن علي ،ياحسين ابن علي!!
وكنا مرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد شيخنا بعد أداء
الصلاة أن يسلم على رسول الله عليه الصلاة والسلام وصاحبيه ..
وكان الزحام هائلا حول القبر..
وغالب الزوار من الجنسيات الآسيوية من الباكستان وغيرها ..
وحينما رأى العسكر ورجال الحسبة الواقفين حول القبر الشيخ..
طلبوا منا أن نمر من فوق الدرابزين المحيط بالقبر..
فهو أسهل علينا وحتى نسلم من الزحام..
فتقدم شيخنا وكنت بجواره وسلم على رسول الله قائلا:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يارسول الله ..
نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت للأمة وجاهدت في الله حق
جهاده حتى أتاك اليقين ..
ثم مر من أمام قبري صاحبيه وسلم عليهما رضي الله عنهما ..
فأردنا الانصراف والنزول ..
ولكن الحشود التي حول القبر كان لها رأي آخر..!!
فوجه شيخنا المضيء .. وشكله المميز واهتمام الحرس به ..
لفت نظرهم فكأنهم قالوا : هذا ولي من الأولياء !!
فتقاذفوا للسلام على شيخنا والتبرك به!! ..
فكانوا يمدون أيديهم لمصافحته ..
وبعفوية وطيب نفس مد شيخنا يده للسلام عليهم ومصافحتهم وليته لم يفعل!!
فقد تدافعت الجموع وعلا بعضهم فوق بعض!!
ولم يكتف بعضهم بالسلام..
بل صاروا يتمسحون بيد الشيخ على الوجه والجبهة..
وسحب شيخنا وسط الجموع وسقطت غترته وعباءته عن ظهره ..!!
ولقد رأيت أحدهم يمسك يد شيخنا فمسح بها من رأسه وحتى قدميه !!
وشيخنا الضعيف النحيل لم يقدر على الفكاك منهم ..
وكان يعلو ويخفق وكادت ذراعه أن تخلع ..
فتزاحم العسكر ودفعوا الناس والجهالة ..
وفك شيخنا وبالكاد !!
ولا أظنه عاد لها من بعد أبدا!!
روى لنا الشيخ محمد السبيل إمام الحرم في إحدى الجلسات في بيته بحضور
شيخنا رحمه الله ..
أنه في إحدى سفراته لدولة الباكستان .. بصفته إماما للحرم الشريف..
احتفي به احتفاء كبيرا وأكرم من الحكومة والشعب غاية الإكرام..
وطلب منه التنقل بين الولايات الباكستانية لزيارة الناس والإطلاع على أحوال
المسلمين .. فوافق الشيخ وكانت وسيلة التنقل هي القطار!!
وبينما هم يسيرون ويمتعون نظرهم بين الوديان الجميلة والمناظر الخلابة
البهيجة ..
إذ فجأة توقف القطار!!
فظنوا أن هناك عطلا ما !!
وقريبا سيستأنفون المسير..
ولكن التوقف طال و استمر لساعات !!
ولم يكن الشيخ السبيل ورفقاؤه يعرفون السبب ..
وبعد مرور وقت طويل من الانتظار وشعور الشيخ ومرافقيه بالملل..
جاء ه عدد من المسئولين الباكستانيين ممن يشرف على تنظيم تنقل الشيخ
ومعهم الترجمان ..وعلى وجوههم العبوس والضيق !!
فقال الشيخ : ما القصة؟؟
فتكلم قائدهم وكان مطأطأ الرأس من الخجل وقال :ياشيخ محمد هناك مجموعة
من القرويين ممن ويعيش في القرى حول طريق القطار
قد ربطت نفسها بالحبال على سكة الحديد !!
وأقسمت أنها لن تتحرك حتى تموت !!
أو تنزل أنت للسلام عليهم ..
ولقد باءت كل محاولتنا لثنيهم بالفشل وأكدنا لهم بالأيمان المغلظة
أن برنامجكم محدد ولديكم..
مشوار طويل واحتفالات في المدن وهم في الانتظار..
والوقت غير مناسب .. ولعل ذلك يكون في زيارات أخرى
فرفضوا ولم يقتنعوا..
وقالوا : أين نجد شرفا كهذا الشرف ؟؟
كالسلام على إمام الحرم الشريف..!!
فتعجب الشيخ السبيل من إصرارهم وحتى لو على موتهم وتقطيع أجسادهم!!
وقال : إذا لا بأس سأنزل للسلام عليهم..
فقالوا : ياشيخ محمد نحن نخاف عليك .. ونخشى عليك الغوائل!!
فهؤلاء فيهم الهمج والرعاع وقد يفعلون أمورا ويتصرفون تصرفات
غير حميدة و غير متوقعة !!
ولو سمع الناس بفعلتهم لأوقفتنا القرى طوال الطريق..
ولكن الرأي أن تبقى أنت في القطار ونفتح لك النافذة
ويحضرون هم للسلام عليك..
فقال الشيخ : لا بأس فليحضروا..
فجاء الناس وكان عددهم هائلا..
وتوافدوا من الوديان والشعاب ..
فتجمعوا للسلام على إمام الحرم ..
فلا تسل عمن صافح و وعمن قبل وعانق وبكى من الفرح ..
حتى كاد الشيخ أن يختنق من كثرتهم وتجمهرهم عليه !!
وهو ذو البنية الضعيفة والسن الكبير والجسم القصير حفظه الله ورعاه..
ولقد ذكر الشيخ السد يس تعليقا على كلام الشيخ السبيل أنه في إحدى زياراته
فقد عباءته حيث نزعت منه بالقوة !!
ومزقت ووزعت خيوطها بين القبائل وبيعت بأعلى الأثمان!!
أذكر مرة أن الناس اجتمعت على الشيخ كعادتهم بعد صلاة العصر
فلفت اجتماع الناس فضول المعتمرين فجاءت مجموعة أظنها من شمال أفريقي
فقال لي أحدهم : من هذا ؟؟
فقلت لهم : هذا أحد العلماء والناس تسلم عليه..
فقال : ما اسمه؟؟
فقلت : اسمه الشيخ محمد بن عثيمين..
فسمعته يقول لأصحابه وهو منصرف: هذا الشيخ اسمه ابن تيمية!!
ومرة كنا خارجين من الحرم ..
وركب الشيخ السيارة ..
وكان يقرأ ورقات بين يديه ..
فمدت له يد من خارج نافذة السيارة ..
ولم يلتفت الشيخ جيدا لمن يصافحه ..
وحينما لمست يده يد المصافح ..
صرخت أنا بها !!
فقد كانت امرأة من المعتمرات ..!!
جاءت للسلام على الشيخ حينما رأت الزحام عليه..
فالتفت الشيخ وضحك من ذلك ..
ولم يلحظ أحد ذلك سوانا وإلا لقيل ابن عثيمين يصافح النساء!!
وحاشاه رحمه الله..
-
الحلقة الخمسون
هانحن أوشكنا أن نغادر مكة وربوعها ..
وقد قطفنا بعض ثمار الذكريات فيها ..
ولا بأس من جلب شيء من الثمار لمكة
من المدينة وجدة والأردن!!
أردت عن قصد ونية مما سبق أن أشاغل الناس بشيء من مواقف الشيخ الجميلة واللطيفة..
حتى لا تفسد تلك المشاكل الشخصية بيني وبين صاحبنا المعهود..
طعم القصة والحكاية بمرارتها .. وقد أوشكت!!
لقد رأيت أن القراء الكرام تضايقوا مما حدث ..
وبعضهم استغرب حدوث ذلك ..
واستنكره واستهجنه..
وحق لهم في ذلك ..!!
ولكنني أذكرهم وأقول لهم :
أقرءوا التاريخ والسير..
ابتداء بسير المرسلين عليهم السلام
ومرورا بسير أصحاب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
وسير السلف الصالح والعلماء والخلفاء والملوك وكذلك بعض القصص الجاهلية والحديثة..
فستجدون أن ذلك أمر متجدد عبر الزمان ولا يستغرب وقوع ما هو أروع منه وأغرب وأعجب وأنكى
ممن سماهم الله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين )
وقوله تعالى ( إنه كان ظلوما جهولا)
خاصة وأن الحدث وقع بين طلبة علم ومن حلقة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله المقربة..
وما الغرابة في ذلك ؟؟
أليسوا بشرا ؟؟
ألم يقع في الصالحين ما هو أغرب ؟؟
السؤال الشرعي هو:
هل ذكر مثل هذه المواقف والأحداث يفيد ؟؟
ما العبرة والحكمة من روايتها؟؟
أليس من المتوقع أن يعقل الناس وتتوب وتنسى تلك المهازل والسفاهات..؟؟
أليس من المؤسف هو نبش تلك الأحداث وإخراجها للناس حتى تفتح بابا للقيل والقال؟؟
هذه تساؤلات أوردها على نفسي كل يوم وفي كل حلقة أدونها..
و قد جاوبت نفسي وغيري بالتالي:
أنا أروي ما حصل كرواية شخصية أو كما سماها احد المعلقين الكرام ( سيرة ذاتية) ابتدأت من حياتي الشخصية ثم مرورا
بمواقف عديدة حتى وصلت لشيخنا رحمه الله..
ثم ستستمر الرواية ...
في أمور وبلدان تنسي أهوالها وأحداثها ..
كل ما مضى ؟؟؟؟
فما زلنا في البداية !!
فمن عنيزة حتى كرواتيا حتى حرب البوسنة المهولة ثم مرور
بكوسوفا ثم أفريقيا وبالخصوص في إثيوبيا والسودان والكاميرون وتشاد وغيرها ..!!
فالقصة طويلة والحكاية لن تقف على شيخنا رحمه الله أو غيره..
ولا أخفيكم أن هذا ما لم أكن عازما عليه منذ البداية !!
فقد عزمت على أن أدون ثلاث روايات متفرقة ولكن بعد مشاورة
وقراءة تجارب مثيلة رأيت دمج الموضوع في تسلسل واحد ..
حتى يستوعب القراء تلك الذكريات ولا أشتتهم في ثلاث محاور
قد يكون الربط بينها يحتاج لعناء ومشقة..
فالأفضل إن شاء الله هو استكمال كل مرحلة ثم الانتقال للمرحلة
التي تليها ..
والظن إن شاء الله أنني لو تمكنت من الاستمرار على نفس المنوال وهو تنزيل خمس حلقات أسبوعيا فالمتوقع استكمال القصة في أقل من سنة بحول الله تعالى
يصدف في هذه السير ذكر بعض الوقائع الحقيقية والتي سببت في وقتها مشاكل للراوي .. فأنا أمام خيارين اثنين:
إما أن أسكت وتبقى القضية مبهمة والتهمة معلقة على رأسي حتى
يهنأ مثيروها ويسلموا من جريرتها وعاقبة فعلهم..
وبالتالي يبقى في القصة فراغات هائلة وعلامات استفهام كبيرة
فتكون عديمة الفائدة بل تكون سببا للتندر والهزل..
أو علي أن أكشف الموضوع بكل جوانبه وحذافيره
مع ذكر الأسماء والوقائع والشواهد وأنا غير ملام في ذلك لأنني الحلقة الأضعف و الجهة المتلقية للظلم أو للصفعات واللطم!!
أو علي أن أروي قصتي كما يحلو لي وأتجنب التوصيف الدقيق أو تسمية الخصوم ،قناعة مني ورضا بما قدره ربي علي
ثم لما قد يترتب عن ذلك من تشويش على أصحاب تلك المخازي
وهم الآن في غنى عن ذلك!!
وأنا اخترت الخيار الثالث عن تفكير واستخارة واستشارة
ورغبة في البعد عن الشقاق والنزاع..
ولكن يبقى الخيار الثاني واردا إن رأيت أن في ذلك مصلحة
أولها رضى الخالق سبحانه ثم الدفاع عن نفسي ولو كان متأخرا..
إن تعرضت لتعد متجدد من الطرف المعني..
و السؤال هو لماذا لا نستمع للحكاية حتى النهاية ثم من بعد ذلك لنحكم عليها..
وليتكلم وليعلق ولينبش وليكذب!!
كل من يريد فعل ذلك فأنا لم اكتب حتى هذه اللحظة تلك الرواية في كتاب أصم !!
بل كتبت كل دعواي وما زعمته في منتديات حوارية أتلقى فيه من الثناء أو الذم !!
كل ذلك عندي سواء..
فلماذا لا يسع الجميع ما وسعني ووسع الآخرين ؟؟
لماذا إتباع سياسات خرقاء يترتب عليها أمور لا يحبذها عاقل ول
يبحث عنها لبيب..
أتمنى أن تصل رسالتي لمن اعنيه ويفهم ما اقصده ويعلم أنني
أحكي وقائع ومشاهد أقسمت على كل كلمة وحرف منها وأشهد
ربي سبحانه عليها وهو المولى والنصير ..
قد يتضايق بعض الإخوة القراء من كثرة تكراري لمثل هذا الكلام
وأقول لهم جميعا يا إخوتي هناك أناس يتربصون بي من خلف
الكواليس جبناء وسيأتي الوقت قريبا الذي افضحهم فيه ..
ولقد سمعت منهم كلاما ورسائل بعثوها ...
ألزمتني أن أؤكد على تلك المعاني والمباديء كل مرة ..
وأقول لهم لن أعيد كلامي!!
فلو تمادوا في غيهم وتجاوزوا الحدود فلن يكون صدر مالك وحده يحويهم .. !!
وسأسمع كل من يعقل ما فعلوه وبعدها فليدفعوا الحساب..
حسنا لنرجع لقصتنا ..
انتهى رمضان وأعلن العيد وعاد الأخ علي بشيخنا لجده ومنه رجع بالطائرة للقصيم ..
أما أنا فرجعت لعائلة في الطائف وبقيت هناك عدة أيام قضيت فيها مع العائلة الكريمة .. والحمد لله ..
ثم عدت للقصيم ..
فوجدت عنيزة شبه خالية من الطلبة .. حيث أن أغلب الطلبة لدى عوائلهم وأهليهم..
وحينما شارفت الإجازة على الانتهاء توافد الطلبة وغص بهم الجامع ..
قدم لعنيزة طالب من مدينة الطائف اسمه محمد العباد..
وقد سبق أن رأيته في الطائف قبل قدومي لعنيزة..
دون أن اعرفه باسمه أو أن احتك به..
هذا الطالب ترى من وجهه الجد والصرامة
ويشع من عينيه بريق الفطنة والذكاء..
بعد صلاة العشاء وخروجنا من الدرس المعتاد..
لحق الأخ محمد بشيخنا وكنت معهما أسير كما هي عادتي..
انتظر انتهاء الطلاب من أسألتهم ثم أبدأ بقراءة ما عندي من أسئلة وغيرها..
تناقش الأخ محمد مع شيخنا في مسألة فقهية ..
وكان في الأخ محمد حده فكان شيخنا يرد على كلامه فيرد الأخ محمد على الشيخ بإيرادات جميلة تدل على فطنته..
غير أن أسلوبه كان فظا فهذا ما جعل شيخنا يحتد معه أيضا..
اذكر أن الأخ محمد رد على الشيخ فقال له: هذا قول ابن حزم الظاهري في المحلى..
فاستشط شيخنا غضبا وقال : وهل المحلى كتاب منزل من السماء؟؟
ثم أورد عليه كلام ابن القيم في ابن حزم في كتاب إعلام الموقعين..
فرجع الأخ محمد وبقيت مع الشيخ وحيد ا وكأنه شعر بحدته فقد كان شيخنا رحمه الله سريع الفيئة!!
فقال لي: يبدوا على هذا الطالب النباهة والفطنة ..
في اليوم التالي .. وكنت جالسا في مكتبة السكن ..
جاءنا اتصال من مستشفى الملك سعود في عنيزة ..
فرد مشرف المكتبة على المكالمة..
فكان المتحدث من المستشفى يقول : حصل حادث لمجموعة من طلبة الشيخ ..
فصعدت فورا لغرفة مشرف السكن وهو حينها الأخ صالح المرعشي الحربي فأيقظته من النوم..
ففزع ،وأذكر أنه كان يتحدث مع نفسه من الروعة..
فتوجهت معه للمستشفى ..
فقابلنا مشرف شئون المرضى حينها وهو الدكتور محمد الحركان
فقال لنا : لقد توفي في الحال سائق السيارة وسائق السيارة الأخرى..
فقلت له : ما اسم السائق ؟؟
فقال: لم نعرف هويته حتى الساعة .. ولكن دعونا نتوجه للثلاجة فلعلكم تعرفون الميت..!!
حينما دخلنا ثلاجة الموتى أصابتني قشعريرة وخوف وارتباك
فلم يسبق لي أن رأيت موقفا كهذا .. وهممت بتركهما ..
رأينا شخصا ممدا على سرير ومغطى بشر شف أبيض ..
وعلى جهة الصدر بقع كبيرة من الدم ..
فتقدم الدكتور محمد للجثة من جهة الرأس ونظر لوجهي ووجه
مرافقي كأنه يقول: هل أنتما مستعدان للتعرف على الميت؟؟
فتسارعت نبضات قلبي وكدت أن أتراجع ..
فنزع الغطاء فتأملت الميت فإذا هو الأخ محمد العباد الذي كان يتجادل بالأمس مع شيخنا رحمه الله !!
ويؤمل شيخنا فيه ما يؤمل!!
رحمه الله وعفا عنه وأسكنه الفردوس الأعلى
تنبيه
للأسف فإن تسلسل الأحداث عندي قد لا يكون فيه انضباط ودقة كما ينبغي..
قد يحصل ان اذكر أحداثا ولا استطيع التأكيد عن وقت حصولها هل بعد رمضان ام قبله هل في فترة الإجازة ام في وقت الدراسة ..
أصل الأحداث معلوم وميقن منه لكن تحديد الزمن بدقة صعب للغاية فارجوا ممن اطلع على حدث ولديه ملاحظة حول الزمن أو التسلسل أن يسارع بتنبيهي حتى أعدل تلك المعلومة..
-
الحلقة الواحدة والخمسون
حضر مجموعة من طلبة الشيخ درس الشيخ سليمان العلوان حفظه الله
في مدينة بريدة ..
الشيخ سليمان العلوان لمن لا يعرفه
كان في تلك السنين شابا في مقتبل عمره ..
آتاه الله من العلم الراسخ خاصة في علم الحديث ..
والفهم الثاقب وسعة الإطلاع ما يبهر الأبصار ويحير الألباب
تسامع به طلبة العلم فتقاطروا عليه من كل مكان ..
ولقد رأيت في درسه وحضرته مرة واحدة فقط
رأيت من يكبره مرة أو مرتين ويحمل أعلا الشهادات العلمية
وقد ثنى ركبتيه بين يديه..
وكان درسه بعد صلاة الفجر ..
حضره عدد من طلبة الشيخ وبعد رجوعهم من الدرس وكان ذلك يوم خميس
أعترضتهم فجأة سيارة يقودها رجل مسن ومعه مرافق مسن أيضا..
فاصطدموا به فتطاير الركاب من السيارتين ..
وضرب مقود السيارة على صدر محمد العباد فمات في الحال..
وتوفي أيضا قائد السيارة الأخرى رحمه الله..
وتهشمت السياراتان حتى تلفتا تماما ولم تعد تصلحان للانتفاع بتاتا..
كانت تلك الحادثة المروعة مجزرة بما تعنيه العبارة من معنى!!
فقد خطف الموت طالبا مجدا وهو الأخ محمد العباد رحمه الله وأصوله من اليمن
وفقد أحد الطلبة إحدى عينيه وكاد يعمى ومكث في الإنعاش أسابيع عديدة
وهو الأخ محمد الأمين السوداني
وكسر أللحي السفلي لأحدهم وكاد يتلف ويهلك..
وهو الأخ عبد الله حافظ الباكستاني
والآخر أوشك على الموت فقد تكسرت أضلاعه وشل شللا نصفيا
وهذا للأسف نسيت اسمه وهو من سكان جده ومن قبيلة حرب
وقد كان الأشد تضررا من الحادث أعانه الله وخلف الله عليه خير
حينما سمع شيخنا بالخبر ..
أراد الذهاب للمستشفى في عصر ذلك اليوم للاطمئنان عليهم بنفسه ..
وقال لي : جهز سيارتك سأذهب معك للمستشفى!!
سيارتي من نوع الجالنت اشتريتها من أخي الكبير بسعر زهيد
و هي سيارة شبه متهالكة!!
و وهيئتها وما وضع عليها من زخارف لا تليق بي أنا كطالب علم
فكيف بشيخنا !!
قد مضى على وجودها معي أياما معدودات ولم أتمكن
من تغيير ما عليها من زخارف وعبارات مخجله !!
حتى أن أخي سامحه الله قد هبط هيكل السيارة بحيث توشك أن تحتك بالطريق !!
تفهمون ما أعنيه جيدا !!
عندما قال لي الشيخ: سأذهب معك بسيارتك..
قلت له:
ياشيخي سأستعير سيارة من احد الزملاء ..
فقال: ولما ؟؟
أبي أشوف سيارتك ونجربها!!
توكل على الله وجهزها لي بعد الصلاة عند باب المسجد!!
وقعت في حرج شديد واستحييت أن أركب شيخنا على مثل هذه السيارة المريعة !!
بعد العصر سبقت الشيخ لخارج المسجد وجهزت له السيارة ..
فلما جاء واقترب مني وركب فيها قال لي: مبارك !!
هل هذه سيارتك؟؟
فقلت له : لا ،ياشيخ هذه ليست سيارتي هذه لأحد الزملاء!!
فقام شيخنا مغضبا من فوره وخرج من السيارة وأشار لطالب آخر
فركب معه وتركني!!
لحقتهم للمستشفى فوجدت سيارتي التي تركتها مع صاحب السيارة التي أقودها ..
فأرجعتها له وأخذت تلك العجوز المريعة..
فأوقفتها أمام باب المستشفى !!
فإذا كانت هذه رغبة الشيخ فليكن!!
لحقت بشيخنا وتجولت معه على المرضى ..
وكان في استقبال الشيخ الرجل الشهم والكريم المفضال الدكتور عبد الله البداح المشرف العام على المستشفى وعدد من الإداريين ..
حينما زرنا الأخ محمد الأمين وكان في غيبوبة تامة قال لنا الممرض:
هذا الرجل طوال الوقت في غرفة العمليات..
كان يقرأ القرءان ويسبح ويهلل وهو في غيبوبة تامة ..!!
وقف شيخنا على رأسه ودعا له وقرأ عليه ونفث..
ثم تنقلنا في غرف الإخوة الآخرين عبد الله والأخ الذي نسيت اسمه..
وكان وضع الأخير حرج للغاية مما استلزم نقله لجدة بعد عدة أسابيع
كانت حاله كما ذكرت خطرة للغاية وكانت معرضة للتطور في أي لحظة وكان في غيبوبة ..
وبعد فترة تحسنت حالته نوعا ما وصار يفتح عينيه ولكنه لا يعرف من حوله ولا يعقل ..
وفي إحدى الزيارات حيث كان شيخنا يزور المرضى دوم
حدث موقف عجيب وغريب ..
عندما وقف شيخنا على رأس أخينا الكريم
واقترب منه ودعا له وقرأ عليه كما يفعلها كل مرة..
حينها نظر الأخ في وجه الشيخ فتأمله وكأنه عرفه فابتسم وضحك !!
فقال الشيخ وهو ممسك بيده : هل يعرف من حوله ؟؟
فقال الطبيب: أبدا هو لم يفعل هذا من قبل !!
وكنا كلما زرناه مع الشيخ يكرر ما فعله دوما فيضحك ويتهلل وجهه ..
فسبحان من ملأ قلوب عباده حبا لهذا العلم الجليل وخصوصا تلاميذه الذين يرونه في مقام الوالد الرحيم بل اشد من ذلك!!
وليخسأ الخاسئون!!
همس أحد الطلاب في أذن الشيخ
وقال له: ياشيخ نريد رؤية الأخ محمد العباد
فقال الشيخ : هو ميت !!
فقال : ياشيخنا لا بأس للاعتبار!!
الشخص الذي همس في أذن الشيخ وقال له ما قال ..
حدث له حادث بعد سنوات على طريق المدينة القصيم وكانت معه زوجته
وأبناؤه فتوفي رحمه الله من فوره .. وسلمت زوجته وأبناؤه..
وقد بلغني الشيخ بموته حينما اتصلت عليه من البوسنة..
فقال لي: هل سمعت بفلان لقد صار عليه حادث وصلينا عليه اليوم..
حينها والله تذكرت كلمته حينما قال لشيخنا : نريد الاعتبار..
واسمه عبد الرحمن داود رحمه الله..
من خيرة الطلبة وأكثرهم حرصا على التحصيل والطلب
عفا الله عنه وجعل مثواه الجنة..
دخل الطلبة على جثة الأخ محمد وقد وضعت في داخل الثلاجة..
ولما رفع الغطاء عن وجهه تأمل الشيخ وجهه وسكت قليلا ..
وهز رأسه ثم دعا له و انصرف..
خرجنا من المستشفى وكان الشيخ قد رأى على وجهي كرها لما فعله معي
فقال لي: هل أحضرت سيارتك؟؟
فقلت بخجل وحياء: نعم..
استحييت والله من الطلبة ومن مدير المستشفى أن يروا دابتي!!
وصلنا للباب وخرج الشيخ .. وودع مرافقيه
وفتحت له باب السيارة..
وقال قبل أن يركب: هذه هي؟؟
قلت : هي والله !!
فدخل فيها وقرأ دعاء الركوب وأخذ يلمس مراتبها ويمسح على مقدمها ويقول:
مبارك يا أبا عبد الله لتهنأ لك وجعلها عونا على الطاعة!!
فخرجنا من المستشفى واعتذرت من شيخنا عما بدر مني
فقال : لا تخجل السيارات كلها سواء المهم توصلك لحاجتك..
ثم انشغل رحمه الله بتقليب المذياع والنظر في سقفها والتبريك والدعاء
وكأنني أقود أفخم وأرقى طراز ..
رحمه الله ما ابسطه وأكرمه وألطفه..
في اليوم التالي صلينا على الأخ محمد العباد بعد صلاة الجمعة..
وأمنا شيخنا رحمه الله ..
ثم خرج بنفسه وتقدم الجنازة راجلا ..
وقد حملت على الأكتاف حتى المقبرة والتي تقع في الجهة الشمالية من عنيزة
وكأن الإخوة الذين يحملون الجنازة استعجلوا في السير ليلحقوا الشيخ
فقال لهم معاتبا :
سيروا على مهل هل تريدون الجنازة أن تسقط؟؟
وصلنا للمقبرة وجلس شيخنا على التراب ..
حتى يصلي على الجنازة من لم يصل..
وحتى يحضر الميت ويدفن ..
وضع الأخ محمد رحمه الله في القبر ..
وكان والده موجودا ومتأثرا جدا من فقد ولده .. وقرة عينه ..
خلف الله عليه خيرا ..
وجعله فرطا له إلى الجنة..
بكى والده على قبره فأبكى من حوله ..
نظرت للقبور ذلك اليوم وكانت على مد البصر..
رأيت رجلا يسير بعيدا من بين القبور وكنت اعرفه ..
فسالت : أين يذهب؟؟
فقالوا: يزور قبر شيخه عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله
جاء والد الأخ محمد وسلم على شيخنا وقبل يده وبكى بكاء كما تبكي الثكلى
فصبره شيخنا ودعا له ولولده محمد وقال : يخلف المولى سبحانه عليك في
إخوان محمد.. فلا تتحسر فكلنا موتى وهذا آجال .. الخ كلامه رحمه الله
ولقد واساه شيخنا ودعاه في بيته واستضافه طوال بقاءه في عنيزة ..
مرت الأيام تترى وبوتيرة سريعة ..
وما أسرع ما جاء موسم الاستعداد للحج..
حيث أوقف شيخنا الدروس المعتادة ..
وشرع في دورة مركزة في القراءة من أبواب الحج من الزاد ومن كتب المناسك
وكذلك كتابه الصغير في حجمه الكبير في قدره المتعلق بالأضاحي ..
وقد قرأناه عليه وشرحه شرحا وافيا ..
فخرجت بفوائد عظيمة واستطعت الإحاطة بتوفيق المولى بجميع ما يتعلق
بالحج والمناسك والأضحية من تلك الدروس..
فجزى الله شيخنا خير الجزاء ورضي عنه وجعل قبره روضة من رياض الجنة
في الأيام الأخيرة من شهر ذي القعدة ..
وقبل رؤية هلال ذي الحجة توجهت مع شيخنا لأداء الحج..
وكان في استقبالنا الشيخ صالح الزامل والأخ علي السهلي وجمع كريم من الإخوة
المحبين..
توجهنا لمكة شرفها الله لأداء العمرة وتحللنا بعد ذلك ..
فقد كنا متمتعين كما هو معروف من أنواع النسك..
أرجعنا السيارة التي كانت معنا للشيخ صالح الزامل واستبدلناها
بسيارة جديدة تركت تحت تصرفنا ..!!
سألت شيخنا: ما هذه السيارة هل هي مهداة؟؟
فقال: كلا ، هذه السيارة تابعة لوزارة الشئون الإسلامية حيث أشرف سنوي
على الدعوة في صالة الحجاج والميناء !!
-
الحلقة الثانية والخمسون
برنامج شيخنا في فترة الحج برنامج شاق ومرهق بما تعنيه الكلمة من معنى
حيث يحتوي على برامج متتابعة من دروس ومحاضرات وفتاوى وتنقل بين المخيمات قبل وبعد الحج وأثناءه ..
ولقد كان يصيبني الفتور والإعياء من كثرة البرامج وشيخنا في قمة نشاطه!!
في الحج كنت أنا رديف شيخنا ولم يرافقنا أحد من أقارب الشيخ أو أصحابه
وكنا طوال فترة بقاءنا في مكة وكذلك في مخيم الحج في ضيافة شهم سأتحدث عنه لاحقا..
توجهنا بسيارتنا الجديدة (وهي جيب تايوتا لون رمادي)
لمكتب التوعية الإسلامية الواقعة في حي الششة والذي يقابله جامع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
حيث كان شيخنا يمكث كثيرا في ذلك المكتب لاستقبال
الزوار من العلماء والمشائخ والمستفتين وأمامه هاتف لا يتوقف عن الرنين
لأربع وعشرين ساعة للفتاوى..
ولسائل أن يتساءل كيف يعرف الناس رقم تلفون الشيخ في مكة أو في جده أو غيرها من المدن؟؟
والجواب: أن شيخنا قام بطريقة جميلة وسهلة بحل هذا الإشكال!!
وذلك أن جهاز التلفون في عنيزة فيه خاصية تحويل المكالمات ..
فمثلا لو اتصل شخص لعنيزة على رقم الفتاوى المعروف
فسوف يرد عليه التلفون بصوت الشيخ يقول له :
اتصل على الرقم كذا .. فمرة يعطيهم رقمه في الرياض ومرة في جده
ومرة في المدينة وهكذا..
وكان رقم التلفون يتغير في بعض الأحوال يوميا وذلك بالاتصال على الجهاز وإدخال شفرة معينه فيملي الشيخ بصوته الرقم الجديد..
وللمعلومية فشيخنا لديه اهتمام كبير بالتقنيات وخصوصا أجهزة الاتصالات
وكل من أراد أن يدخل السرور على شيخنا ويفرحه فعليه أن يخبره
بجهاز اتصال جديد نزل في السوق فستجده بعد أيام في بيته أو مكتبته !!
أذكر مرة أنني طلبت من الشيخ أن يعطيني مبلغا من نفقتي التي يرسلها
الوالد لي على حساب الشيخ حيث أن شيخنا يحتفظ بها عنده وينفق علي
منها كما ينفق الوالد على ولده ..
فقال لي : تعال عندي في البيت وسأعطيك الجهاز الذي تحتاجه..!!
فجئته ودخلت معه للبدروم حيث مكتبته الثانية ..
فأراني دولابا كبيرا به رفوف كثيرة وقد حشرت به عشرات الأجهزة
من كل الأنواع والأصناف ..!!
علما أن غالبها مهدى لشيخنا من قبل أحد أصحابه الذين اعرفهم جيد
وبمناسبة ذكر الأجهزة أذكر هذا الموقف..
كنا مرة في جده وبعد صلاة عصر ..
ذكر أحدهم للشيخ محمد أن هناك أجهزة للاتصالات
جديدة وفيها من المواصفات كيت وكيت ..
وهي متوفرة في معرض تجاري لشركة سوني في سوق حراء الدولي
فقال الشيخ لي: توجه لذلك السوق
وكان لدينا فراغ بسيط من الوقت ..
فانطلقنا للسوق وترجلنا ودخلنا ذلك المعرض..
فتجول شيخنا فيه دون أن يعرفه أحد من البائعين أو المشترين ..
فاختار جهازا أو جهازين ..
فقال البائع: للأسف لا يوجد لدينا جهاز جديد
وهذا الجهاز للعرض ولكن لو تعطينا عنوانكم فسوف نبعثه لكم ..
فقال الشيخ: أنا مقيم في عنيزة!!
فقال : سنبعثه لك لعنيزة وستتكفل أنت بقيمة الشحن..
فقال الشيخ : لا بأس بذلك ..
فأعطاه العنوان ورقم الهاتف..
ودون له الاسم : محمد بن صالح العثيمين !!
وخرجنا من المحل..
يقول الشيخ لي : بعد وصوله لعنيزة بأيام تلقى اتصالا هاتفيا من مالك المحل
وكان يبكي في التلفون ويقول: والله ياشيخ لو علمت أنك ستأتي لمحلي لتشرفت
أنا باستقبالك ..
وقد بعث الجهاز للشيخ وأهداه له ورفض رفضا باتا أن يأخذ قيمته من الشيخ..
في مكة حيث كنا نمكث في مكتب التوعية ..
كان شيخنا يجلس في صالون بجوار مكتب كبير مكتوب عليه
( مكتب معالي النائب)؟؟؟؟
فقلت لشيخنا : مكتب من هذا ؟؟
فقال : هذا مكتب الشيخ إبراهيم بن صالح آل الشيخ نائب الشيخ
عبد العزيز بن باز ...
هذا الرجل تعجز والله كلماتي المختصرة عن الثناء عليه ..
ويكفي أن أقول عنه أنه رجل بما تعنيه تلك الكلمة..
تواضع في تعامله ..
سماحة في نفسه..
حسن المعشر..
حلاوة الحديث..
الطرافة الكرم الطيبة الحنان التفاني .. بارك الله في أبي صالح
ولا عجب فهو سلالة كريم بن كريم بن كريم بن كرام..
فجده هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ..
وأبوه هو الشيخ صالح آل الشيخ قاضي الرياض المشهور وشيخ العلماء الكبار..
صاحب المواقف المشهورة مع الملك عبد العزيز رحمه الله ..
وأقرؤوا سيرته العطرة في كتاب (علماء نجد خلال ثمانية قرون) للشيخ العلامة
عبد الله البسام عليه رحمة الله..
في ذلك العام والذي يليه مكثنا في ضيافته في الحج قبله وخلاله وبعده
في أيام فضيلة وذكريات ممتعة ولحظات مباركة
لو لم يكن مكسب لي من صحبة شيخنا ومرافقته سوى معرفة أمثال
الشيخ إبراهيم لكان والله ذلك كافيا لي..
فكيف إذا اجتمع لنا في تلك اللحظات فوائد ونكت علمية ودقائق
يندر أن يتمكن الإنسان من تحصيلها من جوف و أعماق بطون الكتب..!!
والله لقد سمعت من العلم واستفدت من الفوائد والمسائل في تلك السفرات
ما قد يحشى في رأس طالب علم فيستحق أن يسمى عالما!!
ولكن كم بقي لي منه وكم احتفظت به وكم عملت به ؟؟
هل العلم بالمعرفة فحسب ؟؟
هل العلم أن تحيط بالمسائل دون أن تفقه فتصير مثل حمار الفروع!!
يؤسفني أن أقول مثل هذا الكلام ولا أحب ترديده وذكره والله ..
ولكن بعض الجهلاء وفاسدوا القصد اتهموني ظلما وزورا بأنني اصحبه لأغراض وأهداف دنيئة ..
حسبهم الله ...
والموعد بين يديه تعالى ...
نزلنا في بيت الشيخ إبراهيم بن صالح والكائن في حي العزيزية بجوار جامع الحارثي والذي كان إمامه حينها الدكتور ناصر الزهراني وفقه الله
فكنا نصلي في المسجد ويلقي شيخنا فيه درسا بعد صلاة العصر
ودرسه الآخر يلقيه في جامع فقيه المعروف..
ولم يكن شيخنا يصلي في الحرم سوى الجمعة ولم يكن يلقي
فيه الدروس لتعذر ذلك بسبب الزحام الهائل في الحرم وحوله..
وغالب من يحضر تلك الدروس هم من الحجاج من الدول العربية وغيره
والعجيب والغريب ..
هو حضور عدد من أصحاب العمائم السوداء !!
من الروافض لدروس الشيخ...!!
ولقد تساءلنا حينها : هل يفهمون العربية وهل يسمعون الدروس ليستفيدوا؟؟
في درس جامع الحارثي كان أحدهم يداوم الحضور وكان يناقش شيخنا كثير
وشعر شيخنا منه رغبة في البحث عن الحقيقة أو هكذا بدا ؟؟؟
عرف نفسه للشيخ أنه مدرس في إحدى الحوزات العلمية في قم في إيران
وطلب من الشيخ أن يجلس معه جلسة خاصة في بيته ليتجادل مع شيخن
حول بعض المسائل العقدية والمختلف فيها بين الروافض وأهل السنة والجماعة
دعاه شيخنا لبيت الشيخ إبراهيم .. فحضر الرافضي وكان ذلك بعد درس العصر
أظهر الفرح وتملق في كلامه وأنه باحث عن الحقيقة فجاراه شيخنا حتى يبلغه الحجة الناصعة..
قدمنا له القهوة والشاي وكنت أنا حاضرا وكذلك الأخ أحمد البغدادي
قام بإيراد عدد من المسائل المشهورة والمتعلقة بالصحابة رضي الله عنهم وخصوصا عن أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخليفته أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ..
وكذلك عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه
وتنوقش أيضا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها..
وكان يقول ويؤكد أن الخلاف على هذه المسائل ليس من أصول الدين
فقال له شيخنا: بل هي من أهم المهمات فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهم نقلة الوحي وخير أصحابه..
فالقدح فيهم قدح في رسول الله عليه الصلاة والسلام وقدح في دين الله جل وعل
ومن خلال الحديث لمز الرافضي عثمان ابن عفان ..
فدحر الشيخ كلامه ودحض حججه وترضى عن عثمان ..
وقال أيضا : لا أظن أحد يختلف في كفر معاوية وابنه يزيد !!
فبين له شيخنا فضل معاوية رضي الله عنه وأنه أحد كتبة الوحي ونقل له
موقف أهل السنة والجماعة من الفتنة التي وقعت بينه وبين أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب رضي الله عنه
و أن ما وسع العلماء والسلف يسعنا.. فيهما رضي الله عنهم
وكذلك موقفهم من ابنه يزيد ونقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيه ..
فقال الرافضي: تمنيت أن اطلع على كتب ابن تيمية..
فقد سمعت أن الرجل له مؤلفات في الرد علينا وفيها قوة حجة وجزالة ألفاظ!!
فقال الشيخ: إن شئت اشتريت لك كتب ابن تيمية ..
لتحملها معك إلى إيران فتقرأها فلعل الله تعالى بفتح على قلبك
فيظهر لك الحق..
فأظهر الفرح وشكر الشيخ ..
وبعد استكمال الحوار والنقاش ..
خرجنا معه من السكن وتوجهنا به وبرفقة شيخنا للمكتبة ..
ويا للعجب !!
رافضي في صحبة ابن عثيمين في سيارة واحدة؟؟
اشترينا له كتاب منهاج السنة وكتاب درء تعارض العقل والنقل..
فتعجب من كبر حجمهما فقال له الشيخ:
إن قرأتهما قراءة بحث وطلب للحق فسوف تجد بغيتك إن شاء الله
أما إن قرأته لتنقده ولتبحث عن زلاته فلن تستفيد منه شيئا..
فقبل الرافضي رأس الشيخ وشكره وقال : هذا رقم هاتفي ولعلكم تتصلون علي بعد شهر أو شهرين فأعطيكم رأيي وما وصلت إليه فحفظت الرقم عندي وبعد مرور شهرين ..
ذكرت شيخنا به ..
فاتصلنا عليه ..
فردت علينا امرأة فرطنت بكلام لا نفقهه..!!
فقلت لها : نريد فلان .. وكررت اسمه ..
فما فهمت كلامي فأغلقت السماعة في وجهي !!
ولعل الله تعالى أن يكون هداه !!
-
الحلقة الثالثة والخمسون
لم يكن البرنامج في تلك الأيام يسير على نمط واحد كما هو في رمضان
بل كان لكل يوم برنامج على حده ..
كان شيخنا يجلس في مكتب التوعية الساعات الطويلة يجيب على الفتاوى
وحيث أنني لا يمكنني الاستفادة من بقائي ..
استأذنت شيخنا لكي أقضي فراغي في المكتبة التابعة للتوعية..
وجدت أن المكتبة ليست غنية بالمراجع المتنوعة بل غالب كتبها
حول صنف أو صنفين من أصناف العلوم ..
و كان قد كلفني شيخنا سابقا بتدوين بعض البحوث
فاحتجت أن اطلع على عدد كبير من المراجع ..
فلم تشبع تلك المكتبة نهمي ولم تكن مناسبة لخصوص البحث..
فاخترت كتابا وقعدت لقراءته وكنت أحيانا من الإعياء يسقط رأسي على دفة
الكتاب وأنا لا أشعر...
لاحظت رجلا يداوم الجلوس في المكتبة ..
ووضع أمامه مجلدات ضخمة يراجع فيها ويقرأ منه
ويبدوا أنها رسائل علمية ويشرف هو عليها أو هي له ..!!
وجهه مستدير ولحيته بيضاء ووجهه أبيض وممتلئ الجسم
وليس بالطويل ولا بالقصير..
طويل الصمت واضح عليه شدة الحياء ..
ولقد جاورته ساعات طويلة دون أن أسمعه ينطق أو يهمس بكلمة..!!
سألت عنه فقيل : هذا العالم الجليل الشيخ صالح بن خزيم ..
ولقد توفي بعد سنوات في حادث مروري في بريدة رحمه الله وعفا عنه
زارنا في يوم الأيام وكنت مع شيخنا ..
رجل طالما أحببته وقدرته ..
إنه شيخي وأستاذي الدكتور الشيخ أحمد بن موسى السهلي..
أحد تلاميذ علامة الجنوب الشيخ حافظ الحكمي ..
داومت على حضور دروسه في الطائف لأكثر من عامين
ومع ذلك فلم يكن يعرفني فقد كان عدد الطلبة كبيرا
ولم يكن لي مع الشيخ احتكاك مباشر..
دخل على الشيخ محمد وسلم عليه وتحدث معه..
حيث هو أيضا من المشاركين في برامج التوعية في الحج ..
وبعد انتهاء لقاءه وحديثه مع الشيخ ..
استأذنت شيخنا محمد ولحقت الشيخ احمد..
فعرفته بنفسي ورويت له أنني أحد تلاميذه السابقين..
قال لي : ظننتك ابن الشيخ!!
وفرح بذلك وسر ودعا لي حيث أنني لم انقطع عن الطلب وقال لي:
استمسك بغرز هذا العالم الجليل .. وأنا والله أغبطك على هذه المزية
فاحرص على الاستفادة من علمه فهو فقيه نادر الطراز ..
صارت لي علاقة وثيقة بالشيخ أحمد استمرت حتى هذه
الأيام وإن له الفضل علي بعد الله في حبي للعلم وطلبه أول الأمر
فجزاه الله عني وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء..
بجوار منزل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في الششة ..
تقع عمارة جميلة ذات طوابق عديدة ..
أوقفها أحد المحسنين وهو الشيخ صالح التو يجري عليه رحمة الله
أحد الأخيار والوجهاء من سكان مكة..
أوقف هذه العمارة على الدعوة والدعاة فكانت في أيام الحج تغص
بالعلماء الأجلاء والدعاة و طلبة العلم الكبار والصغار ..
وكانوا جميعا في ضيافة مكتب التوعية الإسلامية ..
ومن هناك يكون انطلاق المجموعات الدعوية للمخيمات والمساجد والتجمعات السكنية وغيرها
كانت تلك العمارة كأنك ترى فيها خلية نحل..!!
فهم جنود الإسلام وحماة العقيدة ..
جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء..
كان لشيخنا أيضا غرفة خاصة في ذلك السكن ..
ولكنه حسب علمي لم ينزل فيها مطلقا..
والسبب أن لشيخنا مراجعين كثر
وحتى لا يشق على الناس رأى أن يستقل في مكان خاص له ..
فكان زوراه ومراجعوه يرتادون مكانه السابق الذكر..
من المشائخ الذين ينزلون ذلك السكن ..
سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي العام الحالي..
ومنهم فضيلة الشيخ صالح الفوزان..
ومنهم أيضا الشيخ محمد الدريعي ..
ومنهم الشيخ عبد الله القصير..
والشيخ سليمان الشبانه رحمه الله..
والشيخ عبد الله الشبانه ...
وعدد من مدراء الدعوة في الداخل والخارج
وغيرهم كثر ممن أعجز عن عدهم .. ولا تحضرني أسماؤهم
وظني أن المشائخ يتجاوز عددهم المائة..غير الطلبة والدعاة..
ذات مرة دعانا أحد المحبين لشيخنا للغداء في ذلك السكن..
وكان رفيقه في الغرفة الشيخ صالح الفوزان..
كان الغداء الموضوع لنا هو عبارة عن علب بروست !!
أي والله هذا هو الغداء..!!
والسبب أن الغرفة ضيقة والمشائخ عددهم كثير فأين يضع لهم طعاما وفير
فكان اختياره اضطرارا قد فهمه الجميع وما لا موه عليه
والظاهر أن ذلك من عادتهم طوال تلك الأيام ..
حصل في ذلك اليوم موقف ظريف..
حيث جلس المشائخ منحشرين بجوار الأسرة المتواضعة ..
وكان أمامي في صف واحد كأنني أراهم أمامي ..
شيخنا ابن عثيمين رحمه الله
وبجواره عن يمينه الشيخ عبد العزيز آل الشيخ
وبجواره عن يساره الشيخ صالح الفوزان ..
بالإضافة لعدد من المشائخ والمرافقين ..
وقد وضع الطعام بين أيدينا ..
و لم نضع يدنا في الطعام انتظارا لأحد المشائخ..
انتظرناه وطال الانتظار..
وكاد الطعام يبرد..
وكان الشيخ المنتظر هو الشيخ محمد الدريعي..
والشيخ الدريعي لمن لا يعرفه رجل كفيف وهو رجل صاحب نكتة وطرفة ومزاح..
وشيخنا يحبه وقد زال بينهما حاجز التكلف ..
قال شيخنا للمضيف: اتصل لي على الأخ محمد وسوف أستعجل حضوره..
فأحضر جهاز الهاتف واتصل على غرفة الشيخ الدريعي ..
فلما رفع الدريعي السماعة .. وهو جهوري الصوت
و ربما من قوته لا يحتاج لميكرفون !!
غير شيخنا صوته وفخمه وصار يغمغم
ويقول: هل أنت محمد الدريعي ؟؟
فقال : من معي؟
فقال: يا أبا فلان أنزل وإلا فلن ننتظرك ..
وتبادلا الحديث والتعليقات وضحكنا من حديثهما ..
ولقد رأيت المشائخ يتمايلون من الضحك وخصوصا الشيخ عبد العزيز آل الشيخ
حتى دمعت أعينهم من الضحك!!
ولم يعرف الدريعي حتى أغلق سماعة الهاتف أن شيخنا هو محدثه ..
وعلق بتعليقات ساخرة على شيخنا وصوته وقال:
من هذا البزر الذي يكلمني ؟؟
وقال: الحين أنزل أؤدبك بعصاي!!
وحين نزل لنا وسمع صوت شيخنا وعرف انه هو من كلمه
انكب على شيخنا يقبله وضمه واعتذر منه ..
رحمهم الله وعفا عنهم..
وكما قلت فقد نزعت الكلفة بين شيخنا وبين الشيخ الدريعي ..
وعلى النقيض منه تماما شيخ آخر لم أرى شيخنا يتعامل بمثل هذ
الأسلوب سوى معه ومع شيخه سماحة الشيخ ابن باز..
حيث يجله إجلالا كبيرا ويتبسط معه في الكلام ويقوم له !!
فسألت شيخنا ذات مرة..
قلت:لاحظت عليكم حينما تقابلون هذا الشخص أنكم تجلونه وتقدرونه تقديرا كبيرا؟؟
فقال لي: أنت لا تعرف هذا الرجل فله في قلبي مهابة ومحبة واحترام وأخذ في الثناء عليه وذكر أعماله الجليلة ومواقفه في الحق حتى والله أحببته..
وهذا الرجل المعني هو الشيخ عبد الرحمن الفريان رحمه الله مدير جمعية تحفيظ القرءان الكريم في الرياض ..
وهو علم من أعلام مدينة الرياض عليه رحمة الله..
ذات ليلة في تلك الأيام ألقى شيخنا درسا في العقيدة في جامع فقيه..
في العزيزية بمكة شرفها الله..
فلما انتهى الدرس قال لي الشيخ : هل سجلت كلامي؟؟
فقلت : لا والله ولم أكن احمل معي مسجلتي تلك الأيام!!
فقال: الدرس اليوم كان مفيدا فلعلك تبحث عمن سجله حتى ننسخه منه ..
فلحقت بشاب رأيته قد سجل الدرس ..
وهو طالب علم من دولة لبنان
فقلت له: اسمح لي أن ننسخ شريطكم ..
فقال لا بأس ..
وحينما ركب في السيارة معي ..
ففوجئ أنه سينسخ الشريط لشيخنا .. ؟؟
ولا عجب فشيخنا حريص على نشر علمه ويتعبد لله بذلك..
وتوجهنا لإحدى التسجيلات الإسلامية ونسخناه ..
وبعد رجوعنا لعنيزة سلمت لمؤسسة الاستقامة تلك الأشرطة وغيرها لكي
يضيفوها لآلاف الشرطة التي قاموا بتصفيتها ونشرها في الآفاق..
كنا في المساء نرجع لسكننا في منزل الشيخ إبراهيم آل الشيخ حفظه الله
وكان برفقته عائلته الكريمة ومنهم ابنه البكر الشيخ
صالح بن إبراهيم آل الشيخ والذي ورث عن والده صفاته وأخلاقه وسمته
قال لي : لم لا تستغل هذه الفرصة بوجودك مع الشيخ وتقرأ عليه بعض
الكتب؟؟
فعرضت الأمر على الشيخ فرحب بذلك
وقال : كونك تركز على كتاب واحد أفضل لك من أن تتنقل بين الكتب يمنة
ويسرة فعليك بضبط متن معين ضبطا كاملا ثم تنتقل لكتاب آخر.. وهكذ
فطلبت من الشيخ أن يختار لي كتابا هو يراه..
فاختار أن اقرأ عليه كتاب الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية
الذي جمعه علاء الدين أبو الحسن البعلي رحمه الله والمتوفى عام 803 للهجرة
وهو كتاب جليل عظيم النفع جمع فيه اغلب آراء شيخ الإسلام ابن تيمية
من خلال كتبه وفتاويه ونظمها في مجلدة واحدة ورتبه على أبواب الفقه
المعروفة ..
وقد سبق أن صور لي هذا الكتاب واحتفظ بتلك الصورة عندي وهي التي قرأتها
على شيخنا ودونت عليها تعليقاته وشروحه ..
كنت أقرأ على الشيخ في البيت أو المكتب أو في المسجد بين الأذان
والإقامة أو في الطائرة أو في السيارة إن كنا مع سائق غيري حسب ما يتيسر من
وقت فيعلق ويشرح على المسألة ثم يعطي رأيه في قول شيخ الإسلام
فيوافق أو يخالف ..
ولقد ظننت قبل أن أقرأ عليه هذا الكتاب أن شيخنا لايخالف شيخ
الإسلام ابن تيمية سوى في مسائل معدودة ..
حصرها احد الطلبة بستة عشر مسألة !!
ولكن تبين لي أن شيخنا يبحث عن الدليل ولا يتعصب لقول الشيخ
فإذا رأى انه خالف الدليل رد قوله كما هو عادة العلماء المجتهدين ..
-
الحلقة الرابعة والخمسون
كون شيخنا مشرفا على الدعوة في صالة الحجاج وكذلك في الميناء
فقد توجهنا لجدة لزيارة الميناء والصالة ..
حيث عينت الوزارة عددا من المشائخ والدعاة يقومون بتوعية الحجيج
القادمين من البحر والجو ..
في أحكام الحج والدين والعقيدة وغير ذلك ..
ويوزعون عليهم آلاف بل ملايين المناشير والكتب والمصاحف والأشرطة..
من الدعاة في صالة التفويج في الميناء صاحب الفضيلة الشيخ
عبد الله القصير وأكرم به وانعم من عالم جليل
لقد تعجبت والله حينما رأيته يقف بنفسه يوزع على الحجيج الكتب
ويجيب على أسئلتهم ..
رغم شدة الحر والزحام الخانق وانبعاث الروائح الكريهة بسبب القرب من
أحواض السفن ...
جاءه رجل من السودان يعترض عليه في مسألة عقدية ذكرت في كتاب قرأه
تتعلق بالقبور والزيارة ونحو ذلك..
فوقف له الشيخ عبد الله يحاوره بهدوء وأدب ويستمع لاعتراضاته ..
دون أن يضجر من كلامه وخزعبلاته!!
فلله در دعاتنا فما أحسن ما يقدمونه للأمة ..
ثم حظهم من البعض النيل من أعراضهم والقدح فيهم!!
يذكرني هو وأمثاله من الرجال بقول الشاعر :
وليس أخو الحاجات من بات نائما ولكن أخوها من يبيت على رحل!!
جعل الله ذلك في موازين حسناته هو وعشرات الجنود المجهولين
الذين يعملون تحت إشرافه..
أطمأن شيخنا على أحوالهم وتشاور مع المشائخ فيما يقترحون من برامج
ومناشط وكتب ونحو ذلك ..
ثم انطلقنا لزيارة صالة الحجاج في المطار..
كانت في تلك الأيام معرفتي بالطرق في جدة ليست بذاك..
ولقد تهنا في الوصول للصالات لأكثر من ساعتين..
أستغرقها شيخنا بقراءة ورده حتى تعب ونام !!
وصلنا لمدينة الحجاج أخيرا وقد بلغ بنا التعب مبلغه ..
وهي مدينة بما تعنيه الكلمة من معنى..
تقوم لعدة أسابيع ثم تختفي بين عشية وضحاها.. كما قامت!!
فيها أسواق وبنوك ومحال تجارية ومستشفيات وجوامع
وكل الخدمات العامة التي يحتاجها حجاج بيت الله ..
وصلنا هناك .. وكان ذلك بعد صلاة الظهر ..
وقد خرج الناس من المسجد الكبير في وسط الصالات..
حيث كان اللقاء متفق عليه في الجامع وسيلقي شيخنا كلمة للحجيج ..
ولكن لتأخرنا فقد خرج الناس وبقي المسجد شبه خال..
توضأنا ودخلنا للمسجد وصلينا الظهر ..
كان شيخنا مجهدا ومرهقا بسبب ضغط الأيام الماضية ..
كان الجو لطيفا في المسجد وبرودته معتدلة ..
فاستغل شيخنا تلك الدقائق ولف عمامته على وجهه وتوسد يده ونام..!!
فجاء المشائخ فأشرت لهم من بعيد !!
فأشاروا لي: هل هذا الشيخ ؟؟
فحنيت رأسي وقلت لهم : نعم ودعوه ينام قليلا..
فغط في نومة هنيئة حتى شخر ..!!
فسعدت بذلك.. واغتبطت ..
وجلست مع المشائخ في زاوية المسجد حتى لا نزعج الشيخ..
ذكر لي شيخنا رحمه الله ..
أنه كان في سنوات ماضية يلقي دروسا للحجاج من جميع الجنسيات
وغالبهم من أفر يقيا..
تقدم له رجل أفريقي ويتكلم العربية وقال للشيخ: أنت تعلم الناس مسائل
مهمة في العقيدة والأحكام ولكن يحول بينك وبينهم اللغة !!
فغالبهم لا يفهم العربية فما رأيك أن أترجم كلامكم بلغة قومي؟؟
فقال الشيخ : لا بأس ..
فترجم ذلك الرجل لشيخنا مدة من الزمن ..
وفي خلال كلام شيخنا سمع لغطا من خلف الصفوف ..
وقام رجل وقال: ياشيخ إن هذا المترجم رجل كذاب !!
فهو يحرف كلامكم ويبدله بعمد لفساد معتقده ..
فقام مجموعة من الناس وأكدوا كلام الرجل..
فالتفت شيخنا للمترجم وقال له: قم .. وسوف أتكلم بالعربية فمن يفهم
فليفهم وأمري على الله !!
روى لي احد طلبة العلم الثقات يقول: اجتمعت يوما في الحرم في شهر رمضان
بعدد من المسلمين الأفارقة من نيجيريا والذين تحلقوا لاستماع درس شيخن
محمد رحمه الله في الحرم..
وكان بعضهم يبكي بحرقة ويرفع يديه بالدعاء بكلام لا افهمه!!
فسألتهم : لماذا يبكون ؟؟
فقالوا : كنا مجموعة من النصارى أهدانا أحد طلبة العلم في نيجيريا شريطا
للشيخ محمد في العقيدة فأسلم بسبب ذلك الشريط ثمانية عشر شابا
ومنهم هؤلاء الفتية الذين يبكون فرحا لرؤيتهم للشيخ
ويدعون الله له فالفضل له بعد الله في إسلامهم !!
وأذكر مرة أنه زار شيخنا في الحج مجموعة من الأمريكان السود ..
وكانوا يتكلمون العربية بفصاحة مطلقة وكأنهم عرب أقحاح؟؟
قالوا للشيخ : نحن تلاميذك!!
فقال: لا أذكر أنكم درستم عندي!!
فقالوا : ياشيخ لقد سمعنا شروحك من الأشرطة في الواسطية وكتاب التوحيد
وغيرها فنحن نعتبر أنفسنا تتلمذنا عليك!!
ذات ليلة قال لي الشيخ مازحا : لدي درس الليلة الساعة التاسعة في أمريكا!!
فقلت له ضاحكا ومتعجبا: أتسخر مني؟؟
فقال: هل تريد ترى هذا بنفسك؟؟
فدخلت معه لملحق بيته ، واتصل عليه شخص من أمريكا على هاتفه
وقال ياشيخ : نحن جاهزون ؟؟
فإذا هي محاضرة عبر الهاتف يلقيها شيخنا و يستمع لها في أكثر من خمسين
مركزا إسلاميا في الولايات المتحدة !!
استيقظ شيخنا من نومه وتلفت حوله ومسح بيديه على وجهه
فلما رآه المشائخ قاموا إليه..
وسلموا عليه وتحلقوا حوله واستمع لهم ولبرامجهم وحصروا بعض النواقص
والاحتياجات من كتب وغيرها ..
ثم رجعنا لمكة لكي نستعد لأداء مناسك الحج..
تكفل الشيخ إبراهيم آل الشيخ بتنظيم كل ما يتعلق بحجنا
من تنقل وسكن وخدمات وتغذية فجزاه الله خير الجزاء.
حيث أن لديه فريقا كبيرا من الرجال المخلصين كل قد حدد له عمله ووظيفته
أمرني الشيخ ذلك اليوم بالاغتسال للباس الإحرام كما هي السنة
واغتسل الشيخ ولبس إحرامه وتدهن بقارورة كاملة من الطيب
دهن بها شعر رأسه ولحيته
حتى رأيت الطيب يتقاطر من لحيته..
ولقد فعل شيخنا ذلك تعبدا لله تعالى واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
كما روت عائشة رضي الله عنها في إحرامه عليه السلام ..
ركبنا الباص الصغير المخصص لنا وبرفقتنا عائلة الشيخ إبراهيم في الخلف
كان شيخنا يلبي ويرفع صوته بالتلبية حتى بح صوته ..
كما كان يفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..
كان السائق محترفا وخبيرا بالطرق ..
فأوصلنا لمخيمنا في منى والملاصق لمخيم سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله
فأنعم بها من جيرة ..
يحتوي المخيم على عدد كثيرة من الخيام جزء منه مستقل للنساء
تتوسطه خيمة كبيرة للصلاة والدروس..
يلقي فيهنا الشيخ الدروس والكلمات بعد كل صلاة ..
ولا يجد شيخنا في تلك الأيام الفضيلة وقتا للراحة إلا ما ندر
فهو كما قال الشاعر:
فلو لم يجد في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله..
فو الله لم ترى عيني ولا ادعي أنه لا يوجد!!
لم ترى عيني رجلا يبذل وقته للعلم والتعليم وتفقيه الناس مثل شيخنا
خلا شيخه وإمام الجميع الشيخ ابن باز رحمهما الله
كان الشيخ ابن باز رحمه الله يجل شيخنا ويحبه حبا جما
وكان شيخنا يبر بشيخه ويصله كما يفعل الولد مع أبيه ..
ويفرح الشيخ ابن باز حين يعلم بوجود تلميذه البار..
ذات مرة جئنا لمنزل سماحة الشيخ ابن باز في مكة
فسلم عليه شيخنا وقبل رأس شيخه ..
ثم جلس شيخنا في مكان بعيد عن الشيخ قليلا..
وكان بجوار الشيخ ابن باز يجلس أحد المشائخ الفضلاء..
فقال الشيخ ابن باز: وين الشيخ محمد ؟؟
وضرب بيده على الكرسي الذي بجواره ..
فقام الشيخ الذي عن يمينه من مكانه واستبدله بمكان شيخنا..
فلا تسل عن الأنس وفرح الشيخ ابن باز بأن يوضع شيخنا في موضعه الذي
يستحقه ويقدر التقدير الذي يليق به..
لا اعلم أن شيخنا ذهب لمدينة يعلم أن شيخه ابن باز فيه
إلا وابتدأ بزيارته والسلام عليه قبل أي شيء آخر..
أذكر مرة ذهبنا لمكتب الشيخ ابن باز في الرياض..
فقيل لشيخنا : هو في اجتماع مع اللجنة الدائمة ..
فيهم سماحة الشيخ وكذلك الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي الحالي
والشيخ ابن غديان والشيخ الفوزان والشيخ بكر أبو زيد..
حينما دخلنا عليهم ..
رأيت الشيخ ابن باز مادا رجليه على طاولة وضعت أمامه
و حاسر الرأس..
فأراد المرافق أن يلبسه شماغه فقال الشيخ ابن باز:
لا .. لم يدخل علينا غريب!!
كما قلت كان التلميذ بجوار شيخه في المخيم..
وتحابا في القلوب وتجاورا في قبريهما بمكة في مقبرة العدل..
وأرجو المولى سبحانه أن يتجاورا في القصور في الفردوس الأعلى
-
الحلقة الخامسة والخمسون
منذ اليوم الأول لوصولنا لمنى ولا ترى شيخنا إلا في درس أو إجابة فتوى
أو عبادة وذكر وتلاوة ..
وفي فراغه إن وجد ليلا بعد العشاء كنت أجلس معه وأقرأ عليه مما ييسره الله
كانت الوفود والزوار لا تنقطع طوال تلك الأيام عن التوافد للمخيم ..
ممن سعدنا برفقتهم تلك الأيام في الحج الأخ الشيخ خالد الشريمي حفظه الله
وهذا الرجل من أصحاب شيخنا ومن محبيه لأكثر من عشرين سنة ..
قمت بتسجيل تلك الدروس والفتاوى طوال مكوثنا في منى في التروية وكذلك في أيام التشريق .. وقد سلمت تلك النسخ لا حقا للإخوة في مؤسسة الاستقامة
كنت أتلوا على الشيخ أسئلة الناس وغالبها يتعلق بالحج والمناسك ..
وكانت بعض الأسئلة تحتاج لنقاش مع السائل لاستيضاح بعض التفاصيل
فكان الشيخ قبل أن يجيب على الفتوى يقول أين السائل ؟؟
فإن رفع السائل يده أجابه وإلا تركه !!
من المواقف التي أذكرها في تلك الليالي :
حيث صادف أن سأل أحد الناس سؤالا وكان من ضمن الحضور الأمير بندر بن عبد العزيز.. ومعه مجموعة من حرسه وجنوده وحاشيته..
وكلهم جلوس منصتون لشيخنا وحديثه ..
يقول ذلك السائل في أول سؤاله : أنا رجل مقيم في المملكة من سنتين وليس لدي إقامة وأكمل سؤاله ...
-
الحلقة السادسة والخمسون
لم يطل شيخنا الغياب عند الملك ..
قال لي الشيخ ذلك اليوم: أنه فقد السائق الذي يوصله للمخيم فبقي واقفا محتارا ولا يدري ما يفعل ..
فلمحه الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية وهو ذو علاقة ومعرفة عميقة بشيخنا ..
فسلم عليه وقال : هل تنتظر أحدا ؟؟
لاحظتك واقفا لوحدك؟؟
فقال شيخنا : سائقنا تأخر..
فنادى الأمير سعود الفيصل على سيارته الخاصة وأمر سائقه بتوصيل الشيخ فحمده شيخنا على ذلك وأكبرها منه ..
كنا في أغلب الأوقات نبقى في المسجد لاستماع الدروس والفتاوى ..
وهذا هو غالب أمرنا ..
وأما في الأوقات الأخرى فنجتمع بالشيخ في خيمة كبيرة عبارة عن مجلس للضيوف ويستقبل فيها الوفود الزائرة من داخل وخارج المملكة..
جاء رجل في تلك الأيام وزعم للشيخ أن المسالخ التابعة للبنك الإسلامي للتنمية في منى لا تقوم بنحر الإبل كما هي السنة وكذلك ذكر ملاحظات حول التذكية الشرعية للأغنام..
فلم يرد شيخنا أن يجيبه على زعمه حتى يتأكد مما نقله له..
فكلفني أنا وشخصين اثنين بالذهاب لزيارة المسالخ والإدارة المشرفة
للتأكد من صحة تلك المعلومات خاصة وأن البنك يشرف سنويا على مئات الألوف من الأضاحي والهدي ذبحا وتخزينا وتوزيعا حول العالم..
وصلنا للمسلخ بعد معاناة وبحثنا عن موقع نحر الإبل فقالوا لقد انتهوا من ذلك
فلما نتمكن من رؤيتها على الطبيعة ..
توجهنا للإدارة فأحالونا لشخص وقالوا : هو مدير هذا القسم ..
فدخلنا عليه مكتبه فاستقبلنا ببرود ولم يعرنا أي أهمية وكان يدخن بشراهة
طوال جلستنا معه..
شرحنا له هدفنا من الزيارة ومن كلفنا بذلك فازداد تجاهلا لنا!!
ولم يفدنا بشيء ولم يرد إعطائنا أي معلومات ..
فخرجنا من عنده وقد بلغ الحنق بالأخوين الآخرين مداه..
رجعنا للشيخ وشرحنا له ما حصل ..
فاسترجع وقال : خيرا إن شاء الله !!
في اليوم الثاني وهو الأول من أيام التشريق ..
زارنا في المخيم الدكتور محمد علي مدير عام البنك الإسلامي بنفسه!!
وقدم اعتذاره للشيخ عما حصل ولا ادري كيف بلغه الموضوع..
وأصر على شيخنا أن يرافقه بنفسه للمسالخ لرؤية الموضوع على الطبيعة
والدكتور محمد علي رجل مؤدب ومتواضع وخلقه وبشاشته تأسر القلوب
وهكذا كان!!
انطلقنا بسيارته وأصر على الشيخ أن يركب هو في الخلف وشيخنا بجوار
السائق وكانت لفتة كريمة منه ..
قبل دخولنا للمسالخ مر بنا الدكتور على مكان الذبح العام حيث يقوم الحجاج
بذبح هديهم وهذا خارج إشراف البنك ..
ويا للعجب!!
رأينا ذلك اليوم منظرا لا أنساه ما حييت ..
حيث تكدست عشرات الألوف من الأغنام المذبوحة على مد البصر
والملقاة بعضها على بعض وقد تعفنت وتجمعت عليها الحشرات وصدرت منها
روائح قاتلة ..
وكان غاية الدكتور أن يري الشيخ دور البنك في محاولة القضاء على تلك المشكلة
المزمنة ..
حيث رفع عن الناس حرجا شديدا واوجد لهم بديلا ملتزما بالضوابط
الشرعية ويبرئ الذمة ..
قال لنا الشيخ ذلك اليوم : قبل سنوات بعيدة في شبابي
اشتريت أنا وعدد من الإخوة والأصحاب جملا لكي نهديه عنا جميع
وكنا سبعة..
وكان عدد الأضاحي ليس بالكثرة الآن والحجاج اقل..
يقول شيخنا نظرا لوجود عدد كبير من الفقراء حولنا وكل واحد منهم احضر
سكينه وساطوره بيده!!
فقد حاولنا الابتعاد عنهم حتى يسهل علينا النحر والسلخ وتقطيع الذبيحة..
قال الشيخ : ما إن سقط جملنا حتى تساقط الناس علينا من كل مكان
فقطعوا البعير وجزءوه في دقائق معدودة !!
أما الحال ألان فهذا الذي نراه والله مأساوي !!
تجولنا في المسالخ وتأكد الشيخ بنفسه من سلامة طريقة الذبح والنحر وأن
العتب على الناقل سامحه الله..
ونحن نتجول في المسلخ جاءنا رجل وعيونه غارقة بالدموع ..
فتأملت وجهه فإذا هو صاحبنا الذي دخلنا عليه بالأمس وتجاهلنا
وقد كان كسيرا حزينا فسلم على شيخنا واعتذر منه واعتذر منا جميعا
أخذه شيخنا على انفراد ..
وتحدث معه وابتسم في وجهه وتهلل وجه الرجل وضحك ..!!
وأخبرني الشيخ لا حقا انه نصحه بترك الدخان فوعده بذلك
ولعل الله تعالى عافاه..
مرت تلك الأيام بوتيرة واحدة ..
كنا نذهب لرمي الجمرات مشيا على الأقدام ..
حيث أن مخيمنا ليس ببعيد عنها..
وفي الطريق يجيب شيخنا عن أسئلة الناس ..
أذكر أننا في عودتنا ذات مرة من الرمي وكان ذلك قبل الغروب بدقائق..
وكانت منى شبه خالية حيث عجل كثير من الحجاج كما هي العادة..
فمررنا على رجال يشدون أمتعتهم على سياراتهم..
فلما رأى أحدهم شيخنا وكان في أعلى السيارة الجيب يربط متاعه
نادى على الشيخ مستفتيا ويشير بيده: ياشيخ محمد إحنا معجلين
ومثل ما ترى قد يؤذن علينا وما أكملنا متاعنا هل يجوز لنا التعجيل ؟؟
فقال الشيخ : لا باس عليكم إن شاء الله ..
فهذا رجل استفتاه وهو على سيارته دون أن يتكلف عناء النزول!!
ولا أدري هل سألهم هل طافوا للوداع أم لا ؟؟
روى لي أحد الطلبة الثقات يقول : مرة كنا نسير مع الشيخ بعد الصلاة
من مسجده لبيته .. فنادى رجل من سيارته على الشيخ :
ياشيخ محمد ياشيخ محمد أريد أن أسألكم ؟؟
فقال الشيخ له : تعال أنت وسأل فالعلم يؤتى إليه وحق عليك إكرام العلم وأهله..
ولم يرد الرجل على الشيخ حياء من جوابه ..
ولكن شيخنا لمح في خلف سيارة الرجل عكازا فعرف أنه مبتلى..
فرجع للرجل ودنا منه واستمع لأسئلته حتى انتهى ..
لم نعجل كما هو المتبع من شيخنا في كل عام وخلى المخيم وحوله تقريبا
جاءنا ذلك اليوم ضيف كريم وهو الأمير ممدوح بن عبد العزيز وفقه الله
كنت أنه وهو مع الشيخ ثلاتنا لا رابع لنا في السيارة وقال لشيخنا كلمة
أراد منها أن يشد من عضد الشيخ قال له في كلام طويل أذكر بعضه :
(ياشيخ محمد أنت وشيخنا ابن باز أقدما ولا تترددا فوا لله إن إخوتي الكبار
من الملك وإخوانه الكرام الآخرين يقولان دائما للوزراء والمسئولين
أطيعوا العلماء ولا تعصوهم وخصوصا هذين العالمين الجليلين ابن باز والعثيمين
فنحن بالله قمنا ثم بهما !!)
جزى الله الأمير ممدوح خير الجزاء فهو صادق النصح إن شاء الله ولا يبتغي من
ذاك شيئا بارك الله فيه
شهدت منه موقفا أكبرته منه ..
حيث أذكر مرة أنه بعث رجلا لشيخنا يستفتيه في أمر وهو:
أن هناك مشروع يدر على الأمير مدخولا كبيرا ولكنه يحتاج لهذا المشروع
لرخصة وكونه أميرا ومن أبناء الملك عبد العزيز فلن يعسر عليه الحصول على
تلك الرخصة .. ولكنه تحرج من ذلك خوفا من أن يجامل كونه أميرا !!
وهذا بلا شك سيكون!!
فقال شيخنا للوسيط : سلم على الأمير وبلغه أن الورع أن يتركه والله يخلف
عليه بخير
فتركه رغم أن ربحه مضمون وأرباحه كبيرة للغاية والله يخلف عليه خيرا منه
في ماله وولده وأهله ..
زار الأمير ممدوح القصيم في سنة من السنوات
وكان في اغلب بقاءه في القصيم تلك الأيام يكون في عنيزة
إما في بيت الشيخ أو في جامعه أو عند أحد المضيفين له من عنيزة..
طلب الأمير ممدوح من شيخنا أن يزور بيته الطين والذي حتى تلك السنوات
لم يهد وبقي شامخا في المكان المعروف ألان .. شمال مسجد الجعيفري
على شارع الشريمية ..
التقينا شيخنا والأمير وأنا وجمع من الإخوة أمام باب المنزل ضحى ..
وفتح شيخنا باب بيته القديم ..
وأخذ يشرح لنا تفاصيل البيت وتقسيماته ..
حينما تدخل من باب المنزل تواجهك ساحة في وسطها نخلة طويلة ..
وعليها حبل للتسلق ..
وذكر الشيخ انه كان يصعد لأعلى تلك النخلة فيلقحها أو يحصد تمره
فقال لي الأمير مازحا: هل تستطيع الصعود لأعلاها يافلان؟؟
فحاولت الصعود وما عرفت طريقة شد الحبل خلف الظهر وهي تسهل كثير ا
الصعود..
فقام شيخنا بنفسه وشده وصعد حتى وصل قريبا من وسطها ونزل..
صعدنا من الدرج ليرينا مكتبته ..
فدخلناها فإذا هي غرفة متوسطة الحجم وفيها رفوف قديمة وشبه بالية
مكتوب عليها 1381 للهجرة ولعله تاريخ التركيب!!
وجدنا في زاويتها سلكا كهربائيا قويا قد عقف أعلاه على شكل عصى
وهو متماسك ومغلف ببلاستيك اسود قال الشيخ : هذه عصاي كنت استعملها
وأنا أسير في الظلام إلى المسجد قبل انتشار الكهرباء..
فحملها الأمير وكانت ثقيلة ..
واستأذن من شيخنا أن يهبه إياها ففعل..
وكذلك رأى الأمير سجادة صلاة قديمة قد حفر مقدمها من اثر السجود عليه
فقال للشيخ : هل هذه سجادكم ؟؟
قال: نعم ..
فاستو هبه إياها ففعل!!
خشيت أن يستو هب الأمير الشيخ كل شيء فهمست في أذنه وقلت :
أريد دواليب الكتب إن كنت لست في حاجتها !!
فقال: هي بالية !!
فقلت : حتى!!
فوافق..
فنقلتها لبيتي واحتفظت بها سنوات عديدة حتى سرقت مني!!
ولقد أعطاني الشيخ بناء على طلبي عددا من عباءاته القديمة جدا وما زالت
عندي حتى الآن ..
واحتفظ بها للذكرى لا للتبرك أو شيء آخر والحمد لله ..
-
الحلقة السابعة والخمسون
رجعنا لبيت الشيخ إبراهيم في العزيزية بمكة شرفها الله
بعد انتهاء المناسك
وكالعادة يشعر المرء بأثر الحج من جهد وكلل وإرهاق ..
خاصة أن شيخنا يبذل جهدا أكثر ممن سواه..
استرحنا قليلا يوما أو يومين ..
من عادة سماحة الشيخ بن باز رحمه الله في كل عام أن يقيم شبه احتفال للدعاة الذين شاركوا في برنامج التوعية في الحج بمناسبة انتهاء برنامج التوعية السنوي في الحج
ويحضر ذلك الاجتماع بالإضافة للدعاة نخبة من العلماء والمفكرين من العالم العربي والإسلامي ..
يتم في ذلك اللقاء التعريف بالمناشط التي تمت وذكر بعض الإيجابيات والسلبيات وطرح الأفكار الجديدة..
أذكر ذلك اليوم أن سماحة الشيخ بن باز رحمه الله وشيخنا ابن عثيمين رحمه الله ..
والشيخ صالح الفوزان حفظه الله ..
كانوا متجاورين وعليهم أثر الجهد والتعب..
ولقد رأيت رؤوسهم ثلاثتهم تخفق وتعلوا من النعاس عفى الله عنهم..
وبهذا الاحتفال يكون ختام برنامج التوعية السنوي اسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنهم والحمد لله ..
أوصلت شيخنا لجده ومنها سيواصل على القصيم أما أنا فقد رجعت لعائلتي
في الطائف لكي اقضي لديهم فترة نقاهة فقد كنت مصابا بالزكام والحمى
الطائف جوه منعش وجميل طوال العام تقريبا ..
ففي الصيف حرارته معتدلة ولا تتجاوز حدود المعقول!!
كما في القصيم والرياض مثلا..
أما في الشتاء فإن برودته ليست بشديدة كبرودة أبها والباحة مثلا..
أذكر أنني قرأت في كتاب المطالعة في إحدى سني الدراسة عن عالم غربي
مر على الطائف فمدح مناخها وقال هو من أفضل المناخات في العالم!!!
ولا يظنن ظان أني أمتدحها لأنني كنت يوما من أهلها أو عشت سنواتي الأولى فيها .. !!
أنا أحكي شيئا معلوما ومعروفا للجميع ..
مكثت أياما قليلة في الطائف ثم رجعت للقصيم ..
وصلت لعنيزة ليلا..
حيث غبت عنها حوالي الشهر..
وكان السكن كئيبا بسبب قلة الحركة وشعرت بانقباض وضيق ..
وهذا شيء طبيعي حيث يشعر الإنسان بتلك الآثار بعد الغياب الطويل
القصيم بالنسبة لي تلك الأيام هي موطني فقد كنت أتم صلاتي فيها وحينما كنت أذهب للطائف فأنا أعتبر نفسي غير مقيم ..فتحل لي رخص السفر
منذ اليوم الأول لدخولي لغرفتي في السكن وأنا اشعر أن هناك اختلافا فيها؟؟
بلغت الشيخ بذلك .. فاستغرب وقال : لعلك واهم ؟؟
فتشت في أغراضي وأوراقي وأمتعتي وكتبي فاكتشفت التالي:
وجدت عددا من كتبي قد سرقت !!
وهي عبارة عن كتب صورتها من شيخنا وعليها تعليقاته وحواشيه بخط يده وهي كتب ثمينة جدا واحملها طوال تلك السنوات في حلي وترحالي..
وكذلك فقدت عددا من أوراق الشخصية وتزكيات سبق أن كتبها لي شيخنا في مناسبات معينة..
وكذلك افتقدت بعض الأمتعة المهداة أيضا من شيخنا!!
وكذلك افتقدت عددا من الرسائل التي كانت بيني وبين الشيخ ومم
كان يكتبه الشيخ للوالد وأحتفظ بنسخ منها..
توجست في الموضوع وقلت في نفسي: لا يملك مفتاح غرفتي سوى أنا وشيخنا ورفيقي في السكن !!
ورفيقي رجل ثقة وهو الشيخ محبوب وما حاجته لمثل تلك
الأغراض وما مصلحته من أخذها؟؟
ولم ابلغ شيخنا حتى تأكدت أنها سرقت !!
وعلمت من سرقها وشهد شاهد على ذلك لي..
أبلغت شيخنا بالحاصل ..
أذكر ملامح وجهه حينما أخبرته الخبر ..
لقد حزن وتأثر ابلغ تأثير ..واسترجع وكأنه عرف الفاعل فورا ؟؟
دعا بهذا الدعاء: اسأل الله تعالى أن يضيق صدره كما ضيق صدري حتى يرجع تلك الأشياء..
جميعكم من خلال القراءة السابقة للحلقات سيعرف من هو الفاعل؟؟
لقد أشترى الأستاذ أدوات لفتح الأبواب ودخل غرفتي في فترة الحج وقلب كل حاجياتي ليبحث عن السحر المخفي في متاعي !!!
فلما لم يجد شيئا ولن يجده سوى في مخيلته المريضة التي أملاها عليه شياطين الجن والإنس عليه !!
حينما لم يجد شيئا سرق تلك الحاجيات !!
لما؟؟
لا أدري ..
ولكن التفسير الوحيد لذلك واضح وضوح الشمس لمن له عينان ..
استجاب الله لدعاء شيخنا فلقد بلغني المؤذن عن ذلك الرجل انه مرض وأصيب بصداع شديد في رأسه وتغيب عن الدرس فترة طويلة ..
دعاني الشيخ يوما بعد الصلاة وسلمني كرتونا به جميع حاجياتي ..
فبحثت فيها فوجدت جميع الأشياء المسروقة كاملة موجودة سوى بعض الأوراق والخطابات وجدت صورها ولم أجد النسخ الأصلية
استعادها لي شيخنا لاحقا وسلمها لي جزاه الله عني خير الجزاء..
أسمحوا لي أيها القراء الكرام أن أنقل لكم هذه الرسالة التي كتبها لي شيخنا رحمه الله .. واسترجعتها من يد ذلك المعتدي
وهي موجودة عندي ولعل في نشرها نفعا لمن تأمل وتدبر معانيه
وقد ذكر شيخنا في الرسالة ذاتها سبب كتابتها ..
يقول شيخنا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد الصالح العثيمين إلى الابن (.... ) حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد سألتني بارك الله فيك أن أضع لك منهجا تسير عليه في حياتك...
وإني لأسال الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه الهدى والرشاد والصواب والسداد وأن يجعلنا هداة مهتدين صالحين مصلحين فأقول:
-
أولا : مع الله عز وجل
1- احرص على أن تكون دائما مع الله عز وجل مستحضرا عظمته متفكرا في آياته الكونية مثل خلق السموات والأرض وما أودع فيهما من بالغ حكمته وباهر قدرته وعظيم رحمته ومنته .
وآياته الشرعية التي بعث بها رسله ولا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
2- أن يكون قلبك مملوءا بمحبة الله تعالى لما يغذوك به من النعم ويدفع عنك من النقم ولا سيما نعمة الإسلام والاستقامة عليه حتى يكون أحب شيء إليك.
3- أن يكون قلبك مملوءا بتعظيم الله عز وجل حتى يكون في نفسك أعظم شيء..
وباجتماع محبة الله تعالى وتعظيمه في قلبك تستقيم على طاعته قائما بما أمر به لمحبتك إياه تاركا لما نهى عنه لتعظيمك له.
4- أن تكون مخلصا له جل وعلا في عباداتك متوكلا عليه في جميع أحوالك لتحقق بذلك مقام (إياك نعبد وإياك نستعين).
وتستحضر بقلبك أنك إنما تقوم بما أمر امتثالا لأمره وتترك ما نهى عنه امتثالا لنهيه فإنك بذلك تجد للعبادة طعما لا تدركه مع الغفلة وتجد في الأمور عونا منه لا يحصل لك مع الاعتماد على نفسك.
ثانيا : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
1- أن تقدم محبته على محبة كل مخلوق وهديه وسنته على كل هدي وسنة .
2- أن تتخذه إماما لك في عباداتك وأخلاقك بحيث تستحضر عند فعل العبادة أنك متبع له وكأنه أمامك تترسم خطاه وتنهج نهجه.
وكذلك في مخالقة الناس أنك متخلق بأخلاقه التي قال الله عنها(وإنك لعلى خلق عظيم).
ومتى التزمت بهذا فستكون حريصا غاية الحرص على العلم بشريعته وأخلاقه.
3- أن تكون داعيا لسنته ناصرا لها مدافعا عنها فإن الله تعالى سينصرك بقدر نصرك لشريعته.
ثالثا : عملك اليومي غير المفروضات
1- إذا قمت من الليل فاذكر الله تعالى وادع الله بما شئت فإن الدعاء في هذا الموطن حري بالإجابة واقرأ قول الله تعالى( إن في خلق السموات والأرض ) حتى تختم سورة آل عمران وهي عشر آيات.
2- صل ما كتب لك في آخر الليل واختم صلاتك بالوتر.
3- حافظ على ما تيسر لك من أذكار الصباح . قل مئة مرة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
4- صل ركعتي الضحى.
5- حافظ على أذكار المساء ما تيسر لك منها.
رابعا: طريقة طلب العلم.
1- احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئ معينا تحافظ على قراءته ولتكن قراءتك بتدبر وتفهم .
وإذا عنت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
2- احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
3-احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفا من هذا شيء ومن هذا شيء لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك.
4- أبدا بصغار الكتب وتأملها جيدا ثم انتقل إلى ما فوقها حتى تحصل على العلم شيئا فشيئا على وجه يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.
5- احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: من حرم الأصول حرم الوصول.
5- ناقش المسائل مع شيخك أو من تثق به علما ودينا من أقرانك ولو بأن تقدر في ذهنك أن أحدا يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سمينا.
هذا وأسال الله تعالى أن يعلمك ما ينفعك وينفعك بما علمك ويزيدك علما ويجعلك من عباده الصالحين وحزبه المفلحين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبه محمد الصالح العثيمين في 3 رجب 1412 هـ التوقيع.
رحمة الله على شيخنا وجزاه الله عني خير الجزاء
إن كلماته تلك تحمل في كلمة منها معاني سامية خرجت من قلب رجل امتلأ علما وإيمانا وتقى احسبه كذلك والله حسيبه..
-
الحلقة الثامنة والخمسون
لا أرغب في الاسترسال حول التصرف الذي حدث من قبل صاحبنا فبفضل المولى سبحانه منذ ذلك التصرف الأهوج الذي بدر منه لم أتلقى أي تصرفات أخرى ملموسة من قبله سواء بالكلام أو الفعل
والله ربي وربه وحسيبي وحسيبه مطلع على الخفايا وعالم بالسرائر..
ويبدوا أنه شعر بخيبة أمل كبيرة حيث لم يصل لمبتغاه بفضل الله أول
ثم بفضل شيخنا الحصيف والعاقل والمؤمن والعالم الراسخ..
فأين تجد مثل هذا ؟؟
ذلك فضل الله..
توقف النزاع والخصام ولعله إلى الأبد والحمد لله ..
وأؤكد للجميع أنني لم أسعى وأهتم بذكر هذا الرجل بعينه بسوء!!
أمام أحد من الناس كائنا من كان ..
مقابلة لجرمه بحقي وكذبه علي ..
ولو أنني أذكر أعماله وتصرفاته فليست سوى للعبرة ..
والله يهدينا ويهديه لصراطه المستقيم ..
حينما كتبت بالأمس تلك النصيحة التي وجهها شيخنا لي ..
تذكرت أنني قرأتها في تلك الأيام ولا شك أنني استفدت منها ..
وحرصت على العمل بها بقدر ما آتاني الله من بصيرة ..!!
ولكنها اليوم ذات طعم خاص ومذاق مختلف..
منذ فترة بعيدة جدا لم أقرأها ولعل هذا من حسنات هذه المقالة أن جعلتني أتذكر تلك الوديعة الثمينة..
قرأتها بالأمس قراءة تمحيص وتدقيق..
تأملت حروفها .. حيث كتبها بيده وبخطه الجميل..
شممت عطرها الزكي.. على ذلك الورق المتواضع ..
أصغيت لها فتردد في سمعي رنينها العذب...
و ضعتها على صدري فامتزجت همساتها في الفؤاد ..
تذكرت الوقت الثمين الذي قضاه في تدوينها..
تذكرت كم أنه تأمل وفكر فيما هو يصلح حالي في ديني ودنياي فرقمه..
تذكرت يده حينما قبضت على القلم وأخذت تخط تلك الكلمات الصادقة..
تذكرت كيف كان قلبه في تلك اللحظات ينبض بالرحمة والشفقة علي..
خرجت بأمر واضح كالشمس:
أيقنت أنها صدرت من قلب كبير..
رحمك الله يا أبا عبد الله ..
رضي الله عنك ياشيخنا محمد..
فوا لله ما قدرتك حق قدرك وما أوفيتك الوفاء الجميل..
والله لو كان لي سبيل إليك لرأيت مني غير ما رأيت ..
ووالله ياوالدي لو تمكنت من رؤيتك والاجتماع بك
لتعبدت ربي سبحانه أن أكون خادمك المطيع حتى الممات..
أنت والدي فعلت بي ما يفعله الوالد بولده وأكثر..
كم مرة سمعت أبي أحمد رحمه الله يقول لي بحضور شيخنا:
هذا والدك دوني !!
قلت له : مه !!
فقال: لقد قدم لك كيت وكيت وفعل لك كذا وكذا..
إن للأمة حق على هذا الرجل حق عام!!
أما أنا وغيري فعلينا له حق خاص..
يجب علينا أن ندفعه له حتى الممات..
أقله الدعاء وهو من الوفاء له ..
ونشر علمه ..
وتعريف الناس بفضائله وهذا الذي سماه خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام( واجعل لي لسان صدق في الآخرين)
وهاأنذا أحكي بعض جميله ..
كنت في تلك الأيام رغم بري به والحمد لله والجميع يعرف ذلك
قليل الإدراك وهكذا المرء في فتوته وشبابه ..
قد يدرك ولا يدرك ..!!
يرى الأمور ويبصرها ولكن لا يفهم معانيها ومضامينها وروحها إلا، لاحقا..
لا يقرأ بين السطور..
وبالأحرى لا يملك آليات تلك القراءة !!
وهذه هي البصيرة الحقة..
أي منا لم تسهر والدته يوما بجواره وهو صغير حينما يئن من المرض ؟؟
أي منا لم يرى كم كان والده يخرج باكرا من منزلهم ويعود في المساء وقد بلغ به الإعياء والتعب مبلغه..
كنا نرى تلك التصرفات ولكننا لا ندرك جوهرها ولا عمقها..
إنه الحنان ..
إنها الرحمة ..
والمحبة والشفقة والفداء والتضحية ..
وكل المعاني السامية تنبعث من تلك التصرفات جملة واحدة..
تلك المعاني تكتشفها للأسف لاحقا ..
بعد سنوات طويلة ..
وغالبا بعد رحيلهم..
فتبقى في القلب حسرات وآهات ..
وأقول : يا إخوتي وأخواتي
من وفقه الله فأبصر الحقيقة وعلم ذلك علم اليقين وما زال صاحب الفضل
حوله وقريبا منه..
فهذا والله المحظوظ فلا تفلت منه الفرصة..
فدونه الجنة فهي أقرب له من شراك نعله..!!
بعد موت والدي عليه رحمة الله ..
بشهر تقريبا كنت أسير بسيارتي بين الطائف والرياض..
وكنت حينها لم أستيقظ بعد من هول الصدمة بفقدانه..
كنت أقود السيارة وارى الطريق أمامي ولكن قلبي وعقلي معه رحمه الله
يسترجع شريط الذكريات الطويل ..
من الذكريات المحزنة..
وحصل ذلك قبل أسبوع من موته رحمه الله..
حيث أنني أثقلت عليه في موضوع ما!!
وأذكر أنه اتصل علي وعاتبني على ذلك..
حيث وقف ساعات وعانى من هذا الأمر ..
وكان ذلك على غير قصد مني..
ومع ذلك فإنني شعرت بألم في قلبي وحزن
فأوقفت سيارتي وبكيت حتى كدت افقد وعيي من البكاء والله ..
رحمهم الله ورضي عنهم وجمعنا وإياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر
مرت الأيام والساعات وتوالت الليالي والحمد لله استزدت تحصيلا..
من رعايته رحمه الله بي حيث درسنا في تلك الأيام مادة المواريث
وهذه المادة من أصعب علوم الفقه كما هو معلوم..
فكان شيخنا يهون علي المر ويقول : هي سهلة جدا!!
أذكر مرة أنني حضرت في مدينة الطائف درسا في علم المواريث ( الفرائض)
عند الشيخ علي بن محمل العتيبي وهو قاضي متقاعد من المحكمة
والشيخ علي متقن للغاية لهذا الفن..
حينما استمعت لكلامه طوال ساعة وأزيد
لم أستطع فهم كلمة واحدة ..وأغلق علي وعسر ذلك العلم من ذلك الدرس
فخرجت وأنا مصدوم من هذا العلم المعقد للغاية..
ولكن شيخنا رحمه الله كما هي قاعدته (الكيف لا الكم)..
جرد لي هذا العلم من كل تلك العقبات فصار ميسرا وسهل التناول بحمد الله تعالى..
فكنت ادرس عنده في الليل مع الطلاب .. وفي الطريق لبيته يملي علي المسائل
ويختبرني ويكلفني بالبحوث حتى أدركته جميعا..
وما زلت حتى الآن أحتفظ بتلك الواجبات وعليها تصحيحاته وتعليقاته
بالقلم الأحمر..
علمت أن شيخنا يعاني من قضية المساعدات التي يقدمها للناس حيث يأخذ ترتيب تلك الأمور وتدوينها وجردها وقتا ثمينا منه..
فعرضت عليه أن أساعده في ذلك..
وأراد مرة أن يختبر جديتي في الموضوع!!
حيث اتصل علي شيخنا ذات يوم في السكن..
وقال لي : أريدك تحضر للبيت احتاجك في أمر..
فوصلت لبيته فخرج إلي وفي يده كيس ..وقال:
هذه النقود تذهب بها للبنك وتودعها في حساب الزكاة..
ولم يكن المبلغ كبيرا ولكنني لم احمل مثله من قبل!!
ذهبت للبنك مرورا بالبيوت الطينية الواقعة بين شارع الشريمية والبنك في شارع الضليعة..
كانت الشوارع والأزقة خالية من الناس والمارة..
فكنت استعجل الخطى حتى أمر من تلك الدور المهجورة والمخيفة..
دفعت للبنك ذلك المبلغ ..
ومنذ ذلك اليوم ولسنوات صرت احمل نقود الزكوات والصدقات وغيره
من البنك للشيخ والعكس..
ولقد كانت تبلغ المبالغ أحيانا أرقاما كبيرة ومخيفة ..
ومع ذلك فلم يحصل أي حادث يذكر سوى موقف وحيد وتافه لا يستحق الذكر!!
في تلك الأيام حدثت حادثة غريبة لي ..
-
الحلقة التاسعة والخمسون
شعرت في تلك الأيام بألم شديد في الجزء الأيسر من رأسي..
ظننته صداعا عابرا ..فاستعملت المهدئات..
ولكن الألم استمر وزاد حتى صار عذابا لا يطاق..
توجهت لقسم الطوارئ في مستشفى الملك سعود..
قال لي الطبيب: يجب أن تنوم في المستشفى لنرى ما القصة؟؟
لا أشك أنه قد ظن أن في الأمر شيئا خطيرا فقرر تنويمي..
اتصلت على شيخنا وبلغته بالحاصل..
فقلق علي رحمه الله واتصل على المشرف العام ليستبين الموضوع..
وضعت في غرفة جميلة وهادئة وكنت فيها وحيدا ..
وهذه من جمائل الدكتور عبد الله البداح المشرف العام..
بعد صلاة العصر.. جاءني في المستشفى للزيارة شيخنا رحمه الله
ومعه جمع كبير من الطلاب ..
لم أكن اشعر بشيء خطير سوى تلك الآلام التي تأتي ثم تروح ..
ولم يكن يوقفها سوى المهدئات والمسكنات والتي سيكون لها آثار جانبية في
المستقبل كما سترون..!!
إن مجرد رؤية هذا الرجل الشهم والعالم الجليل وهؤلاء الكرام حوله
من طلبته الأخيار ..
أشعرني بالفخر والشرف أن أنتسب لتلك الطائفة الصالحة رضي الله عنهم
زارني المشرف العام مرارا ومعه المدير الطبي ورئيس شئون المرضى
وفي بعض الأحيان عدة مرات يوميا جزاهم الله خيرا..
كثرت علي التحاليل والأشعة حتى أيقنت أن في الأمر شيئا ما !!
قلت في نفسي: أخي الكبير محمد رحمه الله سبق وأن مات بسرطان في دماغه
فهل ياترى توارث المرض لي؟؟
كنت كلما تذكرت العذاب الذي وجده والداي ونحن الأبناء من مرض أخين
الكبير محمد أصاب بالقلق والخوف..
ماذا لو تكرر الموضوع؟؟
أخي محمد رحمه الله له قصة أستميح القراء في روايتها وإن طالت ..
هذا الشاب الذي اذكر عنه أشياء بسيطة ،توفي رحمه الله وأنا ما زلت في سن
السابعة أو قريبا منها..
وذلك في سنة 1402 للهجرة ..
حيث شعر بآلام شديدة في رأسه .. وتعب الأطباء وعانوا في اكتشاف
سبب ذلك .. فقائل : هو ورم غير مرئي!!
وقائل : هو مرض نفسي ..
وقائل:هو دلع وتدلل صبياني!!
نقل على أثرها إلى الرياض لمستشفى الملك فيصل التخصصي ..
وهناك شخص المرض بأنه ورم خبيث في الدماغ..
أستأصل الأطباء الورم وادعوا نجاح العملية ..
ولكن الآلام لم تتوقف .. يئس الوالد رحمه الله من ذلك المستشفى
ونقله لمستشفى عرفان في جده
واستعملوا الإبر الصينية معه وأنفق مبالغ طائلة وبلا طائل!!
لم يسمع أبي بطبيب في شرق المملكة أو غربها أو قريبها وأقصاها إلا وذهب إليه وتعب هو وشقي كما شقي أخي محمد أو كاد..
أستعمل الأدوية الشعبية والكوي..
أذكر مرة أنهم كووه المسكين حتى سمعت صراخه وأنينه ونحن في السيارة
وكنا نبكي لبكائه رحمه الله ..
أما الوالدة فلا تسل عن حالها ولا عن كربها خلف الله عليها خيرا..
كنا نتقل بين مدن المملكة لعلاج أخينا أينما حل فقد كنا صغارا ولا راعي لنا بعد الله سواه..
أشار على الوالد عدد من أصحابه أن يعالجه في الخارج..
فتردد الوالد ولكنه أخيرا عزم ولكن أين وكيف وكم؟؟؟؟
جمع الوالد مبلغا وفيرا من المال وأظنه استدان جزءا منه ..
وسافر بأخي والوالدة واثنين من إخوتي الصغار لأمريكا ..
إلى مدينة هيوستن بولاية تكساس( ولا أدري هل نطقتها صحيحة)..
بقي أخي محمد لشهرين تقريبا مدركا لما يجري حتى دخل في غيبوبة ..
لم يستيقظ منها أبدا..
قرر الأطباء أن الوقت تأخر كثيرا !!
وقالوا للوالد : لو أتيت به مبكرا لأمكن استئصال الورم ولكنه الآن انتشر في دماغه ولو حاولنا إزالته فنجاح العملية فقط 1% (واحد في المائة )!!
ولك القرار؟؟
احتار الوالد ماذا يفعل واستخار ربه وأخيرا قرر أن لا يجري له العملية
فهي مخاطرة كبيرة وموت ابنه في بلده وبين أهله أهون على نفسه من موته في أمريكا ..
وسلم أمره لله تعالى..
طالب المستشفى الوالد بتسديد ما بقي عليه من مبالغ متأخرة..
فأخبرهم أن ما لديه لا يغطي مصاريفهم ومصاريف السفر..
فقالوا له : أدفع مبالغنا المتبقية ولا يعنينا كيف ترجع لبلدكم هذه مشكلتك.!!
اتصل الوالد على عدد من شركات الطيران لكي يرتب للعودة..
وجميعها رفض أن يوافق على النقل بسبب خوفهم من موت أخي وهم في
السماء!!
قال لهم الوالد: أنا اكتب لكم إقرارا أنكم لا تتحملون أي مسئولية عن ذلك وتقع
كل المسئولية علي إن مات.. فأبوا وأصروا على الرفض!!
خوفا على سمعة شركاتهم..
تقول الوالدة : أخذت الحيرة بابيك ولم يدر ما يفعل..
كانت هناك مترجمة لبنانية وعملها الأصلي التمريض في نفس المستشفى ..
قالت لأبي : يا أخ أحمد يوجد أمير من العائلة المالكة السعودية يتعالج
في القسم الذي تحتنا مباشرة ..فلماذا لا تذهب لتتحدث معه عن مشكلتك!!
توجه والدي دون أن يرد عليها فورا إلى القسم المذكور ..
وبحث عن أناس بسحنات عربية .. فوجد مجموعة من الشباب ومعهم رجل كبير في السن ويظهر عليه أنه ذو غناء وسلطة !!
سلم عليهم الوالد فردوا التحية وخصوصا ذلك الكبير منهم ورحبوا به ترحيبا كبيرا ..
وزاد سرورهم حينما علموا أنه من المملكة ومن أبناء بلدهم..
واستفسروا عن سبب وجوده ؟؟
فقال لهم : لأجل هذا جئتكم.. !!
وروى لهم حال الأخ محمد ووضعه مع المستشفى وشركات الطيران..
فقال له الأمير: هون عليك يا أخي واعتبر الموضوع منتهي وجهز حقائبك للسفر غدا..
أي تيسير من الله تعالى هذا التيسير ؟؟
الحمد لله على نعمه..
سدد الأمير كل رسوم المستشفى وتكفل لهم بطائرة تنقلهم مباشرة إلى الرياض..
جزاه الله خيرا ..
بخصوص اسم الأمير ذاك فإن كنت اذكر قال لي الوالد رحمه الله أن اسمه :
محمد بن سعود الكبير فجزاه الله خيرا إن كان هو أو غيره !!
بقي أخي في الرياض لأسبوع واحد ثم نقل للطائف لمستشفى القوات المسلحة في الهدى..
وفي صبيحة يوم خميس بعد أسبوع تقريبا من وصوله للطائف..
تقول أمي: كان أخوك ينظر إلى ما حوله دون أن يتكلم ..
فهو لا يشعر بمن حوله ولكنه يشير بأصبعه أحيانا..
في تلك اللحظات وحوالي الساعة التاسعة صباحا ..
جرك إصبعه وأشار إليها فنظرت في وجهه ..
فرأت اختلافا في ملامح وجهه ..
وكأنه يريد أن يقول لها شيئا ولكنه عاجز عن الكلام ..
قالت له : يامحمد ياقرة عيني ماذا تريد ياوالدي ؟؟
خرجت من عينيه دموع بسيطة ولكنها ذات معنى..
قبضت على يده وبقيت ترقب نبضه فقد كان يضعف ويضعف..
حتى فاضت روحه عليه رحمة الله وأسكنه جنات النعيم..
دار في مخيلتي وأنا في عنيزة تلك القصة وتلك المعاناة
هل ستتكرر معي..
دخل علي المشرف العام على المستشفى ومعه شخص أو شخصين..
وطلبوا رقم شيخنا وكأنهم يريدون تبليغي بأمر والشيخ يسمع!!
قال له الدكتور عبد الله : ياشيخنا الفاضل فلان يجب نقله بطائرة الإخلاء إلى الرياض فورا !!
قال شيخنا: هل حالته تستلزم ذلك ؟؟
قال : نعم ، فقد ظهر لنا من خلال الأشعة وجود ورم في رأسه !!
كان الوالد والوالدة والعائلة تتصل علي يوميا للتابع الأخبار..
حينما أبلغت الوالد أنهم سينقلونني بطائرة الإخلاء..
طلب مني الانتظار حتى يقدم ..
وصلت طائرة الإخلاء والوالد معا في نفس الوقت..
نقلت بالإسعاف للمستشفى العسكري في الرياض..
لم أكن أشعر بآلام تلك الأيام ولكن يبقى رأي الأطباء هو الحكم هنا..
رجوت الوالد أن يرجع للطائف فقد كنت أعلم المعاناة والمشقة عليه في بقاءه معي
وترك عمله وعائلته خلفه ..
أستفسر من الأطباء عن وضعي فقالوا له : الموضوع هو اشتباه واطمئن ولا تقلق..
رافقني أحد زملائي وهو الأخ سعود الحربي وأنعم به وأكرم من أنيس ومعين..
كان يخدمني في تلك الأيام محتسبا جزاه الله عني خير الجزاء..
رغم أني أستطيع السير والتنقل ..
كان بجواري شاب مصاب بشلل نصفي مؤقت..
أصيب به في أمريكا وعاد للملكة للعلاج..
كان شيخنا رحمه الله يتصل علي في اليوم عدة مرات ليطمئن علي ويسمع
المستجدات..
سمعني ذلك الشاب وأنا أذكر اسم شيخنا فرجاني أن يكلم الشيخ ولو لكلمتين إن
اتصل علي مرة أخرى، وهذا ما حصل..
قال لي: هل هو والدك؟؟
قلت : نعم أنا لي والدين اثنين !!
والد بالنسب والدم .. ووالد بالبر والرحمة وكلاهما عزيز على قلبي ولهما حق الأبوة علي..
رحمهما الله وأسكنهما الفردوس الأعلى ..
مكثت في المستشفى لأسبوعين اثنين ..
وكانت النتائج والحمد لله أنه مجرد اشتباه والورم هو انتفاخ في أوعية الدماغ ..
والآلام التي كنت أشعر بها هي مرض وصداع يسمى طبيا الصداع النصفي وتسميه العرب الشقيقة ..
-
الحلقة الستون
حينما رجعت لعنيزة ..
استفسر شيخنا رحمه الله مني عن طبيعة الألم الذي أشعر به..
فشرحت له وفصلت فقال لي : مرني اليوم بعد صلاة العصر في المنزل..
وكان والدي قد قدم لعنيزة مرة أخرى للاطمئنان علي..
وكانت ضيافته طوال بقائه هناك في عنيزة في منزل شيخنا عليه رحمة الله..
ونشأت بينه وبين شيخنا محمد علاقة حميمة مليئة بالاحترام والتبجيل..
والدي رحمه الله رجل حيي وخجول ولكنه إن نطق فلسانه عذب ولبق رحمه الله..
ولقد أعجب شيخنا به وبأخلاقه وبساطته في هيئته ولباسه وذكر ذلك لي عنه
وكأنه وشيخنا في هذا الخصوص صنعا من طينة واحدة!!
كما تقول العامة عندنا..
مررت أنا والوالد على شيخنا بعد العصر فناولني كيسا في يده وكان يتلفت حوله وكأنه يستعجلنا بالذهاب وهذا ماكان..
فتشت الكيس فوجدت فيه بقايا طعام !!
من عظم وبقايا بطيخ مأكول ونحو ذلك!!
لحقنا الشيخ للسيارة وقال لي : أخلط بقايا الطعام في ماء واغتسل به واغسل به رأسك على الخصوص!!
وهذا ما فعلته ولم أسأله لمن ذلك الطعام ولا أدري هو لمن حتى هذه الساعة..
كلفني شيخنا رحمه الله في تلك الأيام بعد اعتدال صحتي والحمد لله ..
بترتيب مخزن المكتبة الوطنية ..
وقال لي: إن وجدت كتابا مكررا فخذ نسخة منها لك..
فتحت المخزن فوجدت الأرضة قد أكلت جزءا لا يستهان به..
استعنت بعمال المسجد ونظفنا الكتب ووضعناها على الرفوف ..
وألقينا بالتالف جدا والأوساخ خارج المخزن..
حصلت على عدد لا بأس به من الكتب المكررة وكذلك أخذت بعض الكتب بإذن شيخنا..
وأنا أقلب في تلك الكتب كان يلفت نظري تعليقات ورسائل قليلة أجدها موضوعة بين دفتي الكتب..
قرأتها وكان غالبها بخط الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله..
ومؤرخة ..وتاريخها قديم يتجاوز الخمسين سنة وأكثر..
والظاهر أن مكتبة الشيخ ابن سعدي أوقفت أو أنه أهدى شيئا من كتبه للمكتبة العامة والمسماة ( مكتبة عنيزة الوطنية)
وجدت كتيبا اسمه ( صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم)تأليف أبو عبدالرحمن ناصر الدين نوح نجاتي الألباني الساعاتي!!
عرفت أنه كتاب صفة الصلاة المشهور والذي كتبه علامة الحديث الشيخ الألباني رحمه الله .. وهذه هي الطبعة الأولى وكتب عليها الشيخ الألباني وبخط يده (هدية المؤلف إلى حضرة الشيخ عبد الرحمن ابن ناصر السعدي 7/12/72هـ ناصر الدين نوح نجاتي الألباني) ..
الشيخ الألباني علم الحديث وشيخ العصر في ذلك ..
وليس مثلي من يثني عليه أو يسأل عنه .. رحمه الله
قرأت مرة كتابا منذ مدة ألفه الأستاذ الأديب عبد الله بن خميس يروي فيه إحدى رحلاته للشام قبل حوالي الخمسين سنة وكان برفقته علامة الأنساب والأدب وصديقه الحميم الشيخ حمد الجاسر رحمه الله ..
وأظن أن ثالثهما هو الأديب عبد الكريم الجهيمان ..
ذكر في كتابه أنه زار المكتبة الظاهرية في دمشق ..
و ذكر أنه شاهد هناك رجلا منهمكا في البحث والمطالعة وذكر اسمه وقال كلاما بمعناه :ذلك هو علامة الشام المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني .
وكذلك قرأت للشيخ حمد الجاسر قريبا من هذا الكلام في مذكراته وقال عنه:
هو من أحلاس المكتبة الظاهرية..
كان مرة بيني وبين الشيخ علي الحلبي تلميذ الألباني المشهور اتصال ونقاش حول بعض التخريجات الحديثية..
وكنت أشعر في نفسي أن هناك جفوة غير مفهومة بين شيخنا والشيخ الألباني والظاهر أن سببها هو ما يثيره بعض المفسدين في الأرض بين الشيخين ..
مما سبب شيئا من تلك الجفوة وانقطاع التواصل..
ولا يأتيني قائل ويزعم أنني أختلق الموضوع من طرفي ..
فمن عاصر قضية حرب الخليج وما حصل فيها من اختلاف وشقاق وجفاء بين رجالات الصحوة والعلم ،فهم ما أعنيه جيدا!!
قلت للشيخ علي: ما رأيك أن نرتب مكالمة هاتفية بين شيخنا محمد والشيخ الألباني ..؟؟
ففرح بذلك وأثنى على الفكرة وأيدها وقال سوف أرتب مع الشيخ الألباني وأنت رتب مع الشيخ محمد وسنرى ما يكون..
عرضت الأمر على الشيخ فقال فورا : لا بأس بذلك وأثنى على الفكرة ورغب في ذلك.. وذكر لي أنه لم يراه من مدة بعيدة حيث كان آخر لقاء بينهما في جده أو قال في مكة.. ( نسيت التاريخ ) و ذكر أنه تناقش معه حول موضوع الحجاب ..
ومن طرف الحلبي فقد كان التجاوب مماثلا والحمد لله..
حددنا الاتصال أن يكون في يوم من الأيام الساعة العاشرة صباحا ضحى ..
ولا أذكر التاريخ بالتحديد.. وأظنه كان يوم جمعة !!
حيث من عادة شيخنا في ذلك اليوم الاتصال على أقربائه والتواصل معهم..
قلت لشيخنا : هل تسمح لي بتسجيل مكالمتكما ؟؟
قال: لا بأس بذلك..
حضرت لبيته وثبت له جهاز التسجيل وأخبرته كيف يديره ..
في اليوم الثاني بعد صلاة الظهر ناولني شريطا وقال : هذا هو تسجيل المكالمة ..
توجهت للغرفة مسرعا واستمعت للشريط..
كان التسجيل رديئا وصوت الشيخ الألباني خافتا نوعا ما ..
ولكنني استوعبت كل ما فيه ..
أستفتح شيخنا كلامه وهو المتصل بعد السلام عليه قائلا له :
معكم أخوكم محمد بن صالح العثيمين ..
فرد عليه الألباني: قديما قال الفقهاء : المعرف لا يعرف ..
وفيه من التحية والسلام والدعاء والنصح بين العلماء كما عهدنا فيهم ذلك وهو ظننا في مشائخنا جزاهم الله عنا خير الجزاء..
تحدث كل منهما عن نشاطه وقال الألباني: لدينا الحمد لله صحوة سلفية وإقبال على طلب علم الحديث .. الخ كلامه
وتكلم شيخنا عن دروسه وقال : أدرس كتاب البلوغ ويحضره بحمد الله عدد كبير .. الخ كلامه ..
ذكر الشيخ الألباني في آخر مكالمته أنه اتصل عليه اليوم شخص وزعم أن لديه
رسالة من الشيخ ابن عثيمين موجهة إليه !!
فقال الشيخ محمد : أبدا والله أنا لم أبعث أحدا برسالة لكم؟؟
فتعجب الشيخ الألباني من ذلك وقال : الله أكبر عليه!!
سوف أراه اليوم بعد صلاة الظهر أو قال الجمعة في جامع صلاح الدين وأرى ما عنده!!
قال شيخنا : ما أكثر ما ينقل الناس عني الكذب ويلبسونه على الناس ، وأرجو منك تتصل علي وتخبرني ما يقوله الرجل عني..
واتفقا على ذلك .. ولا أدري مالذي حصل بعد ذلك وهل جاء ذلك الرجل برسالته المزعومة للشيخ الألباني أم لا !!
وانظر أخي القارئ أختي القارئة لحفظ الله تعالى لهذين الرجلين الصالحين
فلربما كان في تلك الرسالة شرا وفتنة حيكت بينهما فقدر الله تعالى كشف ذلك
بتوفيق من عنده .. والله أعلم وأحكم سبحانه ..
ليس هذا هو الموقف الوحيد الذي أحتفظ به بين هذين العلمين الجليلين ..
كنت مرة في جبال البوسنة والهرسك وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله ..
التقيت برجل أسمر البشرة يكني نفسه بابي عبد الله الليبي هذا الرجل أسد في
شجاعته وإقدامه وكان أميرا من أمراء المجاهدين قتل على يد قناص صربي شل الله يده ..
روى لي الأخ أبو عبد الله رحمه الله قال: هل تعرف الشيخ الألباني ؟؟
قلت له : ومن لا يعرف الألباني هو علم ومشهور..
قال : أريدك أن تحمل له هذه الرسالة !!
قلت له : وأي رسالة ؟؟
قال : رؤيا رآها أحد الصالحين وطلب مني أن أنقلها للشيخ وأنا كما ترى عاجز وقد أقتل في أي لحظة!!
قلت له :حدثني..
قال : كان هناك شاب مصري اسمه وحي الدين حافظا لكتاب الله تعالى وكان أميرا على جميع المقاتلين العرب في البوسنة وكان غاية في الشجاعة رغم صغر سنه فقد قتل غدرا وعمره حوالي 23 سنة رحمه الله ..
كان وحي الدين هذا محنكا وداهية وكان يوجه المجموعات الكبيرة ويخرجها من بين المصاعب المهلكة بتوفيق الله تعالى..
ذات مرة قادنا وحي الدين وكان أميرا علينا وعلى الجيش البوسنوي معا في تلك
العملية التي انتزعت فيها مناطق شاسعة في وسط البوسنة من يد الكروات الخونة..
يقول أبو عبد الله : في تلك العملية قصفتنا مدفعية ولا ندري ما هي الجهة التي تقصفنا فاحتار الجنود من ذلك وكثر فينا الإثخان والقتل فاكتشفنا أن الذي يقصفنا هو الجيش البوسنوي خطأ!!
وسبب ذلك عدم توفر أجهزة للتوجيه وتحديد مواقع الأعداء ..
واستمر القصف علينا ولم نستطع التقدم لمطاردة الأعداء الهاربين ..
عندها أمر وحي الدين الجنود بإحراق كومات كبيرة من الحشائش ..
فانتشرت كومة كبيرة من الدخان واتصل على الجيش وقال لهم: نحن خلف
تلك الكومة المحترقة وبهذا نجونا من موت محقق !!
يقول أبو عبد الله : روى له ذلك الشاب وحي الدين أنه في ليلة من الليالي وقبل قتله من قبل الكروات بفترة وجيزة رأى في ما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته الشرعية المعروفة ..
وتحدث معه في أمور وسأله عن أشياء وفي نهاية رؤياه قال له : يارسول الله
دلني على رجل أتعلم منه حديثك وسننك أو بهذا المعنى ..
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : أذهب إلى محمد ناصر الدين الألباني
أو قال له : عليك بكتب محمد ناصر الدين الألباني .. وأثنى عليه وعلى علمه ودينه..
عندما رجعت للمملكة ..
حكيت لشيخنا ما رآه ذلك الشاب رحمه الله وكنا حينها في الطائف..
فقال لي الشيخ : هذي بشرى وينبغي عليك أن تبلغها الأخ الألباني ..
فقلت له : لدي رقمه !!
فناولني التلفون وقال : اتصل عليه الآن ..
اتصلت فردت عليه امرأة فرجوتها أن تعطيني الشيخ لأتحدث معه..
فاعتذرت من ذلك وقالت : الشيخ مريض ولا يستطيع أن يجيب على أحد..
بعد سنة أو أكثر رويت تلك الرؤيا لأحد طلبة العلم من الأردن يقول : ولقد
بلغ بها الشيخ الألباني في جمع من الناس فتأثر جدا وشهق وبكى ودع
لشيخنا وتأثر من موقفه وحرصه على أن ابلغه ..
ففرحت أنني أوصلت تلك الأمانة ولو بعد سنوات ..
وبلغته البشرى والله يغفر له ويرحمه هو وشيخنا وجميع علمائنا ..
-
الحلقة الواحدة والستون
على ذكر المكتبة اتصل علي شيخنا رحمه الله يوما وقال:
سيأتيك أحد الأكاديميين ويريد تصوير بعض المخطوطات ..
حيث تحتوي المكتبة على خزانة بها عدد بسيط من المخطوطات القديمة وبعضها
كتبت منذ ثمانية قرون..
وقد سبق وقمت بفرزها وترتيبها وفهرستها بأمر شيخنا رحمه الله..
عجيب أمر المخطوطات!!
ما زلت أتذكر أنني كنت أجلس في جوف الليالي الهادئة والناس نيام
والشوارع ساكنة ..
كنت أشعل ضوء المكتبة الخافت وأجلس أتصفح تلك المخطوطات فأشعر بسكينة عجيبة حيث أنني أنتقل لخمسة قرون خلت أو أكثر وأجلس مع ذلك الشيخ أو ذلك الطالب الذي حنى ظهره وكلت يده في شدة الحر والجوع والمخمصة وهو يدون تلك التحفة العظيمة ..
لا أدري لو أن الله تعالى قدر على طلبة علم هذا الزمان المترفين !!
أن يرجعوا لتلك الأزمان الغابرة مدة شهر واحد فقط ماهم فاعلون؟؟؟
جاءني ذلك الأكاديمي المذكور ..
وجهه أبيض مشرب بحمرة يلبس مرآة
نظر الوجه عذب اللسان بسيط أنيس ..
انشرح له قلبي منذ أن رأيته ..
عرفني بنفسي قال : أنا أخوك عمر السبيل !!
والذي صار لا حقا إمام الحرم الشريف ..
وفجعنا بموته رحمه الله بعد سنوات جعل الفردوس الأعلى مثواه..
كان يريد مخطوطة عن الألغاز ..
فتشت له عنها واستخرجتها له ..
أقفل المخطوطة ونسينا أمرها وبقينا في المكتبة نتحدث ولم نشعر حتى انتصف الليل..
أمثال الشيخ عمر جلست معهم ساعات معدودة ولكن كلماتهم الصادقة ولطفهم وسماحة نفوسهم تبقى خالدة في النفس حتى الممات ..
ووالله لو كنت أنظم النثر لرثيته فنعم الرجل عمر ..
رحمة الله عليه وخلف الله على والديه خيرا فيه..
استدعاني الشيخ في تلك الأيام وأدخلني لملحق بيته وقال لي وكان صارما:
أريدك أن تكون صادقا معي فيما أسألك عنه!!
نظرت في عينيه وقلت له : والله سأكون معك صادقا إن شاء الله ..
وانتابتني قشعريرة وخشيت أن يكون أحدهم ( وما أكثرهم) قد لبسني تهمة جديدة!!
قال : هل تجيبني عما أسألك عنه مهما كان ..؟؟
قلت : أفعل إن شاء الله ..
قال : بلغني من أحدهم أن عليك دينا لبعض الأشخاص في الطائف قبل قدومك لعنيزة هل هذا صحيح؟؟
خجلت والله واستحييت أن أكلم الشيخ في مثل هذه الأمور .. وكنت أعلم أن الشخص الذي نقل له الخبر هو الأخ محمد زين العابدين ..
وقد أخبرت محمد منذ مدة عن ذلك حينما كانت الفتنة بيني وبين صاحبنا حامية .. ولا أذكر مناسبة ذكر هذا الموضوع ولكنه الشخص الوحيد الذي أخبرته..
رفعت رأسي وتشجعت وقلت له : نعم علي دين ..
أرخى رأسه وأحنى جفنه وأخفض صوته معاتبا..
قال : لم لم تخبرني ؟؟
ألم اقل لوالدك أنك تحت رعايتي ؟؟
لم أستطع الجواب واحترت !!
استجمعت قواي وقلت له: يا شيخنا تلك أمور حدثت في الماضي قبل قدومي عليك ولم أكن تشرفت بمعرفتك ..
قال مقاطعا: ولكن المال ما زال في ذمتك .. والناس لن تتركك فكيف تريد أن تطلب العلم وأنت مشغول بهم؟؟؟
آمرك بكتابة تلك الديون وسوف أسددها عنك ..
قلت له : أبدا والله !!
قاطعني وقال: يجب أن أسددها حتى تريح بالي وبالك ..
ثم قال:وثق تماما أنني سأوفي دينك من مالي الخاص وليس من أموال الزكاة
أو الصدقة حتى لا أكون مجاملا معك من أموال المسلمين!!
ثم ناولني ورقة وطلب مني تدوين تلك الأسماء ومالهم علي ..
فكتبت ودخل لبيته ولم يطل الغياب
ثم ناولني المبلغ كاملا وزاد عليه وقال لي :هذا هو المبلغ ومعه نفقتك تسافر اليوم وتسدد للناس مالهم..
ثم اتبع ذلك قائلا لي وأشار بيده : أنت في حرج مني إن احتجت ريالا أو مئة
ألف إلا طلبت مني فأنا في مقام والدك فلا تتحرج مني!!
قبلته بين عينيه وقبلت يده ..
وخرجت من عنده وأنا محتار من كرم هذا الرجل ..
كنت أتساءل من قبل ولعلكم أنتم تساءلتم مثلي:
نرى كثيرا من المشائخ وأهل العلم ولكن قليل منهم من لهم قبول في القلوب لماذا؟؟
حينما اختلطت بشيخنا وعاشرته كنت أراه رغم علمه وجلالة قدره بشرا ..
يأكل وينام ويمشي في الطرقات ويتعب ويمرض ويغضب ..الخ
ولكن حينما رأيت أفعاله وتصرفاته معي ومع غيري عرفت أن الله تعالى المطلع على أفعال العباد في السر والشهادة هو الذي يبعث القبول للصالحين في قلوب البشر..وغير البشر!!
لا تتعجبوا من ذلك إخوتي أخواتي ..
ذكر لي الشيخ بنفسه قال لي :
جاءه رجل من قراء عنيزة المعروفين وذكر له أنه قرأ على احد الممسوسين بالجن وأنه تحدث معي الجني ومن حديثه انه قال له ( أي الجني): إن جدي مطوع يحضر درس ابن عثيمين في الجامع!!
مرت الأيام والليالي وانتهى موسم الدراسة وجاءت الإجازة الصيفية..
حيث يتكثف برنامج الدروس ..
وتأتي لعنيزة كوكبة و دماء جديدة ووجوه أخرى من مناطق المملكة وخارجها ..
غالبها تأتي للدراسة في إجازة الصيف ثم ترجع لموطنها..
ومنهم من يحالفه الحظ فيبقى وإنه لذو حظ عظيم !!
وقد كان شيخنا يهتم بهؤلاء الطلبة كون غالبهم لا يستطيع المكوث طويل
فيخصهم بمادة نحو الفرائض أو متن في الأصول أو النحو أو نحو ذلك
بحيث يرجع الواحد منهم وقد درس متنا كاملا بالإضافة للدروس الأخرى
أذكر أنه جاءنا في سنة من السنوات طلاب من دولة روسيا يدرسون في الجامعة الإسلامية ....
وفي سنة من السنوات جاءنا حوالي العشرون شابا اهتدوا للسنة بعد أن كانوا على المذهب الإسماعيلي الضال..
وقد اهتم بهم شيخنا جدا حتى أنه خصهم بدرس في بيته كل صباح في العقيدة..
استمعت مرة لشريط لشيخنا حيث أنه زاره في مسجده في عنيزة عدد من الجنود الأمريكان الذين أسلموا في حرب الخليج يقول لي الشيخ عن تلك الجلسة..
كانوا ضخام الأجسام طوالا وأجلستهم في مكان الدرس المعتاد ..
وحيث أنهم يبدوا لم يعتادوا الجلوس على الأرض فقد تمدد بعضهم واتكئ على يده أمام الشيخ ..!!
يقول الشيخ :ولم أرد أن أعلق على أن ذلك من سؤ الأدب رأفة بهم لحداثة إسلامهم..
يستمر ذلك البرنامج الصيفي حوالي الشهر تقريبا بعده يسافر شيخنا لمدينة الطائف لحضور اجتماع هيئة كبار العلماء كما هو معروف..
وكنت رفيق شيخنا في تلك السفرة للطائف..
توجهنا لجده ومنها توجهنا لمكة لأداء العمرة..
وكان في رفقتنا في تلك العمرة الأستاذ عبد الرحمن العثيمين أخا الشيخ وكذلك ابنه الصغير عبد الرحيم..
بالإضافة للأخ علي السهلي..
انتهينا من أداء المناسك سريعا ثم توجهنا بعد العصر للطائف..
وكان مسيرنا عن طريق المسيال وليس عن طريق جبل الهدى ..
كان الجو ممطرا وكنت فرحا مسرورا للغاية وذلك أن شيخنا سوف يزورن في منزلنا في الطائف..
قلت له: والله بتنور بيتنا ياشيخ بقدومكم ..
فرد علي ابن الشيخ عبد الرحيم : بتنور كل الطائف مو بيتكم فقط!!
فضحكنا من جوابه ونباهته رغم حداثة سنه..
وصلنا فكان الوالد رحمه الله في استقبالنا عند باب البيت..
ولا تسل عن فرحه وابتهاجه بنزول الشيخ محمد عندنا..
كان الوقت عصر تقريبا ..
حينما وضع شيخنا قدمه في البيت ..
قلت في نفسي : ياسبحان الكريم الخالق ..
ابن عثيمين إمام المسلمين وعالمهم وفقهيهم بنفسه يدخل بيتنا ..
كأنني أقول لأبي حينها : قد أغضبتك أنت ووالدتي بهروبي وهاأنذا اثبت لك يا أبي أن الله تعالى تولاني ورحمني ومن علي ..
فهذا الشيخ ابن عثيمين يأتيك زائرا بنفسه إكراما لك ولابنك وأهل بيتك فهل تريد برهانا انصع من هذا البرهان؟؟
ولكأن أبي قال في نفسه : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين !!
استغفر الله من زلل القلم فعفوا إخوتي ..
إن لطعم ذلك اليوم مذاق خاص ..
تستمر حلاوته كلما استذكرته فاللهم اغفر لأبي وشيخي يا ارحم الراحمين
حينما دخل شيخنا لمجلس المنزل وكان في صدره صورة كبيرة معلقة لأخي الكبير محمد رحمه الله وكنت جهدت من قبل مع أبي أن ينزع تلك الصورة كون تعليقها محرما ويمنع دخول الملائكة كما هو المشهور من كلام أهل العلم.
ولكنه رحمه الله كان يتحجج بحجج كثيرة ويرفض رفعها..
حينما دخل الشيخ لفت نظرة تلك الصورة ..
فقال لأبي : يابو محمد أطمس هذه الصورة ..
فقام أبي من فوره وأخفاها عن نظر الشيخ ولم يرجعها ابدا !!
-
الحلقة الثانية والستون
أذكر مرة أن التاجر المعروف في مكة علوي تونسي دعا شيخنا ابن عثيمين للعشاء في بيته العامر..
وكان الأستاذ علوي قد دعا عددا كبيرا من وجهاء مكة وعلماءها وتجارها احتفاء بشيخنا..
سبقت شيخنا للدخول للمجلس حيث الناس تصافحه وتسلم عليه عند الباب
حينما دخلت رأيت صورة بشرية وتكاد تملأ الجدار من ضخامتها..
توقعت أن ينكر شيخنا ولا يسكت فهو كما عهدته لا تأخذه في الحق لومة لائم..
بقيت أنتظره وتساءلت في نفسي : مالذي سيحصل؟؟
وضعت في خاطري عددا من الاحتمالات ..
قطع صوت سلام الشيخ حبل التفكير وركزت النظر على عينيه ما هو انطباعه وتصرفه..
حينما توسط المجلس الفسيح لا حظ تلك الصورة فتأملها ثم أطرق وهو يمشي واحمر وجهه فهو بين خيارين اثنين : إما أن ينكر ويرضي ربه ومعنى هذا إما أن تنزع الصورة أو أن يخرج من المجلس!!
فالأول متعذر وفيه مشقة هائلة وحرج والثاني أشق وأنكى !!
أو أن يسكت وهذا ما يأباه عليه دينه وخوفه من ربة ثم اقتداء الناس به..
هذا ما تخيلته أنا ..
قال الشيخ : يا أخ علوي تعليق هذه الصورة لا يجوز ويمنع دخول الملائكة فأي بركة في مجلس لا تحضره الملائكة؟؟
رأيت وجه علوي تونسي تلون بألوان لا أميزها من الحرج والحياء..
أسعفه شيخنا وقال له : أحضروا لنا غطاء أو شرشفا وغطوا الصور ..
فتفرجت أساريره وكأن الشيخ أزاح جبلا هائلا عن صدره ..
فأمر أحد خدامه فغطى الصورة واسترحنا وانتهى الحال على ذلك ..
أذكر مرة أن شيخنا دخل بيت أحد أقرباءه وكان رجلا موسرا وفيه تعال وإسراف على نفسه ..فأراد شيخنا تأليف قلبه ودعوته ..
زرناه في منزله في جده وكان مجلسه مليئا بالتماثيل والمجسمات الحيوانية وغيرها ..
لم يتكلم شيخنا معه حول هذا الموضوع فيما بدا لي ..بل أنه ركز معه على الأمر الأهم والذي له الأولوية وهو هداية هذا الرجل وإنقاذه من براثن الضياع والضلال..
ولقد رأيت شيخنا يتألفه في الكلام ويتبسط معه ولكأنه يتكلم مع أعلى الناس منزلة وسلطة ..
فكسب بذلك قلبه وأحب الرجل ذاك شيخنا من ذلك المجلس مع أنه استقبلنا في أول الأمر بفتور وتعال..
وما خرجنا من بيته بعد ساعات إلا وقد امتلأت أسارير وجهه بشرا وحبا وإجلالا للشيخ ..
ولقد زرناه في المرة التالية بعد شهور فلم أر تلك التماثيل والمجسمات أبدا ..
وهكذا هي الدعوة ياعباد الله !!
أكسبوا الناس وتألفوا قلوبهم دون أن تتنازلوا مثقال ذرة عن دينكم !!
فالحمد لله الأمر فيه سعة لمن هداه الله ووفقه ..
جعلني الله وإياكم منهم..
كنا مرة في دعوة من الدعوات في جده وحضرها عدد كبير من المثقفين ومنهم وزير الإعلام الحالي إياد مدني وكان حينها مديرا لتحرير جريدة عكاظ..
و كذلك حضر عدد من التغريبيين من كتاب الصحف المشهورين والمحسوبين على تيار العلمنة ..
دار بينهم وبين شيخنا نقاش طويل وعميق ..
كان شيخنا يلقمهم بكل حجة من حججهم عشرا ..
كان مستند شيخنا قال الله قال رسوله وهم يستندون للواقع وقال فلان وفلان..
قال إياد مدني لشيخنا بكل فظاظة : لماذا تحتكر العلم في شخصكم هل الدين ما تراه أنت أو ابن باز فقط؟؟
فرد عليه شيخنا وأفحمه بكلام كثير وطويل ستملون من ذكره ..
وكنت أستغرب كيف مثله ومن هو في منصبه وحاله يقول مثل هذا الكلام الساقط عن مشائخنا ؟؟
إن أصغر مثقف يستطيع الرد على مثل هذا الكلام البائس والذي خرج من واهم أو صاحب هوى .. كما قال ربنا ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم )
أشفقت على شيخنا بسبب كثرتهم وكثرة لجاجهم وهم كما قال الأول:
حجج تساقط كالزجاج تخالها ذهبا وكل كاسر مكسور
ولم يكن من الأدب أن يشارك احد بحضور الشيخ فقد كنا جميعا تلاميذ له وليسوغ لنا المشاركة معه فبقينا صامتين ..
ولكن حينما انتهى النقاش وقدم العشاء وفض المجلس لحقت بإياد مدني عند المغاسل ..
فأسمعته كلاما شديدا فوقف ينظر إلي وقد اتسعت حدقة عينه حتى كادت تسقط من وجهه ..!!
فلم يكن يتوقع أن يتلقى هذه الصفعة مني فقد كنت موتورا ولا أدرك حينها التصرف الأمثل في مثل هذه المواطن ..
نرجع لتسلسل رحلتنا !!
عرض الوالد على شيخنا أن نستضيفه في بيتنا طوال بقاءه في الطائف..
فقال الشيخ : والله إنني أعتبر نفسي في بيتي ولكن يمنعني من ذلك بعد المسافة فمنزلكم يا أبا محمد في الضواحي وهذا فيه مشقة علي فأنا أبحث عن مكان قريب من مكان دروسي ودوامي اليومي في الهيئة ..
ألحيت على الشيخ وألح الوالد ولكنه أصر على ذلك..
وكانت غايتنا أن نتشرف بوجوده في بيتنا فأي شرف مثل هذا الشرف!!
ملاحظة: هذا آخر حلقة أنزلها وأنا مضطر للتوقف عن الكتابة لأمر طارئ وأعدكم بحول الله أن أعود لإكمال الحلقات لا حقا إن كتب الله في العمر بقية ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-
تكملة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطاهرين وبعد..
تشاجرت في هذا الصباح مع قلمي ودار بيني وبينه الحوار التالي:
قال لي وهو غضبان أسفا ..
قلي يا مالك في رحلتك إلى النور متى ستلج النور ياهذا ؟؟
أما زلت تسير ولم تصل إليه بعد ؟؟
ثم ما هو النور الذي تبحث عنه ؟؟
أهو شيء محسوس أم هو هوس بالمغامرات واقتحام لدروب ومجاهل في الحياة عجيبة ؟؟
متى ستنتهي حكاياتك ؟؟
متى ستتوقف روايتك..
قلت لقلمي: أليست الحياة مواقف ..؟؟
قال: بلى ولكن كل شيء له نهاية..
قلت : ما دام في العمر بقية فستبقى الحياة دروسا وعبر..
قال : أليس للناس شغل إلا بك وبحياتك ؟؟
قلت : بالتأكيد أن لدى الآخرين مثل ما لدي وقد لا تجتمع لهم بعض ما عندي ولكن يبقى لكل قصته..
ولكن أعاهدك يا قلمي أن لا اكتب سوى ما أراه مفيدا لي وللآخرين ..
أحس قلمي بالملل فهو يدرك أنه لن يخرج بفائدة من المراء معي..
و قال هات ما لديك فإني أوشك أن أنعس ..
قلت له : أكتب يا صديقي ..
اتكأت على الأريكة ..ووضعت يدي على موضع جرح العملية الجديدة ..
فأحسست بوخزة الألم ..
وأغمضت عيني فعادت بي الذكرى ..
فسبحت في عالم بعيد ..
عاد بي لعشر سنوات تقريبا
ثم بدأت أملي عليه
يقول لي خالد وهو جندي بوسني يبلغ من العمر خمسة وخمسون سنة
بالله عليك يا مالك اقرأ لي تلك الورقة ..
قلت له أنا لا أفهم حروف قومك ..
زم شفتيه التي لا أسنان تحتها حيث لم يعد في حلقه ريق من العطش؟؟
عطش في سراييفو؟؟
حيث الأنهار تجري من حولنا ؟؟
لا تعجبوا يا أخوتي ..
فخالد روى لي في تلك الليلة عجبا..
قال لي خالد : تصدق يا مالك ..
أنني حوصرت ومعي مائة وخمسون من أبناء قريتنا من كتيبة صربية لمدة ثمانية أيام وما معنا سلاح سوى بنادق الصيد وشيئا من الفؤوس والسلاح الأبيض..
وكنا نسمع خلفنا في القرية بكاء الصبية وصراخ النساء من الجوع والخوف..
والقائد المسلم الذي يقودنا يقول :لو غادرنا القرية فسوف يستبيح الصرب ما تبقى لنا من كرامة ..
ستغتصب النساء وسيذبح الأطفال وسيذبح الشيوخ ..
صبرنا يا مالك والصرب من حولنا يصرخون ويزمرون ..
أين إخوانكم المسلمين ؟؟
سنبيدكم ونبيد الإسلام من سراييفو إلى مكة ..
ثمانية ليال لم نذق النوم ولم نطعم فيه لقمة ولم نشرب فيه شربة بلى شربنا ..
شربنا البول يامالك..
..
ثم هز رأسه كأنه لا يريد إكمال الحكاية .
قال لي خالد..
أرجوك إقرا الورقة..
قلت هات ..
أخرج الورقة من جيبه وكانت ملفوفة بعناية ففتحتها وأضأت نورا خافتا من ساعتي
خوفا أن يرقبني القناصة الصرب الذين لا يبعدون عنا سوى عشرات الأمتار..
حينها دوى في الوادي صوت المدفع الصربي..
حيث يقصفنا الأصراب كل نصف ساعة ..
ليتأكدوا أننا ما زلنا مستيقظين؟؟
لم نعبا بالصوت فقد اعتدنا عليه ..
فالقذائف تمر من حولنا وترتطم في البيوت الهالكة خلفنا فتتشظى ولا تكاد تصيب أحدا..
الورقة مكتوبة بالعربية ..!!
يا خالد؟؟
خرجت من وجهه الكئيب ابتسامة أضاءت ما تبقى من شحوبة وجهه الكهل..
قال : أعلم ذلك..اقرأها لي أرجوك..
فقرأت..
الحاج عثمان هوتشش 1123 هـ الفاتحة آمين!!
لم افهم منها شيء..
سحب خالد مني الورقة ونظر في وجهي نظرة افتخار وهز الورقة ثم طواها وأدخلها في جيبه..
وقال لي حينما لم يجد الصرب شيئا في قريتنا قصفوا القبور فوجدت على قبر جدي جصا حفرت عليه تلك العبارات فنسخت ما كتب عليه حتى أعيده بعد ننتقم من هؤلاء الأوغاد..
قلت له يا خالد ..ألا تحكي لي قصة حصار تلك الليالي المرعبة ..
نظر في وجهي نظرة غريبة وأرخى رأسه وتدحرجت من عينه الغائرة دمعة أكاد اشعر أن الأرض اهتزت لها حينما ارتطمت بها..
قال : يا مالك يابني ..
بما ذا أحدثك والله ما عاد لي عقل يذكر شيئا ..
ثم مسح رأسه بكفه التي ترجف ورفع حاجبه للقمر المحاط بكومة من السحب كأنه يستلهمه شيئا ..
وقال غدا سأرويها لك إن شاء الله..
قال لي خالد وكأنه يريد تغيير الحديث ..
بالأمس يا مالك حدث موقف غريب ..
قلت : وهو؟
كنت جالسا في مكاني هذا أراقب الجبهة أمامي وأتبادل السباب مع الصربي الذي يسمعني واسمعه ..
وفجأة سمعت جلبة خفيفة خلفي ..
فرأيت رجلا عجوزا يسير راكعا في الخنادق المحفورة ..
ويحيط به رجلان جلدان تكاد تظنهما أسدان من استواء اجسامهما !!
متأهبان بالسلاح
تساءلت في نفسي من هذا الرجل؟؟
رأيته يتقدم ببطيء في الخنادق يمر على العسكر ويتكلم معهم ويهمس في آذانهم ويربت على ظهورهم..
قال لي خالد ..
من تظن الرجل..؟؟
قلت وما يدريني؟؟
قال خالد:
اقترب مني ذلك الكهل ..
فقال : السلام عليكم..
فرددت عليه السلام..
حاولت أن أميز وجهه ولكنه أدرك خطورة الموقف فجلس بجواري وأشار لي حرسه بالجلوس والصمت ..
وخلع قبعته العسكرية ...
وتجلت لي صورته ..
إنه علي عزة بيخوفيتش ؟؟
رئيس جمهورية البوسنة والهرسك؟؟
حدثنا يا مالك ..
ارجع بنا للخلف لماذا قفزت بنا بعيدا ..
ارو لنا عن شيخك فأنت لم تنهي القصة بعد..
يقول لي القلم ذلك بعد أن أخذته الحماسة هيا أكمل ياهذا ..
حدثنا عن فوزي عسيري ؟؟
ذلك الشاب الصالح المؤمن الذي يقيم في مستشفى القوات المسلحة في الهدى في الطائف من عشرات السنين ؟؟
والذي كنت في زياراتك له تستمع إليه يقول:
أمنيتي في الحياة أن أرى الشيخ ابن عثيمين..
أرو لهم كيف كانت مشاعر فوزي عسيري حينما يرى نفسه في غرفته الصغيرة في المستشفى أنا وهو والشيخ ابن عثيمين ..
وبعد أيها القراء الأفاضل ..
يتجدد بكم اللقاء ويعود بنا القلم لأكمل الحكاية سائلا المولى سبحانه أن يلهمني الحق والصواب وان يجنبني الزلل ويصلح النية ويجعلها خالصة لوجهه الكريم ..
كم تزدحم الذكريات في رأسي..
والله من يومين لم أذق للنوم طعما حيرة ترددا. بما ذا أبدأ ؟؟
مع ما في القلب من شواغل وما في الجسد من آلام بسبب الأدوية الكثيرة فالعذر يتقدم لكل قاريء عزيز أن يدرك الحال ويتفهم الوضع وعلى الله التكلان سبحانه وأخيرا عزمت على الكتابة كيفما يكون وكيفما يرد ..
أيها الأخوة الكرام
قبل عدة أيام وهو الخامس عشر من شوال وافق ذلك التاريخ يوم رحيل شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
وذلك في الساعة الخامسة وربع عصر يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة 1421 للهجرة في مدينة جده ..
وستأتي تلك القصة مفصلة في حينها إن شاء الله تعالى ..
فاللهم اغفر لشيخنا وارض عنه واجعل قبره روضة من رياض الجنة واجمعنا به ووالدينا وذرياتنا وأهلنا في فردوسك الأعلى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
-
الحلقة الثالثة والستون
كان منزلنا في ذلك العام قريبا من منطقة البلد ..
في وسط الطائف وأظن أن المنزل كان مستأجرا من عائلة نسيب الشيخ
الشيخ خالد المصلح ..
مكث الأخ علي معنا طوال الأيام تلك وغادرنا ابنه وأخوه الأستاذ عبد الرحمن....
كنت في الغالب أنا من يتولى قيادة الشيخ في مشاويره..
فأنا ابن الطائف..
تعجب الناس والأصحاب من هذه الإنتقالة الهائلة في وضعي من الشيخ..
ومن قرأ منهم ما سطرته هنا سيفهم تماما ما الذي حدث !!
فالحمد لله الذي كفاني مئونة تفسير ذلك؟؟
على كل تقبل الناس سريعا هذه الوضعية الجديدة..
أذكر أنه في إحدى زيارات الشيخ لبيتنا حضر حوالي الخمسين شخصا..
تلون وجه أبي وتلبدت على وجهه غيمة حياء فمن سيضيف هؤلاء ..
وأين سيجمعهم..
أصعدناهم للمجلس ولا تسل عن عناءنا وحرجنا ..
ويعلم المولى سبحانه أننا ما ضقنا بعددهم ولا بوجودهم فهذه ضريبة صحبة العلماء ولكن لم نكن مقدرين لتلك الزيارة المفاجئة..
ولذلك فهمت ما لذي كان يعنيه شيخنا من إصراره على عدم السكنى في منزلنا أو غيره وفضل المكوث قريبا من أحد الجوامع الكبيرة ..
ليتمكن مريدوه من إيجاده والاستفادة من علمه ..
وأفضل مكان لا شك هو الجامع..
كنا نصلي في الجامع الواقع شمال مواقف التكاسي المسماة مواقف مكة..
ويلقي شيخنا هناك دروسه بعد العصر..
وكان إمام الجامع من إخواننا اليمنيين ويظهر أن شيخنا يعرفه حيث اعتاد إلقاء الدروس في مسجده في السنوات الماضية..
لم يكن بالجامع الفسيح واقترحت على شيخنا أن يجعل درسه في جامع آخر..
قال الشيخ : بعد العصر سأستمر بالتدريس في هذا الجامع للعامة ..
أما الدروس اليومية بين العشاوين ( أي المغرب والعشاء)
فقال لي وللأخ علي أنتما اختارا الجامع المناسب وعجلا علي..
ذكر لي الأخ علي جامع ابن سند ..
قلت له إن طلبة العلم في الطائف اعتادوا على الدروس لكبار المشائخ في جامعين معروفين بكثرة مرتاديه الأول جامع ابن عباس الكبير والثاني جامع الأمير احمد..
والأخير فيه دروس شيخنا احمد السهلي ويحضر فيه عدد كبير من طلبة العلم ..
أستقر رأينا أخيرا ذلك العام أن تكون دروس شيخنا في جامع الأمير احمد وحينما رأى الشيخ كثرة الحضور وامتلاؤه بالحضور فرح بذلك وأثنى على رأيي فالحمد لله ..
تساءل الناس عن ذلك الشاب الصغير والذي هو مالك!!
يجلس بين يدي شيخنا
ويقرأ عليه أسئلة المستفتين !!
يا للعجب!!
لا تسل عن حيائي وعن ضعفي أمام نظرات الناس التي لم اعتد عليها إلا بعد حين..
قائل يقول : هذا من أبناء الشيخ!!
وقائل يقول : هو نسيبه!!
وقائل يقول : هو من اليمن !!
ولم يصل للحقيقة سوى من قرأ كلامي هذا كله !!
كلمات سمعتها من هنا وهناك ولكن مع الزمن لم اعد أعيرها أي انتباه..
في تلك السنة انتشرت حمى الدشوش أو ما يسمى الأجهزة اللاقطة..
والتي تكلم عنها الشيخ ناصر العمر بارك الله فيها قبل سنوات في شريطة المشهور البث المباشر والذي طبع لاحقا في كتاب وانتشر..
حذر شيخنا منها كما حذر غيره وناصح الناس والمسئولين وراسلهم ولقد رايته مهموما بهذا الشأن وكأنه رحمه الله ثكل من كثرة ما يتكلم وينصح من هذا الشر المستطير..
استأذنته مرة ونحن في السيارة لأسمعه مقطعا من شريط للشيخ عبد الوهاب الطريري حول موضوع الدشوش..
فقال اسمعني: كان اجتماعا بين الطريري وعدد من المثقفين أو الأكاديميين
قال أحد المتفيقهين !!
يا إخوان أنتم كبرتم المسالة وأعطيتموها اكبر من حجمها !!
إن مجتمعنا متماسك وعقيدتنا صلبه ولا يمكن أن تهتز بمثل هذه اللواقط وثوابتنا راسخة الخ كلامه ..
فرد عليه الطريري بكلام معناه : إذا ليكن الانفتاح شاملا !!
قال كيف ؟؟
قال ليشمل الانفتاح في الأمور التي تهدم الدين وتهدم سياسات الدول فأنت تعرف أن المتربصين بالدولة والحكومة وخاصة حكومتنا كثير فهل ستسمح لك انفتاحك بفتح المجال في كل شيء؟؟
فأسقط في يد الرجل وصمت ..
وأعجب شيخنا بجواب الطريري وفي اليوم التالي حث الناس على سماع شريطه ذاك وأثنى عليه!!
لا شك أن الأمور تغيرت الآن وبعد دخول الانترنت وامتلاء فضائنا بمئات القنوات الفضائية قد لا يتصور بعضكم وقع المصيبة حينما بدأت بما يقارنه الآن من حال..
في تلك الليالي حصل لنا موقف طريف..
حيث نسينا مفتاح شقتنا في داخل المنزل ..
ولم يكن سوى شيخنا للأسف يحمل مفتاحا للباب رغم حرصه الشديد وتيقظه في مثل هذه الأمور..
فهو يحمل در زانة من المفاتيح ويضعها في جيبه ومرتبة بنسق عجيب
قلت لعلي لا بد أن نحضر شخصا ليفتح الباب..
رافقنا الشيخ بالطبع !!
توجهنا بسيارتنا الكراسيدا وتوقفنا أمام محلات المفاتيح ..
توسمت في وجوه الناس..
فرأيت شابا قصيرا عليه مرآه يظهر عليه أنه هادئ الطباع ..
فوقفت بين يديه ولم يكن عنده أحد وقلت له الحاصل ..
فقال لي : وما يدريني أن هذا منزلكم؟؟
نظرت للأخ علي وقلت له: يا أخي نحن ثلاثة أشخاص نقيم في منزل مضيفنا ..
قال : دع مضيفكم يأتي !!
لاطفناه بالعبارة وقلنا سنصور لك هوياتنا إن شئت ..
وبعد تردد حمل حقيبته وركب في سيارتنا ..
حينما رأى ذلك الشاب شيخنا كأنه ارتاح واطمأنت نفسه ..!!
ولكنه لم يعرف من يرافق على كل حال..
أخذ شيخنا يسأله عن نفسه ..
ويسأله عن أحواله ..
أذكر انه قال أنه من قبيلة بني مالك وأظن اسمه نايف أو شيئا من هذا القبيل..
وصلنا للشقة ثم نظر إلي كأنه يريد مني شيئا فوضعت بطاقة أحوالي في يده فنظر فيها ..
ثم أرجعها لي ..
كان اختياره موفقا فما عن وضع يده على الباب حتى فتحه باحترافية عجيبة ..
أرجعته لدكانه فسألني من هذا الرجل الذي وجهه يشع نورا ؟؟
قلت له هذا الشيخ ابن عثيمين!!
قال لي : حرام عليك يارجل هلا أخبرتني من قبل والله لن آخذ منك ريالا مقابل ذلك!!
كانت للشيخ محاضرات ودروس في الأقاليم المحيطة بالطائف ..
في الحوية والهدى والشفا وجمعيات التحفيظ والمراكز الصيفية والمعاهد ويجتمع في مدينة الطائف سنويا في تلك الفترة كوكبة كبيرة من العلماء والمشائخ ممن لا يكاد يحصرهم عاد..
كنا في الجمع ننزل للصلاة في الحرم وكان شيخنا يتعجب من الناس ويقول
لو كنت مقيما في جده أو الطائف لما فاتت علي مائة ألف جمعة في الحرم!!
نسقنا مرة محاضرة للشيخ في جامع الملك فهد في الهدى وكان يوم جمعة ..
وانطلقنا من مكة بعد صلاة العصر حيث لا يستغرق وصولنا للهدى سوى ساعة وربع تقريبا ..
ولكن حدث مالم يكن في الحسبان ..
حيث نزلت الأمطار على الهدى وحين وصولنا لجبل الكر..
أوقفت الدوريات السيارات وإمرتها بالرجوع لمكة والذهاب للطائف من طريق المسيل..
وقال الطريق خطر ولا يمكن السماح للسيارات بالعبور..
فاسقط في يد الشيخ وتحرج وكان من أصعب الأمور على نفسه أن يفوت وعدا وخاصة أنها محاضرة عامة ..
ولم يكن لدينا وسيلة اتصال..
قال لي : لا ترجع ودعنا نمكث لعل وعسى الطريق يفتح..
هممت أن انزل للجندي واستأذنه واشرح له الوضع ..
ولكن هيهات فلو سمح لنا بالعبور لثارت عليه مئات السيارة من حولنا فدوني نجوم السماء !!
بقيت والشيخ حتى قريبا من العشاء..
حتى اطمأنت نفسه وعرف انه لا حيلة لنا ..
وبعد وقت يسير سمح لنا بالعبور..
فلم يكن هم الشيخ إلا أن نذهب للجامع ونبلغ الناس بما حصل..
وصلنا للجامع وقد خرج الناس من الصلاة ..
توجهنا للإمام ..
فلما رأى الشيخ انكب عليه واحتضنه وقال والله لقد قلقنا عليك والناس تساءلت ما لذي حصل لكم ..
وبعضهم ذهب للشيخ ابن باز يسأل عنك..
وأجرينا اتصالات عديدة بالمسئولين !!
بلغه الشيخ بما حصل ..
وكان الرجل نبيها!!
قال يا شيخ محمد: لا يعوضنا منك سوى أن تشرف أهل المنطقة بعشاء!!
فقال يا ولدي : أنا متعب لو تعفيني!!
أصر الرجل ورتب عشاء في إحدى مزارع منطقة الهدى الجميلة
وحضرها جمع كبير من الناس يكادون يبلغون المئة!!
ولا تسل عن فرح الشيخ باجتماعهم حيث شعر انه عوضهم بتلك المحاضرة لتطيب نفوسهم بتلك الجلسة التي لم تخل من فوائد وتوجيهات..
يتبع إن شاء الله
-
الحلقة الرابعة والستون
أذكر مرة بعد سنوات من موقفي مع الشيخ حينما أغلق جبل الهدى بسبب الأمطار..
موقفا لن أنساه حيث تجرعت فيه مرارة اسمحوا لي بروايتها لكم ولو طالت..
فقد يكون فيها شيء من الطرافة ..
كنت عائدا من جده وكنت في ضيافة أحد الزملاء ..
وقد حملت في جيبي مبلغا بسيطا من المال..
أظنه لا يتجاوز المئة وخمسون ريالا..
ولم تكن تلك الأيام قد شاعت في الناس بطاقات الصراف الآلي بل اظنها معدومة..
والمال وفير والحمد لله ولكن لم يكن يدر بخلدي أن احتاج للقليل منه فلا أجده..
في الطريق من بيت صاحبي ..
أشار لي رجل مسن بالتوقف ..
وكانت حالته مرثية ويظهر عليه البؤس والإعياء بل كان يمشي بثقل على عكازين.. فتوقفت بجواره ..وقلت له : نعم ياعم..
فقال : لو قدمتني معك يا ولدي لأطراف المدينة..
ففتحت له الباب وجلس بجواري..
أخذ يدعو لي ويشكرني فقلت له: لا داعي أنا لم افعل شيئا يستاهل الشكر ومقصدك على طريقي..
قال لي: وددت أنك كنت معي في جيزان فأكرمك كما فعلت معي فانا من ساعة أشير للناس فلم يتوقف لي احد يظنني الناس أتسول..
سكت قليلا ثم تنهد وكأنه يريد أن يروي لي معاناته ..
يقول من أي المناطق أنت ؟؟
قلت له :أنا حاليا أقيم في منطقة القصيم
قال :من أي القبائل ..
ثم قال: أنا من قبيلة كذا من جيزان وأحترف الزراعة وعندي بستان فيه ما لذ وطاب من الفواكه والأشجار الظليلة ..ياليتك إن جئت لجيزان تعرج علي فأكرمك ..
قلت له : وهل عندك أحد تقيم عنده في جده ..
قال : أبدا أنا كما ترى رجل كبير ومريض جئت هنا لأحد الأمراء لكي احصل منه على توصية للعلاج في إحدى مستشفيات جده ..
ولكن للأسف لم أتمكن من الوصول للأمير مباشرة لكثرة الناس فوضعت مظروفا مع الناس وسأرجع أدراجي لجيزان الآن..
قلت : ولماذا لا تمكث في جده حتى تنتهي معاملتك؟
قال : أبنائي صغار ولا يقوم عليهم احد سواي ومزرعتي تحتاج لرعاية
فلا بد أن ارجع لهم وبعد أسبوع سأعود لمكتب الأمير لأرى النتيجة!!
قلت له :ولماذا لا ترجع بالطائرة إلى جيزان فأنت مثقل وطريق العودة طويل..
قال : لم اركب الطائرة في حياتي ولست اقدر على قيمتها..
والحمد لله سأقف على الطريق العام وسوف أجد من يتجه على جيزان وسأركب معه !!
تأسفت في نفسي لحال هذا المسكين وتمنيت في تلك اللحظات لو كنت احمل مالا أتوجه به للمطار فلا أغادره حتى يرجع لأولاده وينام معهم تلك الليلة ولكن هيهات..
حينما وصلنا لمقصده قال لي : يابني كم تطلبني؟؟
قلت له : لا شيء..
ثم أخرجت محفظة نقودي فسحبت منها مبلغا دون أن أراه وقلت له خذ هذا المال استعن به في طريقك..
فدعا لي وشكرني حتى كدت أذوب من الخجل منه ..
ما إن غادر ذلك المسكين حتى أضاءت إشارة نفاذ الوقود في سيارتي..
وجدت محطة وقود قريبة فأشرت للعامل وقلت له أملأه!!
تفقدت محفظتي فوجدت فيها مبلغا لا يتجاوز الخمسة عشر ريالا!!
فقفزت خارج السيارة وأطفئت مكينة البنزين وقلت للعامل يكفي فقط خمسة عشر ريالا!!
وسيارتي من نوع المرسيدس و بالتأكيد لن توصلني إلى مكة بهذه الكمية فكيف إلى الطائف!!
وهنا تبدأ الحكاية !!
خرجت من جده وأنا أراقب عداد البنزين وسرعتي متوسطة وأطفأت جهاز
التكييف وبقيت استغفر واهلل وأقول في نفسي ما الذي سأفعله لو انتهى بي الوقود؟؟
لاحظت أن البرق يضيء على جبال الهدى والتي ترى للداخل إلى مكة فتوجست خيفة ..
وقلت في نفسي ماذا لو أغلقوا الطريق؟؟
قبل أن ادخل لمكة أضاء العداد بقرب نفاذ الوقود!!
مررت على مكة وأخذت أبحث في رأسي عن حل لهذه الورطة فلم أشعر إلا وأنا في أطراف مكة على طريق الطائف السريع..
لاحظت من بعيد دورية مرور تقف في وسط الطريق ..ورأيت كثيرا من السيارات تعود أدراجها على مكة!!
وقفت أمام الجندي ففتل شواربه وقال : وين رايح؟؟
قلت : الطائف ..
قال الطريق مغلق رح من المسيال!!
قلت له : ومتى سيفتح ؟
قال : والله ما أدري يمكن ساعة يمكن يوم يمكن يومين؟؟
قلت له : وهل يمنع الذهاب للجبل ؟؟
قال : أفضل لك تروح من المسيال ، وإذا تبغى تروح على مسئوليتك تفضل..
شكرته وتوجهت للجبل..
وليتني سمعت نصيحته وبقيت في مكة حتى يفرجها المولى سبحانه..
بقيت أسير بهدوء وأراقب العداد وأقول في نفسي ماذا لو توقفت بي في منتصف الطريق الموحشة المظلمة ؟؟
ما لذي سأفعله ؟؟
بمن سأتصل ؟؟
وبالتأكيد سوف يقلق علي أولادي ولا وسيلة اتصال لدي !!
وصلت للجبل وفي ذات الموقع الذي توقفت أنا وشيخنا بجواره قبل سنوات
ولكنني هذه المرة وحيدا فريدا وبلا مال!!
وجدت عشرات السيارات متوقفة وكلهم مثلي يأمل أن يفتح الطريق في ساعة أو بضع ساعات أما أنا فكنت احمل هما اكبر هو هم الوقود!!
نزلت من سيارتي وتوجهت للعسكر لعلي أجد عندهم حلا لمشكلتي التافهة!!
كانوا في جدال وجلبة مع الناس وكل يروي
مأساته يقول أحدهم دوامي والآخر يقول أنا مواصل للجنوب وثالث يقول:
أريد أن أوصل أبنائي للمدرسة..
فيرد عليهم الجنود عودوا للمسيال !!
والمسيال لمن لا يعرف المنطقة هو الطريق الآخر للطائف وهو أبعد قليلا من طريق الهدى ..
يقول الجنود:
الطريق خطير والسيول قد جرفت الصخور والأوامر تقضي بمنع التحرك حتى تصلح الإعطاب ويزول الخطر..
عدت لسيارتي وأطرقت أفكر في حل لهذه المشكلة ..
ومرت حوالي الساعتين وكانت كعشر ساعات على نفسي..
شعرت بالهدوء من حولي وخفت جلبة الناس وعاد كثير منهم لطريق المسيال ..
رفعت رأسي فرأيت الجنود قد جلسوا على بسط في وسط الطريق وأخذوا
يتبادلون الحديث وشرب القهوة والشاي وكان الجو عليلا ونسيم الرياح بعد منتصف الليل أضفى على المكان الأنس..
تشجعت وقلت في نفسي: لما لا أذهب إليهم فأحكي لهم حالي!!
فالناس لبعضها والخطب يسير وهونت الأمر على نفسي ..
نزلت من السيارة وقصدتهم ..
فلما اقتربت منهم أطفأ احدهم سيجارته وصافحته وقال : ليش ما تنام يا مطوع؟؟
ولم يدعني للجلوس ..
قلت له : هل من جديد ؟؟
التفت وراءه للجبل فلمعت في السماء أضواء البرق ..
وقال : شوفت عينك ما اظنك بتمر الليلة !!
قلت له : لعله بكره الصباح بدري !!
قال : لين تجي الشركة في الصباح وتنظف الطرق لعله الظهر بكره!!
وأفضل لك تروح من المسيال !!
هممت أن أقول للعسكري سبب تأخري ولكنني استحييت وخجلت فرجعت من عنده وأنا في هم لا يعلمه إلا الله..
قلت في نفسي كيف يجرأ الناس على السؤال ؟؟
أعوذ بالله من الذل..
رغم أني محتاج ومستحق ولكن لا أدري !!
الحمد لله على المعافاة..
رجعت لسيارتي وفتحت نوافذها وتوسدت يدي ونمت نوم المتوجس والمهموم..
أذن علينا الصبح ..
فتوجهت للمسجد الواقع بجوار محطة البنزين ..
وقدمني المؤذن البنجلاديشي للصلاة ..
وصليت بالناس الفجر..
بعد الصلاة بقيت في المسجد والعامل ينتظر خروجي حتى يغلق المسجد .. وكنت أتكلم معه وألاطفه واسأله عن بلده وكل ذلك أنني هممت والله أن اطلب منه أن يقرظني أو يهبني عشرين ريالا !!
لكي أملأ السيارة بوقود يرجعني لمكة ولكن هيهات كيف لهذا المسكين أن يثق بشاب عليه اثر الترف وسيارته فارهة يطلب منه عشرون ريالا ..
أو حتى عشرة ريالات..
ومرة أخرى منعتني كرامتي وصون وجهي عن السؤال ..
فالحمد لله على المعافاة..
تكاثرت السيارات بعد صلاة الفجر وجاءت من كل حدب وصوب
وصار المكان غاصا بالخلق وطلبة المدراس والمعلمون وتدافع الناس على العسكر ..
وزاد الأمر سوءا انه مر موكب رسمي فلم يتردد الجنود بالسماح لهم
بالمرور فضج الناس وارتفعت الأصوات وقالوا : ونحن أليس لدينا مصالح ؟؟
فقالوا هذا موكب رسمي ..
فقال الناس ونحن نذهب على مسئوليتنا دعونا نمر..
فلم يفلح ذلك في إقناع الجنود..
بقيت ارقب الموقف وبدأ الجوع يدب في بطني ..
كنت أسير وأهيم بين السيارات وأتفرس وجوه الناس لعلي أجد أحدا اعرفه
لم يحفل بي احد فكل بهمه اشتغل..
توجهت لمحطة الوقود..
وهممت أن اكلم العامل أن يضع لي وقودا على أن أرجع له بعد يوم بماله ..
فتوسمت في وجهه فعلمت أن كواكب السماء اقرب لي من ذلك!!
رجعت للسيارة وحميت الشمس حتى صار الجو خانقا ..
في الضحى توجهت للعسكر مرة أخرى وكانت الوجوه جديدة فقد تغير فريق العمل..
ولم يكن الجو مشجعا وعلامات الإعياء بادية عليهم..
اقتربت منهم فلما انتصفت الطريق عدت أدراجي!!
حيرة وحياء من ذل سؤالهم..
وما عساني سأقول لهم : أعطني بالله عشرة ريالات ؟؟
أو أنني محتاج أو جائع ؟؟
كيف سيكون وجهي حينما يسحب ذلك المتعجرف من جيبه عشرة ريالات
فيلقيها في يدي فوالله لباطن الأرض خير من ظاهرها ..
توجهت للمسجد وتوضأت وبقيت في ركنه ورفعت رأسي للسماء ودعوت الله بالفرج ..
وصليت الظهر مع الجماعة ثم عزمت على العودة لمكة وقلت وليكن ما يكن!!
جلست على المقعد وذكرت الله تعالى ..
أدرت السيارة فعملت ..
وانطلقت بها وسرت بها سيرا خفيفا..
وبقيت أسبح الله تعالى ..
وطلبت من المولى سبحانه اللطف ..
قطعت ربع المسافة ونصفها وفي كل مرة أقول هاهي ستتوقف..!!
ولكنها لم تخذلني..
في الطريق ..
تذكرت احد زملاء الدراسة في عنيزة وهو مقيم في مكة ..
وما أكثر من اعرفهم في مكة من المشائخ والعلماء وطلبة العلم ولكن
كوني اسألهم في مثل هذا الحال وفي مثل هذه القضية فهذا حرج لا يقدره سوى من يفهم واقع الحال..والله المستعان..
الذي حصل يا إخوتي الكرام أنني بفضل المولى سبحانه وصلت لمكة!!
ولم يكن لي هم سوى أن أصل لمكان صاحبي ذاك..
توجهت من فوري فوجدته واقفا أمام محله فشده لرؤيتي فهو من سنوات لم يرني!!
فلما رآني ابتسم لي ابتسامة أنستني كل الهم الذي كنت فيه ..
سحبته من محله وطرت به لمحطة الوقود وقلت له :أملأ لي السيارة بالوقود وكنت عليه جريئا !!
فاخرج بوكه فنثر كنانته جزاه الله خيرا ولم يسألني وملئها فودعته وقال لي انتظر !!
أين ستذهب..
ما هي قصتك يا رجل تغد معي!!
قلت له : قصتي طويلة سأحكيها لك لاحقا ..
فغادرته وهو حائر !!
وعدت له بعد أيام بوجه غير وجهي فحكيت له القصة فغص بالضحك حتى سقط على وجهه..
وصلت لأولادي عصر ذلك اليوم ..
وكانوا في غاية القلق ومع ذلك حتى هذا اليوم لم ارو لهم ما حصل فليقرؤها هنا ..
وليت شيخنا كان حيا فيقرأها رحمة الله عليه
يتبع إن شاء الله..
-
الحلقة الخامسة والستون
نعود لحكايتنا ..
سمعت عن شاب مصاب بمرض عضال ..
وذلك قبل ذهابي للقصيم ومعرفتي بشيخنا رحمة الله عليه..
وقالوا لي أنه منذ سنوات يعيش وحيدا فريدا في مستشفى القوات المسلحة في الطائف..
وحثني أصحابي على زيارته حتى قال لي أحدهم : والله إن رؤية هذا الشاب سترفع همتك وستزيد إيمانك!!
طمعت بذلك ومن ذا لا يريد زيادة إيمانه ورفع همته؟؟
تحدثت مع احد جيراننا في الحي في الطائف عن ذلك الشاب ..
فرق له وقال سوف أرافقك ..
وذهبنا بعد أيام للمستشفى المذكور..
وصلنا للاستقبال..
فسألنا عن الشاب..
قلت لهم اسمه فواز العسيري)..
فقال : لعلك تقصد فوزي العسيري!!
فقلت : نعم هو ..
فابتسم في وجهي وقال ..ستجده في غرفته أو سيكون الآن في الحديقة يتنزه !!
ثم ناولني بطاقة الزيارة وأعطاني رقم غرفته ..
صعدت للغرفة وكنت أتعجب في نفسي لماذا ابتسم الرجل من سؤالي!!
لما وصلت الغرفة وجدتها خالية سوى من ممرضة ترتب السرير ..
قلت لها : وين فوزي ؟؟
قالت : سيأتي بعد قليل هو يتنزه في الخارج..
قلت لها : ممكن نجلس؟؟
قالت : نعم ..
جلست أنا وصاحبي وقلبت نظري في غرفة فوزي..
لم تكن غرفة مريض !!
كأنني في غرفتي في عنيزة بعد سنوات!!
رفوف كتب آلاف الأشرطة ..
مجلات إسلامية كل شيء يدل على العلم ..
قال لي صاحبي: هل أنت متأكد أن هذا صاحبك؟؟
قطع علينا صوت عربية تقترب من الغرفة ..
فكان نظرنا على الداخل..
قالت الممرضة وابتسمت ابتسامة عريضة هذا فوزي وصل..
دعوني اصف لكم فوزي..
مقعد على العربية جسمه كأنه عمرة ست سنوات أو عشر!!
ورأسه مكتمل النمو يزيد على العشرين سنة!!
وجهه كأنه كوكب دري..
جميل وأنت تعجز أن تقول انه جميل..
ابتسم في وجهنا ابتسامة اعجز عن وصفها ..
رقيقة عذبة و جميلة ..
كان يلبس ثوبا ازرق وعلى رأسه طاقية بيضاء ناصعة البياض نبتت على وجهه لحية صفراء جميلة ..
ووجهه مستدير وصاف كالعسل..
لما رأيناه قمنا له ..
فسلم علينا فدنوت منه لأصافحه..
فأرخى رأسه حياء لأنه يعجز عن مصافحتي فربت على يده وقبلت جبينه..
وفعل صاحبي مثل ما فعلت..
عرفناه بأنفسنا فرحب بنا وشكرنا على زيارته ..
وقال : أنا افرح بزيارة الناس لي ..
كان يتكلم و كنت أفكر في كلام الفقهاء أن من أدب الزيارة للمريض عدم الإطالة عنده حتى لا تشق عليه ولكن فوزي هذا من طراز مختلف ..
يأسرك بمنطقه وأدبه حتى لا تريد مغادرته والله ..
لم نجرأ عن سؤاله عن مرضه وعن مدة بقائه وما لذي حدث له ..
ولكنه بادرنا بذلك من خلال كلامه ..
قال : مرضي غريب وسماه لنا وهو مرض يتوقف فيه نمو الجسم ماعدا الرأس والعقل ..
حيث تبقى الأعضاء كما هي دون الرأس فينمو مع السنين..
وقال لنا : أنا منذ ست سنوات مقيم هنا !!
وعائلتي في منطقة عسير ونظرا لحاجتي الماسة للمستشفى فقد أصريت على المكوث هنا حتى لا اشق عليهم بإحضاري دوما ..
وكان هذا هو رأي الأطباء..
روى لنا تفاصيل حياته وبرنامجه وقراءته وانه حفظ جزءا كبيرا من القرءان وأنه يستمع للدروس والمحاضرات ويقرأ في الكتب ..
وأنه لا يمل من القراءة ولا تضيع عليه دقيقة في فراغ..
وقال : أن الناس تزوره دوما وأغلبهم لا يعرفهم..
وأحيانا تتوقف الزيارات فتمر عليه الأسابيع ولا يرى أحدا ..
ولم يتأفف من مرضه وحاله ولم يشك من صحته بل كان يحمد الله تعالى
ويشكره على أن أبقى له عقله ليتمكن من الاستفادة والدراسة وطلب العلم..
كان فوزي يتحدث وكنت أتأمل وجهه وكلامه وعباراته وأقول في نفسي..
كم نحن محرومون؟؟
لله دره ..
كم نحن ضعفاء أمام بهارج الحياة ومشاغلها ..
كان صاحبي يستمع لفوزي فأرى في عينيه الدموع محتبسة مما يسمع ..
خرجنا من عند فوزي ونحن واجمون ..
أصر على مرافقتنا للخارج ..
فخرج معنا حتى وصلنا للمصعد ..
وكان الجميع بلا استثناء يسلم على فوزي من ممرضات وأطباء وعمال
كلهم يعرفه ويضحك ويبش في وجهه ..
ماهي أخبارك يا فوزي اليوم..
أهلا يا فوزي..
وكأنه ليس بمريض..
قال لنا ونحن نغادره ..
لعلكم تزوروني مرة أخرى !!
قلت له : بكل سرور والله ..
فابتسم ابتسامة جميلة أسرت قلبي ولا أنساها ما حييت ..
بقيت أنا وصاحبي نتحدث في الطريق عن ذلك الشاب فقال لي:
لم أفرح بزيارة احد كما فرحت اليوم..
رجعت للبيت فحكيت للوالدة عما رأيت ..
وحكيت لكل من اعرف ما رأيت ..
لأساتذتي وأصحابي قلت لهم :
أذهبوا وزورا هذا الرجل ..
فوالله ليس من رأى كمن سمع..
لم أنقطع عن زيارة فوزي ..
كنت كلما شعرت بضعف في همتي وحاجتي للأنيس ذهبت لزيارته بأي وسيلة ممكنة..
بالسيارة بالتاكسي مع زميل كيفما يتيسر لي..
في إحدى زياراتي له وقد أصبحت كالتلميذ له..
قال لي : تصدق يا مالك لي أمنية ؟؟
قلت وما هي ؟
قال : أحب رجلا حبا عظيما ..
وليتني أستطيع رؤيته رؤيا العين ..
قلت : ومن هو..
قال : الشيخ ابن عثيمين ..!!
قلت له : يا فوزي هداك الله وكيف تريد أن نجر لك ابن عثيمين في المستشفى؟؟؟
دع أمنياتك معقولة يارجل!!
وجم ثم ضحك وقال : على كل هذه أمنيتي..
ثم اخذ يحدثني بشغف عن الشيخ وعن سعة علمه ودروسه وانه يستمع لأشرطته يوميا
وكأنه حاضر معه في الدرس وقال : هل رأيت الشيخ ؟؟
قلت نعم رأيته في دروس الحرم..
فقال لي : صفه لي يا مالك ..
وصفت له الشيخ كما رأيته ..
فقال : هنيئا لك هذه النعمة ..
مرت الأيام والليالي وحدث لمالك ما حدث وطارت به الدنيا جنوبا وشمالا
واستقر في القصيم وصار من سكان عنيزة وانقطعت عني أخبار فوزي
مدة من الزمن وشغل مالك بنفسه وحياته الجديدة ..
وفي تلك السنة أو التي تليها ..
يقدر الله تعالى أن يحصل للشيخ عبد الله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء حادث في مدينة الطائف حيث ارتطمت به سيارة وهو خارج من صلاة العصر..
فسقط الشيخ وكاد أن يهلك ..
وكانت في تلك اللحظات سيارة إسعاف مرت بغير ميعاد فحملت الشيخ وهم
لا يعرفونه إلى مستشفى الملك فيصل في الطائف..
فلما رأى الأطباء الشيخ وجدوا أن وسط جسمه وخاصة منطقة الحوض قد تكسرت وان حالته حرجة ..
تسامع أبناء الشيخ بالحادث وتسامع المسئولون بالأمر..
فنقل على الفور إلى مستشفى القوات المسلحة في الهدى ..
فأجريت له العمليات تلو العمليات وعانى من ذلك اشد المعاناة ..
ومكث شهورا هناك حتى عافاه الله وهو الآن بحمد الله في نشاط وعافية سمع شيخنا بالحادث ..
وكان ذلك قبل وصولنا للطائف..
وكان الشيخ ابن منيع زميل شيخنا في هيئة كبار العلماء وكانت علاقتهما
وثيقة ولعلي في حلقات قادمة احكي مواقف جرت بينهما يصلح المقام لذكرها..
وصلنا للطائف بعد أسابيع ..
وكان الحادث قد حصل في أول إجازة الصيف ..
لم اسمع بخبر الحادث سوى من الشيخ حينما قال لي:
غدا سنذهب لرؤية الشيخ ابن منيع في المستشفى..
قلت له : أي مستشفى ياشيخنا !!
فأخرج ورقة من جيبه فقال:هذا اسمه وعنوانه ورقم غرفة الشيخ ..
في اليوم التالي انطلقنا للمستشفى ..
وكان شيخنا مرهقا بعد يوم عناء واجتماعات ..
نام قليلا وأنا صامت ..
والصمت يفتح باب التفكير والهواجس !!
وأنا في صمتي ذاك تذكرت فوزي عسيري!!
لا أدري والله كيف خطر على بالي ..
بعد سنوات تذكرته ..
تذكرت الزيارة الأولى ..وعشرات الزيارات التي تمت بيني وبينه..
نظرت لوجه الشيخ فكان نائما فلم أرد إزعاجه..
تنحنحت وما أخف نومه فاستيقظ..
قال : هل وصلنا ؟؟
قلت : تقريبا ..
وما زلنا في منتصف الطريق ولكنني فرحت باستيقاظه !!
فتوسط في جلسته ومسح وجهه وتمطى قليلا ..
ثم أخذ يتحدث معي..
انتظرته حتى ينهي حديثه ثم بادرته بقصة فوزي..
لم يعر الموضوع كثيرا في البداية نظرا لأن هموم المسلمين كثيرة والشيخ
يسمع يوميا آلاف القصص الشبيهة فكان يدعو له بالعافية ..
غيرت أسلوبي وطرحت الموضوع بصيغة جديدة ..
فأنصت الشيخ وأخذ يتعجب من كلامي عن ذلك الشاب..
وعلو همته وجده رغم حاله الغريبة ..
فزاد اهتمام شيخنا به ..
حتى قال لي : لم لا نحضره عنيزة ليدرس عندنا !!
أسوة بسامي العقيل!!
وهو احد طلبة الشيخ المجدين وسيأتي ذكره لاحقا عن شاء الله..
قلت له يا شيخنا : الرجل وضعه مختلف تماما ..
قلت له : حتى أن الرجل له أمنية في الحياة كم مرة سمعتها يتمناها..
قال : وهي؟؟
قلت : أن يراك!!
فقال الشيخ: وأين هو ؟
قلت له : هو مقيم في المستشفى دائما ..
فسكت الشيخ ثم قال : ومتى أجد الوقت لزيارته أنت تعرف أشغالي..
قلت : هو الآن في نفس المستشفى الذي نقصده..
فقال: خلاص رتب لي بعد زيارة الشيخ عبد الله ..
طرت فرحا بهذا الخبر وانتشيت وقلت في نفسي ..
يا فوزي لعل مناك سيتحقق وأنت غافل لا تدري..
وصلنا للمستشفى وتوجهنا لغرفة الشيخ عبد الله ..
فوجدناه على حال جيدة وهو ممدد على سريره
وعنده جمع من الزوار ومنهم التاجر المعروف عبد العزيز الجميح ..
قبل شيخنا رأس الشيخ ابن منيع فأمسك الشيخ ابن منيع رأس شيخنا فقبله ..
وتركتهما في حالهما وانطلقت ابحث عن فوزي.. لا الوي على شيء
سألت عنه فقيل لي موجود!!
ففرحت فقلبت المستشفى رأسا على عقب..
ووجهت له نداء بالسماعات حتى بلغوه ..
فوجدته وبالكاد عرفني فقد تغيرت ملامحي وسمنت قليلا ..
فقال لي اينك..؟؟
فقلت له : دعك من خبري الان ..
ألزم غرفتك سآتي لك بشيء بعد قليل..
وخرجت من عنده وتوجهت لغرفة الشيخ ابن منيع ..
فوجدت شيخنا واقفا يريد المغادرة ..
والناس تصافحه ..
نظر شيخنا في وجهي واخرج ساعته من جيبه ونظر فيها كأنه ينتظر موعدا..
فتجاهلت ذلك وقلت له : الرجل في انتظاركم..
قال : هل وجدته ؟؟
قلت : نعم..
ما شاء الله عليك جزاك الله خير..
دخلت على فوزي
فوجدته على سريره
فدخل الشيخ وسلم عليه ..
فلما وقعت عين فوزي على الشيخ كادت عينه تخرج من رأسه ..
لا تسألوني إخوتي عن مشاعره ..
لا أستطيع وصفها والله ..
قلت له:
هذه أمنيتك يا فوزي تحققت ..
ابن عثيمين بلحمه ودمه بين يديك!!
اقترب شيخنا منه وجلس على سريره ..
ودنا من رأسه ومسح عليه ودعا له ..
وقال له وهو مبتسم : كيف حالك يافوزي؟؟
لقد حدثني عنك مالك ..
بقي فوزي صامتا لا يدري ما يقول..
ينظر للشيخ وينظر في وجهي..
كأنه يقول : هل هذا هو!!
والشيخ صامت ويبتسم من مشاعر فوزي المتضاربة..
هززت رأسي لفوزي حتى يتكلم ..
فقال : هذه اسعد لحظة في حياتي والله أن تزورني ياشيخنا في هذه المكان ..
كنت أراك في التلفزيون والجرائد وأتمنى أن ألقاك..
وكنت أدع الله أن يحقق لي ذلك ..
ولكنني توقعت أن يحصل لي ذلك بأن أزورك أنا ولقد رجوت الناس أن أزور درسك في الحرم أو في دروسك في المحاضرات فلم يتحصل لي ذلك..
قال له شيخنا : ها انذا أمامك وجزى الله الابن مالك على أن دعاني لزيارتك..
دار بينهما حديث وبقيت استمتع بهذه اللحظات دون أن أتكلم بحرف واحد..
وأقول في نفسي : دع فوزي يستمتع فربما لن يتمكن من تكرار ذلك أبدا..
مكث الشيخ عنده لعشر دقائق ثم طلب منه الأذن فخرجنا ..
وودعت فوزي
ومنذ ذلك التاريخ انقطعت أخباره عني للأسف
فاللهم إن كان حيا فوفقه وارض عنه واجمعنا به على خير..
وإن كان ميتا فاغفر له وادخله فردوسك الأعلى واجمعه بشيخنا في جنات النعيم..
يتبع إ ن شاء الله ..
-
الحلقة السادسة والستون
انتهى برنامج شيخنا في الطائف ..
وعدنا لعنيزة ..
وكما العادة لم يتغير من برنامجي المعتاد شيء
فقد كنت طوال فترة بقائي هناك أستزيد بفضل المولى سبحانه من علم شيخنا كما هو حال الزملاء جميعا..
غير أن الله خصني بفضل الله بشيخنا فكان يزيدني عناية ويرفع همتي
ويتابعني في تفاصيل الأمور ومجملها، فلله الحمد سبحانه على فضله ومنته..
التحق بحلقة شيخنا أحد أقاربي وهو ابن عمتي أحمد ..
وسكن عندي في غرفتي مدة .
ثم انتقل لرفيق له في ذات السكن..
وأقبل على العلم وفقه الله وحصل خيرا كثيرا
وتعرفت في تلك المدة عن طريق أحمد بعدد لا بأس له من الطلبة ..
وكلهم من خيرة الطلبة جدا واجتهادا ..
وكانت أعمارنا متقاربة ..
ويجمع بيننا حب العلم والحرص عليه ..
ومنهم الأخ سعود الحربي ..وهو من أهل جده ..
توثقت علاقتنا نحن الثلاثة حتى جاءت لنا فكرة السكنى سويا خارج سكن الطلاب!!!
لم يكن شيخنا رغم مشاغله العظيمة لتخفى عليه هواجسي ..
فهو يدركها من فلتات لساني وارتباكي..
ولم يكن ابغض شيء لديه عندي من ذلك!!
فكان يقول لي دوما : الثبات الثبات يابني !!
عليك بالاستقرار على رأي واحد إن بورك لك فيه فالزمه ولا تحيد عنه..
قال لي مرة أحد كبار طلبته : والله ما خالفت شيخنا في أمر رآه إلا ندمت
عليه ولا سمعت توصيته ولزمتها إلا ووجدت التوفيق حليفي..
هذا ماقاله الأخ عن نفسه وواقع حاله ..
كان شيخنا يراني غضا قليل الخبرة ضعيف وما زلت في أول الطريق ..
وهذا هو الواقع لا شك!!
ولذلك كان القرار في مثل هذه الأمور راجعا إليه هو الذي يحكم فيه بما يتناسب مع وضعي..
حينما فاتحته في الموضوع ولمحت له فيه ..
رفض واستهجن وغضب..
وقال : ألحين توك واصل تدرس وقلنا فلان ماشي ومجتهد وتريد تطلع !!
خلك في العلم ولا يشغلك عنه شيء..
غيرت الموضوع وتناسيت القصة ..
ومرت شهور بعد ذلك ..
وأنا بحمد لله في خير حال ونسينا موضوع الخروج من السكن..
إلى أن جاء موقف لا أنساه وفتح الموضوع من جديد..
ولكن قبل ذلك سأحكي قصة ..
في إحدى الاجتماعات الشهرية مع الشيخ ..
اقترح أحد الطلاب أن نعد رحلة شهرية لطلاب السكن ..
لمدة يوم واحد للاستجمام ..
وأيده جميع الطلبة وفرحوا بهذا الاقتراح ..
وافق شيخنا على ذلك..
بل قال : سأكون رفيقكم في رحلتكم..!!
وافق ذلك هوى في النفوس وشعرنا بنشوة عجيبة أن يرافقنا هذا الحبر رغم أشغاله العظيمة..
فجزاه الله عنا خير الجزاء..
في اليوم الموعود وكان يوم خميس..
رتب المشرفون ذلك البرنامج وحدد الموقع ..
وكان ذلك لاستراحة التاجر المعروف الهويش..
والواقعة على طريق المذنب على ما أعتقد !!
شمال عنيزة..
بخصوص تنقلات الشيخ في عنيزة ففي الغالب ليس لي بها علاقة..
ولكنني طلبت منه ذلك وقلت له : أنا تحت تصرفك شيخنا ..
غير أن الوضع في عنيزة يختلف ..
فأبناؤه موجودون وهم تحت تصرف والدهم فحاجته لي غير واردة ..
قال لي شيخنا قبل موعد الرحلة بأيام
: نسق مع شخص حتى يوصلنا للاستراحة..
نسقت مع صديقنا القديم الأخ محمد زين العابدين..
انطلق الطلبة باكرا في الصباح ..
أما شيخنا فلم يتحصل له سوى أن يحضر بعد صلاة الظهر..
مكثت أنا في غرفتي حتى أرافق شيخنا..
استغرب الطلبة من عدم حضوري ..
وقال لي بعضهم معاتبا : تواضع يارجل !!
ابتسمت في وجه معاتبي ولم اجبه..
بعد الصلاة توجهنا مع شيخنا والأخ محمد للاستراحة المذكورة..
قال الشيخ : ايش البرنامج ..؟؟
قال له محمد : هناك غداء ثم أنت تقرر ماذا يكون بعد ذلك ..
وصلنا بعد حوالي عشرين دقيقة ..
دخلنا من البوابة الرئيسية ..
وصعدنا بالسيارة على طريق مرصوف للإيوان الكبير ..
فلما علونا ظهرت لنا الاستراحة كاملة ..
كان ترتيبها ومنظرها ساحرا ..
أشجارها منسقه قد رصت على الطرق وانتشر ظلالها
وتحيط بها الألوف من شجر النخيل ..
وزاد المنظر جمالا تلك البساتين المحيطة الغاصة بكل ما يبهر ..
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء..
توقفنا أمام الإيوان وكان طلبة الشيخ في انتظاره..
نزل فاجتمعوا حوله وسلموا عليه ولا تسل عن فرحهم وابتهاجهم بوجود الشيخ معهم..
دخلنا للإيوان الفسيح ..
فشممنا رائحة الطعام ..
وجلس الشيخ وتحلق حوله طلبته ..
ثم بدأ في الحديث معهم وقال : كيف كان يومكم ؟؟
فكان الحديث حديثا غير متكلف كما يتحدث الولد مع أبيه ..
وهذا ما كان يريده شيخنا رحمه الله ..
قدمت القهوة والعصيرات الباردة .. تسابق الطلبة في خدمة شيخهم والتحدث معه ..
فكل يدلي بدلوه وكان الحديث عاما بكل تكلف ولا شطط وبأدب مع الشيخ..
من فوائد تلك الرحلات هو اكتشاف المواهب كما يقولون !!
اكتشفنا أن بيننا طالبا مغمورا ولكنه موهوب !!
موهوب في مجال الطرافة ..
رغم جده واجتهاده في العلم..
في البداية استحى من شيخنا ولكن إصرار الطلبة عليه وكأنهم خبروه ذلك
النهار كله أجبره على الحديث ..
الأخ عبد الله باطرفي !!
وهو من سكان جده واصله من بلاد اليمن..
كان جاري في الغرفة المجاورة في السكن ..
ولكن الجو العلمي وانشغالنا بالطلب يقلل لقاءاتنا سوى في المطعم أو في الدرس ..
فنادرا ما نتواصل!!
استلم عبد الله الشيخ !!
فكان يسمع تعليقاته من خلف الصفوف ولا يراه فيضحك الطلبة ويضحك شيخنا له ولا يراه!!
وكان نظر شيخنا ضعيفا ..
ولكنه يعرف هذا الصوت !!
فنادى على هذا الطالب وقال : من هذا خلوه يتقدم عندي..
أذكر جيدا وكأنني أرى ذلك المنظر أمامي الساعة..
حينما وقف عبد الله من خلف الصفوف وتقدم خجلا حتى جلس بين يدي شيخنا ..
فلما رآه الشيخ عرفه وقال له:
إيه ياعبدالله ايش عندك ؟؟
أتحفنا عبد الله وأسرنا بسواليفه مع الشيخ حتى قدم طعام الغداء..
قدم الطعام والذي طبخه الطلبة مع العمال ..
فكان جوا عائليا بين الطلبة وشيخهم..
نزع الشيخ بشته ورمى عمامته فوق رأسه ..
وقام من بين الصفوف وتوجه للمغاسل ..
ثم جلس بين الجميع وأكل معهم ..
وكان عبد الله باطرفي يسأله في مسائل علمية فيقول له الشيخ :
ياعبد الله أنت الآن تسألني وأنا أجيب أسألتك فتلتهم الطعام وأنا أجيبك !!
فضحكنا على عبد الله لأن الشيخ ألجمه قليلا !!
ولكن شيخنا كان يتحدث بكل بساطة فيضاحك هذا ويرد على كلام هذا
ذكر أحدهم السباحة وقالوا المسبح ..
فقال شيخنا : هل سبحتم ؟؟
قالوا : يوجد مسبح في الخارج ..
قال الشيخ : كنا في أيام الطلب نخرج مع شيخنا ابن سعدي رحمه الله فنسبح في البرك والوديان ..
فقال عبد الله : هذا في أيام الطلب!!
فقال الشيخ : كأنك تقول أنني كبرت ولم اقدر على ذلك الآن!!
فقال : ما أظنك تقدر يا شيخنا !!
فلمعت في وجه الشيخ ابتسامة وقال : سنرى!!
تغدينا ثم قدم الشاي ..
وجلسنا حول الشيخ لننظر ما هو فاعل ..
جاء عبد الله وكان الشيخ ينتظره ..
وقال : هاه ياعبد الله فيك حيل..
وكان عبد الله رجلا سمينا ..ويسير بتثاقل..
قال : على أي شيء ؟؟
قال : السباحة !!
قال : بالتحدي ياشيخ ..
فقام الشيخ من فوره ..وتوجه لخارج الإيوان ..
خرجنا معهم فلحقت بالشيخ ..وهمست في أذنه ..
وقلت له : هل ستسبح بثوبك ..
فقال لي : هل عندك ملابس سباحة ..؟؟؟
قلت : نعم سأحضرها من السيارة ..
دخل الشيخ لغرفة التغيير وخلع ثيابه ولبس ذلك اللباس ولم يخلع فلينته ..
خرج الشيخ بغير ما دخل .. دخل بثوبه وغترته ..
وخرج حاسر الرأس لحيته بيضاء ناصعة ووجهه أبيض تلمع فيه وجهه ابتسامة أضاءت المكان..
لما رأى الطلبة الشيخ وخصوصا عبد الله ..
اجتمعوا حول المسبح ..
فقال شيخنا : طب ياعبد الله ..
فقال : أنت أولا !!
حتى إذا غرقت أنقذناك !!
فضحكنا ..
فقفز شيخنا في الماء وسبح وكان عمره حينها حوالي الأربعة وستون سنة..
ثم لحقه عبد الله ..
ونزلت أنا وغيرنا ..
سبح الشيخ مع تلاميذه ودار في المسبح ..
وتوسط الماء ووقف فيه بحيث يثبت في وسط الماء ولا يتحرك
وقال : هكذا كنا نفعل مع شيخنا ..
حاولت أنا ولكنني لم اقدر ..
أما عبد الله المطرفي فاكتشفنا انه لا يسبح !!
استمتعنا في تلك الرحلة مع شيخنا وتواضعه وسماحته رحمه الله ..
لقد كانت تلك الرحلة مؤثرة في نفوس الطلبة مع شيخهم ..
فقد عمقت الصلة وقوت الرابطة وزادت المحبة ..
فجزاه الله عنا خير الجزاء..
استأذن الشيخ وخرجت معه برفقة محمد وكان العصر قريبا ..
فقال الشيخ في طريقنا : أريد أن أقيل ولو عشر دقائق قبل العصر ..
فعرضت عليه أن يأتي غرفتي المتواضعة في السكن!!
فقال : لا بأس..
توجهنا للسكن وكان شبه فارغ..
وصعدنا لغرفتي ..
والحمد لله أنها كانت مرتبة ونظيفة!!
وضعت له الفراش فنام حتى أذن العصر ..
حينما سمع النداء استيقظ ..
وتوضئ في مواضئ السكن ..
ثم دخل الغرفة وتسنن أربع ركعات ..
ثم جلس ينتظر موعد الإقامة ..
قلب نظره في غرفتي فرآها ضيقة جدا !!
وقال : ما شاء الله عليك هذا وأنت الحالك!!
حيث تكومت الكتب في الرفوف وغصت فوضعتها في أطراف الغرفة
بطريقة مبعثرة ولا يمكن الاستفادة منها إلا بصعوبة ..
هذا غير كتب الأخ محبوب..
فقال شيخنا : تبي نغير لك غرفة أوسع ؟؟
قلت له : الغرف كلها متقاربة ..
قال : صحيح حنا يوم بنينا السكن ما كنا نتوقع هذا الإقبال من الطلبة ..
ولكن سنجد حل لك إن شاء الله ..
يتبع إن شاء الله ..
-
الحلقة السابعة والستون
لم يستنكف شيخنا رغم مشاغله أن ينظر في أمري سريعا..
ولكنه رجل متزن وهادي ويأخذ الأمور بتؤدة حتى ولو رآها الآخرون هينة..
وهكذا العلماء في أمورهم وشئونهم كلها ..
رأى الشيخ أنه ليس من الإنصاف مع طلبته أن اسكن وحيدا يخصني من دونهم وهذا غير وارد على الإطلاق في قاموس الشيخ رحمه الله..
والخيار الآخر هو الخروج من السكن وهذه كان الشيخ يستريب منها ..
وذلك أن الشيخ لاحظ أن كثيرا من طلبته حينما يخرجون من السكن يقل مستواهم في الحرص على التحصيل و بعضهم يتغيب عن بعض الدروس وبعضهم يلتحق بحلقات أخرى لعلماء آخرين فيكون في ذلك تشتيتا لمصادر التلقي..
هذا لا شك لا ينطبق على الجميع ..
فهناك مجموعة كبيرة من خارج السكن هم أحلاس الحلقة ونجومها فلا يعم ذلك الجميع ولكنني أتكلم على الطلبة المستجدين أو الذين لم يمر على وجودهم فترة طويلة كحالي ..
كل هذه الأسباب قد جعلت شيخنا يتردد بالسماح لي بالخروج من السكن ..
كان شيخنا يعرف ابن العمة أحمد ويرى منه الجد والاجتهاد..
وكذلك الأخ سعود الحربي ذو الأخلاق العالية والسماحة..
فكنت أذكره أنهما سيكونان رفيقاي خارج السكن ..
وأنني برفقتهما وحرصهما على العلم سنكون خير فريق وسنتعاون فيما بيننا على التحصيل..
اتصل علي الشيخ يوما وقال : اذهب وقابل فلان في شارع السلسلة بجوار منزلي القديم..
وصلت فوجدت الرجل المذكور فسلم علي ..
وبادر ..
وأدخلني عمارة متهالكة وقديمة تصدر من جنباتها روائح العزاب !!
صعدت معه للطابق الثاني في درج مكسر ووقف أمام باب شقة متهالك
ثم فتحة بعد معاناة وما إن رأيت المكان حتى أصابتني قشعريرة من اتساخه والروائح الهائلة والغبار ...
كل ذلك وأنا لا ادري عن الحاصل !!
قلت للأخ : طيب !!
قال : أظن هذي بتكون شقتك !!
تلبد وجهي وقلت له : ومن يقوله ؟؟
قال : الشيخ هو اللي كلفني بالبحث لك عن سكن!!
بقيت انظر في وجهه وأنا صامت ..
وبقي ينظر إلي محتارا لا يدري ما يقول!!
تذكرت غرفتي في السكن في نفسي فحمدت الله على العافية ..
شكرت الرجل وقلت له جزاك الله خير وما قصرت ..
ناولني المفتاح!!
وقال : هذا مفتاحك استودعك الله !!
وغادر!!
تجولت في شقتي الجديدة !!
غرفة صغيرة عن يمين الداخل ثم حمام أجلكم الله .. تنبعث منه روائح .. ظن شرا ولا تسأل عن الخبر!!
ثم بجوارها غرفة أخرى واسعة قليلا قد نبتت في جنباتها خيوط العناكب فحولتها إلى غرفة أشباح ..
في زاويتها نافذة متهالكة حاولت فتحها فغمرني منها غبار لم أرى قط مثله في حياتي ..
انتثر على ثيابي وشماغي ورأيت أثر ذلك حينما خرجت في وجوه الناس وهي تضحك من منظري!!
هذا كل شيء ..
ولا يوجد مطبخ !!
جدرانها صفراء ..
أما الجيران فهم مجموعة من العمالة العربية والآسيوية ..
تفوح في جنبات العمارة روائح البهارات والطبخ منذ أن تمر بجوارها..
قابلت شيخنا ظهرا ..
وبادرني قائلا : هه!!
كيف رأيت السكن الجديد!!
قلت له : والله يا شيخ ودي تشوفه أنت أيش رأيك ؟
وصلنا بجوار العمارة وكانت على طريق منزل الشيخ ..
ثم استأذن من الناس ودخل معي ..
كان الشيخ وهو يصعد الدرج يقول : ما شاء الله .. ما شاء الله!!
فكنت أقول في نفسي : اصبر وسترى العجب!!
فتحت الباب ..وكنت أراقب تقاسيم وجه الشيخ !!
فرأيته معجبا مما يرى !!
تجول فيها ونظر هنا وهناك .. وتجول في غرفها ..
قال : أبد استعن بالله وانزل فيها !!
قلت له : هل أعجبتك يا شيخنا ؟؟
قال : ممتازة !!
شكرت شيخنا وقلت له : جزاك الله عني خير الجزاء ..
ونزلنا وشيعته حتى بيته ..
عدت للسكن وأنا حائر ..
أفكر كيف سأنتقل لهذه المرحلة الجديدة ..
دخلت غرفة سكني ..
تذكرت مراحل وصولي لعنيزة ..
آه كيف سيكون حالي في السكن الجديد..؟؟
لا شك أن الإنسان يرغب أن يكون الجو المحيط به مثاليا ..
أنا اعتدت على حياة كما هم أبناء بلدي ..
صحيح أنني عانيت حتى وصلت على ما وصلت إليه ..
ولكن العيش في مثل ذلك المكان شيء صعب للغاية لم أجربه من قبل..
هل تريدون أكمل مالذي حصل ؟؟
كانت نفقتي ليست بالكبيرة ..
وقلت للشيخ رحمه الله ..
المكان يحتاج لتنظيف وشراء أثاث ووو..
فقال لي : صاحب العمارة سوف يفعل لها صيانة!!
كان خبرا سعيدا ..
وقلت متى سينتهي !!
قال :خلال أيام ..
مررت على السكن بعد أيام لكي أرى الصيانة الجديدة ..
فلما وصلت باب الشقة شممت رائحة الطلاء من الخارج..
فاستأنست وأملت شيئا كبيرا ..
فتحت الباب فوجدتها قد طليت ولكن أي طلاء!!
ترقيع !!
هنا وهناك وغالبها بالمعجون وليس بالطلاء..
هذا كل ما فعل!!
اتصلت على صاحب العمارة وقلت له : هل انتهيتم؟؟
قال : خلاص انتهينا ويمكنك النزول الآن!!
استحييت أن ابلغ الشيخ بالحاصل ..
واعتبرت الموضوع انتهى..
سأفتقد جو العمارة والمكتبة والبحوث والطلبة الأفاضل لأنزل في مكان مختلف الله اعلم كيف سيكون الحال فيه ..
أرجو أن لا أكون أثقلت على إخوتي بمثل هذه التفاصيل ولكنني أريد أن اشعر إخوتي القراء بالجو الذي يعيشه طلبة العلم ..
أنا اعلم أن هناك من طلبة الشيخ ممن اعرفهم أو لا أعرفهم ..
وقد يكون بعضهم يقرأ كلامي هذا ..
قد وجدوا من العنت والظنك والمعاناة شيئا تعجز عن تصديقه ..
أعرف من ينام طاويا كل ليلة ..
اعرف من نام أسابيع في الجامع ولا يجد مأوى يأوي إليه ..
رأيت احدهم لا يجد مقصا يقص به أظافره ..
منعهم الحياء والعفاف عن سؤال الناس ..
يحضرون الدرس ويخرجون لا يعلم عنهم احد إلا الله سبحانه ..
ولكنهم يحملون في نفوسهم همة ورغبة في العلم تفوق الجبال ..
أولئك حصلوا خيرا عظيما وأعرف عددا منهم الآن في بلدانهم هم شامة قد أحيا الله على يديهم قلوب الآلاف ..
اتصلت على سعود واحمد ودعوتهما لرؤية السكن الجديد..
اتفقنا جميعا على أن المكان يحتاج لإعداد وتجهيز !!
جمعنا ما لدينا من مال يسير ..
وأخذنا في تنظيفها وترقيعها كيفما تيسر .. اخترت أنا الغرفة الأولى على الباب مباشرة ..
وسيكون الأخ سعود واحمد سويا في الغرفة الكبيرة ..
وهذا ما تم بيننا ..
نقلت مكتبتي..
ونقل سعود واحمد ما لديهم من كتب وكانت قليلة فيما اذكر..
اظننا وضعناها في مكان واحد لا أذكر والله..
كانت مشكلة الطعام ..!!
ولا أظن واحدا منا يطبخ !!
وأين سنطبخ؟؟
قال شيخنا : تأكلون في السكن مع الطلاب!!
وهذا ما حصل ..
كان التأقلم مع الحياة الجديدة صعبا للغاية ..
تعودنا على أذان الجامع ..
وعلى الجو العلمي المحيط بنا
كانت النقلة هائلة على النفس والله ..
وأظن الأخوان شعرا بما شعرت به..
أما أنا فقد صرت يوميا انزل لباب العمارة ..
وانتظر قدوم الشيخ فأرافقه للمسجد ..
وهذه ميزة جديدة حصلت عليها ..!!
ولم أكن اشغله عن حزبه حيث يقرأ القرءان في الطريق..
ولكنني كنت أرافقه على كل حال ..
يتبع إن شاء الله ..
-
الحلقة الثامنة والستون
كان لي في تلك البناية ذكريات لا تنسى ..
خاصة برفقة الأخوين الكريمين أحمد وسعود..
مرت علينا فيها ساعات ألذ من الشهد..
ومرت علينا فيها مواقف عصيبة كما هي الحياة.. دوما لكن ذكرياتها العطرة أكثر وعبيرها في النفس أبقى
إن التأقلم مع الحياة الجديدة وفي جو جديد يحتاج لصبر ومثابرة..
حاولنا جميعا أن نتناسى ما مضى ونبدأ حياتنا الجديدة وبهمة ونشاط
أذكر أن أول شيء عانينا منه هو الاستيقاظ لصلاة الفجر!!
هذا هو الواقع!!
حينما كان يؤذن الريس وهو لقب مؤذن الجامع الكبير..
كانت سماعات المسجد ترن في آذاننا فيقوم الطلاب جميعا..
حيث أوصلت لمنائر السكن سماعات أمر شيخنا بوضعها ..
فلا يبقى لأحد حجة على فوات الصبح..
بل كان الشيخ رحمه الله إن رأى وهو في طريقة للمسجد .. نافذة مضاءة وظن أن أحدا غرفته ولم ينزل للصلاة
يصعد إليه فيضرب عليه الباب ليوقظه للصلاة ..
وكم مرة فوجئت بقرع الباب فأجد الشيخ أمامي!!
فلا تهاون عند الشيخ في ذلك..
أما هنا فالوضع مختلف!!
يؤذن مؤذننا بارك الله فيه بصوت لا تكاد تسمعه..
وكان رجلا مسنا ..
ونحن غالبا نسهر للمذاكرة كعادة الطلبة..
ومن المعيب أمام الله ثم عباده أن يظهر طلبة العلم أمام الناس
بأنهم أكسل الناس عن صلاة الفجر ..
اسمحوا لي أن اروي لكم إحدى معاناتي مع المنبهات..
اشتريت لسكني الجديد منبها فكسرته مرارا وأنا نائم لا أشعر!!
كانت تصيبني كآبة حينما استيقظ بعد خروج الناس من المسجد..
وتزيد كآبتي حينما أرى شيخنا في الظهر فيقول لم أرك فجر اليوم!!
فأرخي رأسي حياء وأخبره أنني نمت عن الصلاة!!
فيعرض الشيخ عني معاتبا لتكرر ذلك مني!!
كان الأخ سعود في أول الأمر أخفنا نوما ولكنه رجل حيي يطرق الباب بأدب ثم ينصرف.
فلا يغني ذلك عني شيئا..
وليته خلع الباب وأيقظني فلا ألومه..
حينما تكررت الحال ..
ذهبت لمحل الساعات فقلت للعامل..
أعطني منبها قويا يصدر صوتا مزعجا !!
كان رجلا لبيبا فيما يظهر..
قال : أكيد عندك مشكلة في النوم !!
عندي لك ساعة ممتازة تصدر صوت مزعج وإغلاق المنبه يحتاج لشخص مستيقظ!!
يعني ماذا ؟؟
قال : جرب وسترى!!
نقدته 120 ريالا!!
وأخذت ذلك المنبه السحري..
حينما رن فجرا قبل الأذان أصدر صوتا مهولا يذكرك بجرس المدارس ..
قفزت من فراشي وبحثت عن مكان الإغلاق في المنبه فلم أجده !!
بقي المنبه يصم أذني وظننت أن الجدار سيسقط من صوته حتى هممت أن أرطمها به لتلحق صاحباتها!!
ولكنني استيقظت وهذا هو القصد!!
ذهبت للعامل ضحى وقلت له : كيف أغلق هذه الساعة يا رجل؟؟
ضحك وقال: هنا وأشار لموضع الإغلاق حيث صنعت الشركة موضعا تحتاج لمعاناة ومشقة بضغط عدة أزرار وعلى كل فقد انتشرت ويعرفها من يعاني مثل معاناتي حينها!!
يقولون إذا كثر المساس قل الإحساس ..
بعد مدة اعتدت على صوت جرس تلك الساعة بحيث أنني لم أعد استيقظ على صوتها المروع !!
فمن أين لي بساعة أخرى!!
جلست مع سعود وأحمد وقلت لهما أنا عجزت في أمري رجاء ابحثوا لي عن حل ..؟؟
فاشتكيا أنهما صارا يعانيان مثل معاناتي وبأنهما بسبب السهر والبرد تفوت عليهما الصلاة مرارا ..
قررنا في تلك الليلة أن نربط الساعة بحبل فوق مروحة الغرفة!!
ونجرب ذلك فمن يستيقظ أولا يوقظ الآخرين !!
في اليوم التالي سمعت جلبة في الغرفة المجاورة
فدخلت على جيراني
فرأيت سعود وأحمد يقفزان كالمجانين كل يريد الوصول لتلك الساعة
الرهيبة ليغلق صوتها الذي يصم الآذآن!!
لا أنسى أبدا منظرهما المضحك وهما يصرخان ويولولان ..
حتى انزلاها ..
وقالا لي :خذ ساعتك هذه لا نريد أن نراها مرة أخرى ..!!
سامحوني إخوتي فقصة الساعة والاستيقاظ تلك وجدتها ملقاة بالذاكرة أحببت
ذكرها ليقرأها أبنائي ومن قد يهتم ..!!
أذكر مرة أنني في الطائف قبل أن انتقل للقصيم أنني طلبت من إحدى
أخواتي أن تربط يدي بالطاولة حتى لا أغلق المنبه الذي بجواري ..
ظنتني جننت ولكنها أذعنت لطلبي..
فنجحت تلك الفكرة لأيام قبل أن اكسر الطاولة!!
وهذه حيلتي تلك الأيام والله المستعان على زمن الطاعة والتعبد!!
وضعنا لنا سعود وأحمد وأنا
برنامجا صارما في الدراسة ..
كل بحسب رغبته وتوجهه وطريقته في التعلم ..
أخونا احمد كان يجلس وقتا طويلا بمسجد الجعيفيري المجاور..
يراجع محفوظاته وهو محب للعزلة من طبعه..
وحصل محفوظات جيده ..
وسعود انشغل بدراسته وكتبه وجامعته حيث كان طالبا بجامعة الإمام..
وأنا أكملت برامجي التي اعتدت عليها وبحوثي
كان اللقاء بيننا تقريبا على الطعام وجلسات بسيطة غير منظمة..
لكن نبتت بيننا لحمة ومودة كبيرة نمت مع الأيام..
ولا تخلوا أبدا من الخلاف والنزاع والهجر أحيانا !!
وقد كنا جميعا في مقتبل العمر والحياة تجارب ولكن يعلم الله أنني أكن
للأخوين سعود واحمد من المحبة والمودة مالا يمحوه الدهر ..
وأحن لتلك الساعات والأيام كما تحن الأم على ولدها ..
فسقى الله تلك الليالي والأيام..
ومصدر الخلاف إن وجد فهو تافه ولا يذكر بوزن الآن..
كانت تدور بيننا نقاشات علمية ومحاورات قد تتطور حتى تصل حد الخصومة..!!
وهكذا هو جو طلبة العلم المستجدين حوار ونقاشات ..
فيعود أحدنا لمراجعه وينقب عما يؤيد رأيه وفي اليوم التالي يلقي كل بما عنده فلا نصل لنتيجة ..
فيبقى الواحد مخاصما لصاحبه لماذا لم يتبع رأيي!!
كنا أغرارا وقليلو الخبرة وهكذا الحياة لا تتعلم منها سوى بعد فوات الأوان!!
أذكر مرة أنه زار الأخ سعود أحد طلبة العلم في شقتنا ولم أكن اعرف الرجل من قبل وفي تلك الأيام انتشر في الأسواق كتاب للشيخ الألباني أثار ضجة هائلة بين طلبة العلم ..
حول حكم تارك الصلاة..
و كنت قد دونت بحثا أتعصب فيه لرأي شيخنا المشهور في المسألة وهو الحق الذي لا شك فيه عندي
وتتبعت فيه أدلة الشيخ الألباني رحمه الله..
ودونت تعليقات عليها وملاحظات ..
فكنت مستوعبا للمسألة ومدركا لكثيرا من تفصيلاتها ..
وكأني لمحت من الطالب ذلك انه يميل لرأي الألباني..
وكان سعود محتفيا به فهو ضيفه ويعرف حدتي فلا يريد أن يفتح بابا للنقاش والذي يعرف حق المعرفة خاتمته..
ولكنني اندفعت عليه وأخذت أسرد عليه من النصوص والشواهد والحجج ما جعله بتلجلج ويخرج من المجلس مغضبا ..
فأخذ سعود في نفسه علي وقال لي: يا أخي ليس هذا وقته!!
ومع ذلك فلم تكن تلك المواقف البسيطة والتافهة لتؤثر في حياتنا فلدينا
من الذكريات والجلسات المفيدة والمواقف الحميدة ما لا يكاد يحصر
لم يكن الأخ سعود وأحمد معتادان على الخلطة بالشيخ ..
ولقد كنت خير سبيل لهما في ذلك ..
كان شيخنا رحمه الله يدخل شقتنا في الشهر مرارا..
وكان يدعونا دوما لبيته إن جاءه ضيف ..
وكم عادنا إن مرض أحدنا وبعث لنا من طعامه وهداياه وصلاته التي لم تنقطع فقد عدنا جيرانه من وجهين ..
جيرانه في بيته القديم والذي عاش فيه اغلب عمره ..
وجيرانه في بيته الحديث والواقع في نهاية الشارع ..
في إحدى زيارت الشيخ للشقة قلت له :ارغب يا شيخ في شراء وسائد
لكي نتكيء عليها من برد الجدران وإن جاءنا ضيف تجملنا معه!!
فقال : ليس هذا بضرورة !!
ويكفيك أن تضع قماشا أو شيئا خلف ظهرك وبذلك تتكيء عليه!!
رحمه الله ما أبسطه وأزهده بزخارف الحياة..
ولكنه في النهاية سمح لي بشرائها !!
ولم تمر شهور بعد ذلك حتى بدلنا المكان فصار يأتينا الزوار ويقولون لنا..
كأنكم لستم بعزاب !!
يتبع إن شاء الله
-
الحلقة التاسعة والستون
المواقف كثيرة فدعونا نحكي ما يعجل بالحكاية ويوصلنا لنهايتها على لا يدخل الملل على القراء الكرام..
وقد يكون بعضكم يرغب أن أفصل أكثر وأن أجعلها كأنها مذكرات يومية ولكن هيهات..
دون ذلك تنقطع الأعناق فوالله ما أدونه هنا يسقط من رأسي دون أن ارجع لشيء مكتوب ..
فلا يلومني لائم في تقدم بعض الأمور وتأخر البعض فهذه حيلتي والله المستعان..
اتسعت مكتبتنا يوما بعد يوم وهذا ما سهل علينا معاناة التنقل للمكتبة والبحث في المراجع..
كنا نجتمع والإخوة الأفاضل سعود وأحمد في المكتبة فنراجع ويقرأ كل كتابه أو يراجع حفظه أو يدون بحثه ..
ما أحلى تلك اللحظات الدافئة حينما نستيقظ في الصباح الباكر وخاصة في الإجازات فنشغل المدافيء في برد عنيزة القارص وينكب احدنا على كتابه فيغرق فيه فلا يرفع رأسه حتى أذان الظهر!!
ونحن والله لا نشعر بالملل ..
وليس ذلك بالدائم على كل حال !!
فمراحل الفتور والضعف لا بد منها ..
لا أنسى تلك الوجبات الدافئة من طعام الحنيني !!
وهو من الوجبات الشعبية في القصيم والتي كنا نشتريها من المحلات وهي مغلفة وجاهزة..
فنطبخها على موقد كهربائي متواضع فلنتهم تلك العجينة المخلوطة بالتمر والزبد والقشط فتعطيك الطاقة وتذهب الجوع وتشعرك بالدفئ ..
فتبقى شبعان نشطا طوال نهارك!!
أما عن أوقات الفراغ وما اقلها فكنا نقظيها سويا في زيارة المزارع المحيطة بعنيزة وما أكثرها فكنا نتنزه ونسير بين النخيل الباسقة والظلال الوارفة ..
ذهبنا مرارا لمزرعة الشيخ عبد الله الجلالي والتي هي مفتوحة لكل من يريد دخولها..
فنسبح في بركتها الكبيرة ..
خرجنا في رحلات بسيطة واستأجرنا سيارة جيب سوزوكي!!
أو كنا نستعير من أحد الإخوة سيارته فنخرج لصحراء عنيزة فنطعس فيها فلا تسل عن تطعيس أهل الحجاز في نجد!!
لم تكن حياتنا تسير على رتابة واحدة فنحن بشر ..
نعيش في جد وهو غالب شاننا والحمد لله ..
ونخلطه بالهزل والاسترواح أحيانا ..
كنت قرأت عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله انه كان يقول عن نفسه كنت أقرأ في تفسير الآية مائة تفسير فربما عسر علي من فهما فأخرج وأسير في المزارع أو قال في الطرقات وادخل المساجد المهجورة أو القديمة وأتمرغ في ترابها وابكي وأقول: يا معلم آدم علمني ويا مفهم سليمان فهمني..
ولقد فعلتها مرارا كما كان يفعل الشيخ حيث كانت تضيق علي بعض المسائل ..
فيفتح الله علي بذلك فتحا عظيما والحمد لله ..
ولقد سألت شيخنا رحمه الله عن معنى قول الشيخ : مائة تفسير ..
فقال : يقصد شيخ الإسلام مائة تفسير بمعنى مائة قول ..
فمن المستبعد أن يقصد الشيخ مائة كتاب في الآية الواحدة فهذا ما يستحيل تخيله .. وهذا نظير قول العلماء عن حفظ الإمام أحمد انه حفظ ألف ألف حديث !!!
فالمقصود هو الروايات والأسانيد لا عدد النصوص المروية ..
والله اعلم ..
زارنا في تلك الشقة المتواضعة إخوة كرام بقيت ذكراهم العطرة في الذاكرة حتى يومي هذا ..
منهم الشيخ الفاضل مصطفى العدوي بارك الله فيه ولي مع هذا الرجل مواقف جميلة سأذكرها في حينها إن شاء الله ..
ممن كان يعودنا دوما جارنا إمام المسجد الأخ عبد العزيز السليم وكم سمعته مرارا يقول للأخ سعود وأحمد : هل تأتي امرأة للمنزل فتنظفه لكم؟؟
لما يراه من ترتيب وتنظيم فيها لم يعهده من العزاب!!
هذه شهادة ..
كنت مدمنا للبحث العلمي وقد شجعني شيخنا على ذلك بل كان يكلفني تقريبا كل يوم بكتابة بحث بسيط عن مسألة ثم يقرأ بحثي وقد يعلق عليه ويشرح..
وخصوصا تخريج الأحاديث ..
سمعته مرارا وقد قالها علنا في دروسه ..
أنه ندم على عدم اشتغاله بعلم الحديث حيث لم يكن في نجد في تلك الفترة أي اهتمام يذكر بهذا العلم العظيم ..
كنت اجلس في تخريج الحديث الواحد وجمع رواياته وأسانيده والحكم على كل سند ورجل وطبقة فأبقى اليوم واليومين حتى اسلم البحث للشيخ فيقرأه ثم يعلق عليه بالكتابة أو شفهيا فيقول : لا ،زده بحثا أو هذا يكفي أو نحو ذلك ..
وكم كنت أغتبط حينما يعلق بالقبول على ما قلته ويؤكد ما توصلت إليه والحمد لله ..
خير من استعنت به من طلبة الشيخ في هذا المجال هو الأخ زياد النشيري
وهو شاب جمع الله مكتبة حديثية لا يوجد على ما أظن مثيلا لها في عنيزة بين طلبة العلم..
كنت أعوده في غرفته الباردة دائما في السكن!!
أو في عزبته الجديدة فيفتح لي مكتبته بارك الله فيه فأقلب مراجعها واستعين به إن فرغ فأجد بغيتي عنده ..
كان الأخ زياد يتعجب مني أحيانا حينما يراني أكاد اقفز من الفرح حينما احصل بغيتي بعد عناء ومشقة !!
شعرت مرارا أنا والأخ سعود وأحمد بضعفنا الكبير في جمع فقه الإمام احمد..
حيث أننا نرغب في معرفة المذهب على الخصوص ..
كنا ندرس لدى شيخنا رحمه الله فقه الإمام أحمد في الزاد ولكن يختلط علينا أحيانا مذهبه بالمذاهب الأخرى ..
فحاولنا أن نجد طريقة لدراسته على انفراد على احد مشائخ عنيزة المعتبرين..
قام الأخوين الكريمين بزيارات ومحاولات مع احد شيوخ عنيزة
وهو الشيخ محمد بن عثمان القاضي ..
وهو من تلاميذ الشيخ ابن سعدي ومن تلاميذ شيخنا أيضا .. ولكنه اعتذر ورفض!!
وقال : لا أستطيع..
وكم زرناه وتوددنا له ولكنه أصر بالرفض..
ولعله ظننا غير جادين في المسألة ..
كانت قضية ضبط المذهب لوحده أمنية لي لم تتحقق حتى هذه اللحظات والله المستعان ..
رغم ما حصلته من علم شيخنا من شرح الزاد فهو خير والحمد لله ..
في تلك السنة أو التي تليها ..
حدث حفل السنة ..
حيث أعلن في بريدة عن قرب تخريج عدد من طلبة العلم الذين حفظوا الكتب الستة !!
حينما سمعت من طلبة العلم ممن يذهب لبريدة عن ذلك البرنامج ظننته مبالغة ..!!
قلت في نفسي : البلوغ أو العمدة أما الكتب الستة فمن سيحفظه في هذا الزمن!!
سوى ما سمعته عن الشيخ عبد الله الدويش رحمه الله .. فهو فريد زمانه.. هذا ما اعتقدته..
أعلن عن حفل السنة قبل أسبوع ..
وتسامع الناس بذلك ..
وأذكر أن الحفل كان يوم ثلاثاء..
قبل الحفل بيوم أو يومين قيل لشيخنا في الدرس : يوم الثلاثاء ليس هناك
درس أليس كذلك ؟؟
قال : ولم ؟
قيل : حفل السنة!!
قال الشيخ : لم ادع له!!
وجم الطلاب وشعرت بخيبة في نفسي والله من هذا التصرف الغريب..
فقد سمعنا من الاستعدادات لهذا الحفل والدعوات التي وجهت للعلماء
الكبار في أقطار العالم وعلى رأسهم سماحة الشيخ ابن باز وغيره من جلة
العلماء ثم نفا جيء أن الشيخ ابن عثمين لم يدع !!
على كل الموضع له قصة سأحكيها بتفصيلها في الحلقة القادمة
يتبع إن شاء الله..
هذا آخر ما كُتب .. وقد كتبه يرحمه الله بتاريخ ( 29-11-2005 07:28 )
المصدر :
منتدى أنا المسلم
http://www.muslm.net/vb/showthread.php?t=135394
الساحات
http://alsaha2.fares.net/sahat?230@4...TZ.0@.1dd7b296
-
ملحق
( في وداع والدي أبي محمد رحمه الله )
http://saaid.net/gesah/158.htm
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل عدة شهور..
كنت أتنزه على شاطئ البحر
حيث تهب الرياح القادمة من الساحل متناغمة مع موج البحر الدافئ ..
كنت حينها منغمسا في همومي وأحزاني ..
فقد بلغ بي الحنين لطفلي الصغيرين معاذ وحنان وأمهما ..
اللذان يبعدان عني آلاف الأميال..مبلغا عظيما..
لقد كان القهر والغيظ يكوياني لعجزي عن الوصول إليهم..
وزاد الأمر سؤا فقدي لعزيز على قلبي..
إنه والدي عليه سحائب الرحمة والغفران..
الذي قتل في حادث مأساوي .. بين ..مكة والطائف
ألا ما أضعف الإنسان..
لو شق صدري في ذلك اليوم لما وسع الناس ما فيه من أسقام وأوجاع..
هذا ما كنت أظن طبعا!!
كنت في تلك اللحظة وأنا أراقب غياب الشمس..
أتأمل البحر..
خطرت لي حينها فكرة غريبة:
ياترى لو ألقيت نفسي في هذا البحر المخيف..
المليء بالظلمات والمهالك..
وسبحت عددا من الأميال..
حتى أجد سفينة تحملني للبلاد التي يعيش فيها أبنائي..!!
هل سأنجو؟
كم من القصص الخيالية قرأت!!
والتي ينجو فيها البطل بمغامرة جنونية..!!
لا تلوموني فقد كدت أجن بل جننت فعلا!!!
لقد بلغ بي التيه و الاشتياق أن فكرت في الأمر جديا..!!!
وما منعني من ذلك والاستغراق في نسج الخطة سوى أن لمعت لي في تلك اللحظة...
قارورة تخفق في الماء علوا وهبوطا...
كنت أراها من بعيد ..
لم أبالي بها كثيرا في أول الأمر..
لكن وفي أقل من لمحة،شاهدت شيئا مميزا في هذه القارورة..
حمسني ذلك وألهاني عن جنوني!!!
لمحت أنها مغلقة بإحكام..!!!
ولفت بشريط حريري جميل..!!
وطويت بشكل بديع في قماش جميل للغاية يبهر النظر..
يميل إلى البياض المشرب بحمرة..
لفتت نظري وألهبت مشاعري وظننت في تلك القارورة الظنون..!!!
فلربما حوت كنزا ..!!
أو أي شيء يدور في مخيلة شخص مثلي..
سرت بمحاذاة الشاطئ محاولا الإمساك بها
اقتربت منها ،لكن لم أجرؤ أن أمد يدي لسحبها فالماء عميق ومخيف..
استمرت المطاردة برهة من الزمن..
وأخيرا أمسكت بها وقد حشرت في جدار صخري..
رفعتها وكان الظلام قد هبط تقريبا..
سمعت إقامة الصلاة للمغرب..
ذهبت للمسجد وصليت المغرب مع الجماعة..
كنت في صلاتي أفكر في تلك القارورة وقد فعل في عقلي خنزب الأفاعيل..!!!
بعد سلام الإمام وانصراف الناس..
خطرت في رأسي خاطره...
ماذا لو كانت هذه الزجاجة عقدة سحر !!
ماذا لو كان في القارورة شرا ينتظرني!!
..
أصابتني هذه الفكرة برهبة حقيقية..
وما يدريني ما هي النتائج إن كانت هذه القارورة تحوي عفريتا أو شيطانا مريدا أو!!!
وبعد تفكير بسيط عزمت على اكتشاف سر هذه القارورة السحرية وليكن ما يكن..
لقد بلغ بي اليأس حدا جعلني لا أبالي بأي شيء..
وهكذا الإنسان إذا مسه الشر يؤسا..
انتظرت قليلا حتى يخرج المصلون من المسجد..
وحين اطمأننت..
فتلت الشريط..
نزعت القماش الحريري..
يا الله...
ما أبرد ملمسه وأنعمه..
أدرت الغطاء ..
فاحت من القارورة رائحة زكية..
لم أشم عطرا كهذا في الدنيا أبدا..
لا والله ما هذه الرائحة برائحة دنيا!!
عجيب !!
ما هذه الخزعبلات!!
أخاطب نفسي..!!!
من شدة شوقي لما في داخل القارورة هممت بتكسيرها استعجالا لما قد يكون فيها..
هززتها مقلوبة ..
بالكاد تستطيع النظر لما في داخلها..
ويا لخيبة أملي..
لقد كانت شبه فارغة..
سوى من صحائف رقيقة طويت بإحكام.. وحشيت بطريقة لطيفة بداخل القنينة..
أصبت بخيبة أمل لأني بلغ بي الطمع البشري حدوده..
وما عساني أن أحلم بغير الدرهم والدينار.. !!!
عانيت في استخراج الأوراق المطوية...
استعنت بقلمي لأخرجها..
آه..!!
كانت الرائحة الزكية تصدر من تلك الأوراق..إذا!!
ذكرتني تلك الرائحة بريح المسك والكافور الذي يوضع على الميت..
سبحان الله..!!
إن ذكرياتي في تلك الأيام لا تنقطع عن الموت وما يتعلق به.!!
والظاهر أن ذلك من نتائج الفجيعة بفقد والدي العزيز....
فهي مرحلة تصيب المكلومين..
ومن ذا يعز علي أكثر من والدي رحمه الله
ووالدتي أطال الله عمرها على الطاعة ورزقني برها..
لقد قام المغسل كما هي السنة بإحضار الكافور والسدر المدقوق..
ليخلطهما بالماء الذي يغسل به الميت..
كنت حينها واقفا على رأس أبي عليه رحمة الله..
أساعد المغسل في تغسيل والدي ..
كانت الغرفة مليئة برائحة الموت الزكية!!!
وحدث أن صارت كلما فاحت رائحة عطر من أي كان..
تذكرني بتلك العطور التي وضعت على أبي..
دعونا من الموت الآن..!!
ما سر هذه الأوراق..؟؟
وما سر هذه القارورة..؟؟
حين استخرجت لفافة الأوراق..
اتكأت على جدار المسجد وفتحتها ..
لم يبد عليها أنها مكثت كثيرا بداخل القارورة..
ولم يظهر عليها أثر رطوبة أبدا..!!
واضح أنها ألقيت في البحر قبل زمن قريب..
في أعلى الصفحة الأولى.. وبعبارة واضحة كالشمس!!!
وأنا أحملق فيها !!
لقد بهت وصدمت حينما رأيت المكتوب..:
تسلم هذه الصحيفة لأبنائي..
صالح وعبد المحسن ومازن ووليد ومحمد وأم شهد وأم هشام وأم باسل ورباب..!!!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...!!!!!
قفزت من شدة الهول..!!!!
ارتعبت ..!!!
وقفت الدماء في عروقي..!!!
غلا دماغي خوفا ورعبا !!!
صعقت صرخت ياالهي..
..بسم الله الرحمن الرحيم..
ما هذا الذي أرى؟؟
هذه أسماء إخوتي وأخواتي!!!!
رميت تلك الأوراق من يدي..
زحفت للخلف وأنا التفت يمينا وشمالا ..
ياترى هل يراني من احد فيظنني مختلا في داخل المسجد..!!!
أصابتني رجفة وارتعاد..
بقيت شارد الذهن لفترة من الزمن..
ماذا سأفعل..
هل أنا أحلم ..
رفعت يدي نظرت إليها نفخت فيها..
بصقت على يساري ثلاث
بعثرت شعر رأسي..
كل شيء حولي يدل على الحقيقة..!!!
ياللهول ما هذه الرسالة ؟؟
من كتبها؟؟
ولماذا وجدتها أنا في البحر؟؟
ولماذا كتب تسلم لأبنائي؟؟؟
أبي قد مات من شهر..
وأمي بالكاد تكتب..
وجدي قد خرف..
من هو ..؟؟
من كاتب هذه الرسالة؟؟
آلاف التساؤلات مرت كلمح البصر على ذهني..
رقرقت عيناي .. بالدموع..
بكيت ...
تذكرت والدي..
ما أصعب أن يفقد الإنسان عزيزا فجأة بلا مقدمات..
لم أحزن على فقد أحد كما حزنت عليه..
لقد خطفت المنية والدي أحمد من بيننا .. خطفا..
كما تسرق الحدأة فريستها من على مائدة الطعام..
هكذا .. بلا مقدمات..
ولا إنذار..
حينما نقل إلي خبر الحادث ظننت انه لم يمت ..
حيث لم يشأ الناقل أن يفجعني..
قلت في نفسي ..
سألقى والدي وأقول له.. بصدق..
لا طعم للحياة من بعدك يابو محمد..
اقتربت بحذر من تلك الأوراق.. المبعثرة..
عزمت على اكتشاف السر الغامض..
استجمعت قواي..
وقلت في نفسي ..هه..
وما ضرني!!!
فأنا منذ شهور وأنا أتلقى الأخبار المحزنة والكوارث حتى ..
أصبح قلبي حجرا لا مكان للحزن فيه..
حزنت وحزنت حتى لم يعد للحزن معنى!!!
يقول كاتب تلك الأوراق..
إلى أبنائي الأعزاء..
أنا والدكم أحمد بن محمد الغامدي ..
قد توفاني الله تعالى في الثالث من شهر ذي الحجة ..
وذلك بعد غروب الشمس يوم الجمعة..
بعد أن صليت صلاة المغرب والعشاء قصرا وجمعا ..
وذلك في جبل الهدا في الطائف ..
برفقة ابنتي الحبيبة رباب ..
اكتب لكم هذه الرسالة أيها الأبناء وأنا بعيد عنكم..
بعيد عنكم بعدا لا يوصفه مقياس ..
فأنا الآن في دار البرزخ ..!!!
حيث يكون الميت في دار انتقال للآخرة..
بل بدأت آخرته حقا..
إنني أعيش في حفرة مظلمة لا رفيق لي فيها ولا أنيس..
إلا ما قدمت لنفسي.. من عمل صالح..
لا أدري هل ستصدقون أن والدكم يكتب لكم بعد موته..!!!
لا ألومكم يا أبنائي..
لم يسبق لكم أن مررتم بمثل هذه التجربة الغريبة..
وما من ميت مثلي خلف أولادا في سنكم وحالكم...
إلا ويتمنى أن يفعل ما أفعله ..
إنها آهات يا أبنائي..
إنها كلمات أردت أن أخطها لكم بقلمي ..
وابعثها لكم لتستفيدوا منها..
وتعتبروا بما فيها..
إن آخر واحد منكم رأيته هي ابنتي الصغيرة رباب..
أتذكرين يارباب ..
أتذكرين ياعصفورتي الصغيرة..
حينما نظرت إليك قبل لحظات من الوداع..
أتذكرين تقاسيم وجه أبيك..
لقد أردت ياحبيبتي أن أقول لك كلمة ..
أردت أن أحملك رسالة..
ولكني أشفقت عليك..
أن أحمل جسمك الضعيف ..
أمرا ثقيلا تعجز عنه الجبال!!!
ولكن..
لقد كفاني يارباب تلك الضمة الأخيرة ..
ضممتك لصدري لأشم عبيرك يابنتي ..
لقد مضت مشيئة الله أن أرحل من دونك ...
ثم حصل ما حصل من قدر الله..
أتعلمين يابنتي.. الصغيرة..
أنني بعد الحادث لم أمت مباشرة..
لقد استيقظت بعد لحظات بسيطة من الحادث..
كان كل همي أن أراك.. والله
وأطمأن عليك..
زحفت متثاقلا وأنا الكهل ابن الستين سنه...
وقد انفلق رأسي..
وسالت دماء جسدي النحيل من حولي..
لقد أيقنت ياصغيرتي أنها النهاية..
لقد زحفت يارباب أبحث عنك ..
حاولت يابنتي أن أصل إليك..
أردت أن اسبق الزمن إليك ولكن هيهات هيهات..
وقف ملك الموت على رأسي..
شامخا كالطود العظيم..
أشار إلي إشارة فهمتها وقال لي..
كفى ياأبا محمد كفى أيها الرجل الصالح..
إنه أمر الله..!!
نظرت إليه بنظرة توسل..
ولمن حوله من ملائكة الرحمة..
الذين امتدت منهم الطرقات مد البصر ..
أي والله هذا ما رآه أباك ياعزيزتي..
توسلت إليه قائلا..
أيها الملك الصالح..
أيها الملك الصالح..
إنها ابنتي..
نظرة واحدة تكفيني لأطمأن عليها..!!
نظرة واحدة..؟؟
ضمة واحدة.. أرجوك..؟؟
طأطأ برأسه وقال...
يا أبا محمد .. إنني عبد مأمور.. ولا راد لأمر الله...
الحمد لله على قدره ..
سمعت صوتك يارباب ، سمعت استغاثاتك..
أبي، أبي ،أبي...
لم استطع إجابتك يابنتي فقد كنت أنازع الروح...
أحاطت بي ملائكة الرحمة ..
فخرجت روحي من جسدي.. كما يخرج الماء من في السقاء..
وداعا يابنتي العزيزة وليرعاك الله ويحفظك ويجعلك من الصالحات العفيفات..
أيها الأبناء ..
لكم تمنيت أن يزيدني رب الجلالة في العمر ساعة أو ساعتين ..
لأعود إليكم واجتمع بكم .. للحظات..
لحظات أو دقائق.. فقط!!
لتشفي شوقي وألمي لفراقكم المفاجئ...
أردت أن أعود إليكم لأقول لكم وداعا ، وداعا..
لأمسح رؤوس..أحفادي..
لأوزع ابتسامات صادقة لأبنائي..
لأهمس في أذن كل واحد منكم بتوصيات تصلح أمر دينه ودنياه..
آه ..آه ما أشد مرارتي ..
اشتقت لأم محمد..
زوجتي الغالية..
رفيقة دربي لأربعين سنة..
آه يا أم محمد ..
أنا أدرى الناس بك وبحزنك على فراقي..
أدرك كم تجدين من وجد علي وهذا والله حالي معك..
ياأختاه لقد تعذبت بألم فراقك كما تتعذبين..
ولكن صبرا فإن موعدنا الجنة إن شاء الله..
لو كنت أعلم في تلك اللحظة حينما جلستي أمامي..
قبل ساعة أو أقل من رحيلي من هذه الدنيا..
ووضعت يديك على ركبتي ...
حينما قلتي لي..
أنا لا أذهب بغير إذنك يابو محمد..
لو كنت اعلم بقدر الله تعالى ..لضممتك كما يضم الشاب الغر صبيته...
أتذكرين يا أم محمد ..
كم عشنا في هذه الحياة حلوها ومرها..
في الطائف والباحة والرياض وجده ..
قصص لا تنسى وذكريات تتعطر بها المجالس..
لن تحرمي منها أبنائنا وأحفادنا..
حدثيهم ولو قدر لي لحدثتهم عنك ..
أحدثهم عن صبرك وتحملك ..
أحدثهم عن أربعين خريفا مرت بذكريات عطرة ..
لا يعلم خباياها سوانا بعد الله عز وجل..
وأنت يازوجتي الأخرى..
يامن كنت تنتظريني في جده..
رحمتك والله وشفقت عليك..
اسأل الله تعالى أن يعوضك خيرا مما أخذ منك..
أريد يا أبنائي لو استطعت..
أن أزوركم في مجلسنا المعتاد..
اجتمع بكم في صالة بيتي في مدينة الطائف في مخطط السحيلي..
الذي لم يعد بيتي بعد اليوم..!!!
أتذكرون يا أبنائي والدكم ذلك الشيخ الكهل الذي اشتعل رأسه شيبا..
أتذكرون..أباكم..
حينما يدخل عليكم في صالة البيت..
أو أجلس أمام دكة جارنا سعيد القحطاني مع الأحباب والأصحاب من أترابي..
أو حينما أحمل الفول والتميس كل صباح من الدكان برفقة هشام أو يزيد..
أو حينما أرجع بعد صلاة الظهر محملا بالجرائد وأنا مرهق تعبان..
أتذكرون جلسات العصر اليومية وشرب القهوة والشاي..
صدقوني..
لا معنى لتلك اللحظات في حينها ولكنها الآن ...
نار تحترق في فؤادي..
إنني أتمنى أن تعود تلك اللحظات لمرة واحدة..
لمرة واحدة فقط..
لأرى شمل العائلة حين يجتمع..
أريد أن أقبلكم واحتضنكم واحدا واحدا..
كبيركم وصغيركم..
كلكم في نظري صغار.. ولو كان عمر الواحد منكم أربعين سنه..
اشتقت لأحفادي ..
يزيد حينما يجري في البيت ويلعب ..
هشام رفيقي في روحاتي للبقالة ..
إبراهيم وعبد الله رفاقي للمسجد..
عبد الرحمن ذلك الولد الشقي..
أسماء ولجين وجنا إنهن رياحيني في الدنيا..
احمد وباسل وبسام ووليد وفارس..
آه ما أعظم لوعتي ...
إن أصعب اللحظات يا أبنائي أن يتمنى المرء شيئا يحبه..
ولكنه يعجز عنه...
لا أدري كيف ابدأ.. وماذا أقول..
فمشاعري مضطربة للغاية ..
والشوق يحدوني لأسجل آلاف الذكريات في هذه الرسالة..
ولكن لن يسمح لي يابنائي سوى بتدوين بضع صفحات فقط..
سأنجزها بأقل العبارات وأصدقها..
أيها الأبناء الأعزاء:
إن أول شيء أوصيكم به أن تتقو الله تعالى ..
يا أبنائي إن من خبر ليس كمن سمع..!!
ليس من يحدثكم وهو يرى كمن يحدثكم من كتاب ..
يا أبنائي إن خير الزاد التقوى..
إن خير حمل يحمله الإنسان في هذه الدنيا هي طاعة أو قربة للمولى جل وعلا..
والله الذي لا إله سواه لحسنة واحدة لنا يا أبنائي وفي حالنا خير لنا من كل ما في الدني
من بيوت وكنوز وقصور وسيارات فارهة وبنوك وسواه..
صدقوني يا أبنائي لو كان لي من الأمر شيء وعدت للعمل لملأت الأرض صلاة وتسبيحا
وقرءانا.. الحمد لله على ما قضى ويسر..
إنني في غبن شديد على ساعات وأيام وشهور لم أقضها في شيء ينفعني يوم الدين ..
ولكن العوض فيكم.. إن شاء الله
لقد رأيت كيف ينفع عمل الولد والده..
يا أبنائي نحن في الآخرة في حاجة للحسنة الواحدة
بتسبيحية
أو كلمة معروف
أو ذكر أو صلاة.. وقراءة قرءان..
يا أبنائي لو رأيتم ما رأيت لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا..
لو رأيتم ما رأيت لما انتفعتم من الدنيا بشيء..
لو رأيتم الدود والظلمة في القبر وما يمر به المؤمن من أهوال فكيف بالعاصي..
أبنائي الأعزاء ...
إن أول أمر أوصيكم به بعد تقوى الله هي الصلاة..
إن الصلاة كالسور يحميك من النار..
إنها الصلة التي تصلك بربك في الدنيا .. وتؤنسك في قبرك في الآخرة..
أوصيكم يا أبنائي أن تحذروا من أمور
أحذروا من ألسنتكم.. فإما أن تقولوا خيرا أو اصمتوا..
أحذروا من آذانكم أن تسمعوا حراما أو تتجسسوا ..
أحذروا من مال الحرام يا أبنائي ..
الربا أموال الأيتام ، أموال الناس بالباطل .. مال الحرام كله .. الحذر الحذر من ذلك..
أخيرا يا أحبابي ..
أوصيكم أن تجتمعوا ولا تتفرقوا.. فإن الشيطان يجرؤ على من شذ ...
ولا يقترب منكم مجتمعين...
إنها مئات بل عشرات الوصايا الثمينة التي أعلم نفعها لكم إن شاء الله..
أوصيكم بطاعة الله وتقديمها على طاعة كل البشر من عظم ومن احتقر..
كما أن لي طلبا هو حق لي عليكم..
لا تحرموني ياأولادي من عمل صالح بمالي الذي قد ملكتموه..
لا تحرموني من دعوة صادقة يا أولادي..
لا تحرموني من صدقاتكم وبركم ..
فأنا والله كالغريق يبحث عن كل شيء ينقذه من الهلاك..
أسأل الله تعالى أن يصلح حالي وحالكم وأن يهيئ لكم من أمركم رشدا..
وأن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ..
وأن يجعلني من ورثة جنة النعيم..
أبوكم أحمد
يعلم الله تعالى قدر تأثري من تلك الرسالة فقد انفجرت باكيا ما كتب فيها ..
التف مجموعة من أهل المسجد حولي حينما سمعوا نحيبي ..
أخذوا يهدؤون من روعي ويذكروني بالله..
قم يا عبد الله
قم وأنا أبوك
قم قم بسم الله عليك
ايش فيك تبكي.. !!!
نظرت من حولي فإذا أمي فوق رأسي توقظني من النوم ..!!!
لقد روعها بكائي .. فاستيقظت من نومها..
وجاءت توقظني..!!
قم ياولدي قم ..
جلست ومسحت وجهي ..
اجتمع حولي من استيقظ من نومه.. من الصبية والأخوات...
لم اصدق ما يدور حولي..
فقد كنت كالتائه..
طلبت الماء ...
وحينها ...
رن جرس التلفون ..
رفعت والدتي السماعة.. فهتف المتصل..
السلام عليكم
وعليكم السلام ..
هل هذا منزل الأستاذ أحمد الغامدي..
نعم تفضل..
هل ولده (فلان ) موجود..؟؟
نعم موجود ... من يبغاه؟؟
معاكم إدارة المباحث في الطائف؟؟؟
ارتعبت الوالدة وخافت ..فشعر المتحدث بذلك.. فقال لها...
لا تقلقي يا أختي القضية أن مكتب الأمير محمد بن نايف يبحث عن ابنك في موضوع ...
انتهى الفصل الأول..
في وداع والدي أبي محمد الفصل الثاني
تعصف بالإنسان كثير من المشاكل..
وقل في هذه الدنيا من سلم منها..
وقد كان لي منها بحمد الله حظ وافر..!!!
فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه..
لقد سمعت كثيرا بالأمير محمد بن نايف..
وأذكر أنني سمعت به لأول مرة على لسان أحد مشائخنا عليه رحمة الله..
فقد سمعته يثني عليه مرارا..
وقد خدمني هذا الشاب عن طريق شيخنا المذكور في قضية سابقة..
وفي قضيتي هذه حدثت مواقف لي أذكرها من باب التحدث بالنعم ..
ومن باب تفريغ شحنات القهر والغيض !!
قصتي هذه وقعت أحداثها قبل أكثر من عام ..
وذلك أن جواز سفري غرق جزء منه في حوض علاج طبيعي .. في دولة ما!!!
قمت بتنشيفه بقدر المستطاع ..
ولكن يظهر أنه بتعرضه للهواء مع الرطوبة أصبحت أوراقه مبعثرة وتلفت النظر!!
وبشكل طبيعي وبسبب هيئتي وجنسيتي أوقعني حال الجواز..
في مواقف أحرجتني في مطارات دولية ..
فقد مررت تقريبا بالتحقيق في كل غرفة مطار أمر به ..!!
وهذا لا شك أمر محرج ..
وفي دخولي الأخير للملكة .. توجهت في اليوم التالي لجوازات مدينة الطائف..
فأريتهم الجواز.. فاختلفت آراء الضباط...!!
فمن قائل : يمكنك السفر به على هذا الحال!!
ومن قائل : لو مررت بي في منفذ لما سمحت لك بالسفر!!
حينها عزمت على تبديله..!!
وليتني ما فعلت!!
فإنه للأسف قد صور الموضوع على أنني..
قد تعمدت محو بعض المعلومات المشبوهة من الجواز!!!
ولا أدري بالضبط من هو العقل الجبار الذي لبس لي هذه التهمة الجيدة!!
حاولت مرارا وتكرارا مع جوازات الطائف لأقنعهم بعدم مسئولية هذا الكلام..
وأنه مبني على حجج فارغة .. وأنني إنسان معروف بسلامة الحال!!
فلماذا ألبس ثوبا غير ثوبي!!
طالت المسألة شهرا كاملا .. وحاولت مرارا وتكرارا أن أنفي ذلك بكل الطرق..
أثبت لهم بالتحقيق أنه لم يحذف من الجواز ورقة واحدة أو معلومة واحدة..
ولكن يظهر أن من حقق معي قد عزم على شيء الله حسيبه عليه..!!
فبعد عدة مقابلات معه ..
أدعى المذكور أن علي في ملفي الخاص ملاحظة أمنية !!!
لم يفسر لي معنى هذه العبارة .. ولم يحلني على جهة تتحمل المسئولية..
قال هذه أسرار ولا يمكن اطلاعك عليها!!
علمت بأن القضية تعقدت وأن الموضوع خلط بقضية أخرى!!
أشار علي أحد الإخوان بمقابلة الأمير محمد بن نايف..
فهو معروف بين الناس بأنه لا يظلم عنده أحد !!
وكم من مكروب كان سببا في تفريج كربته ..
فأنا بعيد عن أولادي وزوجي .. وعملي خارج البلاد يتحتم علي سرعة الحضور..
وهذا ما كان..
توسطت عن طريق أحد المعارف للدخول على الأمير..
وذلك في حياة الوالد عليه رحمه الله..قبل شهر رمضان عام 25 للهجرة..
وجهني صاحبي لشخص سيخدمني وقد أوصاه بي خيرا..
دخلت على ضابط برتبة مقدم ..
استقبلني بوجه طلق..
قلت له هل أنت فلان ..
قال نعم....
قلت له لقد روحني لك فلان لتدخلني على الأمير محمد بن نايف..
قال : ونعم فيك وفيمن روحك ايش موضوعك؟
أكيد زواج ؟؟أنتم المطاوعة تحبون الزواج؟؟
قلت له لا, الموضوع هو الحصول على جواز...
لا أدري هل فهم عبارتي أو لا ...
ومع أنه قرأ الخطاب المعد إلا أنه كرر كلمة الزواج مرارا.. !!
لقد كان همي حينها أن أحصل على الجواز .. فقط
فقد مضى علي عنهم شهورا عدة وزوجتي على وشك الوضع..
أذن علينا الظهر ..
فخفت أن أتزحزح من مكاني للصلاة ..!!
ثم لا استطيع الدخول مرة أخرى على الأمير..
فقد رأيت من الزحام عند البوابة ما يجعلني أفكر بذلك حقا!!!
كل هؤلاء جاءوا لمقابلة محمد بن نايف ..
كهولا وشبابا ونساء وحتى أطفالا ومعاقين..
علما أنه لا يقبل في الجلسة سوى ثمانين شخصا فقط في الأسبوع مرة واحد ة..!!
وهو قليل للغاية لمجتمع كبير ومشاكله كثيرة!!
وللأسف الواسطة مقدمة على الحاجة في كل أمورنا..
على كل.. كان في الغرفة معي أربعة أشخاص وكلهم جاءوا بواسطة الضابط المذكور..
تحرجنا جميعا أن نقوم لأجل الصلاة خوفا من أن تبدأ الجلسة أو أن يغيب الضابط..
قال أحد الحضور وهو كبير في السن نحن جئنا من أماكن بعيده ونحن مسافرون ..
فيجوز لنا الجمع..!!
تنفست الصعداء ...
وفرحت بهذه الحجة وأيدته فورا!!!
انتظرنا حوالي الساعة نراقب الداخل والخارج..
بعد ها نادى الضابط شخصا مدنيا وهمس في أذنه بكلمات..!!
وقع في نفسي شك فلربما أراد الرجل تصريفنا وتحرج منا فقد كنا أربعة...
قال لنا قوموا مع الأخ ..
شكرته وودعته وأنا محتار..!!
نزلنا من الدرج من الطابق الأول أو الثاني لا أذكر..
لما وصلنا للأسفل أجلسنا مضيفنا الجديد على المقاعد المرصوصة في بهو الوزارة الفسيح..
أخذت أتبادل النظرات مع أصحابي: هل ياترى عدنا من الصفر؟؟
هل يجب أن نسجل مع المجموعات الهائلة؟؟
حينما رأيتهم صامتين مطمئنين ارتحت وبردت أعصابي ..
فالظاهر أنهم قد جربوا الأمر مرارا..
شاهدت مئات البشر يصفون في صفوف غير منضبطة وفي أيديهم الملفات والأوراق..
ويقف أمامهم ضباط لتسجيل الأسماء وتوزيع الأرقام..
وكما قلت فالطلب كبير والمعروض نزر يسير..
كنت أرى وأنا منهم طبعا!! كيف يتوسط الناس مع مسئولي المراسم..
لمن جاء بواسطة فلان وفلان..
وما أسهل أن يقول الضابط لمن يقف أمامه تعال الأسبوع الجاي!!
طيب هل يعرف هذا المسئول من أين جاء هذا المسكين !!
إن بعضهم يأتي من مئات الأميال .. من شمال المملكة وجنوبها..
ويا ليت الأمر أنه يضمن مقابلة الأمير في الأسبوع التالي..
بل يجب عليه أن يسجل من جديد..
وقد يقابل الأمير وقد لا يقابله ..!!!
وقد يعتذر الأمير من جلسة ذلك الأسبوع إلى أجل غير منظور!!
إن هذا لشيء مؤسف والله ،فكم من صاحب حاجة ولا حيلة له..
ولكن إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلا ركوبها..
بعد لحظات تمركز مجموعة من حرس المراسم في مواقع محددة من البهو..
بحيث لا يسمح لأحد من الناس بالمرور من تلك المراكز..
وقد كنا نحن في وسط المنطقة ..
ارتحت جدا وفرحت بالخصوصية التي نلتها بالواسطة..!!!
والعلم بيد الله وحده فقد يكون ممن منعوا من هم أحوج مني آلاف المرات !!!
ظننت في البداية أننا سنستقبل الأمير في البهو..
ولقد خاب ظني طبعا فالذي أنا فيه هو البداية فقط ..
فنظام البروتوكول معقد وفوضوي للغاية..!!
كما هو حال شعبنا للأسف!!
صرخ فينا ضابط وقال ادخلوا المجلس ..
كانت الكراسي فاخرة للغاية ..
وبطرفة عين امتلأت المقاعد..!!!
ولم أجد مكانا للجلوس..
كانت هناك عدة غرف جانبية تحيط بالمجلس الكبير ..
وقد حشيت حشوا بالناس..
ويظهر أن بعض الغرف هي لكبار الضيوف !! أظن هذا!!
مرت أكثر من ساعة أو ساعتين تخللها توزيع مياه للشرب ..
ومجلة لا أذكر اسمها لكن أتذكر عليها صورة الأمير نايف.. وزير الداخلية..
وكنت كلما لا حظت حركة واضطرابا من الناس والعسكر أظن الأمير وصل..!!
ولكن تمر الدقائق ثقيلة ولم يحضر أحد..
بعد فترة من الزمن أمر الضباط مجموعة من الجلوس بالقيام والدخول في سيب صغير..
وقد رصوا صفا واحدا بطريقة فيها شيء من الإهانة كما أشعر..
كانت إضاءة السيب ضعيفة وفي طرفه الأيسر بوابة تدخل منها لمكتب يستقبل فيه الأمير
الناس.. وكل دقيقة يمر ضابط ليتأكد من استواء الصفوف وانضباطها،
فتراه يقدم ويؤخر وهو متنرفز بشكل واضح..!!
ولا أدري لما النرفزة !!
فالأمر أهون بكثير ولا يحتاج للقلق ..
ثم إن من الناس الوقوف ،من هم من هو في مناصب يجب أن تحترم ..
ففيهم الأكاديميون على أعلى التخصصات وشيوخ القبائل..
وفيهم التجار والأثرياء ونحوهم..
والواجب أن يحترم الإنسان مهما كان وضعه ..
ولا شك أن حسن التدبير مما يضفي على الجلسة والأمير بهاء وتقديرا..
أشغلت تفكيري حول البوابة التي سيأتي منها الأمير..!!
وفعلا حيرتني ..!!
على كل وأنا في حيرتي وتفكيري وطول الانتظار أخيرا..
جاء الأمير..
هو بشر مثل البشر !!!
طويل متوسط الطويل معتدل البنية عليه سيما التهذيب واللطف !!
مع صرامة لا تخفى على ناظر.. فهو بالتأكيد رجل أمن....!!
لا تلوموني ياأخوتي على أوصافي فأنا صاحب حاجة ولا بد أن أتفرس فيه..!!
جاء يمشي سريعا في حركته بشكل ملفت!!
وهكذا الرجال الجادون !!
وقف أمام صف المعاقين (وكانوا قليلا )في البهو الخارجي..
استمع لكل واحد منهم وأخذ الأوراق وسلمها لشخص بجواره..
ثم دلف علينا..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
هكذا حيانا الأمير..
رددنا عليه السلام ثم دخل المكتب من البوابة الأمامية من المجلس..
وفورا بدأ الناس في الدخول على الأمير..
يستقبل الأمير الناس وهو واقف..
وبعض المتكلمين يطيلون الحديث معه وبعضهم مثلي ..
يقتله الحياء والمهابة من أن يطلب حاجته بشكل مرض..
وعندما وصلت للسيب المظلم أمرنا العسكري بالجلوس ..
واختار الأربعة الأوائل في الصف ليقفوا بجوار البوابة ..
فالدخول يكون بمجموعات أربعة أربعة,, وهكذا ..
كانت بخور العود يملأ المكان والظاهر أن هذا من عادة الأمراء..
أن تبخر المجالس بحضورهم..
حينما وقفت على الصف أصابتني قشعريرة ..
فقد كنت أفكر في جواب الأمير ..
وماذا سأقول له..
ولم تمض دقيقة حتى صرت في الصف قريبا منه ..
تحدث صاحبي الذي أمامي ..
بالغ في السلام والكلام مع الأمير مما هو معروف ..
ولا حظت أن الأمير يقرب أذنه بشكل مهذب للغاية للشخص المتحدث..
ويتركه يتحدث وينصت له حتى ينتهي ثم ينظر في عيونه ويبتسم في وجهه..
ويقول له: ابشر إن شاء الله تقضى حاجتك أو نحو هذا الكلام..
ثم يلتفت الأمير لمن بجواره ويهمس في أذنه بكلام لا يسمع..
ولكن المرافق..يدونه فورا في مذكرة بيده..
وبعدها جاء دوري ، صافحت الأمير .. وحييته:
السلام عليكم ورحمة الله..
وعليكم السلام ورحمة الله .. تفضل ..
قلت له أيها الأمير ..
أنا قضيتي غريبة ، فمنذ شهور سحب جوازي مني لأنه غرق في ماء..
وزوجتي وأطفالي خارج المملكة..
وعملي خارج البلاد قد تأذى كثيرا بسبب عدم حصولي على الجواز.. الخ الكلام..
قال هل هناك دولة تطلبك ؟؟
قلت أبدا فقد راجعت عدة جهات أمنية من المباحث للداخلية للجوازات وكلهم أكدوا
أن ملفي نظيف لا مرية فيه..
وبشكل مفاجئ قاطعني الأمير وأمسك بكتفي وقال اصبر شوي!!
وأخذ يهمس في أذن مرافقه !! والظاهر أنه تذكر شيئا بخصوص الشخص الذي قبلي
فأراد أن يملي على صاحبه قبل أن ينسى..
ثم التفت إلي وقال هل معلوماتك ورقم هاتفك مسجله على الخطاب..
فقلت نعم ..
قال لي ثق تماما سنتصل عليك..
ثم ودعته وانصرفت!!
لم تستغرق القضية دقائق!!
لا أخفيكم أنني خرجت خائبا للغاية ..
هل هذا كل شيء ؟؟ كل هذا الانتظار ثم ولا شيء !!
سنتصل عليك!! فقط..
خرجت من الداخلية وأنا منكس الرأس محبط حيران..
ولكنني أعطيت نفسي أملا بما سمعت عن هذا الأمير ..من عدل وأنصاف للمظلوم!!
ولكن هل يعلم الأمير محمد لوعتي وحناني وشفقتي لأهلي..؟؟
لو اطلع الأمير على الغيب وهيهات أن يطلع لكان الأمر مختلفا ..
ولكنه بشر .. لا بد له أن يتأكد من كلامي....!!
وهكذا فسرت لنفسي وبررت لغيري لكي تخف الوطأة علي..!!
مرت الأيام ثقيلة كالجبال..
و دخل شهر الرحمة والمغفرة شهر رمضان ..
في إحدى لياليه العطرة جاءني اتصال في الساعة الثانية فجرا..
كان ذلك من صهري..
يبشرني بقدوم المولود الجديد..
صدقوني لقد فرحت وحزنت في آن واحد..
فرحت بقدوم ابنتي وحزنت لبعدي عنهم ..
إنها نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا من فقدها رغما عنه...
سمينا ابنتنا حنان أملا بالمولى جل وعلا أن يرحمنا ويلطف بنا..
كنت أتحدث مع أهلي بالهاتف يوميا ..
كنت أنفق أسبوعيا على المكالمات حوالي ألفين ريال..
حتى أفلست أو أوشكت..
اختلفت مع الجهة التي كنت اعمل معها ..
ودخلنا معهم في مشاكل لا يعلم مداها إلا الله ..
ومع أنني صاحب حق ومظلوم إلا أن مشكلة الجواز هي الفيصل..
فأنا مقيد لا أستطيع السفر لبلد العمل لإحضار المستندات اللازمة.. التي تبرأ ساحتي.
استغل بعضهم فرصة غيابي عن مكاتبي ليتلاعبوا بالأوراق والمستندات كيفما شاءوا..
لم أشعر بطعم رمضان هذا العام للأسف..
ولا يظن ظان أنني غر متصاب .. بل أنا والحمد لله رجل أصبر على الشدائد..
ولكنها رحمة في قلبي على ضعافي وصبيتي .. والله المستعان..
و في الأثر كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول..
جاءني اتصال من مكتب الأمير وأخبروني برقم معاملتي ..
وطلبي مني متابعتهم تلفونيا..
صرت اتصل كل يومين ..
والجواب منهم يقول: ما زالت قضيتك عند الأمير.. ولا إفادة حتى الساعة..
استدعيت للمباحث في مدينة الطائف..!!
ولم يسبق أن دعيت من إدارة المباحث مطلقا..
قلقت في أول الأمر.. ولكن أين مفر؟؟؟
فلا بد من الحضور..
شعرت عائلتي في الطائف بقلق شديد وخاصة الوالد عليه رحمة الله..
حرصت على تطمينهم وأن الأمر لا يتعدى الروتين..!!
حينما تلقيت الاتصال من المباحث للحضور كان المتحدث معي ..
شخصا لبقا ويظهر من نبرته الاحترام وسماحة النفس..
كان ذلك من أسباب اطمئناني وزوال الرهبة من ذلك اللقاء..
نزلت لمدينة الطائف ..
في صباح ذلك اليوم اتصلت على زوجتي وأخبرتها بالحال !!
جن جنونها فقد خشيت المسكينة علي وخشيت أنا أيضا أن يقبض علي!!
قدمت للإدارة ..
للأسف فإن الجنود الذين على باب الإدارة يتعاملون بجفاء كبير مع الناس..
ولا ألومهم فثقافتهم ثقافة سطحية ..
وتقدير الناس ومراعاة مشاعرهم لا وجود له في مبادئهم أصلا!!
دخلت الاستقبال وطلبت الضابط المعني ..
وبعد ثواني جاء اتصال للاستقبال على أثرها صعدت برفقة العسكري للطابق الثاني..
لم تكن هذه الزيارة هي الأولى لي للمباحث.!!
فقد سبق وان جئت بنفسي دون استدعاء مرتين وقابلت نائب مدير الإدارة..!!
طلبت منه أن يفيدني عن وضعي الأمني؟؟
قال لي : ألحين الناس تهرب منا وأنت تأتي طوعا تبحث في ملفك؟؟
قلت له إن جوازي ممسوك بدعوى أن لدي ملاحظة أمنية!!
صور أوراقي وطلب مني الحضور بعد أسبوع ..
وفعلا جئته فأكد لي أنني سليم وبإمكاني الذهاب للجوازات لاستلام جوازي ..!!
وطبعا هذا مالم يحدث..!!
ولقد كررت ذلك مع مباحث عليشة في الرياض فكان الجواب مماثلا!!
عندما وصلت للضابط ..
استقبلني بوجه طلق...
إنه رجل ، يكفي أن أسميه رجل ..
قمة في الأخلاق والأدب..
لقد محا الضابط المذكور بحسن تعامله ولطفه وكياسته معي كل صور الظلام والتعذيب
والقهر.. التي سمعتها عن رجال المباحث ...
إن الرجل بأدبه وبرفقه يصل لحاجته ومراده أسرع وأفضل وأصدق من طرق العنف..
لقد تولد عن هذا اللقاء علاقة ودية بيني وبين هذا الرجل ما زالت حتى هذه اللحظة
تتجاوز كل وظيفة ورتبة قيادية لتصبح أخوة وصداقة ورحمة وعاطفة..
بارك الله في أبي وليد فهو رجل فعلا يمثل شعبنا الطيب الأمين الخلوق..
لن احكي ما تم في اللقاء ولكن خرجنا بنتيجة مفادها..
أن لا علاقة بالموضوع بالجواز ..
ولكن يظهر لي وليسمح لي أخي فإنني استشفيت من الموضوع
أن هناك وشاية جاءت عني وعن مجموعة من الإخوة من جهة معروفة..
بالعداء للإسلام والسنة في المكان الذي كنت أعمل فيه..
ولذا تم التحقيق لا للتأكد بل لتبريء ساحتي !!
ولكن هل هذا سبب عدم صرف الجواز ؟؟ الله أعلم ..!!
جاء العيد ولا عيد لي..
كما قال المتنبي في سجنه:
عيد بأية حال عدت ياعيدُ بما مضى أم لأمر فيه تجديدُ
صار الخصيُّ إمام الآبقين بها فالحرُ مستعبدٌ والعبد معبود
من علمَّ الأسود المخصي مكرمةً أقومهُ البيضُ أم آباؤه الصيدُ
وذاك أن الفحولَ البيض عاجزة عن الجميلِ فكيف الخصيةُ السود
جاء العيد وكنت أؤمل أن يأتيني اتصال قبله من الداخلية ليكون عيدي مع أهلي..
فهاهي ستة شهور تمر كستة قرون..
طلب مني الوالد كغير عادته رحمه الله أن أنزل لجدة لأستأجر استراحة للعائلة..
تقضي فيها العائلة فترة العيد ..
ولم يسبق أن استأجرت عائلتنا استراحة في العيد ..
وكأن هذا إرهاصات لنا برحيل الوالد عليه رحمة الله..
لقد شهدت أعيادا كثيرا مع عائلتي في صغري وبعد أن تزوجت وكبرت..
والذي أوقن به أنني لم أرى والدي مسرورا فرحا مع أهله وأولاده كمثل أيام العيد هذه..
لا أنسى أبدا ذلك المنظر الذي ترسخ في ذهني حين رأيت والدي ووالدتي ..
والعائلة كلها والأطفال مجتمعين حول مسبح الاستراحة..
اجتمعت ثلاثة أجيال في مكان واحد .. يجمع بينهم الفرح والسرور ..
كان وجه الوالد متهللا فرحا طوال الأيام الثلاثة ..
كانت تلمع في عينيه..دموع الفرح..!!
وهل هناك سرور أعظم من سرور الوالد بولده !!
وهل هناك شيء يسعد المرء أكثر من أن يرى أهله حوله سعداء مسرورين!!
إذا لماذا شقي آباءنا علينا أليس من أجل أن تقر أعينهم بنا!!
أظن الوالد حينما كان ينظر إليهم ساعتها يقول..
الحمد لله الذي أقر عيني بكم..
اللهم لك الحمد يا أرحم الرحمين..
كانت الساعات حينها تمر كلحظات من حلاوتها..
كانت النجوم زرقاء والسماء الصافية والرياح تهب بنسيم بارد عذب..
الأطفال يجرون ، الفتيات يضربن بالدفوف، النساء يرقصن ويطربن بالمباح..
والشباب يتسامرون في الهزل والحديث المنعش..!!
كنا كأننا في ليالي عرس ..
ولكن من ياترى عريسها ..
لا شك أنه أبو محمد فهو عريس هذه الأيام إلى جنات الخلد إن شاء الله..
لم يكشف القدر لنا حينها عن ستره الرقيق ..
ولو انكشف لنا بعضه أو كله..
لحول ليالينا إلى أتراح ...من قادم لا مفر منه..
ولكنها رحمة الله بعباده الضعفاء..
أن يخفي عنهم مالوا اطلعوا عليه لحول حياتهم لبؤس وشقاء..
أي بؤس أعظم من فقد والد أو والدة أو ولد..
اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الرحمين..
عزمت العائلة أن تكون النزلة لجده سنوية ...
وفي عيد الأضحى القادم ستنزل العائلة لنفس الإستراحة..
ولكن هيهات هيهات !!
فقد خطف الموت الوالد في اليوم الثالث من ذي الحجة
حيث تحول عيدنا ميتما حزينا كئيبا والله المستعان...
بعد انتهاء العيد وعودة الناس لأعمالهم
قدمت للرياض لمقابلة الأمير محمد مرة أخرى..
أتيت لصاحبنا المقدم فتكرم مشكورا ببعثي فورا للمراسم لتسجيلي..
دخلت على الأمير ووقفت أمامه وقلت له بالحرف الواحد:
ياأبا نايف إني عاجز عن الكلام..
لمح الشاب الأمير في عيني الحزن وفي نبرة صوتي اليأس فأمسك بيدي وقبضها !!
وأخذ يقرأ في الخطاب المكتوب.. ثم نظر إلي وقال:
وين تريد تروح ؟؟
قلت لأهلي وعملي..
قال أين؟؟
قلت للبلد الفلاني.. وذكرته..
احتار الأمير ما يقول لي فما عساه يقول !!
ربت على كتفي وقال سأهتم بالموضوع!!
حصلت في تلك الفترة قضايا عملية السيارة المفخخة التي فجرت عند الداخلية..
علمت أن القوم لن يتفرغوا لقضية شخص مثلي فلديهم من المسئوليات ما هو أهم..
زاد همي وإحباطي وضاقت علي أموري المادية سؤا حتى أصبحت أعيش على الديون..
انتهى الفصل الثاني
في وداع والدي أبي محمد الفصل الثالث..
خطرت لي فكرة استحسنتها ولم أشاور فيها أحدا..
وكان فيها نوع من التحدي والانفعال ...
فقد كتبت مقالة في موقع الساحات..
سخرت بما يشيع في دوائرنا الحكومية من فوضى إدارية ..
ومنها الإدارة العامة للجوازات..
ووضعت رقم هاتفي بعد أن حددت مشكلتي بشكل عام دون تفاصيل..
أقفلت جهازي ونمت..!!
وكان الوقت ضحى..
لا شك أنني كنت قلقا ... وتوقعت أن لا يؤذن ظهر ذلك اليوم حتى
تحيط بمنزلنا قوات الشرط و المباحث كما يحيط السور بالمعصم...
استيقظت من النوم فوجدت رقم هاتف غريب.. على جوالي..!!
اتصلت عليه فرد علي صوت أجش ..
قال هل أنت فلان؟؟
خفت وهممت أن أغلق السماعة ،قلت : نعم من يبغاه؟؟
قال أنا من سكان المدينة وذكر اسمه وقبيلته..
أخذ يدعو لي بالفرج ولم ينس الدعاء على من ظلمني..
وأبدى استعداده لخدمتي ومخاطبة المسئولين ...الخ
شكرته وأثنيت على موقفه وطلبت منه أن يترقب ولا يستعجل شيء..
أقفلت السماعة بعد انتهاء المحادثة..
انتظرت للعصر فلم يتصل أحد..
انتظرت اليوم الأول و الثاني و الثالث حتى نسي الموضوع...!!
حينها حكمت على الفكرة بالفشل على ضوء ما حدث..
أما التجاوب في موقع الساحات فكان متواضعا بل شبه معدوم..
وحسب علمي فإنه لم يسبق أن تعود الأخوة على مثل هذه المواضيع الشخصية..
فقضايا الصالح العام لها جمهورها العريض...
بينما القضايا الشخصية تعني صاحبها أولا وآخرا...
بعثت عددا من البرقيات ، حوالي ست برقيات..
ولم يتجاوب معي أحد..
والظاهر أن السبب هو غموض القضية وعدم وضوح معالمها !!
مسكين والله من لا حيلة له مثلي..
لم يمر علي في حياتي أبدا ضيق وحرج كما حالي في تلك الأيام...
شعرت بآلام مرض النقرس التي عادت لي بعد غياب طويل..
راجعت المستشفيات وأشغلت بنفسي..
قال لي الطبيب : الكلى لديك فيها ضعف في نشاطاتها..
وأنت قاب قوسين أو أدنى من الفشل الكلوي..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
طيب مالذي سأفعله؟؟
في خضم هذه المشاكل ...
حدثت الفاجعة الكبرى...
والصاعقة القاتلة لما تبقى في من رمق حياة وأمل..!!
دعوني أروي القصة كاملة..
حصل أن طلبت من والدي أن يهبني عقارا لكي أرهنه فأحصل على سيولة مالية..
وقد دخلت في مشروع إعلامي ..أعتبره قفزة في دنيا الإعلام الإسلامي لو تم..!!!
وافق الوالد مشكورا على ذلك ..
وفي اليوم الثالث من ذي الحجة ..
اجتمعت بالوالد أنا وكل العائلة ..
سوى من سافر لماليزيا للسياحة .. قبل عدة أيام...
كانت الوالدة وأختي الكبرى أم شهد وأنا نتناقش مع الوالد حول موضوع الرهن..
وحول المشاريع التي دخلتها ..
لا شك أن الوالد سيقلق علي من غوائل الزمان وما أكثرها..
أذكر جيدا جلسة الوالد ذلك اليوم ..
كانت الجلسة حميمية وعاطفية للغاية ..
وأذكر أن آخر كلمة قلتها له ( إذا تم الموضوع فأنت والدي ولو رفضت فأنت والدي)
لم يكن الوالد راغبا في سفر الوالدة للباحة برفقتي للقيام بتقييم قيمة الأرض..
ولكن بعد إلحاح وترج وافق على ذلك بشرط أن نرجع للبيت ..قبل ظهر اليوم التالي..
نزلت لبيتي في الدور الأول وأحضرت إحدى الكاميرات الجديدة لمشروعي القادم..
عرضتها عليه فحرك رأسه سرورا بما يرى..
جلست الوالدة أمامه بعد أن لبست عبايتها وخمارها ..
ووضعت يديها على ركبتي والدي ..
لم اذكر أبدا أنني شاهدت الوالدة تفعل ذلك من قبل..
داعبت لحيته بيدها وقالت له : أتأذن لي حقا بالذهاب؟؟
والله ما ذهبت وأنت متكدر وغير راض إلا كان ذهابي مشقة وعنتا.. أو نحو هذا الكلام..
كانت تلك هي نظرة الوداع..الأخيرة ..
كانت آخر ابتسامة وآخرة نظرة بين الاثنين..
ودعت الوالد وانصرفت عنه ..
إنني أكتب هذه العبارات وكأني أنظر لكل شيء أمامي..
نزلت للسيارة ..
وانتظرت الوالدة .. فلم تتأخر ..
وتوجهنا صوب مدينة الباحة ..
كان ذلك قبل صلاة المغرب بنصف ساعة..
عزمنا على تأخير الصلاة للعشاء جمع تأخير..
الوالدة حفظها الله امرأة خمسينية ذربة اللسان..
تطوف بك في السواليف والحكايات شرقا وغربا..
وبما أننا ذاهبون لتقييم العقار فكان الحديث عن الإرث الذي ورثه ...
والدي من جدتي مناسبا ..
حدثتني والدتي عن مرض جدتي أم الوالد التي توفيت فيه وأنا عمري ثلاثة شهور..
حيث اتصلت العمة بوالدي الذي كان مديرا لمدرسة في الطائف..
ويسكن في داخل هذه المدرسة حينها هو وعائلته!!
ولا تستغربوا أيها القراء الكرام فهذه حقيقة..
وقد أخبرتني الوالدة بأنني ولدت بهذه المدرسة..
حينما بلغ الوالد بمرض الجده توجه فورا لمدينة الباحة لقرية اسمها الكرا..
وتقع شمال شرق الباحة على يسار الذاهب لمطار الباحة الإقليمي..
عرف الوالد بصعوبة وضع أمه ..
فقرر نقلها لمستشفى الملك فيصل في الطائف ..
كانت في شبه غيبوبة وتأن تحت ثقل المرض ..
وصلوا للطائف برفقة أمه وأخته الشقيقة وكانت أمي بانتظارهم بالطائف..
حينما استيقظت الجدة من غيبوبتها ..
سألت عن والدي !!
فجاء من فوره..
قالت اتجه الآن ياولدي للباحة وأحضر صكوك العقارات !!
وأصرت وألحت بأن ينطلق من فوره ..!!
فقد كانت تخشى أن تسرق أو أن تؤخذ من البيت بغير علم أبي..
كانت الجدة امرأة حازمة ووالدي لا يعصي لها أمرا أبدا..
توجه الوالد للباحة وأحضر ما طلبته أمه ووصل في الليل متأخرا متعبا..
حينما عاد أعدت الوالدة الشاي للوالد ليتنشط به من السفر..
ولكن حارس العنبر طلب من الوالد الخروج لانتهاء فترة الزيارة ..
بقيت الوالدة مع الجدة وكنت أنا ثالثهما أما رابعنا فهو ضيف كريم..!!
إنه ملك الموت عليه السلام!!
طلبت الجدة من أمي أن تفرق لها شعرها فرقتين وتدهن رأسها..
لأنها تشعر بصداع شديد وما كانت تعلم بأن ذلك من عوارض الموت..
تمددت جدتي واتكأت بظهرها على أمي وأخذت أمي تمشطها..
صمتت جدتي برهة من الزمان ، وسقطت يداها على الأرض..
صاحت بها الوالدة .. يافلانه يافلانه..
لم ترد عليها..
وفجأة فتحت الجدة عينيها و قالت جدتي بعد أن مدت يديها كأنها ترى أحدا..
تعال يابني تعال ياصالح..تعال ياحبيبي!!
وصالح هذا أحد أبناءها الذين توفو في عمر السبع سنوات تقريبا..
ثم رفعت اصبعها وهزته برفق تريد التشهد، وتشهدت ثم فاضت روحها..
هذا ملخص ما حدثتني به الوالدة ..
وأما والدي فإنه حين مغادرتي مع الوالدة للباحة ..
خرج بعدنا بدقائق وتوجه مع أختي الصغيرة رباب..
تحدثني رباب تقول:
كان الوالد يمازحها ويضاحكها طوال الطريق ..
وكنت أريد أحدثه في أمور كثيرة تعنيني..
ولكنني حينما رأيته مسرورا يمزح كرهت أن أبدل مزاجه الطيب..
لم تكن تعلم المسكينة سر هذا المزاج الطيب ..!!
حينما وصلا لجبل الهدى توقف والدي في الصندقة المعدة للصلاة التي في أعلى الجبل ..
وتأكد من مصلى النساء فنزلا للصلاة ..
وقال لها : صلي المغرب والعشاء فربما لا نعيش يابنتي!!!
سبحان الله !! هل يعلم الميت بدنو أجله..
هل يبلغ بشيء الله أعلم..
غير أني لا حظت في والدي إقبالا على العبادة في الشهور الأخيرة بما لا عهد لي به..
وتقول أختي وهي رفيقته في عدة سفرات :
لم تكن عادته أن يجمع الصلاة في السفر..
بل كان يحرص أن يصلي كل صلاة لوقتها في المسجد أينما وجد...
يحدثني شخص زارني للعزاء يقول:
قبل أسبوعين هرب شخص من الشقق المفروشة التابعة لوالدكم ..
ولم يدفع أجرة الشقق...
فقلت له يابو محمد عندك رقم جوال الرجل اتصل عليه وبلغ عنه الشرطة..
قال الوالد لا، دعه فسوف استرجعها منه يوم الدين فأنا سأحتاجها قريبا..!!
قرأت في كتاب التذكرة للقرطبي ،عن أثر أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيرا وكل له
ملك ينشطه للطاعة قبل موته ثم يقبضه على الطاعة.. والله أعلم.
كان الوالد مع كبر سنه يسرع في قيادة السيارة..
فلقد انطلق بسرعة تفوق المائة وستين في الطريق السريع بين الطائف ومكة..
وفجأة ظهرت له سيارة في وسط الخط شبه متوقفة..
ويظهر أنها خرجت من فرجة وسط الطريق...
وقد أنكر ضابط المرور ذلك .. ولكن أختي أكدته وشاهدت السيارة..
على كل حصل أن تنبه الوالد لتلك السيارة ..
فأدار المقود للجهة اليمني لتنحرف المركبة بسرعة قاطعة الطريق من طرفيه...
حينها صرخت الفتاة وسقطت في تجويف السيارة أسفل المقاعد..
وهي من نوع الفرت الدفع الرباعي...
تشاغل الوالد بابنته فقد أيقن بالكارثة ..
جذبها نحوه وضمها لصدره وارتمى عليها.. ليحميها..
سقطت السيارة في الوادي وتقلبت أربع قلبات أو أكثر..
تمزقت السيارة فصارت شذر مذر..
وضرب سقفها الحديدي من جهة الأخت على رأس الوالد ..
كانت الضربة تلك هي القاتلة ..
أما أختي ففقدت الوعي .. ولم تشعر سوى أنها ببطن الوادي فوق شجرة طلح..
على بعد يتجاوز الخمسين مترا تقريبا.. حيث نفحتها قوة استدارة السيارة في الهواء..
وحصل ما حصل مما ذكرته سابقا... والله المستعان..
كانت تلك الأحداث المؤلمة تدور رحاها في طريق الطائف مكة..
وأنا والوالدة نتحدث عن الوالد وأمه...!! وبره بها وكيفية موتها..
تصادف عجيب .. !!!
تزاحم الناس كالعادة على مكان الحادث..
جاء ضابط شهم من قبيلة عتيبة ...
ومنع المتطفلين من الوصول للفتاة .. حيث لم تعلم بموت الوالد.. حينها..
قال أحد العسكر هل الميت يقرب للفتاة ؟؟
فصاحت البنت وولولت..
فقال لها الضابط : ليس أبوك يا أختي إنه الشخص في السيارة الثانية..
والدك نقلناه للمستشفى وستلحقينه قريبا ..
لقد قام هذا الشاب النبيل بجمع كل ما تناثر من نقود وذهب ومستندات ..
لأكثر من ساعتين من بعد الحادث..
وسلمها كما هي لي بغير نقصان.. بعد عدة أيام فجزاه الله خيرا..
حين وصولي لمدينة الباحة ... أدركت العشاء في المسجد..
وبعد الصلاة توجهت للسوق لشراء هدايا للأقارب..
وحينها اتصل علي ابن العمة...!!!
كنت فرحا باتصاله على غير عادته !!
قال لي أين أنت ؟
قلت له الآن وصلت للباحة..
قال والدك أصيب بحادث وأختك بخير وهو بخير ويجب عليك الحضور!!
لم أسمع مثل هذه العبارة من قبل !! أو أن عقلي من هول كلامه لم يدركها..!!
طلبته يكرر ما قاله كأنني أبله..!!
وحين أدركت معاني عباراته قذفت بما في يدي من حاجيات..
وحين رأيت الوالدة في السيارة .. ترددت!!
وقفت أنظر إليها من خلف السيارة!!
ماذا عساني أقول لها؟؟
ما هي العبارات المناسبة لموقف مخيف كهذا!!؟؟
اقتربت من النافذة وانحنيت كالمسكين حينما ينكسر للسؤال...
ونظرت في عينيها وقلت لها بصوت خافت وهادئ..
يامه أبي صار عليه حادث لازم نرجع للطائف !!
ايش؟ ما فهمت ايش تقول!! تتعتعت قليلا ثم تماسكت وقالت:
كيف أبوك ياولدي؟؟ ووينه؟؟ وأختك؟؟ عشرات العبارات انطلقت منها..
قلت لها لا أدري خلينا نرجع ونشوف...
استدرت بالسيارة فورا لرحلة العودة..
لمن يعرف طريق الجنوب في الليل فهو خطير للغاية ومليء بالدواب..
ومع ذلك فقد أسرعت بشكل جنوني لألحق بأبي محمد..
وما كنت أدري حينها أن الحبيب قد وضع رحاله في دار غير دارنا والله المستعان..
خلال الطريق لم تتوقف الاتصالات بيني وبين إخوتي..
فلقد خرجت العائلة عن بكرة أبيها حبا لهذا الرجل ..
ولم يكن يعلم أحد بوفاته قبل وصولنا..
اتصلت في الطريق على جميع مستشفيات مكة المعروفة لي ..
رابني ..إفادة الممرض بنقل الوالد لمستشفى الششه وأختي لمستشفى النور..!!
لماذا فرقوهما؟؟ قالوا لعدم وجود أسرة بسبب الحج..!!
كانت بعض الاتصالات من الأقارب مزعجة..
حيث لا يراعي البعض مشاعر الإنسان وهو يقود في طرق خطرة..
ولكن الله سلم..
أمرتني الوالدة بالتوجه لمستشفى الششه فقد كان الهم بالوالد أكبر!!
ومن ذا يعز عليها أكثر من أبي محمد!!
ولكن أخي الكبير حين علم بوجهتي وقد علم بموت الوالد حينه
خاطبني بنبرة عادية ولم يظهر عليها الحزن.. بالتوجه لمستشفى النور..
وأصر علي بإحضار الوالدة لهم ، وبعدها ننطلق لمشاهدة الوالد..
في إحدى اتصالاتي للششه طلبت من الممرض بإلحاح كبير أن يوصلني بالخط لأتحدث
مع الوالد، ولكنه ماطل بحجة بعد التلفون وأنه في غرفة العمليات ونحو هذا الكلام..
وحسنا فعل جزاه الله خيرا..
يعجبك فطنة بعض الناس في تصرفاتهم..
كانت الوالدة طوال الطريق تضرب بيدها على صدرها بشكل متتابع.. وبدون نواح..
ولصدرها أزيز كأزيز المرجل..
وتقول ياولدي أبوك صار له شيء أنا أشعر بذلك!!
أكيد يابو محمد صار عليك شيء ما شعرت يمه بمثل هذا الشعور قبل اليوم..!!
كنت أسفه رأيها، وفي قرارة نفسي أوافقها ولكنني رحمتها...
ولو تركت للظنون سبيلا لقلبها لانفطر من حينه لا قدر الله..
وصلت لمستشفى النور وبالكاد حصلت موقفا للسيارات..
كنت والوالدة نلهث خلف كل من نراه مقفيا نحسبه أخا أو والدا!!
وصلت للاستقبال.. لاحظت عليه البرود فأشعرني ذلك بالراحة..!!
أعطيته أسماء المصابين..
أشار لي بالذهاب لمكتب التنويم..
وبحمد الله قبل وصولي لهم اتصل أخي ..
فقد كانت عاطفتي والوالدة أشبه ببركان..ينتظر الثوران ..
أصررت على الوالدة أن تجلس على مقاعد النساء..
وبحثت عن أخوي وحينما شاهدتهما من بعيد.. تفرست في وجهيهما ..
لعلي أعرف خبرا ..
وحينما التقينا ، أشاح أحدهما بوجهه عني ليخفي دمعة تحدرت من عينيه..
ومن ثم ضمياني وبكيا كطفلين صغيرين..
مات أبونا يافلان مات..
استرجعت ،، ولم استطع الاستمرار في الوقوف فقعدت على
الرصيف أبكي كيتيم ...
كان الهم عند إخوتي على الوالدة..
فهي كبيرة في السن ولربما تسوء الكارثة ... وتتضاعف المصيبة ..
لم تنتظر الوالدة فلقد بحثت عنا فجاءت تتبع الخطى ..
وين أبوكم يامه؟؟
وين أختكم ؟؟
ويش صار وأنا أمكم ..
بكى الأخوان عندها فصرخت الوالدة وسقطت على الأرض..
أما الأخت فقد انكسرت ذراعها وأصيبت بشعور في الظهر.. ولكن الله سلم..
فقد كادت المسكينة تلحق بوالدها ..
فالحمد لله على عافيتها ..
كانت تلك الليلة كابوسا بما تعنيه الكلمة من معنى..
فهول المصيبة ثم ما يترتب عليها من ترتيبات من تغسيل وصلاة ودفن
وغير ذلك تشكل أزمة واستنفارا لكل الطاقات..
لم نذق جميعا طعم النوم ..
كنت في تلك الليلة أفكر بالوالد في الثلاجة ..
هممت أن أذهب للثلاجة لأكون قريبا منه!!
وما عساني أنفعه حينها!!
في ضحى اليوم الثاني ..
اجتمعت العائلة والأقارب والأعمام ..
انطلقنا للثلاجة..
كان يوما مشمسا ، والوجوه عابسة .. كنت وإخوتي كحفاري قبور..
لم نعرف كيف نبدأ كل له رأي وكل يتكلم ولكن ليس بينهم أبو محمد..!!
استكملنا إجراءات استخرج الجثة ومن ثم توجهنا للثلاجة..
كانت سيارة الإسعاف التي ستنقل الوالد جاهزة ومفتوحة الأبواب..
قادنا عامل بنغالي يحمل بيده نقالة صغيرة..
لم يظهر عليه أثر الخوف والتردد مثلنا!!!
كانت أمامه ثلاثة أبواب حديدية ضخمة..
فتح احدها فخرج منها تيار هوائي بارد للغاية..
ويا للمنظر الموحش..
أكثر من مئة جثة قد رصت بشكل فوضوي ..
دخل العامل للداخل فلحقته لوحدي .. ثم تتابع من جرؤ ورائي..
كانت بقع الدماء تملاء المكان ..
والجثث موضوعة في أدراج كأدراج الكتب والإضاءة خافته للغاية ..
بحث العامل في الأرقام وعيوننا جميعا تسير معه..
وأخيرا أشار لأبي.. وقال هذا هو ..!! دونكموه!!
اقتربنا من الوالد كان رحمه الله دقيق الجسم .. قليل اللحم ... رأيت يده فعرفتها..
أذكر أن أعمامي وإخوتي انكبوا على يده فقبلوه
لم يجرؤ أحد على رفع غطاء الوجه..
فقد كان الدم يغطيه بشكل مخيف..
وعلى جوانب النقالة سقط الدم..
كانت يده بارزة وتلمع فيها أزرار كم الثوب الحديدية..
وكان ثوبه أسودا كما تركته بالأمس..
لو لم أرى الدماء لظننته نائما رحمه الله فقد كانت كهيئته في ذلك كما عرفته..
أذكر مرة أنني في صغري وأنا لم أتجاوز الثمان سنوات ..
أنني دخلت على الوالد .. وكان نائما في صالة بيتنا القديم..
كان مهيبا ولا يجرؤ أحد على إزعاجه...
لكنني جرؤت حينها ووضعت راحة يدي على بطن قدمه وأريد مداعبته..
عندها استفاق الوالد ونظر من حوله فحين رآني لفحني بالمخدة وقال لي ياشقي!!
ها أنا الآن بعد أكثر من عشرين سنة أحمله جثة هامدة ...
أخرجناه وتوجهنا به للمغسلة.. وكانت على مسافة بعيدة..
دخلت مع عمي للمشاركة في التغسيل ..
كنت أتساءل .. هل أنا أحلم؟؟ ألم أكن بالأمس معه أتحدث !!
ما أرهب الموت وأعظم ترويعه..
كنت اقترب من وجهه ولا أقدر أنظر إليه .. ولكنني أخيرا رأيته..
خاطبته كثيرا وقبلته ودعوت له..
كانوا يقلبونه يمينا وشمالا كدمية !!
وبالأمس لا يجرؤ أحد أن يقاطع حديثه!!
كان سيدا مطاعا في أولاده وعماله وخدامه وزوجاته واليوم هو جثة هامدة!!
كان يستنشق الهواء ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق والآن يلف بخرقة !!
شقت السنون والهموم في وجهك ياأبي سنون طويلة..
والآن نم قرير العين مطمئنا ( بإذن الله)
ياأبي لكم تمنيت في تلك اللحظات أن أكون فدائك.. ولم تصب بخدش!!
ارحل فقد تركت في القلوب جروحا لن يمحوها الدهر لفراقك رحمك الله..
يا أبي لو علمت كيف أصبح حالنا من بعدك ..
تشتت حالنا ، وتبدلت القلوب ، وثقل حملنا من دونك
حملناه للحرم الشريف ووضع الوالد بين يدي الشيخ أسامة بن خياط..
فكبر الشيخ ،فكبر خلفه مئات الآلاف من المصلين .. وسيشفعون له إن شاء الله
حينما وصلنا للمقبرة ظننت أن هناك جنازات أخرى غير جنازتنا
فقد هالني الحشد الكبير من الناس..
أناس جاءوا من كل مدن المملكة من أصحابه وأحبابه وأقاربه بل وحتى طلابه..
لقد مكث الوالد في التعليم خمسة وثلاثين سنة.. حتى تقاعده..
صلوا عليه الجنازة مرة أخرى ثم وضعته وإخوتي في قبره الملحد..
حاولت أن أكشف وجهه لأقبله ولكن ضيق القبر حال عن ذلك..
ردمناه بالتراب .. ونفضنا أيدينا .. وانتهى كل شيء..
مرت من تلك اللحظات حتى آخر لقاء معه بالأمس حوالي أربعة وعشرون ساعة..
سبحان الله ما أغرب صروف الحياة..
أسأل الله تعالى أن يجعله
في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
اللهم اغفر لأبي زلله وخطأه وتجاوز عن سيئاته واجعل قبره روضة من رياض الجنة..
انتهى الفصل الثالث..
في وداع والدي أبي محمد الفصل الرابع
انتهت أيام العزاء المعروفة...
بالنسبة لمن جاء معزيا فقد أدى الواجب وانتهى كل شيء..
أما لأهل الفقيد فالحال مختلف كليا..
فضريبة الموت غالية جدا.. يدفعها أحبابه وأصحابه ثمنا غاليا من الأسى والحزن العميق
أما أنا فحالي كما قال القائل تكاثرت الظباء على خراش ..
فما يدري خراش ما يصيد!!!
جاء العيد بعد موت الوالد بأسبوع فقط.. ويا للعيد !!
لا والد ولا ولد... فالحمد لله على كل حال..
بعد انتهاء الإجازة الرسمية للموظفين توجهت لجدة قاصدا مقابلة الأمير محمد..
كنت موتورا وبلغ بي الحنق مبلغه..
بلغني الحرس على البوابة بأنه لا يوجد أحد.. والأمير في الرياض..
ذهبت للرياض في اليوم التالي...
ومن المطار توجهت لوزارة الداخلية مباشرة ..
أتيت لمدير مكتب الأمير...
ولم يكن موجودا حينها..
وحين دخل علينا وقفت له وسلمته معروضا أشرح فيه حالي ..
فقال لي : أنت ممنوع من السفر لسنتين!!
قلت له: لماذا؟
قال القوانين !!
قلت له أي قوانين؟؟ وهل تعرفني؟؟ هل أنا متهم؟ هل تعرف قضيتي أصلا!!
قال لا !! ولكن إذا كان جوازك مفقود فأنت ممنوع من السفر سنتين حسب القوانين..
قلت له ياأستاذي الكريم أنا لم أفقد جوازي بل سلمته للجوازات.. ثم لماذا لم تبلغوني..
أليس من الواجب عليكم تبليغي بحالي حتى أتصرف فأنا منذ شهرين لم أتلقى أي رد..
نادى أحد موظفيه وقال له : انظر في معاملة المذكور وليش ما اتصلتم عليه؟
وبعد دقائق جاء برقم المعاملة وادعى أنهم لم يتصلوا علي بسبب عدم وجود رقم تلفوني!
قلت له مستحيل الخطاب موجود عليه الرقم جب المعاملة!!
وفعلا أكد مدير مكتب الأمير على ذلك وطلب المعاملة!!
انتظرت ربع ساعة لكي يحظر لي المعاملة فلم يحظرها..!!
اتصل مدير المكتب عليهم وغمغم معهم بكلمات ثم قال لي:
ما يوجد عليها رقم، ومثل ما قلت لك راجعنا بعد سنتين!!
هكذا إذن سنتين!!
سأعيش سنتين في جحيم القلق والانتظار..
لو كنت فعلت جرما استحق عليه الانتظار لهان الأمر ولكنني مظلوم..
ظلمتني قوانيننا الغامضة، ظلمتني البيروقراطية والتعقيدات السخيفة..
ظلمتني حيلتي الضعيفة ..
ولكنني لم أعدم الحيل!!
فمن ضاقت عليه حيل الناس المعهودة فليطرق كل الأبواب ..
كما قال الشاعر..
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا..
قرعت باب الأمير محمد بن نايف ولكن هذه المرة ليس من باب مكتبه ..
بل عن طريق الساحة السياسية..!!
كتبت في ذلك اليوم مقالا ناريا !!
لم أتشجم فيه العناء..!!
فقد أخذ مني دقائق معدودة..
فقد كنت مهيئا للانهيار...
فقد توالت علي النكبات مما يصلح ذكره ومما لا يصلح ذكره ..
فلا مفر من المكروه ..
وما قصدت الشتيمة والله حينها بل أردت أن ألفت الانتباه..!!
فأنا صاحب مظلمة وقد دخلت في دوامة لا يعلم مداها إلا الله..
ومن خبر متاهات المعاملات الحكومية والتي قد تدور وتدور عقودا من الزمان..
لم يلمني في سلوك درب لا تعلم عواقبه !!
ولا يمكن التنبؤ بخاتمته!!
ولكن خيرا حصل والحمد لله!!
حينما أنزلت المقال في الساحات .. أضفت رقم سجلي المدني ورقم تلفوني الجوال..
وطلبت من الأمير محمد بن نايف أن يسجنني أو أن يجمعني بأهلي وأبنائي!!
هذا هو عنوان المقال..!!
تباينت ردود المشاركين في الحوار فما بين متعاطف ومستاء ، إلى بعض الذين نبهوني..
إلى خطأ الأسلوب ، وأن الواجب طلب ذلك سرا...
إلى الذين صبوا علي جام غضبهم على جرأتي ووقاحتي مع الأمير..
كانت الآراء متفاوتة ومتنوعة ولكنها في نهاية الأمر صبت في مصلحة القضية!!
فقد كنت متيقنا أن التفاعل السلبي أو الإيجابي هو في النهاية سيوصل للمقصود!!!
وهو لفت النظر ، وخاصة نظر الأمير...
اتصل علي مجموعة من الإخوة على الهاتف وراسلني مجموعة برسائل sms
جاءتني مكالمات خارجية .. أذكر واحدة منها جيدا..
هذه المكالمة كادت أن تحور موضوعي لمنحنى خطر ولكن الله سلم..!!
أصبت بخوف شديد !!
خاصة والدولة حينها استنفرت استنفارا كبيرا لمؤتمر الإرهاب في الرياض..
والذي ستحضره ممثليات دول كثيرة ...
فكان ظهور مقالي حينها غير مناسب بالتأكيد..
لمن يفهم ما أعنيه جيدا!!
وحينها جاءتني خاطرة عجيبة !!
لقد عزمت على الهرب!!
نعم الهرب خارج المملكة!!
كيف ؟؟ ولماذا؟
أما كيف فلا أدري فالهارب يسير في الأرض الفسيحة حتى يجد مأوى يؤويه..
أما لماذا ؟؟ فقد خفت .. خفت أن تكون عواقب فعلي كبيرة ..
فالهروب خير لي من الأسر والسجن والعذاب..!!
تركت جوالاتي وحقائبي وسيارتي وجميع ما أملك من متاع ..في مدينة الرياض
واستأجرت سائقا بسيارة خصوصي يوصلني لمدينة جيزان!!
سلكت طريق الوادي فهو أقرب وأقل نقاطا من الطرق الأخرى!!
ولقد صدقت توقعاتي فلقد عمم علي في المنافذ ولكن الله سلم!!
كان رفيقي في الرحلة أو السائق من سكان نجران..
جاء للرياض ليوصل عائلة قريبة له..
لم أكن أعرفه من قبل .. ولكن الرجل كان دمث الأخلاق حسن التعامل ..
وحين سألته عن عمله قال أنا موظف في قطاع الأمن الداخلي!!
جرت الأمور بكل هدوء فلم يظهر علي أي شيء مريب!!
كان الطريق طويلا ومملا ولكن السواليف والقصص التي أمتعني بها أبو حسن ..
آنستنا وأنستني من تعب السفر وعذابه..
كان انطلاقنا حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحا ..
ووصلنا لمدينة خميس مشيط حوالي العاشرة مساء..
لم يفارقني أبو حسن ( وهذه كنيته) حتى تأكد من اتفاقي مع سائق آخر ..
أصر علي أن أزوره في نجران وأن يكرمني بحقي بالضيافة في بيته..
وأعطاني رقم تلفونه وغادرني نحو أولاده..
انطلقت مع سائقي الجديد بسيارة خصوصي أيضا وتوجهنا لمنطقة فيفا..
كان يحمل في وسط جسمه خنجرا مغمودا !!
سألته عن سر هذا الخنجر؟؟
قال هذا شيء ورثته عن أبي وهو من عاداتنا نحن أهل رجال ألمع!!
قال لي ؟
هل سبق ذهبت لمنطقة فيفا ؟
قلت لا..!!
قال هل هناك شخص تعرفه أو قريب ونحو ذلك؟
قلت لا !!
قال ياولدي المنطقة طريقها صعب ونحن سنصل إليها بعد منتصف الليل ..!!
فلماذا لا تبات في الفندق وغدا الصبح تذهب إليها..
قلت له أبدا ، أوصلني لفيفا وأنزلني عند جامعها وسوف أتصرف!!!
أخذت ألهيه بالكلام في أمور جانبيه لأشغله عن الأسئلة المحرجة؟؟؟
كنت أحسب الوقت وأسابق الزمن فإما أن يقبض علي أو أن أفر!!
ولكن أين الفرار وكيف ؟؟ والله لم أكن أدري !!!
فيفا منطقة ساحرة الجمال وهي جبل ضخم تسكنه قبيلة فيفا..
ومنظر هذه المنطقة ليلا أو نهارا منظر بديع للغاية!!
عندما وصلنا قريبا منها شاهدت أضواء متناثرة في ارتفاع شاهق يكاد يغطي الأفق!!
سألت السائق أين نحن متجهون؟؟
قال هذه فيفا !!
تقع المنطقة على الحدود اليمنية ولذلك قصدتها!!!
حينما وصلنا للمفرق المؤدي للجبل رأيت شققا مفروشة..
طمعت في الفراش الوثير فأنا لم أذق طعم النوم منذ حوالي 24 ساعة..
وفعلا غامرت بالنوم في الشقق مع أن ذلك خطأ قد يوقعني فيما فررت منه!!!
نمت كنوم الذئب ..
وفي الصباح توجهت لسوق المنطقة واسمها ( بني مالك) ..
ومنها يظهر جبل فيفا بوضوح خلافا لليلة الماضية..
اشتريت بعض الاحتياجات الضرورية ..
ثم تعاقدت مع سائق يوصلني لجبل فيفا المجاور ..
على أن يجد لي مكانا أسكن فيه هناك...
وهكذا كان..
استغرقت الرحلة من بطن الوادي للجبل حوالي الساعة ..
تدور في طرق ومزالق مهلكة ..
تعاقد لي صاحبي مع صاحب المنزل على أجر متفق عليه..
وكان رمزيا .. ووافقت عليه..
وحينما دلفت للغرفة المعدة للسكن..
رأيت بقايا شجرة القات على بساط الغرفة!!
سألت الصبي : هل هو مسموح !!
قال : نعم فقط في فيفا !!
المنزل الذي نزلت فيه يقف على هاوية سحيقة..
ومن نافذته ترى الناس والسيارات في أسفل الوادي كحجم الذر!!
ومع ضيق الطرقات تسير السيارات فيها بجرأة عجيبة لا يكاد يفعلها سواهم !!
أهل فيفا رجال كرام فيهم النخوة والشهامة ..
لا يشعر الضيف والغريب بأنه خارج أهله ودياره ولكن هيهات!!
فبالنسبة لي لا يغني عن حالي مال ولا بنون إلا رحمة أرحم الراحمين!!
كانت المناظر الخلابة من ذلك الجبل لا تغريني ،فقد صادفت قلبا خاويا فارغا!!
وما عساها تنفعني في محنتي وشقائي والله المستعان..
منذ يومين والأخبار منقطعة عني ..
ولم أحاول الاتصال على أي كان ، خوفا من معرفة موقعي الحالي!!
وآخر مكالمة لي كانت من الرياض مع أخي وزوجتي ..
وشرحت لهم حالي ...
وقلت لهم توقعوا عدم اتصالي عليكم فترة طويلة..!!
بعد ذلك بدأت فكرة تحديد طريقة العبور المناسبة خارج البلاد ..
كنت أحاول الحصول على المعلومات عن طريق الشباب الصغار لكي لا ألفت النظر..
كان بجوار غرفتي درج طويل ورقيق يوصل لمسجد صغير للغاية لا تتجاوز مساحته
5x5 متر مربع..
وفرشه جديد ومبني بشكل بدائي ، له كوة صغيرة في محرابه
تشرف على الوادي السحيق..
قدمني الناس للصلاة بهم مرارا..
وغالب وقتي أجلس في المسجد متلحف بجبة سميكة.. أقرأ وأستخير واصلي فيه..
دعوت الله بصدق أن يهديني إلى الصواب في قولي وفعلي..
دعوته أن يلهمني رشدي ويقيني شر نفسي..
أكثرت من التضرع لله تعالى فأنا مقدم على قرار خطير يكون له ما بعده..
فكرت مرارا وتكرارا .. هل ما أفعله صواب؟
هل كل ما أفعله يفيدني في ديني ودنياي؟
سألت نفسي : انظري يانفس أين أصبحت؟ وأين تسيرين؟
أين سأذهب ؟ ومع من؟ ومن يضمن لي السلامة؟؟
ثم إلى أين؟
تساؤلات كثيرة !! وأجوبة معدومة..!!
فكرت في حياتي كيف كانت وأين صرت وأين أسير..
بقيت على هذا الحال ثمان وأربعين ساعة ..
وأنا أدور في المسجد ذهابا وإيابا أنظر في حالي وعواقب الأمر الذي سوف أفعله!!
ناداني صاحب البيت للجلوس على دكة معدة للجلوس أمام الوادي في منزله!!
جلست من بعد عصر اليوم الثاني حتى غربت الشمس!!
إن لشرب الشاي على تلك الشرفة طعم خاص ..
وخير مكان للتأمل هي المواضع المرتفعة ..
ومن جرب ذلك عرف ما أعنيه..
حيث ترتخي الأعصاب وتهدأ الطباع ويطيب المزاج..
كانت جلسة رائعة.. ترى من خلال الضباب الكثيف الأطفال يلعبون ويمرحون في
الحقول والبساتين على الجبل الشاهق....
تسمع أصوات الديكة تتردد في الوادي ..
كان أجمل وقت حينما تبدأ المساجد بالأذان فيتردد صدى التكبير في الوادي..
ما أجمل الأمور على طبيعتها ..
خاطبت نفسي حينها كثيرا ..
وبعد تفكير عميق سبقتها دعوات واستخارة عزمت على أن أرجع أدراجي..!!!
نعم يجب علي العودة!! كفى هروبا كفى..!!
فقد رأيت أن قرار الهروب فوائده إن وجدت لا تقارن بمصلحة العودة ..
إن مواجهة المشكلة والسعي بحلها بكل الطرق الممكنة خير من تعليقها ..
ففي النهاية لا بد من مواجهتها فالأفضل التعجيل بذلك والمبادرة!!
كل ذلك حصل وأنا لا أدري بما يخبئه القدر لي !!!
طلبت من ابن صاحب المنزل أن يوصلني للوادي ..!!
قلق الرجل من هذا القرار المفاجئ !!
وقال خيرا إن شاء الله ظننتك ستمكث عندنا مدة أطول..؟؟
شكرته وأكدت له بأنني سأعود له يوما بصحبة أهلي وأبنائي فمنطقته تستحق العودة!!
وصلت لمطار جيزان في الليل ..
وقال لي بائع التذاكر : ما فيه مقاعد خالية قبل عشرة أيام!!!
وماذا أفعل في جيزان عشرة أيام!!
ذهبت للفندق ومنه اتصلت على زوجتي..
كانت تبكي بكاء كالطفل الصغير.. تقول هل ضربوك ؟؟ هل أنت في السجن؟
ماذا فعلوا فيك؟؟ قلت لها: يامرأة أنا بخير !! لا تقلقي ..
وطمأنتها على حالي وأن الفرج قريب!!
اتصلت على الوالدة وهنا كانت المفاجأة.. قالت :
المباحث قالبة الدنيا عليك ..ايش سويت ياولدي!!
أخذت المعلومات منها بالتفصيل ثم أغلقت الهاتف ... حتى لا ترصد مكالمتي..
وأخيرا تحققت ظنوني فهاهم القوم يبحثون عني!!
هممت بالرجوع والهروب مرة أخرى..
وقعت في حيرة ماذا أفعل ..
هل ياترى أسلم نفسي..
حاولت الدخول لمنتدى الساحات السياسية من مقهى للانترنت ولكن هيهات..
فالمنتدى ممنوع !!
أخيرا رجعت لغرفتي وحاولت النوم وعيني على باب الفندق أن يكسره زوار الليل!!
بعد صلاة الجمعة توجهت للمطار ..
سمعت نداء الطائرة على الرياض..
توجهت لبائع التذاكر .. قال لي اذهب سجل انتظار..
عندما وصلت للكاونتر قال اذهب جب التذكرة بسرعة هناك مقعد خالي..!!!
طرت من الفرح ، وسابقت الريح لأركب هذه الطائرة
ولم تقر عيني حتى حملني مقعد الطائرة!!!
في الطائرة تصفحت كل الجرائد قلت لعل اسمي موجود ضمن قائمة جديدة للمطلوبين!!
وبعد ساعة ونصف وصلت لمطار الرياض..
كنت أمشي فيه وأنا خائف أترقب!!
ومنه توجهت لمكان إقامتي ..
حين وصلت وجدت كل شيء طبيعي تقريبا!!
دخلت لسكني فحملت الجوال فوجدت فيه 166 اتصال وعشرات الرسائل!!!
لاحظت فيها رقما أعرفه لشخص مهم من رجال الأمير محمد بن نايف القريبين منه
وقد أرسل لي رسالة يعرف نفسه ..
اتصلت عليه فقد رغبت أن يعلم الأمير بأني أسلم نفسي قبل أن يصلني رجال المباحث..
لم يرد علي في أول الأمر ..
وبعد صلاة العصر ..
اتصل علي ذات الرجل .. فقال لي: يارجل أتعبتنا أين كنت؟؟
قلت له : عفوا تركت الجوال وكنت خارج الرياض..!!!
قال هل تعرف موعدك اليوم ..؟؟
قلت مع من ؟؟
قال مع الأمير محمد بن نايف..!!
قلت له اليوم جمعة؟؟
قال ليس في مكتبه..بل في بيته!!
قلت له أفعل إن شاء الله ..
طلب عنواني وحدد مكانا وموعدا للقاء السائق الذي سيأخذني لمنزل الأمير..
بعدها ذهبت لمكان عملي..
كنت شغوفا لأدخل موقع الساحات لأعرف أين وصلت إليه الأمور!!
وبعد دخولي وجدت موضوعي هو الأول في السياسية ..
بعض التعاليق تؤكد أنه قد قبض علي..!!!
وبعضها يدعوا لي، ومنها من ترحم ومنها من يشمت!!!
جاءني اتصال من نسيبي قال يافلان هناك شخص يريدك!!
ناوله الهاتف فإذا هو ضابط مباحث من الطائف..!! قال:
يا أخي أقلقتنا عليك ونحن نبحث عنك من يومين!! ونحو هذا الكلام .. وقال:
هل تعلم أن لديك جلسة مع الأمير اليوم ..؟؟
قلت له : نعم ، بلغت به قبل قليل ..
قال سأرسل برقية بموقعك وتلفونك ليتصل عليك رجال المباحث في المنطقة !!
سبحان الله مبدل الأحوال ..
أصبح القوم يبحثون عني وأنا كنت أبحث عنهم شهورا..!!
كنت قلقا من المقابلة ..
فلم أكن مستعدا لها!!
تمنيت أن تتأخر الجلسة أو أن ينشغل الأمير..
فقد كنت لا أدري عن اللقاء أين سيقودني ؟؟
فقد يكون الأمير غاضبا مما كتبته !!
فلعله إن أخرت الجلسة أن يهدأ قليلا ..ويبرد الطلب..!!
ولكن الله تعالى أراد شيئا آخر ..
فقد اتصل علي شخص ...
وقال أنا من طرف الأمير محمد بن نايف.. وسوف أوصلك إليه..
وهكذا أسقط في يدي فحينها لا مفر ولا مقر..
حددت الموقع وانتظرت المذكور فجاء على الموعد ..
صافحني بأدب جم، وعرفني بنفسه..
انطلقنا بسيارته ..
لاطفني في الكلام وكأنه يريد التخفيف علي من مهابة الموقف..
ذكر لي أن كثيرا من الناس يدخلون على الأمير
فتصيبهم مهابة الموقف بالارتباك والوجل.. ..
ولكن بعد أن يجالسوه ويروا شخصيته الحقيقية ..
فإن الوضع يختلف تماما فالرجل متواضع للغاية وبسيط في تعامله ...
وهو يقابل الناس باحترام على اختلاف منازلهم.. ومشاربهم....
دخلنا منزل الأمير الفسيح .. كان شبه خال ..
حسبت أن هناك جلسة عامة للناس في بيته الفسيح..
لم أركز النظر في بيته فأنا لم أجيء لأمتع نظري ببيته العامر..
زورت في نفسي كلاما كثيرا طار كله أو أغلبه عند رؤية الأمير...!!
بقيت في الصالون الكبير أشرب القهوة والشاي برفقة السائق ..
تحدثنا في أمور كثيرة .. ولم يظهر الرجل أنه يعلم بموضوعي الذي جئت لأجله..
حدثني عن المقابلة التي تمت منذ فترة ..
بين الأمير محمد ومجموعة من الشباب ..
الذين لديهم مشاكل أمنية ...
حدثني كيف أن الأمير محمد كسب قلوب هؤلاء الشباب المتحمس برفقه بهم..
وهكذا الرفق ما كان في شيء إلا زانه ..
سمعت بهذه الجلسات وقرأت عنها بالانترنت..
استمع الأمير لمشاكلهم الأمنية وحتى الاجتماعية منها ..
مجتمعين وفرادى ...
كان الواحد منهم يخلوا بالأمير فيفرغ كل ما في جعبته من مشاكل دون تحرج ورهبه ..
خرجوا جميعا من عنده وقد حلت مشاكلهم وطويت صحفهم وهكذا الحكمة فلتكن..
لقد انتشرت قصص ومواقف الأمير محمد مع هؤلاء في المنتديات والمواقع ..
إن هذا الأسلوب الجريء ومن رجل أمن بل هو الرجل الثالث في الأمن في كل البلد..
هو بلسم شاف على قلوب كثير من الشباب التي عصفت بهم العواطف..
إنهم في حاجة للقلب الحاني ولليد الناعمة لتمسح رؤوسهم وترجعهم
برفق ولين لجادة الحق والصواب..
فهم والله قريبون ، وهينون ، وغالبهم جاهل ضعيف الحجة ..
ولكن غيرته وحرمانه ممن يوجهه أضله عن السبيل..
لقد كان لهذه المقابلات أثر هائل في نفوس كثير من شبابنا الذين..انحرفوا عن الجادة ..
فكانت سببا لعودتهم للحق ، والتزامهم بالنهج السوي..
إن الأمير محمد بن نايف قد أقفل بهذا الأسلوب الحكيم ..
أبوابا للفتنة والشر لا يعلم مداه إلا رب العالمين..
وما ضره ذلك !!
ما ضره مقابلة هؤلاء الفتية .. فهم في مقام الإخوة والأبناء..
إن السياسة الصادقة والمبنية على الشفقة والرحمة بالأمة ..
هي قانون مستنبط من هدى رسل الله عليهم السلام ومنهم رسولنا محمد صلى الله
عليه وسلم.. كما قال تعالى( لقد جاءكم رسول من أنفسكم حريص عليه ما عنتم
بالمؤمنين رءوف رحيم)...
بينما نحن نتحدث ..أنا وصاحبي ..
وفي حوالي الساعة التاسعة وربعا دخل علينا الأمير محمد ..
لم يكن وجهه غريبا ..
فقد كان لقاءنا الثالث ولكن هذا المرة ليس أحد سوانا..!!
خرج السائق وبقيت أمام الأمير لوحدي..
وقفت في مكاني على استحياء منه..
فسلم وصافح بحرارة ..
قال لي هل أنت فلان ؟؟
قلت نعم أنا هو..
قال أهلا وسهلا فيك ...
الله يحلك يخوي مما قلته في ..!!
لقد فشلت واستحييت من كلامه .. فأردت أن أستوضح المقصود..
قلت له مكنيا :
يا أبا نايف وهل قلت فيك مكروها؟؟
قال : ألم تقل عني كذا وكذا ؟؟
قلت له حاشاك والله... فا أنا لم أقصد ما ذكرت ..
ويبدوا أن الأمر نقل إليك على غير حقيقته..
هل قرأت كلامي الذي كتبته أيها الأمير..؟؟
قال : لقد مررت عليه سريعا.. فقد كنت مشغولا بمؤتمر الإرهاب ..
قلت له :إن الكلام اللي نقل لكم أيها الأمير قد وضع في غير سياقه..
ولو نقل لكم بنصه غير مبتور لوضح لكم المعنى..
تفرجت أساريره رضى بما قلت .. ثم قال:
ولكن ما علينا : أنا قد أحللتك سواء بنظرك أنت أسأت أو لم تسيء !!
تحدثنا في أمور تفصيلية لا يصلح الحديث عنها ..
لكنني كنت استمع لألفاظ الأمير وكلماته وأنظر في تقاسيم وجهه ..
فأعرف صدق مشاعره وطيبته ..
كنت أحيانا أقاطعه في كلامه ..
لم يتبرم من جرأتي وهذه عادتي للأسف..
كان يضع يده على يدي ليهديني حين يرغب في استكمال شيء بدءه..
هذه اللمسات البسيطة...
أكبرها في الأمير محمد..
أكبرها وأذكرها من حسناته ..
فقد عهدنا من أمثاله شأنا مختلفا ..
ولو قال قائل ينبغي للأمير أن يتعامل بأسلوب أشد مع الناس..
لما لامه أحد ..فهو رجل أمن .. ولا بد لمن يمثل الأمن أن يهاب..
أخذت من الأمير عفوا شاملا عما صار ..
وأمر بصرف جواز سفر لي ... ومنح أهلي وأبنائي تصحيحا قانونيا لوضعهم..
وهكذا انتهت محنتي في لحظات كما بدأت في لحظات والله المستعان..
تملكني الفرح ..
الحمد لله ثم الحمد لله ..
أمسكت بيد الأمير وضممته كما يضم الولد أباه..
آه لو كان والدي معي في تلك الساعة .. تذكرته والله ..
خرجت من عند الأمير فرحا مسرورا..
لولا الحياء منه لصرخت ..!!
سجدت لله تعالى على فضله وتوفيقه..
اتصلت بأهلي أم معاذ وبشرتها بالفرج..
في اليوم الآخر نزلت هذا المقال.. في موقع الساحات السياسية..
ياقوم اذهبوا إلى محمد بن نايف فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر!!!
نعم كان هذا هو عنوان المقال ..!!!
وقبل أسبوع كان العنوان ..
يامحمد ابن نايف اسجني أو اجمعني بأهلي وأبنائي..!!!
فرق بين العنوانين كما بين السماء والأرض ..
وبينهما كانت معاناة تعلمها أيها القارئ الكريم من هذه الأسطر..
قلت فيها وأقول ...
اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.. اللهم لك الحمد عدد مثاقيل الجبال
اللهم لك الحمد عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك..
أيها الإخوة الكرام..
والدموع تملأ عيوني ..
والقلب ينبض فرحا وشكرا وسرورا..
قد فرج الله الغمة ..
ورفع الله الكربة..
ترددت في الكتابة في الموضوع..
حتى ينقضي الأمر كله .. ولكن..
لم أطق صبرا.. ولم تذق عيني النوم حتى أشكر الأمير الفالح..
أفلح وجهك يامحمد بن نايف ..
صبحك الله ومساك بكل عافية وصحة وقوة في الخير..
سماه بعضكم ذئب الداخلية..
وأنا أسميه أبو الجميع ...
أخو الجميع..
صديق الجميع..
لم تروع بك مؤمنة يا أبا نايف..
لقد دعاني الكريم
ابن الكريم..
ابن الكرام..
بمكتبه.. ل
ببيته.. ل
بقصره... ل
بماله.. لا والله..
بجاهه.. بنفوذه.. بسلطته.. لا والله
هل أرسل لي جيشا يحاصرني.. لا والله ..
هل بعث من يحضرني بالقوة..
هل هددني..
هل توعدني.. لا
دعاني بسماحته..
بقلبه..
ببشاشته..
بطيبه..
بنقاء معدنه..
بسمو نفسه ..
بحسن استقباله..
بحنانه..
برقته..
برحمته.. وصفحه وجوده..
كل ذلك من فضل الله تعالى عليه..
أرسل لي لأدخل بيته العامر..
ويحدثني كما يحدث الأب ابنه..
استفتح كلامه بكلمة واحدة خارت لها قواي ..
وندمت على ما قلت فيه..
روح الله يحلك فيما قلته في..!!
وزاد أن منحني الجواز .. وإحضار الأهل والأبناء ضيوفا لبلدهم..
دفء صدرك ياأبا نايف ذكرني بدفء صدر رجل يرقد في اللحود..
آه يا أبا نايف.. لو كان ابو محمد حيا ..
آه يا أبا نايف لو كا أبو محمد يرجع لدقيقة واحدة فقط ..
أحكي له ما فعلت بي يابن الأمجاد..
لذرفت دموعه فرحا بما فعلت..
والله لقال لي بيض الله وجهه ...
وكثر الله أمثاله...
وزاده الله من فضله..
وأصلح الله عياله..
وثقل الله ميزانه..
ويسر الله له أمره..
وأعلى الله في الآخرة ذكره..
وملأ الله قلبه نورا..
وبارك له في رزقه..
وأحسن له عاقبته..
وشد الله بالصالحين أمره..
ولكن هيهات .. هيهات.. يا أبا نايف
فقد انقضى الأجل.. وقال الجليل..
لا يستقدمون ولا يستأخرون ساعة..
لكن أعاهدك يا أبا نايف..
أعاهدك أمام الله وأمام خلقه..
أن أدعو لك بالسحر..
أنا ومن فرجت لي وله الكربة..
وأمرت بقدومهم .. ... إلى آخر المقال..
لقد كان مقالا ممتلئا بالمشاعر الجياشة ..
ولا عجب فقد كتبته بعد المقابلة ..
فقد شعرت أنني جرحت الأمير بمقالي السابق..
فأردت أن أطيب خاطره وأشعره بصدق كلامي نحوه..
في اليوم التالي اتصلت على أحد مستشاريه ..
وطلبت منه أن يطلع على المقال .. وطلبت منه أن يطلع الأمير عليه..
قال إن الأمير مشغول.. بالمؤتمر..
أصررت عليه واستحلفته على ذلك..
اتصل علي في المساء وقال لي.. لقد قرأ الأمير المقال وفرح به وسر
وطلب مني أن أشكرك عليه ..
حمدت الله تعالى وشكرته فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله ..
وبهذا اختتمت فصول هذه القصة ..
التي أعتبرها شريحة بسيطة في أيام حياتي المليئة بالعبر لي ولمن أعتبر..!!!
والله المستعان وهو الهادي سبحانه لسواء السبيل ...،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته